مرآة العقول الجزء ٨

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 437

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 437
المشاهدات: 18758
تحميل: 8660


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 437 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18758 / تحميل: 8660
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 8

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

_________________________________________________

تابعتان لخيريّة النيّة وشرّيّتها كما أنّ شرافة البدن وخباثته تابعتان لشرافة الروح وخباثته ، فبهذا الاعتبار نيّة المؤمن خير من عمله ونيّة الكافر شر من عمله.

الثاني عشر : أنّ نيّة المؤمن وقصده أو لا هو الله ، وثانياً العمل لأنّه يوصل إليه ، ونيّة الكافر وقصده غيره تعالى وعمله يوصله إليه ، وبهذا الاعتبار صحّ ما ذكر ، وهذا الوجه وما تقدّمه مستفادان من كلام المحقق الطوسيقدس‌سره ، والوجوه المذكورة ربمّا يرجع بعضها إلى بعض.

وبعد ما أحطت خبراً بما ذكرنا نذكر ما هو أقوى عندنا بعد الإعراض عن الفضول وهو الحق الحقيق بالقبول ، فاعلم أن الإشكالات الناشئة من هذا الخبر إنما هو لعدم تحقيق معنى النيّة وتوهم أنّها تصور الغرض والغاية وإخطارها بالبال ، وإذا حققتها كما أومأنا إليها سابقاً عرفت أن تصحيح النيّة من أشق الأعمال وأحمزها وأنها تابعة للحالة التّي النفس متصفة بها ، وكمال الأعمال وقبولها وفضلها منوط. بها ، ولا يتيسر تصحيحها إلّا بإخراج حبّ الدنيا وفخرها وعزها من القلب برياضات شاقة وتفكرات صحيحة ومجاهدات كثيرة ، فإنّ القلب سلطان البدن وكلّ ما استولى عليه يتبعه سائر الجوارح ، بل هو الحصن الذي كلّ حبّ استولى عليه وتصرف فيه يستخدم سائر الجوارح والقوي ، ويحكم عليها ولا تستقر فيه محبتان غالبتان كما قال الله عزَّ وجلَّ : يا عيسى لا يصلح لسانان في فم واحد ولا قلبان في صدر واحد ، وكذلك الأذهان ، وقال سبحانه : «ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ »(١) فالدنيا والآخرة ضرتان لا يجتمع حبهما في قلب.

فمن استولى على قلبه حبّ المال لا يذهب فكره وخياله وقواه وجوارحه إلّا إليه ولا يعمل عملاً إلّا ومقصوده الحقيقي فيه تحصيله وإن ادعى غيره كان كاذبا

____________________

(١) سورة الأحزاب : ٤.

١٠١

_________________________________________________

ولذا يطلب الأعمال التّي وعد فيها كثرة المال ولا يتوجه إلى الطاعات التّي وعد فيها قرب ذي الجلال ، وكذا من استولى عليه حبّ الجاه ليس مقصوده في أعماله إلّا ما يوجب حصوله ، وكذا سائر الأغراض الباطلة الدنيوية فلا يخلص العمل لله سبحانه وللآخرة إلّا بإخراج حبّ هذه الأمور من القلب وتصفيته عمّا يوجب البعد عن الحق.

فللنّاس في نيّاتهم مراتب شتى بل غير متناهية بحسب حالاتهم ، فمنها ما يوجب فساد العمل وبطلانه ، ومنها ما يوجب صحته ، ومنها ما يوجب كما له ، ومراتب كما له أيضاً كثيرة فإمّا ما يوجب بطلانه فلا ريب في أنه إذا قصد الرياء المحض أو الغالب بحيث لو لم يكن رؤية الغير له لا يعمل هذا العمل أنه باطل لا يستحقّ الثواب عليه بل يستحقّ العقاب كما دلت عليه الآيات والأخبار الكثيرة ، وإمّا إذا ضم إلى القربة غيرها بحيث كان الغالب القربة ولو لم تكن الضميمة يأتي بها ففيه إشكال ولا تبعد الصحّة ، ولو تعلق الرياء ببعض صفاته المندوبة كإسباغ الوضوء وتطويل الصلاة فأشدّ إشكإلّا ، ولو ضم إليها غير الرياء كالتبريد ففيه أقوال ثالثها التفصيل بالصحّة مع كون القربة مقصودة بالذات ، والبطلان مع العكس.

