مرآة العقول الجزء ٧

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الحديث
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 379

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الحديث
تصنيف: الصفحات: 379
المشاهدات: 16904
تحميل: 8203


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 379 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 16904 / تحميل: 8203
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دار الحديث
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( باب آخر منه )

( وفيه زيادة وقوع التكليف الأول )

١ - أبو عليّ الأشعريّ ومحمّد بن يحيى ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن عليّ بن الحكم ، عن أبان بن عثمان ، عن زرارة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال لو علم الناس كيف ابتداء الخلق ما اختلف اثنان إنَّ الله عزّ وجلّ قبل أن يخلق الخلق قال كن ماءاً

_____________________________________________

باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأول

أقول : إنّما أفردّ لتلك الأخبار باباً لاشتمالها على أمر زائد لم يكن في الأخبار السابقة رعاية لضبط العنوان بحسب الإمكان.

الحديث الأوّل : موثق كالصحيح.

« لـما اختلف اثنان »(١) أي في مسألة الاستطاعة والاختيار والجبر ، أو لـمّا تنازع اثنان في أمر من أمور الدين لاختلاف إفهامهم وقابليّاتهم وطينهم ، ولـمّا بالغوا في هداية الخلق « كن ماءا عذاباً » أمر تكويني أو استعارة تمثيلية لبيان علمه تعالى باختلاف مواد الخلق واستعداداتهم وما هم إليه صائرون وفي القاموس : ماء أجاج ملح مرّ ، وقال أديم النهار عامته أو بياضه ، ومن الضحى أوله ومن السماء والأرض ما ظهر وقال : عركه دلكه وحكه حتى عفاه وقال : الذرّ صغار النمل ومائة منها زنة حبة شعير ، الواحدة ذرّة ، وقال : دبّ يدبّ دبّاً ودبيباً : مشى على هنيئة ، وقال : أقلته فسخته ، واستقالة : طلب إليه أن يقيله ، وقال : هابه يهابه هيباً ومهابة : خافه.

وقال السيّدرضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة : روى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية قال : كنا عند أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس ، قال : إنّما فرّق بينهم مبادئ طينهم ، وذلك أنّهم قد كانوا فلقة من سبخ أرض وعذبها وحزن تربة وسهلها فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون ،

__________________

(١) وفي المتن « ما اختلف » بدون اللام.

٢١

عذباً أخلق منك جنتي وأهل طاعتي وكن ملحاً أجاجاً أخلق منك ناري وأهل معصيتي ثمَّ أمرهما فامتزجا فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر والكافر المؤمن ثمَّ أخذ طيناً

_____________________________________________

وعلى قدر اختلافها يتفاوتون ، فتامّ الرواء ناقص العقل ومادّ القامة قصير الهمّة وزاكي العمل قبيح المنظر وقريب القعر بعيد السبر ومعروف الضريبة منكر الجليبة وتائه القلب متفرّق اللّبّ وطليق اللسان حديد الجنان.

وقال ابن ميثمَّ في قولهعليه‌السلام : إنّما فرّق بينهم « إلخ » أي تقاربهم في الصور والأخلاق تابع لتقارب طينهم وتقارب مباديه وهي السهل والحزن ، والسبخ والعذب وتفاوتهم فيها لتفاوت طينهم ومباديه المذكورة وقال أهل التأويل : الإضافة بمعنى اللام أي المبادئ لطينهم كناية عن الأجزاء العنصريّة الّتي هي مبادئ المركّبات ذوات الأمزجة ، أو السبخ كناية عن الحار اليابس والعذب عن الحار الرّطب والسهل عن البارد الرطب ، والحزن عن البارد اليابس ، انتهى.

وأقول : لا يبعد أن يكون الماء العذب كناية عمّا خلق الله في الإنسان من الدواعي إلى الخير والصلاح كالعقل والنفس الملكوتي ، والماء الأجاج عمّا ينافي ويعارض ذلك ويدعو إلى الشهوات الدنية واللذات الجسمانية من البدن وما ركب فيه من الدواعي إلى الشهوات ، ويكون مزجهما كناية عن تركيبهما في الإنسان ، فقوله : أخلق منك ، أي من أجلك جنتي وأهل طاعتي ، إذ لو لا ما في الإنسان من جهة الخير لم يكن لخلق الجنّة فائدة ولم يكن يستحقها أحد ، ولم يصر أحد مطيعاً له تعالى ، وكذا قوله : أخلق منك ناري إذا لو لا ما في الإنسان من دواعي الشرور لم يكن يعصي الله أحد ، ولم يحتج إلى خلق النّار للزجر عن الشرور ثمَّ لإظهار إحاطة علمه بما سيقع من كلّ فردّ من أفراد البشرّ للملائكة لطفاً لهم ولبني آدم أيضاً بعد إخبار الرّسل بذلك جعلهم كالذرّ ، وميّز من علم منهم الإيمان ممّن علم منهم خلافه ، وكلّفهم بدخول النّار ليعلموا قبل التكليف في عالم الأجساد أن ما علم منهم مطابق للواقع « فثمَّ ثبتت الطاعة والمعصية » وعلم الملائكة من يطيع بعد ذلك ومن يعصي وأثبت ذلك في الألواح مطابقاً لعلمه تعالى.

٢٢

من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً فإذا هم كالذرّ يدبّون فقال لأصحاب اليمين إلى الجنّة بسلام وقال لأصحاب الشمال : إلى النار ولا أبالي ثمَّ أمر نارا فأسعرت فقال لأصحاب الشمال ادخلوها فهابوها فقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فقال «كُونِي بَرْداً وَسَلاماً » فكانت بردا وسلاما فقال أصحاب الشمال يا رب أقلنا - فقال قد أقلتكم فادخلوها فذهبوا فهابوها فثمَّ ثبتت الطاعة والمعصية - فلا يستطيع هؤلاء

_____________________________________________

وقوله : فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر ، أي لأجل ما قرّر في الإنسان من جهتي الخير والشرّ ترى الأب يصير تابعاً للعقل ومقوّياً لدواعي الخير وزاجرا للشهوات فيصير من الأخيار ، والابن يتبع الهوى والشهوات ويسلطها على العقل فيصير من الأشرار مع نهاية الارتباط بينهما.

