مرآة العقول الجزء ٧

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الحديث
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 379

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الحديث
تصنيف: الصفحات: 379
المشاهدات: 16889
تحميل: 8203


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 379 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16889 / تحميل: 8203
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دار الحديث
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المصيبات ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات ؛ واليقين على أربع شعب : تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة ومعرفة العبرة وسنّة الأوَّلين فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة

_____________________________________________

وكون الصبر عليها أشقّ وأفضل كما سيأتي في الخبر ، أو لأنّ فعل الطّاعات أيضاً داخلة فيهما فإنّ المانع عن الطاعات غالباً الاشتغال بالشهوات النفسانيّة ، فالسلو عنها يستلزم فعلها ، بل لا يبعد أن يكون الغرض الأصليّ من الفقرة الأولى ذلك بل يمكن إدخال فعل الواجبات في الفقرة الثانية ، لأنّ ترك كلّ واجب محرم ويدخل ترك المكروهات وفعل المندوبات في الفقرة الأولى.

« واليقين على أربع شعب تبصرة الفطنة » وفي النهج والتحف على تبصرة ، والتبصرة مصدر باب التفعيل ، والفطنة الحذق وجودة الفهم ، وقال ابن ميثمَّ : هي سرعة هجوم النفس على حقائق ما تورده الحواس عليها وقال : تبصرة الفطنة أعمالها.

أقول : يمكن أن تكون الإضافة إلى الفاعل ، أي جعل الفطنة الإنسان بصيراً أو إلى المفعول أي جعل الإنسان الفطنة بصيرة ، ويحتمل أن تكون التبصرة بمعنى الإبصار والرؤية فرؤيتها كناية عن التوجه والتأمّل فيها وفي مقتضاها ، فالإضافة إلى المفعول وحمله على الإضافة إلى الفاعل محوج إلى تكلّف في قوله : فمن أبصر الفطنة.

« وتأوّل الحكمة » التأوّل والتأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء ، وقيل : أوّل الكلام وتأوله أي دبره وقدره وفسرّه ، والحكمة العلم بالأشياء على ما هي عليه ، فتأوّل الحكمة التأوّل الناشئ من العلم والمعرفة ، وهو الاستدلال على الأشياء بالبراهين الحقة وقال ابن ميثمَّ : هو تفسير الحكمة واكتساب الحقائق ببراهينها ، واستخراج وجوه الفضائل ومكارم الأخلاق من مظانها ككلام يؤثر أو غيره يعتبر ، وقال الكيدري : تأوّل الحكمة هو العلم بمراد الحكماء فيما قالوا ، وأولي الحكمة بأن يعلم قول الله ورسوله قال تعالى : «وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ »(١) .

« ومعرفة العبرة » وفي سائر الكتب : وموعظة العبرة ، والعبرة ما يتّعظ به

__________________

(١) سورة الجمعة : ٢.

٣٢١

ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة عرف السّنة ومن عرف السّنة فكأنّما كان مع الأوَّلين واهتدى إلى الّتي هِيَ أَقْوَمُ ونظر إلى من نجا بما نجا ومن

_____________________________________________

الإنسان ويعتبره ليستدلّ به على غيره ، والموعظة تذكير ما يلين القلب ، وموعظة العبرة أن تعظ العبرة الإنسان فيتعظ بها« وسنة الأوَّلين » السّنة السيرة محمودة كانت أو مذمومة ، أي معرفة سنّة الماضين وما آل أمرهم إليه من سعادة أو شقاوة فيتّبع أعمال السعداء ويجتنب قبائح الأشقياء.

ثمَّ بيّنعليه‌السلام فوائد هذه الشعب وكيفيّة ترتّب اليقين عليها فقال : فمن أبصر الفطنة أي جعلها بصيرة أو نظر إليها وأعملها ، كان من لم يعملها ولم يعمل بمقتضاها لم يبصرها ، وفي سائر الكتب تبصر في الفطنة وهو أظهر « عرف الحكمة » وفي النهج تبينت له الحكمة ، وفي التحف تأوّل الحكمة ، وفي المجالس تبيّن الحكمة والكلّ حسن ، وقال الكيدري : تبصر أي نظر وتفكر ، وصار ذا بصيرة وقال : الحكمة العلم الذي يدفع الإنسان عن فعل القبيح ، مستعار من حكمة اللجام ، ومن تأوّل الحكمة وعرفها كما هي ، عرف العبرة بأحوال السماء والأرض والدنيا وأهلها ، فتحصل له الحكمة النظرية والعملية ، وفي النهج : ومن تبينت له الحكمة ، وفي المجالس : ومن تبيّن الحكمة.

« ومن عرف العبرة عرف السّنة » أي سنة الأوَّلين وسنة الله فيهم ، فإنها من أعظم العبّر« ومن عرف السّنة فكأنما كان مع الأوَّلين » في حياتهم أو بعد موتهم أيضاً فإن المعرفة الكاملّة تفيد فائدة المعاينة لأهلها ، وفي التحف فكأنما عاش في الأوَّلين وفي النهج : ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأوَّلين « واهتدى » أي بذلك « إلى الّتي «هِيَ أَقْوَمُ » أي الطريقة الّتي هي أقوم الطّرائق.