قال في الذكرى : لو ضمّ إلى النيّة منافياً فالأقرب البطلان كالرياء والندب في الواجب ، لأن تنافي المرادات يستلزم تنافي الإرادات ، وظاهر المرتضى الصحّة بمنى عدم الإعادة لا بمعنى حصول الثواب ، ذكر ذلك في الصلاة المنوي بها الرياء وهو يستلزم الصحّة فيها وفي غيرها ، مع ضم الرياء إلى التقرّب ، ولو ضم اللازم كالتبرد قطع الشيخ وصاحبّ المعتبر بالصحّة لأنه فعل الواجب وزيادة غير منافية ، ويمكن البطلان لعدم الإخلاص الذي هو شرط الصحّة ، وكذا التسخن والنظافة ، انتهى.

وأقول : لو ضمّ إلى القربة بعض المطالب المباحة الدنيوية فهل تبطل عبادته؟

١٠٢

_________________________________________________

ظاهر جماعة من الأصحاب البطلان ، ويشكلّ بأن صلوات الحاجة والاستخارة وتلاوة القرآن والأذكار والدعوات المأثورة للمقاصد الدنيوية عبادات بلا ريب ، مع أنّ تكليف خلوّ القصد عنها تكليف بالمحال ، والجمع بين الضدين كان يقول أحد : ائت الموضع الفلاني لرؤية الأسد من غير أن يكون غرضك رؤيته ، أو اذهب إلى السوق واشتر المتاع من غير أن تقصد شراء المتاع ، وقد ورد في الأخبار الكثيرة منافع دنيوية للطاعات ككون صلاة الليل سبباً لوسعة الرزق ، وكون الحجّ موجبا للغناء وأمثال ذلك كثيرة ، فلو كانت هذه مخلة بالقربة لكان ذكرها إغراء بالقبيح ، إذ بعد السماع ربمّا يمتنع تخلية القصد عنها.

نعم يمكن أن تؤول هذه القصود بالأخرة إلى القربة ، كان يكون غرض طالب الرزق صرفه في وجوه البر والتقوى به على الطّاعة ، ومن يكون مقصوده من طول العمرّ تحصيل رضا الرب تعالى ، لكن هذا القصد لا يتحقّق واقعا وحقيقة إلّا لآحاد المقربين ولا يتيسر لأكثر النّاس هذه النيّة وهذا الغرض إلّا بالانتحال والدعاوي الكاذبة ، وتوهم أن الإخطار بالبال نيّة واقعية وبينهما بعد المشرقين فالظاهر أنه يكفي لكونه طاعة وقربة كونه بأمره سبحانه ، وموافقاً لرضاه ومتضمنّا لذكره والتوسل إليه وإن كان المقصود تحصيل بعض الأمور المباحة لنيل اللذات المحللة ، وإمّا النيات الكاملة والأغراض العرية عن المطالب الدنيّة الدنيوية فهي تختلف بحسب الأشخاص والأحوال ، ولكلّ منهم نيّة تابعة لشاكلته وطريقته وحالته ، بل لكلّ شخص في كلّ حالة نيّة تتبع تلك الحالة ، ولنذكر بعض منازلها ودرجاتها :

فالأولى : نيّة من تنبه وتفكر في شديد عذاب الله وأليم عقابه ، فصار ذلك موجبا لحط الدنيا ولذاتها عن نظره ، فهو يعمل كلّما أراد من الأعمال الحسنة ويترك ما ينتهي عنه من الأعمال السيئة خوفاً من عذابه.

١٠٣

_________________________________________________

الثانيّة : نيّة من غلب عليه الشوق إلى ما أعد الله للمحسنين في الجنّة من نعيمها وحورها وقصورها فهو يعبد الله لتحصيل تلك الأمور.

وهاتان نيتان صحيحتان على الأظهر وإن توهم الأكثر بطلان العبادة بهما ، لغفلتهم عن معنى النيّة كما عرفت.

والعجب أن العلامة (ره) ادعى اتفاق العدلية على أن من فعل فعلا لطلب الثواب أو خوف العقاب فإنه لا يستحقّ بذلك ثوابا.