وقوله : ولا يستطيع هؤلاء ، أي لا يتخلّف ما علم الله تعالى منهم ، لكن لا يختارونها إلّا باختيارهم وإرادتهم واستطاعتهم.

هذا ما خطر بالبال على وجه الاحتمال والله يعلم غوامض أسرارهمعليه‌السلام .

وقال بعض أهل التأويل عبّر عن المادّة تارة بالماء وأخرى بالتربة لاشتراكهما في قبول الأشكال ، ولاجتماعهما في طينة الإنسان وتركيب خلقته ، وأديم الأرض وجهها وكأنه كناية عمّا ينبت منها ممّا يصلح أن يصير غذاء الإنسان ويحصل منه النطفة أو تتربى به ، والعرك : الدلك وكأنّه كناية عن مزجه بحيث يحصل منه المزاج ويستعد للحياة ، والذرّ : النمل الصغار ووجه الشبّه الحس والحركة وكونهم محل الشعور مع صغر الجثة والخفاء ، وهذا الخطاب إنما كان في عالم الأمر ولشدّة ارتباط الملك بالملكوت وقوامه به جاز إسناد مادته إليه وإن كان عالم الأمر مجرداً عن المادّة واجتماعهم في الوجود عند الله تعالى إنّما هو لاجتماع الأجسام الزمانية عنده تعالى دفعة واحدة في عالم الأمر وإن كانت متفرقة مبسوطة متدرجة في عالم الخلق ووجودهم في عالم الأمر وجود ملكوتيّ ظليّ ينبعث من حقيقة هذا الوجود الخلقي الجسماني وهو صورة علمه سبحانه بها وعبّر عنه بالظلال في حديث آخر ، وأمره تعالى إيّاهم

٢٣

أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء من هؤلاء.

٢ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن زرارة أن رجلا سأل أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله جل وعزّ : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى » إلى آخر الآية(١) .

_____________________________________________

إلى الجنة والنّار هدايته إيّاهم إلى سبيلهما ، ثمَّ توفيقه أو خذلانه ، ولعلّ المراد بالنّار المسعرة بعد ذلك التكاليف الشرعية وتحصيل المعرفة المحرقة للقلوب لصعوبة الخروج عن عهدتها واستقالة أصحاب الشمال كناية عن تمنّيهم الإطاعة وعدم قدرتهم التامة عليها لغلبة الشقوة عليهم ، وكونهم مسخّرة تحت سلطان الهوى كما قالوا «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ » انتهى.

والاجتراء على تلك التأويلات في الأخبار جرأة على الله ورسوله والأئمّة الأخيار إلّا أن يكون على سبيل الاحتمال ، لكن بعد ثبوت ما بنوا عليه الكلام من المقدّمات الّتي لم تثبت بالبرهان واليقين بل بعضها مناف لـمّا ثبت في الدين المبين.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

وظاهر الحديث أنّ السؤال عن الباقرعليه‌السلام كان في زمن أبيه وهو حاضر ، وفيه أنّه لم يعهد إدراك زرارة عليّ بن الحسينعليه‌السلام فيحتمل أن يكون روي ذلك عن الرجل السائل ولم يكن زرارة حاضرا عند السؤال ، مع أنّه يمكن إدراكه زمان السجادعليه‌السلام وعدم روايته عنه ولذا لم يعدّ من أصحابه ، وفي تفسير العياشي هكذا عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام إلى آخر الخبر ، وهو أصوب.

«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ » قال البيضاوي : أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن ، ومن ظهورهم بدل من بني آدم بدل البعض ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عأمر ويعقوب ذريّاتهم «وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » أي نصب لهم دلائل ربوبيّته وركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

٢٤

فقال وأبوه يسمععليه‌السلام : حدّثني أبي أنّ الله عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة الّتي خلق منها آدمعليه‌السلام فصبّ عليها الماء العذب الفرات ثمَّ تركها أربعين صباحاً ثمَّ صبّ عليها الماء المالح الأجاج فتركها أربعين صباحاً فلـمّا اختمرت الطينة أخذها فعركها عركاً شديداً فخرجوا كالذرّ من يمينه وشماله وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النّار فدخل

_____________________________________________

بها حتى صاروا بمنزلة من قيللهم : ألست بربّكم؟ قالوا بلى ، فنزّل تمكينّهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ، ويدلّ عليه قوله : «قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ » أي كراهة أن تقولوا «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » لم ننبه عليه بدليل «أَوْ تَقُولُوا » عطف على أن تقولوا «إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ » فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن مع العلم به لا يصلح عذراً «أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك ، وقيل : لـمّا خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذرّ وأحياهم ، وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك ، لحديث رواه عمرّ ، انتهى.

وقال بعض المحقّقين لعلّ معنى إشهاد ذرية بني آدم على أنفسهم بالتوحيد استنطاق حقائقهم بالسنة قابليات جواهرها وألسن استعدادات ذواتها ، وأن تصديقهم به كان بلسان طباع الإمكان قبل نصبّ الدلائل لهم أو بعد نصبّ الدلائل ، أو أنه نزل تمكينّهم من العلم وتمكينّهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل نظير ذلك قوله عزّ وجلّ : «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ »(١) إلخ ، وقوله عزّ وعلا : «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ »(٢) ومعلوم أنه لا قول ثمّة وإنّما هو تمثيل وتصوير للمعنى ، ويحتمل أن يكون ذلك النطق باللسان الملكوتي الذي به يسبح كلّ شيء بحمد ربّه ، وذلك لأنّهم مفطورون على التوحيد.

قولهعليه‌السلام : من تراب ، التربة هذا من قبيل إضافة الجزء إلى الكلّ ، قوله

__________________

(١) سورة النحل : ٤٠.

(٢) سورة الفصلت : ١١.