ثمَّ بيّنعليه‌السلام كيفيّة العبرة فقال : « ونظر إلى من نجا » أي من الأوَّلين« بما نجا » من متابعة الأنبياء والمرسلين والأوصياء المرضيّين والاقتداء بهم علماً

٣٢٢

هلك بما هلك وإنّما أهلك الله من أهلك بمعصيته وأنجى من أنجى بطاعته والعدلّ على أربع شعب غامض الفهم وغمرّ العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم فمن فهم فسّر

_____________________________________________

وعملاً « ومن هلك بما هلك » من مخالفة أئمّة الدين ومتابعة الأهواء المضلّة والشهوات المزلّة ، وليست هذه الفقرات من قوله : واهتدى إلى قوله : بطاعته ، في سائر الكتب.

« والعدل على أربع شعب » وفي النهج والعدلّ منها ، وكان المراد بالعدلّ هنا ترك الظلم والحكم بالحقّ بين الناس وإنصاف النّاس من نفسه ، لا ما هو مصطلح الحكماء من التوسط في الأمور فإنه يرجع إلى سائر الأخلاق الحسنة « غامض الفهم » الغامض خلاف الواضح من الكلام ، ونسبته إلى الفهم مجاز ، وكان المعنى فهم الغوامض ، أو هو من قولهم أغمض حدّ السيف أي رققه ، وفي النهج والتحف : غائص من الغوص وهو الدخول تحت الماء لإخراج اللؤلؤ وغيره ، وقال الكيدري : هو من إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد والفهم الغائص ما يهجم على الشيء فيطلع على ما هو عليه كمن يغوص على الدّر واللّؤلؤ.

« وغمر العلم » أي كثرته في القاموس : الغمرّ الماء الكثير وغمرّ الماء غمارة وغمورة كثر ، وغمرة الماء غمرا واغتمره غطاه ، وفي التحف والخصال : وغمرة العلم ، وفي النهج وغور العلم وغور كلّ شيء قعره ، والغور الدخول في الشيء وتدقيق النظر في الأمر.

« وزهرة الحكم » الزهرة بالفتح البهجة والنضارة والحسن والبياض ، ونور النبات ، والحكم بالضمّ القضاء والعلم والفقه « وروضة الحلم » الإضافة فيها وفي الفقرة السابقة من قبيل لجين الماء ، وفيهما مكنية وتخييليّة حيث شبّه الحكم الواقعي بالزهرة لكونه معجباً ، ومثمرّ الأنواع الثمرّات الدنيويّة والأخروية ، والحلم بالروضة لكونه رائقاً ونافعاً في الدارين ، وفي النهج ورساخة الحلم يقال : رسخ كمنع رسوخاً بالضمّ ورساخة بالفتح أي ثبت ، والحلم الأناة والتثبّت ، وقيل : هو الإمساك عن

٣٢٣

جميع العلم ومن علم عرف شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في النّاس حميداً ؛ والجهاد على أربع شعب : على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق

_____________________________________________

المبادرة إلى قضاء وطر الغضب ورساخة الحلم قوته وكماله « فمن فهم فسّر جميع العلم ومن علم عرف شرائع الحكم » أي من فهم غوامض العلوم فسّر ما اشتبه على النّاس منها ، ومن كان كذلك عرف شرائع الحكم بيّن النّاس فلا يشتبه عليه الأمر ولا يظلم ولا يجور ، وبعدّه في المجالس : ومن عرف شرائع الحكم لم يضلّ « ومن حلم لم يفرط في أمره » ولم يغضب على النّاس وتثبت في الأمر ، وفي النهج فمن فهم علم غور العلم ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ومن حلم « إلخ ».

والصّدور الرّجوع عن الماء ، والشريعة موردّ النّاس للاستسقاء ، والصدور عن شرائع الحكم كناية عن الإصابة فيه وعدم الوقوع في الخطا ، ولم يفرط على بناء التفعيل أي لم يقصر فيما يتعلّق به من أمور القضاء والحكم ، أو مطلقاً ، وفي بعض نسخ النهج على بناء الأفعال ، أي لم يجاوز الحدّ.

« وعاش في النّاس حميداً » وفي التحف وعاش به والعيش الحياة والحميد المحمود المرضي.

« والجهاد على أربع شعب » تلك الشعب إمّا أسباب الجهاد أو أنواعه الخفيّة ذكرها لئلّا يتوهّم أنه منحصر في الجهاد بالسيف مع أنه أحدّ أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الجهاد استفراغ الوسع في إعلاء كلمة الله واتباع مرضاته ، وترويج شرائعه باليد واللّسان والقلب ، قال الراغب : الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ ، والجهاد ثلاثة أضربِّ : مجاهدة العدوّ الظّاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس ، وتدخل ثلاثتها في قوله : «وَجاهِدُوا فِي اللهِ حقّ جِهادِهِ »(١) «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ »(٢) «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا

__________________

(١) سورة الحجّ : ٧٨.

(٢) سورة التوبة : ٤١.

٣٢٤

في المواطن وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهر المؤمن ومن نهى عن المنكر

_____________________________________________

بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ »(١) وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم ، والمجاهدة تكون باليد واللّسان قالعليه‌السلام : جاهدوا الكفّار بأيديكم وألسنتكم.

« على الأمر بالمعروف » وهو الّذي عرفه الشارع وعدّه حسناً ، فإن كان واجباً فالأمر واجب ، وإن كان مندوباً فالأمر مندوب « والنّهي عن المنكر » أي ما أنكره الشارع وعدّه قبيحاً وهما مشروطان بالعلم بكونه معروفاً أو منكراً وتجويز التأثير وعدم المفسدة وهما يجبان باليد واللّسان والقلب.