وأقول : لهاتين النيتين أيضاً مراتب شتى بحسب اختلاف أحوال النّاس ، فإن من النّاس من يطلب الجنّة لحصول مشتهياته الجسمانيّة فيه ، ومنهم من يطلبها لكونها دار كرامة الله ومحلّ قرب الله ، وكذا منهم من يهرب من النار لألمها ، ومنهم من يهرب منها لكونها دار البعد والهجران والحرمان ، ومحلّ سخط الله كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في الدّعاء الذي علمه كميل بن زياد النخعي : فلئن صيرتني في العقوبات مع أعدائك ، وجمعت بيني وبين أهل بلائك ، وفرقت بيني وبين أحبائك وأوليائك فهبني يا إلهي وسيدي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك ، وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ، إلى آخر ما ذكر في هذا الدّعاء المشتمل على جميع منازل المحبين ودرجات العارفين.

فظهر أن هاتين الغايتين وطلبهما لا تنافيان درجات المقربين.

الثالثة : نيّة من يعبد الله تعالى شكرا له فإنه يتفكر في نعم الله التّي لا تحصى عليه ، فيحكم عقله بأن شكر المنعم واجب فيعبده لذلك ، كما هو طريقة المتكلّمين ، وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوماً عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.

١٠٤

_________________________________________________

الرابعة : نيّة من يعبده حياءاً فإنّه يحكم عقله بحسن الحسنات وقبح السيئات ويتذكر أن الرب الجليل مطلع عليه في جميع أحواله فيعبده ويترك معاصيه لذلك وإليه يشير قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

الخامسة : نيّة من يعبده تقربا إليه تعالى تشبيها للقرب المعنوي بالقرب المكاني ، وهذا هو الذي ذكره أكثر الفقهاء ولم أر في كلامهم تحقيق القرب المعنوي ، فالمراد إمّا القرب بحسب الدرجة والكمال إذ العبد لا مكانه في غاية النقص عار عن جميع الكمالات ، والرب سبحانه متصف بجميع الصّفات الكماليّة فبينهما غاية البعد فكلّما رفع عن نفسه شيئاً من النقائص واتصف بشيء من الكمالات حصل له قرب ما بذلك الجناب ، أو القرب بحسب التذكر والمصاحبة المعنوية ، فإن من كان دائماً في ذكر أحد ومشغولا بخدماته فكأنه معه وإن كان بينهما غاية البعد بحسب المكان ، وفي قوة هذه النيّة إيقاع الفعل امتثإلّا لأمره تعالى أو موافقة لإرادته أو انقيادا وإجابة لدعوته ، أو ابتغاء لمرضاته ، فهذه النيات التّي ذكرها أكثر الأصحاب وقالوا لو قصد الله مجردا عن جميع ذلك كان مجزيا فإنه تعالى غاية كلّ مقصد وإن كان يرجع إلى بعض الأمور السالفة.

السادسة : نيّة من عبد الله لكونه أهلا للعبادة وهذه نيّة الصّديقين كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ، ولا تسمع هذه الدعوى من غيرهم ، وإنما يقبل ممن يعلم منه أنه لو لم يكن لله جنة ولا نار بل لو كان على الفرض المحال يدخل العاصي الجنّة والمطيع النار لاختار العبادة لكونه أهلا لها ، كما أنهم في الدنيا اختاروا النار لذلك فجعلها الله عليهم بردا وسلإمّا ، وعقوبة الأشرار فجعلها الله عندهم لذة وراحة ونعيما.

السابعة : نيّة من عبد الله حبا له ، ودرجة المحبة أعلى درجات المقربين ،

١٠٥

_________________________________________________

والمحبّ يختار رضا محبوبة ولا ينظر إلى ثواب ولا يحذر من عقاب ، وحبه تعالى إذا استولى على القلب يطهره عن حبّ ما سواه ، ولا يختار في شيء من الأمور إلّا رضا مولاه ، كما روى الصدوق (ره) بإسناده عن الصادقعليه‌السلام أنه قال أن النّاس يعبدون الله على ثلاثة أوجه فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي رهبة ، ولكني أعبده حباله عزَّ وجلَّ فتلك عبادة الكرام وهو الأمن ، لقوله عزَّ وجلَّ : «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ »(١) ولقوله عزَّ وجلَّ : «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ »(٢) فمن أحبّ الله أحبه الله ، ومن أحبه الله عزَّ وجلَّ كان من الآمنين.