٢٥

أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً وأبى أصحاب الشمال أن يدخلوها.

٣ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبان بن عثمان ، عن محمّد بن عليّ الحلبيّ ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن الله عزّ وجلّ لـمّا أراد أن يخلق آدمعليه‌السلام أرسل الماء على الطين ثمَّ قبض قبضة فعركها ثمَّ فرقها فرقتين بيده ثمَّ ذرأهم فإذا هم يدبّون ثمَّ رفع لهم نارا فأمر أهل الشمال أن يدخلوها فذهبوا إليها فهابوها فلم يدخلوها ثمَّ أمر أهل اليمين أن يدخلوها فذهبوا فدخلوها فأمر الله جل وعزّ النّار فكانت عليهم برداً وسلاماً فلـمّا رأى ذلك أهل الشمال قالوا ربنا أقلنا فأقالهم ثمَّ قال لهم ادخلوها فذهبوا فقاموا عليها ولم يدخلوها فأعادهم طيناً وخلق منها آدمعليه‌السلام وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام فلن يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء قال فيرون أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل من دخل تلك النّار فذلك قوله جل وعزّ : «قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا

_____________________________________________

من يمينه وشماله ، الضميران راجعان إلى الملك المأمور بهذا الأمر كجبرئيل أو العرش أو إلى التراب فاستعار اليمين للجهة الّتي فيها اليمن والبركة ، والشمال للأخرى ، أو اليمين لصفة الرحمانية والشمال لصفة القهّارية ، فالضميران راجعان إلى الله تعالى كما في الدعاء : الخير في يديك ، أي كلـمّا يصدر منك من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ فهو خير ، ومشتمل على المصالح الجليلة.

الحديث الثالث : حسن موثق كالصحيح.

قوله : فيرون ، أي أهل البيتعليه‌السلام «قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ » الآية ، قيل في تفسير الآية وجوه :

« الأول » فإنا أوّل العابدين منكم ، فإنّ النبي يكون أعلم بالله وبما يصحّ له وبما لا يصحّ له ، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ، ومن حقّ تعظيم الوالد تعظيم ولده ، ولا يلزم من ذلك صحّة كينونة الولد وعبادته له ، فإنّ المحال قد يستلزم

٢٦

أوّل الْعابِدِينَ »(١) .

( باب آخر منه )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ، عن داود العجلي ، عن زرارة ، عن حمران ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن الله تبارك وتعالى حيث خلق الخلق خلق ماءاً عذباً وماءاً مالحاً أجاجاً فامتزج الماءان فأخذ طيناً من أديم الأرض فعركه عركاً شديداً فقال لأصحاب اليمين وهم كالذرّ يدبّون إلى الجنّة بسلام وقال لأصحاب الشمال إلى النّار ولا أبالي ثمَّ قال «أَلَسْتُ بربّكم ؟ قالُوا :

_____________________________________________

المحال ، بل المراد نفيهما.

والثاني : أنّ معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أوّل العابدين لله الموحدين له.

الثالث : أنّ المعنى إن كان له ولد فأنا أوّل الآنفين منه أو من أن يكون له ولد ، من عبد يعبد إذا اشتدّ أنفه.

الرابع : أن كلمة إن نافية أي ما كان له ولد فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة.

أقول : وبناء الخبر على التفسير الأوّل ، إذ يظهر منه أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مبادرا إلى كلّ خير وسعادة وإطاعة ، فلا بد أن يكون مبادرا في دخول النّار عند الأمر به.

باب آخر منه

الحديث الأول : مجهول.

« فأخذ طيناً » أي مزجه بالمائين ليحصل فيه استعداد الخير والشرّ معاً فيصحّ التكليف« إلى الجنّة » أي امضوا إلى الجنّة سالمين من العذاب والنكال ، أو إلى ما يوجب الجنّة سالمين من شبّه الشياطين ووساوسهم «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ » يعني فعل ذلك كراهة أن تقولوا ، وفي أكثر النسخ أن تقولوا بصيغة الخطاب كما في القراءات

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨١.

٢٧

بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » ثمَّ أخذ الميثاق على النبييّن فقال «أَلَسْتُ بربّكم » وأن هذا محمّد رسولي وأن هذا عليّ أمير المؤمنين «قالُوا بَلى » فثبتت لهم النبوة وأخذ الميثاق على أولي العزم أنني ربكم ومحمّد رسولي وعليّ أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزّان علميعليه‌السلام وأنَّ المهديَّ أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعاً وكرهاً قالوا أقررنا يا ربِّ وشهدنا ولم يجحد آدم ولم يقرَّ فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهديِّ ولم يكن لآدم عزمٌ على الإقرار به وهو قوله عزّ وجلّ : «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً »(١) قال إنّما هو فترك ثمَّ أمر ناراً فأجّجت

_____________________________________________

المشهورة ، فيكون ذكر تتمّة الآية إستطراداً ، والأصوب هنا أن يقولوا بصيغة الغيبة موافقاً لقراءة أبي عمرو في الآية.

قولهعليه‌السلام : ثمَّ أخذ ، لعلّ كلمة ثمَّ هنا وفيما سيأتي للتراخي الرتبي لا الزماني ، لـمّا بين الميثاقين من التفاوت ، وإلّا فالظاهر تقدّم أخذ الميثاق على النبييّن على غيرهم ، وكذا أخذ الميثاق على أولي العزم وغيرهم لـمّا سيأتي ، وأريد بأولى العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ينافي دخول الإقرار بنبوة نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما عهد إليهم دخولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المعهود إليهم ، قيل : ولـمّا كانوا معهودين معلومين جاز أن يشار إليهم بهؤلاء الخمسة مع عدم ذكرهم مفصلاً ، وإنما زاد في أخذ الميثاق على من زاد في رتبته وشرفه لأن التكليف إنّما يكون بقدر الفهم والاستعداد ، فكلـمّا زاد زاد ، وإنما يعرف مراتب الوجود من له حظّ منها وبقدر حظه منها ، وأمّا آدم فلـمّا لم يعزم على الإقرار بالمهدي لم يعدّ من أولي العزم ، وإن عزم على الإقرار بغيره من الأوصياء.