« والصّدق في المواطن » أي ترك الكذب على كلّ حال إلّا مع خوف الضرر فيوري(٢) فلا يكون كذباً ، والمواطن مواضع جهاد النفس ، وجهاد العدو ، وجهاد الفاسق بالأمر والنهي ، ومواطن الرضا والسخط والضر والنفع ما لم يصل إلى حدّ تجويز التقيّة ، وأصل الصّدق والكذب أن يكونا في القول ثمَّ في الخبر من أصناف الكلام كما قال تعالى : «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً »(٣) «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً »(٤) وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام كقول القائل : أزيد في الدار؟ لتضمنه كونه جاهلا بحال زيد ، وكما إذا قال : واسني لتضمنّه أنّه محتاج إلى المواساة ويستعملان في أفعال الجوارح فيقال : صدق في القتال إذا وفي حقّه ، وصدق في الإيمان إذا فعل ما يقتضيه من الطّاعة ، فالصّادق الكامل من يكون لسانه موافقاً لضميره ، وفعله مطابقاً لقوله ، ومنه الصديق حيث يطلق على المعصوم ، فيحتمل أن يكون الصّدق هنا شاملاً لجميع ذلك.

« وشنآن الفاسقين » الشنآن بالتحريك والسكون وقد صحّ بهما في النهج

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧٢.

(٢) من التورية.

(٣) سورة النساء : ١٣٢.

(٤) سورة النساء : ٨٧.

٣٢٥

أرغم أنف المنافق وأمن كيده ومن صدَّق في المواطن قضى الذي عليه ومن شنئ الفاسقين

_____________________________________________

البغض ، يقال : شنئه كسمعه ومنعه شنأ مثلثة وشناءة وشنآناً وهذا أولى مراتب النهي عن المنكر ، وقيل : هو مقتضى الإيمان ويجب على كلّ حال ، وليس داخلاً في النهي عن المنكر.

« شدّ ظهر المؤمن » وفي النهج ظهور المؤمنين وشد الظهر كناية عن التقوية كما أن قصم الظّهر كناية عن ضدها ، والأمر بالمعروف يقوى المؤمن لأنه يريد ترويج شرائع الإيمان وعسى أن لا يتمكن منه « أرغم أنف المنافقين » وفي النهج أنوف المنافقين وإرغام الأنف كناية عن الإذلال ، وأصله إلصاق الأنف بالرغام وهو التراب ، ويطلق على الإكراه على الأمر ويقال : فعلته على رغم أنفه أي على كره منه ، والرغم مثلثة الكره ، والمنكر مطلوب للمنافقين والفساق الذين هم صنف منهم حقيقة ، والنهي عن المنكر يرغم أنوفهم « ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه » وفي سائر الكتب سوى الخصال : قضى ما عليه أي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا لم يقدر على أكثر من ذلك أو من جميع التكاليف فإن الصّدق في الإيمان والعقائد يقتضي العمل بجميع التكاليف فعلا وتركاً أو لأنه يأتي بها لئلا يكون كاذبا إذا سئل عنها « ومن شنئ الفاسقين » المضبوط في النهج بكسر النون ، وفيه بعدّه : وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة ، ثمَّ ذكر دعائم الكفر كما سيأتي في أبواب الكفر ، والكليني فرّق الخبر على الأبواب.

ولنتمّم كلام المحّقق البحراني وإن لم يكن فيه كثير فائدة بعد ما ذكرنا ، قال بعد ما مرّ : وامّا شعب هذه الدعائم فاعلم أنّه جعل لكلّ دعامة منها أربع شعب من الفضائل بل تتشعب منها ، وتتفرّع عليها فهي كالفروع لها والأغصان.

أمّا شعب الصّبر الذي هو عبارة عن ملكة العفتّة فأحدها : الشوق إلى الجنّة ومحبة الخيرات الباقية ، الثاني : الشفق وهو الخوف من النّار وما يؤدّي إليها ، الثالث : الزهد في الدنيا وهو الإعراض بالقلب عن متاعها وطيباتها ، الرابع

٣٢٦

غضب لله ومن غضب لله غضب الله له ، فذلك الإيمان ودعائمه وشعبه.

_____________________________________________

ترقّب الموت ، وهذه الأربع فضائل منبعثة عن ملكة العفّة لأنّ كلّاً منها يستلزمها.

وامّا شعب اليقين فأحدها تبصرة الفطنة وأعمالها ، الثّاني : تأوّل الحكمة وهو تفسيرها ، الثالث : موعظة العبرة ، الرابع : أن يلحظّ سنة الأوَّلين حتّى يصير كأنه فيهم ، وهذه الأربع هي فضائل تحت الحكمة كالفروع لها وبعضها كالفروع للبعض.

وامّا شعب العدل فأحدها غوص الفهم أي الفهم الغائص ، فأضاف الصفة إلى الموصوف وقدمها للاهتمام بها ورسم هذه الفضيلة أنّها قوّة إدراك المعنى المشار إليه بلفظ أو كتابة أو إشارة ونحوها ، الثاني : غور العلم وأقصاه وهو العلم بالشيء كما هو بحقيقته وكنهه ، الثالث : نور الحكم أي تكون الأحكام الصادرة عنه نيرة واضحة لا لبس فيها ولا شبهة ، الرابع : ملكة الحلم وعبّر عنها بالرسوخ لأن شأن الملكة ذلك ، والحلم هو الإمساك عن المبادرة إلى قضاء وطر الغضب فيمن يجني عليه جناية يصل مكروهها إليه.