وفي تفسير الإمامعليه‌السلام قال عليّ بن الحسينعليه‌السلام : إني أكره أن أعبد الله لأغراض لي ولثوابه ، فأكون كالعبد الطمع المطمع ، إن طمع عمل وإلّا لم يعمل ، وأكره أن أعبده لخوف عباده فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل ، قيل : فلم تعبده؟ قال : لما هو أهله بأياديه على وإنعامه.

وقال محمّد بن عليّ الباقرعليه‌السلام : لا يكون العبد عابدّ الله حق عبادته حتّى ينقطع عن الخلق كله إليه ، فحينئذ يقول هذا خالص لي فيتقبّله بكرمه.

وقال جعفر بن محمّدعليه‌السلام : ما أنعم الله عزَّ وجلَّ على عبد أجل من أن لا يكون في قلبه مع الله غيره.

وقال موسى بن جعفرعليه‌السلام : أشرف الأعمال التقرّب بعبادة الله عزَّ وجل.

وقال عليّ الرّضاعليه‌السلام : «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ »(٣) قول لا إله إلّا الله محمّد رسول الله عليّ ولي الله ، وخليفة محمّد رسول الله حقا وخلفاؤه خلفاء الله «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ

____________________

(١) سورة النمل : ٨٩. (٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة فاطر : ١٠.

١٠٦

٣ - عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن العبد المؤمن الفقير ليقول : يا ربّ ارزقني حتّى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ذلك منه بصدق نيّة كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إن الله واسع كريم.

_________________________________________________

يَرْفَعُهُ » علمه في قلبه بأنّ هذا صحيح كما قلته بلساني.

وأقول : لكلّ من النيّات الفاسدة والصحيحة أفراد أخرى يعلم بالمقايسة بما ذكرنا ، وهي تابعة لأحواله وصفاته وملكاته الراسخة منبعثة عنها ، ومن هذا يظهر سر أن أهل الجنّة يخلدون فيها بنيّاتهم لأن النيّة الحسنة تستلزم طينة طيبة وصفات حسنة وملكات جميلة ، تستحق الخلود بذلك ، إذ لم يكن مانع العمل من قبله ، فهو بتلك الحالة مهيئ للأعمال الحسنة والأفعال الجميلة ، والكافر مهيئ لضدّ ذلك ، وبتلك الصّفات الخبيثة المستلزمة لتلك النيّة الرديئة استحق الخلود في النار.

وبما ذكرنا ظهر معنى قولهعليه‌السلام : وكلّ عامل يعمل على نيّته ، أي عمل كلّ عامل يقع على وفق نيّته في النقص والكمال والرد والقبول ، والمدار عليها كما عرفت ، وعلى بعض الاحتمالات المعنى أن النيّة سبب للفعل وباعث عليه ، ولا يتأتى العمل إلّا بها كما مر.

الحديث الثالث : صحيح.

« ليقول » أي بلسانه أو بقلبه أو الأعمّ منهما « فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ذلك » أي علم أنه إن رزقه يفي بما يعده من الخير فإن كثيراً من المتمنيات والمواعيد كاذبة لا يفي الإنسان به «إِنَّ اللهَ واسِعٌ » القدرة أو واسع العطاء « كريم » بالذات ، فالإثابة على نيّة الخير من سعة جوده وكرمه لا من استحقاقهم ذلك.

قال الشيخ البهائيقدس‌سره : هذا الحديث يمكن أن يجعل تفسيرا لقولهعليه‌السلام نيّة المؤمن خير من عمله ، فإن المؤمن ينوي كثيراً من هذه النيّات فيثاب عليها ولا يتيسر العمل إلّا قليلاً ، انتهى.