« إنّما هو فترك » يعني معنى فنسي هيهنا ليس إلّا فترك ، ولعلّ السرّ في عدم عزم آدم على الإقرار بالمهدي استبعاده أن يكون لهذا النوع الإنسانيَ اتّفاق على أمر

__________________

(١) سورة طه : ١١٥.

٢٨

فقال لأصحاب الشمال : ادخلوها فهابوها ، وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم برداً وسلاماً فقال أصحاب الشمال يا ربِّ أقلنا فقال قد أقلتكم اذهبوا فادخلوا فهابوها فثمَّ ثبتت الطاعة والولاية والمعصية.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ؛ وعليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن حبيب السجستاني قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول إن الله عزّ وجلّ لـمّا أخرج ذرية آدمعليه‌السلام من ظهره ليأخذ عليهم الميثاق بالربوبية له وبالنبوة لكلّ نبي فكان أوّل من أخذ له عليهم الميثاق بنبوته محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمَّ قال الله عزّ وجلّ لآدم انظر ما ذا ترى قال فنظر آدمعليه‌السلام إلى ذرّيّته وهم ذر قد ملئوا السماء قال آدمعليه‌السلام يا ربِّ ما أكثر ذرّيّتي ولأمر ما خلقتهم فما تريد منهم بأخذك الميثاق عليهم ؟ قال الله عزّ وجلّ يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ

_____________________________________________

واحد ، انتهى.

وأقول : الظاهر أنّ المراد بعدم العزم عدم الاهتمام به وتذكره ، أو عدم التصديق اللساني حيث لم يكن ذلك واجباً لا عدم التصديق به مطلقا ، فإنه لا يناسب منصبّ النبوة ، بل ما هو أدون منه.

وقوله : إنّما هو فترك ، أي معنى النسيان هنا الترك ، لأنّ النسيان غير مجوّز على الأنبياءعليه‌السلام ، أو كان في قراءتهمعليه‌السلام « فترك » مكان « فنسي » أو المعنى أنّ العزم إنما كان ما ذكر ، أي العزم على الإقرار المذكور ، فترك آدمعليه‌السلام أو كان المطلوب الإقرار التام ولم يأت به ، أو عزم أولاً ثمَّ ترك والأوّل أظهر.

وفي القاموس الأجيج تلهّب النّار كالتأجج ، وأججتها تأجيجا فتأججت.

الحديث الثاني : حسن.

قوله : فكان ، وثمَّ قال ، وفنظر ، الكلّ معطوف على أخرج ، وقوله : قال آدم ، جواب لـمّا ، و « لأمر مّا » أي لأمر عظيم قوله : يعبدونني ، أي أريد منهم أن يعبدونني ، وقوله : لا يشركون بي شيئاً ، حال أو استئناف بيانيّ قوله : وكذلك

٢٩

بِي شيئاً ويؤمنون برسلي ويتّبعونهم ، قال آدمعليه‌السلام يا ربِّ فما لي أرى بعض الذرّ أعظم من بعض وبعضهم له نور كثير وبعضهم له نور قليل وبعضهم ليس له نور فقال الله عزّ وجلّ كذلك خلقتهم لأبلوهم في كلّ حالاتهم قال آدمعليه‌السلام يا ربِّ فتأذن لي في الكلام فأتكلّم ؟ قال الله عزّ وجلّ : تكلم فإن روحك من روحي وطبيعتك [ من ] خلاف كينونتي قال آدم يا ربِّ فلو كنت خلقتهم على مثال واحد وقدر واحد وطبيعة واحدة وجبلة واحدة وألوان واحدة وأعمار واحدة وأرزاق سواء لم يبغ بعضهم على بعض ولم يكن بينهم تحاسد ولا تباغض ولا اختلاف في شيء من الأشياء قال الله عزّ وجلّ يا آدم بروحيّ نطقت وبضعف طبيعتك تكلّفت ما لا علم لك به وأنا الخالق

_____________________________________________

خلقتهم ، في بعض النسخ لذلك أي لأجل الاختلاف ، كما قال سبحانه : «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ » على بعض التفاسير ، أو لأن يعبدوني ولا يشركوا بي شيئاً.

«مِنْ رُوحيّ » أي من روح اصطفيته واخترته ، أو من عالم المجرّدات بناءاً على تجردّ النفس ، وقيل : الروح الأوّل النفس ، والثاني جبرئيل ، ولا يخفى ما فيه « وطبيعتك » أي خلقتك الجسمانية البدنية أو صفاتها التابعة لها « خلاف كينونتي » أي وجوديّ فإنّها من عالم الماديّات ، ولا تناسب عالم المجردات أو الخطأ والوهم ناش منها ، وقيل : الكينونة هنا مصدر كان الناقصة والإضافة أيضاً للتشريف ، أي صفاتك البدنية مخالفة للآداب المرضية لي - ككونك صابرا وقانعا وراضيا بقضائه تعالى ، والجبلة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام : الخلقة ، وقوله : وبضعف طبيعتك تكلفت ما لا علم لك به ، في بعض النسخ وبضعف قوتك تكلمت ، والحاصل أن حكمك بأنّهم إذا كانوا على صفات واحدة كان أقربِّ إلى الحكمة والصواب إنّما نشأ من الأوهام التابعة للقوي البدنية فأنّهم لو كانوا كذلك لم يتيسّر التكليف المعرض لهم لأرفع الدرجات ، ولم تبق نظام النوع ، ولم يرتكبوا الصناعات الشاقة الّتي بها بقاء نوعهم

٣٠

العالم ، بعلمي خالفت بين خلقهم وبمشيئتي يمضي فيهم أمري وإلى تدبيري وتقديري صائرون لا تبديل لخلقي ، إنّما خلقت الجنّ والإنس لِيَعْبُدُونِ وخلقت الجنّة لمن أطاعني وعبدني منهم واتّبع رسلي ولا أبالي وخلقت النّار لمن كفر بي وعصاني

_____________________________________________

إلى غير ذلك من الحكم والمصالح.