واعلم أنّ فضيلتي جودة الفهم وغور العلم وإن كانتا داخلتين تحت الحكمة وكذلك فضيلة الحلم داخلة تحت ملكة الشجاعة إلّا أن العدلّ لـمّا كان فضيلة موجودة في الأصول الثلاثة كانت في الحقيقة هي وفروعها شعبا للعدلّ ، بيانه أن الفضائل كلها ملكات متوسطة بيّن طرف إفراط وتفريط ، وتوسطها ذلك هو معنى كونّها عدلاً فهي بأسرها شعب له وجزئيات تحته.

وامّا شعب الشجاعة المعبّر عنها بالجهاد فأحدها الأمر بالمعروف ، والثاني : النهي عن المنكر ، والثالث : الصّدق في المواطن المكروهة ، ووجود الشجاعة في هذه الشعب الثلاث ظاهر ، والرابع : شنآن الفاسقين ، وظاهر أن بغضهم مستلزم لعداوتهم في الله ، وثوران القوّة الغضبية في سبيله لجهادهم وهو مستلزم للشجاعة.

وامّا ثمرّات هذه الفضائل فأشار إليها للترغيب في مثمراتها ، فثمرّات شعب

٣٢٧

_____________________________________________

العفّة أربع : أحدها : ثمرة الشوق إلى الجنّة وهو السّلو عن الشهوات ، وظاهر كونه ثمرة له إذ السالك إلى الله ما لم يشتق إلى ما وعد المتقون لم يكن له صارف عن الشهوات الحاضرة مع توفر الدواعي إليها ، فلم يسل عنها ، الثانية : ثمرة الخوف من النّار وهو اجتناب المحرمات ، الثالثة : ثمرة الزهد وهي الاستهانة بالمصيبات لأنّ غالبها وعامّها إنّما يلحقّ بسبب فقد المحبوب من الأمور الدنيويّة فمن أعرض عنها بقلبه كانت المصيبة بها هيّنة عنده ، الرابعة : ثمرة ترقب الموت وهي المسارعة في الخيرات والعمل له ولـمّا بعده.

وامّا ثمرّات اليقين فإنّ بعض شعبة ثمرة لبعض فإن تبيّن الحكمة وتعلّمها ثمرّات لإعمال الفطنة والفكرة ومعرفة العبّر ومواقع الاعتبار بالماضين ، والاستدلال بذلك على صانع حكيم ثمرة لتبيين وجوه الحكمة وكيفيّة الاعتبار.

وامّا ثمرّات العدلّ فبعضها كذلك أيضاً وذلك أن جودة الفهم وغوصة مستلزم للوقوف على غور العلم وغامضة ، والوقوف على غامض العلم مستلزم للوقوف على شرائع الحكم العادلّ ، والصدور عنها بيّن الخلق من القضاء الحق.

وامّا ثمرة الحلم فعدم وقوع الحليم في طرف التفريط والتقصير عن هذه الفضيلة وهي رذيلة الجبن ، وأن يعيش في النّاس محموداً بفضيلته.

وامّا ثمرّات الجهاد فأحدها ثمرة الأمر بالمعروف وهو شدّ ظهور المؤمنين ومعاونتهم على إقامة الفضيلة ، الثانية : ثمرة النهي عن المنكر وهي إرغام أنوف المنافقين وإذلالهم بالقهر عن ارتكاب المنكرات ، وإظهار الرذيلة ، الثالثة : ثمرة الصّدق في المواطن المكروهة وهي قضاء الواجب من أمر الله تعالى في دفع أعدائه والذبّ عن الحريم ، والرابعة : ثمرة بغض الفاسقين والغضب لله وهي غضب الله لمن أبغضهم وإرضاؤه يوم القيامة في دار كرامته.

٣٢٨

( باب )

( فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان )

١ - أبو عليّ الأشعريّ ، عن محمّد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمرّ ، عن جابر قال قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام يا أخا جعف إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام وإن اليقين أفضل من الإيمان وما من شيء أعزُّ من اليقين.

_____________________________________________

باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان

الحديث الأول : ضعيف.

« يا أخا جعف » أي يا جعفيّ وهم قبيلة من اليمن ، وفي المصباح هو أخو تميم أي واحدّ منهم ، وفضل الإيمان على الإسلام إمّا باعتبار الولاية في الأوّل أو الإذعان القلبي فيه مع الأعمال أو بدونها كما مرّ جميع ذلك ، وعلى أي معنى أخذت يعتبر في الإيمان ما لا يعتبر في الإسلام فهو أخصّ وأفضل ، وكذا اليقين يعتبر فيه أعلى مراتب الجزم بحيث يترتّب عليه الآثار ، ويوجب فعل الطّاعات وترك المناهي ، ولا يعتبر ذلك في الإيمان أي في حقيقته حتّى يكون في جميع أفراده فهو أخصّ وأفضل أفراد الإيمان ، أو يعتبر في اليقين عدم احتمال النقيض ، ولا يعتبر ذلك في الإيمان مطلقاً كما مرّ ، والأظهر أن التصديق الذي لا يحتمل النقيض تختلف مراتبه حتّى يصل إلى مرتبة اليقين كما أومأنا إليه سابقاً.