١٠٧

_________________________________________________

وأقول : النيّة تطلق على النيّة المقارنة للفعل وعلى العزم المتقدّم عليه ، سواء تيسّر العمل أم لا ، وعلى التمنّي للفعل وإن علم عدم تمكنه منه ، والمراد هنا أحد المعنيين الأخيرين ، ويمكن أن يقال : إن النيّة لما كانت من الأفعال الاختيارية القلبية فلا محالة يترتب عليها ثواب ، وإذا فعل الفعل المنوي يترتب عليه ثواب آخر ، ولا ينافي اشتراط العمل بها تعدد الثواب كما أن الصلاة صحتها مشروطة بالوضوء ويترتب على كلّ منهما ثواب إذا اقترنا ، فإذا لم يتيسّر الفعل لعدم دخوله تحت قدرته أو لمانع عرض له يثاب على العزم ، وترتب الثواب عليه غير مشروط بحصول الفعل ، بل بعدم تقصيره فيه فالثواب الوارد في الخبر يحتمل أن يكون هذا الثواب فله مع الفعل ثوابان ، وبدونه ثواب واحد ، فلا يلزم كون العمل لغوا ولا كون ثواب النيّة والعمل معاً كثوابها فقط ، ويحتمل أن يكون ثواب النيّة كثوابها مع العمل بلا مضاعفّة ومع العمل يضاعفّ عشر أمثالها أو أكثر.

ويؤيّده ما سيأتي أنّ الله جعل لآدم أنّ من هم من ذريته بسيئة لم تكتب عليه ، وإن عملها كتبت عليه سيئة ، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كتبت له حسنة ، فإن هو عملها كتبت له عشرا ، وإن أمكن حمله على ما إذا لم يعملها مع القدرة عليها ، وعلى ما حققنا أن النيّة تابعة للشاكلة والحالة ، وأن كمالها لا يحصل إلّا بكمال النفس واتصافها بالأخلاق الرضية الواقعية فلا استبعاد في تساوي ثواب من عزم على فعل على وجه خاص من الكمال ولم يتيسّر له ، ومن فعله على هذا الوجه.

وقيل : أثابه المؤمن بنيّته أمرّ خير متفق عليه بين الأمّة ورواه الخاصّة والعامّة روى مسلم بإسناده عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه ، وبإسناد آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ، قال المازري : وفيهما دلالة على أن من نوى شيئاً من أعمال

١٠٨

٤ - عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عليّ بن أسباط ، عن محمّد بن إسحاق بن الحسين ، عن عمرو ، عن حسن بن أبان ، عن أبي بصير قال سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن حد العبادة التّي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا فقال حسن النيّة بالطاعة.

٥ - عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمّد ، عن المنقري ، عن أحمد بن يونس ، عن أبي هاشم قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام إنما خلد أهل النار في النار لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا وإنما خلد أهل الجنّة في الجنّة لأن نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيّات خلد هؤلاء وهؤلاء ثم تلا قوله تعالى : «قُلْ كلّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ »(١)

_________________________________________________

البر ولم يفعله لعذر كان بمنزلة من عمله ، وعلى استحباب طلب الشهادة ونيّة الخير وقد صرح بذلك جماعة من علمائهم حتّى قال الآبي : لو لم ينوه كان حاله حال المنافق لا يفعل الخير ولا ينويه.

الحديث الرابع : مجهول وقد مضى الكلام فيه ، والحاصل أنّه حد العبادة الصحيحة المقبولة بالنيّة الحسنة غير المشوبة مع طاعة الإمام لأنهما العمدة في الصحّة والقبول ، فالحمل على المبالغة ، أو المراد بالطّاعة الإتيان بالوجوه التّي يطاع الله منها مطلقا.

الحديث الخامس : ضعيف.

وكان الاستشهاد بالآية مبني على ما حققنا سابقاً أن المدار في الأعمال عليّ النيّة التابعة للحالة التّي اتصفت النفس بها من العقائد والأخلاق الحسنة والسيئة فإذا كانت النفس على العقائد الثابتة والأخلاق الحسنة الراسخة التّي لا يتخلف عنها الأعمال الصالحة الكاملة لو بقي في الدنيا أبداً فبتلك الشاكلة والحالة استحق الخلود في الجنّة ، وإذا كانت على العقائد الباطلة والأخلاق الرديئة التّي علم الله تعالى أنه لو بقي في الدنيا أبدا لعصى الله تعالى دائماً فبتلك الشاكلة استحق الخلود في النار

____________________

(١) سورة الإسراء : ٨٤.