« بعلمي خالفت بين خلقهم » إذ علمت أنّ في مخالفة خلقتهم صلاحهم وبقاء نوعهم « وبمشيتي » أي إرادتي التابعة لحكمتي « يمضي فيهم أمري » أي الأمر التكويني أو التكليفي أو الأعم « لا تبديل لخلقي » أي لتقديري ، أو لـمّا قررت فيهم من القابليات والاستعدادات ، وقيل : أي من حسنت أحواله في ذلك الوقت حسنت أحواله في الدنيا ، ومن حسنت أحواله في الدنيا حسنت أحواله في الآخرة ، ومن قبحت أحواله في ذلك الوقت قبحت أحواله في الموطنين الآخرين لا يتبدل هؤلاء إلى هؤلاء ولا هؤلاء إلى هؤلاء.

أقول : وسيأتي الكلام في تفسير قوله تعالى : «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ »(١) وكان هذا إشارة إليه « إنّما خلقت الجنّ والإنس ليعبدون » إشارة إلى قوله تعالى : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ »(٢) وأوردّ على ظاهر الآية أن بعض الجنّ والإنس لا يعبدون أصلا إما لكفر أو جنون أو موت قبل البلوغ أو نحو ذلك ، وعدم ترتّب العلّة الغائيّة على فعل الحكيم ممتنع ، وأجيب بوجوه أربعة :

الأوّل : أنّه أراد سبحانه بالجن والإنس الذين بلغوا حد التكليف قبل الممات والتعليل المفهوم من اللام أعمّ من العلة الغائية ، كما روى الصدوق في التوحيد عن أبي الحسن الأوّلعليه‌السلام أنه قال معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : اعملوا فكلّ ميسر لـمّا خلق له ، أن الله عزّ وجلّ خلق الجن والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه ، وذلك قوله عزّ وجلّ : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ » فيسّر كلاماً لـمّا خلق له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى.

__________________

(١) سورة الروم : ٣٠. (٢) سورة الذاريات : ٥٩.

٣١

ولم يتّبع رسلي ولا أبالي ؛ وخلقتك وخلقت ذرّيّتك من غير فاقة بي إليك وإليهم وإنّما خلقتك وخلقتهم لأبلوك وأبلوهم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً في دار الدنيا في حياتكم

_____________________________________________

الثاني : أنّه إن سلّمنا أن المراد بالجنّ والإنس ما هو أعمّ من المكلفين وأنّ اللام للعلة الغائية ، لا نسلّم العموم في ضمير الجمع في قوله : ليعبدون ، إذ لعلّ المراد عبادة بعض الجن والإنس.

الثالث : إن سلّمنا عموم ضمير يعبدون أيضاً فلا نسلّم رجوع الضمير إلى الجن والإنس إذ يمكن عوده إلى المؤمنين المذكورين قبل هذه الآية في قوله تعالى : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » فتدلّ على أنّ خلق غير المؤمنين لأجل المؤمنين كما يومئ إليه قولهعليه‌السلام في هذا الخبر : وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدوني ولذلك خلقتهم « إلخ ».

الرابع : لو سلّمنا جميع ذلك نقول : ترتب الغاية على فعل الحكيم ووجوبه إنّما هو فيما هو غاية بالذّات ، والغاية بالذّات هنا إنما هي التكليف بالعبادة ، والعبادة غاية بالعرض ، والتكليف شامل لجميع أفراد الجنّ والإنس للروايات الدالة على أن الأطفال والمجانين يكلّفون في القيامة كما سيأتي في كتاب الجنائز.(١)

قوله : وقبل مماتكم ، كان تخصيص قبل الممات بالذكر وإن كان داخلا في الحياة للتنبيه على أنّ المدار على العاقبة في السعادة والشقاوة ، « لأبلوك وأبلوهم » أي لأعاملك وإيّاهم معاملة المختبر «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » مفعول ثان للبلوى بتضمين معنى العلم.

__________________

(١) وقال بعض الأساتيد في الجواب عن هذا الإيراد ما لفظه :

قلت : الإشكال مبنيّ على كون اللام في الجنّ والإنس للاستغراق فيكون تخلف الغرض في بعض الأفراد منافياً له ، وتخلفاً من الغرض ، والظاهر أنّ اللام فيها للجنس دون الاستغراق فوجود العبارة في النوع في الجملة تحقّق للغرض لا يضرّه تخلفه في بعض الأفراد ، نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلانا للغرض ولله سبحانه في النوع غرض كما أنّ له في الفرد غرضا.

٣٢

وقبل مماتكم فلذلك خلقت الدُّنيا والآخرة والحياة والموت والطاعة والمعصية والجنّة والنّار وكذلك أردت في تقديري وتدبيري وبعلمي النافذ فيهم خالفت بين صورهم وأجسامهم وألوأنّهم وأعمارهم وأرزاقهم وطاعتهم ومعصيتهم فجعلت منهم الشقيَّ والسعيد والبصير والأعمى والقصير والطويل والجميل والدميم والعالم والجاهل والغنيُّ والفقير والمطيع والعاصي والصحيح والسقيم ومن به الزمانة ومن لا عاهة به فينظر الصحيح إلى الذي به العاهة فيحمدني على عافيته وينظر الذي به العاهة إلى الصحيح فيدعوني ويسألني أن أعافيه ويصبر على بلائي فأثيبه جزيل عطائي وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني وينظر المؤمن إلى الكافر فيحمدني على ما هديته فلذلك خلقتهم لأبلوهم في السرَّاء والضرّاء وفيما أعافيهم وفيما أبتليهم وفيما أعطيهم

_____________________________________________

قوله : والطاعة والمعصية إسناد خلقهما إليه سبحانه إسناد إلى العلة البعيدة ، أو المراد به جعل المعصية معصية ، والطاعة طاعة ، أو المراد بالخلق التقدير على عموم المجاز أو الاشتراك ، وظاهره أن الجنّة والنّار مخلوقتان كما هو مذهب أكثر الإماميّة بل كلّهم ، وأكثر العامّة ، وذهب جماعة من المعتزلة إلى أنهما غير مخلوقتين الآن ، وستخلقان.