« وما شيء أعزّ من اليقين » أي أقلّ وجوداً في النّاس منه أو أشرف منه ، والأوّل أظهر ، إذ اليقين لا يجتمع مع المعصية لا سيّما مع الإصرار عليها ، وتارك ذلك نادر قليل ، بل يمكن أن يدعى أن أيمان أكثر الخلق ليس إلّا تقليداً وظنا يزول بأدنى وسوسة من النفس والشيطان ، إلّا ترى أن الطبيب إذا أخبر أحدهم بأن الطعام الفلاني يضرّه أو يوجب زيادة مرضه أو بطوء برئه يحتمي الطعام بمحض

٣٢٩

٢ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد والحسين بن محمّد ، عن معلّى بن محمّد جميعاً ، عن الوشّاء ، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال سمعته يقول الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة ، واليقين فوق التقوى بدرجة وما قسّم في الناس

_____________________________________________

قول هذا الطّبيب حفظاً لنفسه من الضرر الضعيف المتوهّم ، ولا يترك المعصية الكبيرة مع إخبار الله ورسوله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام بأنّها مهلكة وموجبة للعذاب الشديد وليس ذلك إلّا لضعف الإيمان وعدم اليقين.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور معتبر.

ويدلّ على أنّ التقوى أفضل من الإيمان ، والتقوى من الوقاية وهي في اللغة فرط الصيانة ، وفي العرف صيانة النفس عمّا يضرها في الآخرة وقصرها على ما ينفعها فيها ، ولها ثلاث مراتب الأولى : وقاية النفس عن العذاب المخلد ، بتصحيح العقائد الإيمانية ، والثانية : التجنب عن كلّ ما يؤثمَّ من فعل أو ترك وهو المعروف عند أهل الشرع ، والثالثة : التوقي عن كلّ ما يشغل القلب عن الحقّ ، وهذه درجة الخواص ، من خاصّ الخاصّ.

والمراد هنا أحدّ المعنيين الأخيرين ، وكونه فوق الإيمان بالمعنى الثالث ظاهر على أكثر معاني الإيمان الّتي سبق ذكرها ، وإن أريد المعنى الثاني فالمراد بالإيمان إمّا محض العقائد الحقة أو مع فعل الفرائض وترك الكبائر بأن يعتبر ترك الصغائر أيضاً في المعنى الثاني ، وقيل : باعتبار أن الملكة معتبرة فيها لا فيه ، ولا يخفى ما فيه.

وكون اليقين فوق التقوى كأنه يعين حملها على المعنى الثاني وإلّا فيشكلّ الفرّق ، لكن درجات المرتبة الأخيرة أيضاً كثيرة فيمكن حمل اليقين على أعالي درجاتها ، وما قيل في الفرّق : أن التقوى قد يوجد بدون اليقين كما في بعض المقلدين فهو ظاهر الفساد ، إذ لا توجد هذه الدرجة الكاملّة من التقوى لمن كان بناء إيمانه على الظن والتخمين.

وقولهعليه‌السلام : وما قسم للناس ، يدلّ على أن للاستعدادات الذاتية والعنايات

٣٣٠

شيء أقلُّ من اليقين.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن حمران بن أعين قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول إن الله فضل الإيمان على الإسلام بدرجة كمّا فضّل الكعبة على المسجد الحرام.

٤ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن هارون بن الجهم أو غيره ، عن عمرّ بن أبان الكلبي ، عن عبد الحميد الواسطي ، عن أبي بصير قال قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام يا أبا محمّد الإسلام درجة قال قلت نعم قال والإيمان على الإسلام درجة قال قلت نعم قال والتقوى على الإيمان درجة قال قلت نعم قال واليقين على التقوى درجة قال : قلت نعم قال فما أوتي النّاس أقلُّ

_____________________________________________

الإلهيّة مدخلاً في مراتب الإيمان واليقين كما مرّت الإشارة إليه.

الحديث الثالث : حسن.

وقد مرّ وجه هذا التشبيه في الفرّق بيّن الإسلام والإيمان.

الحديث الرابع : مجهول.

« الإسلام درجة » أي درجة من الدرجات أو أوّل درجة وهو استفهام أو خبر « ونعم » يقع في جوابهما « على الإسلام » أي مشرفاً أو زائداً عليه « ما أوتي النّاس أقلّ من اليقين » أي الإيمان أقلّ من سائر ما أعطي النّاس من الكمالات أو هو عزيز نادر فيهم كما مرّ ، وقيل : المعنى ما أعطى النّاس شيئاً قليلاً من اليقين ولا يخفى بعدّه ، وكأنه حمله على ذلك ما سيأتي.

قولهعليه‌السلام : بأدنى الإسلام ، كان المراد بالإسلام هنا مجموع العقائد الحقّة بل مع قدر من الأعمال كما مرّ من اختلاف معاني الإسلام ، ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب غير المخاطب من ضعفاء الشيعة ، وقيل : المراد بأدنى الإسلام أدنى الدرجات إلى الإسلام وهو الإيمان من قبيل يوسف أحسن إخوته.

٣٣١

من اليقين وإنّما تمسّكتم بأدنى الإسلام فإيّاكم أن ينفلت من أيديكم.

٥ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس قال سألت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام عن الإيمان والإسلام فقال قال أبو جعفرعليه‌السلام إنما هو الإسلام والإيمان فوقه بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسّم بيّن النّاس شيء أقلُّ من اليقين قال قلت فأي شيء اليقين ؟ قال التوكّل

_____________________________________________

« أن ينفلت من أيديكم » أي يخرج من قلوبكم فجأة فيدلّ على أن ّمن لم يكن في درجة كاملّة من الإيمان فهو على خطر من زواله فلا يغترّ من لم يتّق المعاصي بحصول العقائد له ، فإنّه يمكن زواله عنه بحيث لم يعلم ، فإن الأعمال الصّالحة والأخلاق الحسنة حصون للإيمان تحفظه من سرّاق شياطين الإنس والجانّ ، قال الجوهري : يقال كان ذلك الأمر فلتة أي فجأة إذا لم يكن عن تدبّر ولا تردّد ، وأفلت الشيء وتفلت بمعنى ، وأفلته غيره.

الحديث الخامس : صحيح.

« إنّما هو الإسلام » كأنّ الضّمير راجع إلى الدّين لقوله تعالى : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ »(١) أو ليس أوّل الدخول في الدين إلّا درجة الإسلام.

قولهعليه‌السلام : التوكلّ على الله ، تفسير اليقين بما ذكر من باب تعريف الشيء بلوازمه وآثاره ، فإنه إذا حصل اليقين في النفس بالله سبحانه ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته وتقديره للأشياء وتدبيره فيها ورأفته بالعباد ورحمته ، يلزم التوكلّ عليه في أموره والاعتماد عليه والوثوق به ، وإن توسل بالأسباب تعبّداً والتسليم له في جميع أحكامه ، ولخلفائه فيما يصدر عنهم ، والرّضا بكلّ ما يقضي عليه على حسب المصالح من النعمة والبلاء والفقر والغناء ، والعزّ والذلّ وغيرها ، وتفويض الأمر إليه في دفع شرّ الأعادي الظاهرة والباطنة ، أوردّ الأمر بالكليّة إليه في جميع الأمور بحيث يرى قدرته مضمحلة في جنب قدرته ، وإرادته معدومة

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩.

٣٣٢

على الله والتسليم لله والرّضا بقضاء الله والتفويض إلى الله قلت فما تفسير ذلك ؟ قال : هكذا قال أبو جعفرعليه‌السلام .

٦ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الرضاعليه‌السلام قال الإيمان فوق الإسلام بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة واليقين فوق التقوى بدرجة ولم يقسّم بيّن العباد شيء أقلّ من اليقين.

_____________________________________________

عند إرادته كما قال الله تعالى : «وَما تَشاؤُنَ إلّا أَنْ يَشاءَ اللهُ »(١) ويعبّر عن هذه المرتبة بالفناء في الله.

قولهعليه‌السلام : هكذا « إلخ » لـمّا كان السائل قاصرا عن فهم حقائق هذه الصفات لم يجبهعليه‌السلام بالتفسير بل أكد حقيته بالرواية عن والدهعليهما‌السلام ، وقيل : استبعد الراوي كون هذه الأمور تفسيراً لليقين ، فأجابعليه‌السلام بأن الباقرعليه‌السلام كذا فسره.

الحديث السادس : صحيح ومطابق لحديث الوشاء.

قال بعض المحقّقين : اعلم أنّ العلم والعبادة جوهران لأجلهما كان كلّما ترى وتسمع من تصنيف المصنفين وتعليم المعلمين ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ، بل لأجلهما أنزلت الكتب وأرسلت الرّسل ، بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق ، وناهيك لشرف العلم قول الله عزّ وجلّ : «اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأمر بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكلّ شَيْءٍ عِلـمّا »(٢) ولشرف العبادة قوله سبحانه : «وَما خَلَقْتُ الجنّ وَالْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ »(٣) فحقّ للعبد أن لا يشتغل إلّا بهما ، ولا يتعب إلّا لهما ، وأشرف الجوهرين العلم كما وردّ : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣٠.

(٢) سورة الطلاق : ١٢.

(٣) سورة الذاريات : ٥٦.

٣٣٣

_____________________________________________

والمراد بالعلم الدين أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال الله عزّ وجلّ : «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ ربّه وَالْمُؤْمِنُونَ كلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ »(١) وقال تعالى : «يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلإلّا بعيداً »(٢) ومرجع الإيمان إلى العلم ، وذلك لأن الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصور ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم ، والكفر ما يقابله وهو بمعنى الستر والغطاء ، ومرجعه إلى الجهل ، وقد خصّ الإيمان في الشرع بالتصديق بهذه الخمسة ولو إجمالاً ، فالعلم بها لا بد منه ، وإليه الإشارة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، ولكن لكلّ إنسان بحسب طاقته ووسعه ، «لا يُكلّف اللهُ نَفْساً إلّا وُسْعَها » ، فإن العلم والإيمان درجات مترتبة في القوّة والضعف والزيادة والنقصان ، بعضها فوق بعض ، كما دلت عليه الأخبار الكثيرة.

وذلك لأن الإيمان إنمّا يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبيّن الله جل جلاله. «اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَوَمَنْ كانَ ميتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » وليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه ، وهذا النور قابل للقوّة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار. «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَقُلْ ربِّ زِدْنِي عِلـمّاً » كلـمّا ارتفع حجاب ازداد نور فيقوى الإيمان

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٥.

(٢) سورة النساء : ١٣٦.