« وبعلمي النافذ فيهم » أي المتعلّق بكنه ذواتهم وصفاتهم وأعمالهم ، كأنّه نفذ في أعماقهم أو الجاري أثره فيهم « فجعلت منهم الشقيّ والسّعيد » أي من كنت أعلم عند خلقه أنّه يصير شقيّاً ، أو المادّة القابلة للشّقاوة وإن لم يكن مجبوراً عليها ، وكذا

بصراً أو بصيرة ، وكذا الأعمى و « الذميم » في أكثر النسخ بالذال المعجمة ، أي المذموم الخلقة ، في القاموس : ذمه ذماً ومذمة فهو مذموم وذميم وبئر ذميم وذميمة قليلة الماء ، غزيرة ضدّ ، وبه ذميمة أي زمانة تمنعه الخروج ، وكأمير بثر يعلو الوجوه من حرّ أو جربِّ ، وفي بعض النسخ بالدال المهملة ، في القاموس : والدّمة بالكسر الرجل القصير الحقير ، وأدم أقبح أو ولد له ولد قبيح

٣٣

وفيما أمنعهم وأنا الله الملك القادر ولي أن أمضي جميع ما قدَّرت على ما دبّرت ولي أن أغير من ذلك ما شئت إلى ما شئت وأقدّم من ذلك ما أخّرت وأؤخّر من ذلك ما قدمت وأنا الله الفعال لـمّا أريد لا أسأل عمّا أفعل وأنا أسأل خلقي عمّا

_____________________________________________

دميم ، وقال : الزمانة العاهة وقوله : لأبلوهم بدل لقوله لذلك خلقتهم.

قوله : ولي أن أغيّر إشارة إلى أنّ الطينات المختلفة والخلق منها ، وتقدير الأمور المذكورة فيهم ليس ممّا ينفي اختيار الخير والشرّ أو من الأمور الحتمية الّتي لا تقبل البداء « لا أسأل عمّا أفعل » إنّما لا يسئل لأنّه سبحانه الكامل بالذّات العادل في كلّ ما أراد ، العالم بالحكم والمصالح الخفية الّتي لا تصل إليها عقول الخلق ، بخلاف غيره فأنّهم مسئولون عن أعمالهم وأحوالهم لأنّ فيها الحسن والقبيح والإيمان والكفر ، لا بالمعنى الّتي تذهب إليه الأشاعرة أنه يجوز أن يدخل الأنبياءعليه‌السلام النّار والكفّار الجنّة ، ولا يجب عليه شيء ، وقيل : إنّ هذا إشارة إلى عدم الوجوب السابق وجواز تخلف المعلول عن العلة التامّة كما اختاره هذا القائل.

وقال بعض أرباب التأويل في شرح هذا الخبر : إنما ملأوا السماء لأن الملكوت إنما هو في باطن السماء وقد ملأها ، وكانوا يومئذ ملكوتين ، والسرّ في تفاوت الخلائق في الخيرات والشرور واختلافهم في السعادة والشقاوة واختلاف استعداداتهم وتنوع حقائقهم لتباين المواد السفليّة في اللطافة والكثافة واختلاف أمزجتهم في القربِّ والبعد من الاعتدال الحقيقي واختلاف الأرواح الّتي بإزائها في الصفاء والكدورة والقوة والضعف وترتب درجاتهم في القربِّ من الله سبحانه والبعد عنه كما أشير إليه في الحديث : الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

وأمّا سرّ هذا السرّ أعني سرّ اختلاف الاستعدادات وتنوّع الحقائق فهو تقابل صفات الله سبحانه وأسمائه الحسنى الّتي هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ، وضرورة تباين مظاهرها الّتي بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكلّ من الأسماء يوجب تعلّق إرادته سبحانه وقدرته إلى إيجاد مخلوق يدلّ عليه من حيث اتصافه بتلك الصفة

٣٤

هم فاعلون.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن صالح بن عقبة ، عن عبد الله بن محمّد الجعفي وعقبة جميعاً ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن الله عزّ وجلّ خلق الخلق فخلق من أحبَّ ممّا أحبَّ وكان ما أحبَّ أن خلقه من طينة الجنّة وخلق من أبغض ممّا أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النّار ثمَّ بعثهم في الظلال فقلت وأي شيء الظلال فقال ألم تر إلى ظلّك في الشمس شيئاً وليس بشيء ، ثمّ

_____________________________________________

فلا بدّ من إيجاد المخلوقات كلها على اختلافها وتباين أنواعها لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى جميعاً ، ومجالي لصفاته العليا قاطبة ، كما أشير إلى لمعة منه في هذا الحديث ، انتهى.

وأقول : هذه الكلمات مبنية على خرافات الصوفية وإنما نوردّ أمثالها لتطلع على مسالك القوم في ذلك وآرائهم.

الحديث الثالث : ضعيف ، وقد مضى هذا الخبر بأدنى تغيير في المتن والسند في باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية ، وقد شرحناه هناك ، وقيل : « ما » في قوله : « ما أحبَّ » « وما أبغض » مصدرية وقد مضى تأويله بالعلم أو باختلاف الاستعدادات ، والمراد بالظلّ إمّا عالم الأرواح أو عالم المثال ، فعلى الأوّل شبّه الروح المجردّ على القول به أو الجسم اللطيف بالظلّ للطافته وعدم كثافته ، أو لكونه تابعاً لعالم الأجساد الأصلية ، وعلى الثاني ظاهر ، وقوله : شيئاً بتقدير تحسبه أو الرؤية بمعنى العلم لكن ينافيه تعديتها بإلى ، والأظهر شيء كما كان فيما مضى.