٣٣٤

_____________________________________________

ويتكامل إلى أن ينبسط نور فينشرح صدره ويطّلع على خلق الأشياء وتجلى له الغيوب ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياءعليهم‌السلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالاً وتفصيلاً على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور ، والاجتناب عن كلّ محظور فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة «نُورُهُمْ يَسْعى بيّن أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمأنّهم » «نُورٌ عَلى نُورٍ » وكلّ عبادة تقع على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعداً لحصول نور فيه وانشراح ومعرفة ويقين ، ثمَّ ذلك النور والمعرفة واليقين تحمله على عبادة أخرى وإخلاص آخر فيها يوجب نوراً آخر وانشراحاً أتم ومعرفة أخرى ويقيناً أقوى ، وهكذا إلى ما شاء الله جل جلاله ، وعلى كلّ من ذلك شواهد من الكتاب والسنّة.

ثمَّ اعلم أن أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك والشبّه على اختلاف مراتبها ، ويمكن معها الشرك" «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » " وعنها يعبّر بالإسلام في الأكثر" «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسلّمنا وَلـمّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ » " وأواسطها تصديقات لا يشوبها شك ولا شبهة" «الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثمَّ لَمْ يَرْتابُوا » " وأكثر إطلاق الإيمان عليها خاصة" «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » " وأواخرها تصديقات كذلك مع كشف وشهود وذوق وعيان ، ومحبة كاملّة لله سبحانه ، وشوق تام إلى حضرته المقدسة «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ». ، «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ، ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ » ، وعنها العبارة تارة بالإحسان ، الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأخرى بالإيقان" «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ » " وإلى المراتب الثلاث الإشارة بقوله عزّ وجلّ : " «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا

٣٣٥

( باب )

( حقيقة الإيمان واليقين )

١ - عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمّد بن عذافر ، عن أبيه ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

_____________________________________________

مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحبّ الْمُحْسِنِينَ »(١) وإلى مقابلاته الّتي هي مراتب الكفر الإشارة بقوله جل وعزّ : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثمَّ كَفَرُوا ثمَّ آمَنُوا ثمَّ كَفَرُوا ثمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً »(٢) فنسبة الإحسان واليقين إلى الإيمان كنسبة الإيمان إلى الإسلام ، ولليقين ثلاث مراتب علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين «كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ » أن هذا لهو حقّ اليقين.

والفرّق بينها إنما ينكشف بمثال فعلم اليقين بالنّار مثلاً هو مشاهدة المرئيّات بتوسط نورها ، وعين اليقين بها هو معاينة جرمها ، وحقّ اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء الهوية بها والصيرورة ناراً صرفاً وليس وراء هذا غاية ، ولا هو قابل للزيادة ، لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.

باب حقيقة الإيمان واليقين

الحديث الأوّل : مجهول وقد مرّ مضمونه بسند صحيح قبل ذلك بورقة.

« بينا رسول الله » بينا هي بيّن الظرفية أشبعت فتحتها فصارت ألفاً ويقع بعدها حينئذ إذ الفجائيّة غالباً ، وعاملها محذوف يفسرّه الفعل الواقع بعد إذ عند بعض ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٣.

(٢) سورة النساء : ١٣٧.

٣٣٦

في بعض أسفاره إذ لقيه ركّب فقالوا السلام عليك يا رسول الله فقال ما أنتم فقالوا نحن مؤمنون يا رسول الله قال فما حقيقة إيمانكم ؟ قالوا الرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله والتسليم لأمر الله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فإن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون واتقوا الله الذي إليه ترجعون.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى وعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن ابن محبوب ، عن أبي محمّد الوابشي وإبراهيم بن مهزم ، عن إسحاق بن عمار

_____________________________________________

وبعضهم يجعلها خبراً عن مصدر مسبوك من الفعل ، أي بيّن أوقات سفره لقاء الركّب ،والركّب جمع راكب كصحبّ وصاحب.

« فقال ما أنتم » أي أي صنف أنتم من الناس؟ قيل : كما أن ما تكون سؤإلّا عن حقيقة الشيء يكون سؤإلّا عن خواصه وآثاره المترتبة عليه ، وهو المراد هنا فلذلك أجابوا بها « فقالوا نحن مؤمنون » انتهى.

وقال الراغب في معاني « ما » الثالث : الاستفهام ، ويسأل به عن جنس ذات الشيء ونوعه ، وعن جنس صفات الشيء ونوعها ، وقد يسأل به عن الأشخاص والأعيان في غير الناطقين ، انتهى.

« فما حقيقة إيمانكم » لـمّا كانت للإيمان حقائق مختلفة ودرجات متفاوتة سألهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حقيقة الإيمان الذي يدعونه فأجابوا بلوازمه وآثاره ليظهر حقيقة ما ادعوه ، أو المراد بالحقيقة ما يحقّه ويثبته أي الإيمان أمر قلبي إنما يثبت بآثاره ، فما ظهر من آثار إيمانكم ليدلّ على ثبوته في قلوبكم ، والمعنى الأوّل أنسب بما مرّ من مضمون هذا الخبر ، حيث قال : وما بلغ من إيمانكم ، فإن الظّاهر اتحاد الواقعة ، والتفويض إلى الله هنا التوكلّ عليه في جميع الأمور.

الحديث الثاني : موثق.

٣٣٧

قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّاً لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أصبحت يا فلان قال أصبحت يا رسول الله موقناً فعجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله وقال إنَّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ

_____________________________________________

« فنظر إلى شاب » كأنّه الحارثة الآتي في الخبر الثاني « وهو يخفق ويهوي برأسه » للنعاس بكثرة العبادة في الليل في القاموس : خفقت الراية ينخفق وتخفق وخفقا وخفقانا محركة اضطربت وتحركت ، وفلان حرك رأسه إذا نعس كأخفق وقال : هوى هويا سقط من علو إلى سفل ، انتهى.

فقوله : ويهوي برأسه كالتفسير لقوله : يخفق ، أو مبالغة في الخفق إذ يكفي فيه الحركة القليلة ونحف كتعب وقربِّ نحافة : هزل « كيف أصبحت » أي على أي حال دخلت في الصباح ، أو كيف صرت « فعجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » كتعب أي تعجب منه لندرة مثل ذلك ، أو أعجبه وسر به قال الراغب : العجب والتعجب حالة تعرّض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل : لا يصحّ على الله التعجب إذ هو علام الغيوب ، ويقال : لـمّا لا يعهد مثله عجب ، قال تعالى : «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا »(١) «كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً »(٢) «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً »(٣) أي لم نعهد مثله ولم نعرف سببه ، ويستعار تارة للمؤنق فيقال أعجبني كذا أي راقني ، وقال تعالى : «وَمِنَ النّاس مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ »(٤) .

« إنّ لكلّ يقين » أي فردّ من أفراده أو صنف من أصنافه « حقيقة فما حقيقة يقينك » من أي نوع أو صنف ، أو لكلّ يقين علامة تدلّ عليه فما علامة يقينك كما مرّ « هو الذي أحزنني » أي في أمر الآخرة « وأسهر ليلي » لحزن الآخرة أو

__________________

(١) سوره يونس : ٢. (٢) سورة الكهف : ٩.

(٣) سورة الجنّ : ١. (٤) سورة البقرة : ٢٠٤.

٣٣٨

هواجري فعزفت نفسي عن الدُّنيا وما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربي وقد نُصبّ للحساب وحشرّ الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون وعلى الأرائك متّكئون وكأني أنظر إلى أهل النّار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النّار يدور في مسامعي فقال رسول

_____________________________________________

للاستعداد لها ، أو لحبّ عبادة الله ومناجاته : عجباً للمحبّ كيف ينام ، والإسناد مجازي أي أسهرني في ليلي وكذا في قوله : « وأظمأ هواجري » مجاز عقلي أي أظمأني عند الهاجرة وشدّة الحر للصوم في الصيف ، وإنّما خصه لأنه أشق وأفضل ، في القاموس : الهاجرة نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر لأن النّاس يستكنون في بيوتهم كأنّهم قد تهاجروا ، وشدّة الحر.

وقال : عزفت نفسي عنه تعزف عزوفا زهدت فيه وانصرفت عنه ، أو ملته.

« حتّى كأني أنظر » أي شدّة اليقين بأحوال الآخرة صيرني إلى حالة المشاهدة ، والاصطراخ الاستغاثة وزفير النّار صوت توقدها ، في القاموس : زفر يزفر زفرا وزفيراً أخرج نفسه بعد مده إياه ، والنّار سمع لتوقدها صوت.

وقال : المسمع كمنبر الأذن كالسامعة والجمع مسامع ، انتهى.

وقيل : المسامع جمع على غير قياس كمشابه وملامح جمع شبّه ولمحة ، وقال بعض المحقّقين : هذا التنوير الذي أشير به في الحديث إنما يحصل بزيادة الإيمان وشدّة اليقين فإنّهما ينتهيان بصاحبهما إلى أن يطلع على حقائق الأشياء ، محسوساتها ومعقولاتها فتنكشف له حجبها وأستارها ، فيعرفها بعين اليقين على ما هي عليه من غير وصمة ريب أو شائبة شك فيطمئن لها قلبه ويستريح بها روحه ، وهذه هي الحكمة الحقيقة الّتي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً.

وإليه أشار أمير المؤمنين بقوله : هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، وباشرواً رواح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ،

٣٣٩

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان ، ثمَّ قال له الزم ما أنت عليه فقال الشاب ادع الله لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك فدعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال استقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له كيف أنت يا حارثة بن مالك فقال يا رسول الله مؤمن حقا فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لكلّ شيء حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال :

_____________________________________________

وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى.

أرادعليه‌السلام بما استوعره المترفون يعني المتنعمون رفض الشهوات البدنية وقطع التعلقات الدنيويّة وملازمة الصمت والسهر والجوع والمراقبة ، والاحتراز عمّا لا يعني ونحو ذلك ، وإنما يتيسر ذلك بالتجافي عن دار الغرور ، والترقّي إلى عالم النور ، والأنس بالله والوحشة عمّا سواه ، وصيرورة الهموم جميعاً هما وأحداً ، وذلك لأن القلب مستعد لأن يتجلى فيه حقيقة الحقّ في الأشياء كلها من اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله تعالى به إلى يوم القيامة وإنما حيل بينه وبينها حجب كنقصان في جوهرة أو كدورة تراكمت عليه من كثرة الشهوات أو عدول به عن جهة الحقيقة المطلوبة ، أو اعتقاد سبق إليه ورسخ فيه على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن ، أو جهل بالجهة الّتي منها يقع العثور على المطلوب ، وإلى بعض هذه الحجب أشير في الحديث النبوي : لو لا أن الشّياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور لا يقصر عن الصّحيح عندي.

« مؤمن حقاً » قوله : حقا مؤكّد كقولهم : هذا عبد الله حقا ، والحاصل أني مؤمن حقّ الإيمان ، وكما ينبغي أن يكون المؤمن « فأسهرت ليلي» على صيغة

٣٤٠