وقيل : أراد بقوله وليس بشيء أن الحياة والتكليف في ذلك الوقت لا يصيران سبباً للثواب والعقاب كأفعال النائم ولا يبقى ، بل مثال وحكاية عن الحياة والتكليف في الأبدان ولذا يسمّى الوجود الذهني بالوجود الظلي ، لعدم كونه منشئاً للآثار ومبدءاً للأحكام ، وقيل : يمكن أن يراد به عالم الذرّ المبائن لعالم الأجسام الكثيفة وهو يحكى عن هذا العالم ويشبهه وليس منه فهو ظلّ بالنسبة إليه ، أو عالم الأرواح

٣٥

بعث منهم النبييّن فدعوهم إلى الإقرار بالله عزّ وجلّ وهو قوله عزّ وجلّ : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ »(١) ثمَّ دعوهم إلى الإقرار بالنبييّن فأقر بعضهم وأنكر بعض ثمَّ دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها والله من أحبَّ وأنكرها من أبغض وهو قوله «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ »(٢) ثمَّ قال أبو جعفرعليه‌السلام كان التكذيبَ ثمَّ.

_____________________________________________

كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض خطبه : إلّا إنّ الذّرية أفنان أنا شجرتها ، ودوحة أنا ساقتها ، وإنّي من أحمد بمنزلة الضوء ، من الضوء ، كما إظلإلّا تحت العرش قبل البشرّ وقبل خلق الطينة الّتي كان منها البشرّ أشباحاً حالية لا أجساماً نامية.

«لَيَقُولُنَّ اللهُ » أي خلقنا الله أو الله خلقنا على اختلاف في تقديم المحذوف وتأخيره ، والمشهور الأوّل ، والغرض أن اضطرارهم إلى هذا الجواب بمقتضى العهد والميثاق ،قوله «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا » ، الآية في سورة الأعراف هكذا : «تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ » وقال البيضاوي : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيئهم بالمعجزات ، «بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ »، أي بما كذّبوه من قبل الرّسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدّة عمرهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرّسل ولم يؤثّر قطّ فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنّهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم.

__________________

(١) سورة لقمان : ٢٥.

(٢) سورة الأعراف : ١٠١.

٣٦

( باب )

( أن رسول الله (ص) أوّل من أجاب وأقر لله عز وجل بالربوبية )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن صالح بن سهل ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّ بعض قريش قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ شيء سبقت الأنبياء - وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم فقال إنّي كنت أوّل من آمن بربّي وأوّل من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبييّن وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بربّكم ، فكنت

_____________________________________________

باب أن رسول الله (ص) أوّل من أجاب وأقر لله تعالى بالربوبية

الحديث الأول : ضعيف وقد مرّ في باب مولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قوله : سبقت الأنبياء ، أي رتبة وفضلا وآخرهم منصوب بالظرفية وخاتمهم مرفوع بالعطف على بعثت ، وعلى طريقة أصحاب التأويل يمكن أن يراد بسبقهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإقرار كونه أكثر قابليّة واستعداداً لقبول الحقّ وإدراك المعارف الربانية ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أخذ الله ، يمكن تعلقه بالجملتين معاً وبالأخيرة فقط ، كما هو الظاهر ، فعلى الأخير يمكن أن يكون سبق الإيمان إشارة إلى سبق خلق روحه على خلق سائر الأرواح وقد آمن عند وجوده ، فزمان إيمانه وإقراره أكثر من زمان إيمان الجميع ، ويمكن أن يكون المراد الإيمان في عالم الأجساد أي عند تعلّق الروح بالبدن كان معرفتي وإيماني قبل سائر الأنبياء فإنهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان متكلـمّاً بالتوحيد في بطن أمه وهو بعيد ، وقيل في علة تأخيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الوجود البدني والبعثة وجوه : « منها » تعظيمه لأن سائر الأنبياء مقدمة له مخبرة بوجوده وبعثته كالمقدمة للسلطان ، ومنها : تكميله للأديان السابقة كما قال : بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق ، ومنها : تعظيم دينه من جهة نسخه للشرائع السابقة وعدم نسخ شرع آخر ، ومنها : أن يكون شاهداً لتبليغ جميع الأنبياءِ ، وأيضاً مقتضى الترتيب الترقّي من الأدنى

٣٧

أنا أوّل نبيّ قال «بَلى » فسبقتهم بالإقرار بالله عزّ وجلّ.

٢ - أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن عبد الله بن سنان قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام جعلت فداك إنّي لأرى بعض أصحابنا يعتريه النزق والحدّة والطيش فأغتمُّ لذلك غمّاً شديداً وأرى من خالفنا فأراه حسن السمت قال لا تقل حسن السمت فإنّ السمت سمت الطريق ولكن قل حسن السيماء - فإنّ الله عزّ وجلّ يقول : «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ »(١) قال قلت : فأراه حسن

_____________________________________________

إلى الأعلى ، ولو جيء بالأدون بعد الأفضل لا تظهر رتبتهما وفضلهما كما لا يخفى.

الحديث الثاني : مرسل.

ويقال : عراه واعتراه أي غشيه وأتاه ، والنزق بالفتح والتحريك الخفّة عند الغضب ، والحدّة والطيش قريبان منه ، وقال الجوهري : السمت الطريق وسمت يسمت بالضمّ أي قصد ، والسمّت هيئة أهل الخير ، يقال : ما أحسن سمته أي هديه ، وقال : السيّما مقصور من الواو ، قال تعالى : «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ » وقد يجيء السيّماء والسيّمياء ممدودين ، وقال الفيروزآبادي : السّمت الطريق وهيئة أهل الخير ، والسير على الطريق بالظن وحسن النحو وقصد الشيء ، وقال : السيّما والسيماء والسيمياء بكسرهنّ : العلامة ، وقال الجزري : السمت : الهيئة الحسنة ، ومنه فينظرون إلى سمته وهديه أي حسن هيئته ومنظره في الدين ، وليس من الحسن والجمال.

وقيل : هو من السّمت : الطريق ، يقال : ألزم هذا السّمت ، وفلان حسن السّمت أي حسن القصد ، وقال الزمخشري : السّمت أخذ النهج ولزوم المحجّة يقال : ما أحسن سمته أي طريقتها أي طريقتها الّتي ينتهجها في تحرّي الخير والتزيّي بزيّ الصالحين ، وفي المصباح : السّمت الطريق والقصد والسكينة والوقار والهيئة انتهى.

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

٣٨

السيماء وله وقار فأغتمُّ لذلك ، قال لا تغتم لـمّا رأيت من نزق أصحابك ولـمّا رأيت من حسن سيماء من خالفك إنّ الله تبارك وتعالى لـمّا أراد أن يخلق آدم خلق تلك الطينتين ثمَّ فرَّقهما فرقتين فقال لأصحاب اليمين كونوا خلقاً بإذني فكانوا خلقاً بمنزلة الذرّ يسعى وقال لأهل الشمال كونوا خلقاً بإذني فكانوا خلقاً بمنزلة الذرّ يدرج ثمَّ رفع لهم ناراً فقال ادخلوها بإذني فكان أوّل من دخلها - محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمَّ اتبعه أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسل وأوصياؤهم وأتباعهم ثمَّ قال لأصحاب الشمال ادخلوها بإذني فقالوا ربنا خلقتنا لتحرقنا فعصوا فقال لأصحاب اليمين اخرجوا

_____________________________________________

ولعلّ منعهعليه‌السلام عن إطلاق السّمت لأن السّمت يكون بمعنى سمت الطريق فيوهم أن طريقهم ومذهبهم حسن فعبّرعليه‌السلام بعبارة أخرى لا يوهم ذلك ، أو لـمّا لم يكن السّمت بمعنى هيئة أهل الخير فصيحاً أمر بعبارة أخرى أفصح منه ، أو أنهعليه‌السلام علم أنه أراد بالسّمت السيماء لا هيئة أهل الخير والطريقة الحسنة والأفعال المحمودة فلذا نبههعليه‌السلام بأن السّمت لم يأت بالمعنى الذي أردت وهذا قريب من الأوّل ، والوقار الاطمئنان والسكينة البدنية « لأصحاب اليمين » أي للذين كانوا في يمين الملك الذي أمره بتفريقها أو للذين كانوا في يمين العرش أو للذين علم أنّهم سيصيرون من المؤمنين الذين يقفون في القيامة عن يمين العرش « كونوا خلقاً » أي مخلوقين ذوي أرواح ، وقيل : أي كونوا أرواحا بمنزلة الذرّ أي النمل الصغار « يسعى » وإطلاق السعي هنا والدرج فيما سيأتي إما لمحض التفنن في العبارة ، أو المراد بالسّعي سرعة السير ، وبالدرج المشي الضعيف كما يقال : درج الصبي إذا مشى أوّل مشيه فيكون إشارة إلى مسارعة الأولين إلى الخيرات وبطوء الآخرين عنها ، وقيل : المراد سعي الأولين إلى العلوّ والآخرين إلى السفل ، ولا دلالة في اللفظ عليهما.

« ثمَّ اتبعه أولوا العزم » أي سائرهمعليه‌السلام ، والكلم : الجرح والفعل كضربِّ ، وقد يبني على التفعيل ، وفي القاموس : وهج النّار تهج وهجاً ووهجاناً اتّقدت ، والاسم الوهج محرّكة

٣٩

بإذني من النار ، لم تكلم النّار منهم كلـمّا ، ولم تؤثر فيهم أثراً ، فلـمّا رآهم أصحاب الشمال ، قالوا : ربنا نرى أصحابنا قد سلموا فأقلنا ومرنا بالدُّخول قال : قد أقلتكم فادخلوها فلـمّا دنوا وأصابهم الوهج رجعوا فقالوا يا ربّنا لا صبر لنا على الاحتراق فعصوا فأمرهم بالدخول ثلاثا كلّ ذلك يعصون ويرجعون وأمر أولئك ثلاثاً ، كلّ ذلك يطيعون ويخرجون فقال لهم كونوا طيناً بإذني فخلق منه آدم ، قال :

_____________________________________________

وأقول : ما عرفت من التأويلات في الأخبار السابقة يمكن إجراء أكثرها في هذا الخبر كان يقال : لـمّا كان من علم الله منهم السعادة تابعين للعقل والمقتضيات للنفس المقدّس فكأنها طينتهم ، ومن علم الله منهم الشقاوة تابعين للشهوات البدنية ودواعي النفس الأمارة فكأنها طينتهم ، ولـمّا مزج الله بينهما في عالم الشهود جرى في غالب الناس الطاعة والمعصية ، والصفات القدسية والملكات الرديئة ، فما كان من الخيرات فهو من جهة العقل والنفس وهما طينة أصحاب اليمين وإن كان في أصحاب الشمال ، وما كان من الشرور والمعاصي فهو من الأجزاء البدنية الّتي هي طينة أصحاب الشمال وإن كان في أصحاب اليمين ، ويمكن أيضاً أن يقال : المعنى أن الله تعالى لـمّا قرر في خلقة آدمعليه‌السلام وطينته دواعي الخير والشرّ وعلم أنه يكون في ذريته السعداء والأشقياء وخلق آدمعليه‌السلام مع علمه بذلك فكأنّه خلط بين الطينتين ، ولـمّا كان أولاد آدم مدنيين بالطبع لا بدّ لهم في نشأة الدنيا من المخالطة والمصاحبة ، فالسعداء يكتسبون الصفات الذميمة من مخالطة الأشقياء وبالعكس.

فلعلّ قوله : من لطخ أصحاب الشمال ومن لطخ أصحاب اليمين إشارة إلى هذا المعنى ، ولـمّا كان السبب الأقوى في اكتساب السعداء صفات الأشقياء ، استيلاء أئمّة الجور وأتباعهم على أئمة الحقّ وأتباعهم ، وعلم الله أن المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم وعدم تولي أئمة الحقّ لسياستهم فيعذرهم بذلك ، ويعفو عنهم ويعذّب أئمة الجور وأتباعهم بتسببّهم لجرائم من خالطهم مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم.

٤٠