١٠٩

قال على نيّته.

_________________________________________________

لا بالأعمال التّي لم يعملها.

فلا يرد أنّه ينافي الأخبار الواردة في أنّه إذا أراد السيئة ولم يعملها لم تكتب عليه ، مع أنه يمكن حمله على ما إذا لم تصر شاكلة له ، ولم تكن بحيث علم الله أنه لو بقي لأتى بها ، أو يحمل عدم كتابة السيئة على المؤمنين ، وهذا إنما هو في الكفّار وقد يستدل بهذا الخبر على أن كلّ كافر يمكن في حقّه التوبة والإيمان لا يموت على الكفر.

أقول : ويمكن أن يستدل به على أن بالعزم على المعصية يستحقّ العقاب وإن عفّاً الله عن المؤمنين تفضلا.

وما ذكره المحقق الطوسي (ره) في التجريد في مسألة خلق الأعمال حيث قال : وإرادة القبيح قبيحة يدلّ على أنه بعد إرادة العبّاد للحرام فعلا قبيحاً محرما وهو الظاهر من كلام أكثر الأصحاب سواء كان تإمّا مستتبعا للقبيح أو عزما ناقصا غير مستتبع لكن قد تقرر عندهم أن إرادة القبيح إذا كانت غير مقارنة لفعل قبيح يتعلق بها العفو كما دلت عليه الروايات وسيأتي بعضها ، وإمّا إذا كانت مقارنة فلعله أيضاً كذلك وادعى بعضهم الإجماع على أن فعل المعصية لا تتعلق به إلّا أثم واحد ، ومن البعيد أن يتعلق به إثمان أحدهما بإرادته والآخر بإيقاعه.

قال بعض المحققين من المعاصرين في شرح هذه الفقرة المنقولة من التجريد بعد إيراد نحو ممّا ذكرنا : فيندفع حينئذ التدافع بين ما ذكره المصنّف (ره) من قبح إرادة القبيح وبين ما هو المشهور من أن الله تعالى لا يعاقب بإرادة الحرام وإنما يعاقب بفعله ، وما أوله به بعضهم من أن المراد أنه لا يعاقب العقوبة الخاصّة بفعل المعصية بمجرد إرادتها ويثيب الثواب الخاص بفعل الطّاعة بمجرد إرادتها ، ففيه أن شيئاً من ذلك غير صحيح ، فإن الظاهر من النصوص أنه تعالى لا يعاقب ولا يؤاخذ على إرادة المعصية أصلاً وأن الإجماع قائم على أن ثواب الطّاعة لا يترتب على إرادتها

١١٠

( باب )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن ابن محبوب ، عن الأحول ، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا إنّ لكلّ عبادة شرّة ثمَّ تصير إلى فترة فمن صارت شرّة عبادته إلى سنّتي فقد اهتدى ومن

_________________________________________________

بل المترتّب عليها نوع آخر من الثواب يختلف باختلاف الأحوال المقارنة لها من خلوص النيّة وشدّة الجدّ فيها ، والاستمرار عليها إلى غير ذلك ، ولا مانع من أن يصير في بعض الأحوال أعظم من ثواب نفس الفعل الذي لم يكن لصاحبه تلك الإرادة البالغة الجامعة لهذه الخصوصيّات وكأنّ تتّبع الآثار المأثورة يغني عن الإطالة في هذا الباب.

وأقول : قد عرفت بعض ما حققنا في ذلك وسيأتي إنشاء الله تمام الكلام عند شرح بعض الأخبار في أواخر هذا المجلد ، وقد مرّ بعض القول فيه في باب أن الإيمان مبثوث لجوارح البدن.

باب

إنّما لم يعنون الباب لأنّه يمكن إدخاله في عنوان الباب الآتي ، ولعله لو ذكر بعده كان أولى ، وأمّا مناسبته للباب السّابق كما توهم فهي ضعيفة.

الحديث الأول : مجهول.

« إن لكلّ عبادة شرّة » الشرّه بكسر الشين وتشديد الراء شدّة الرغبة ، قال في النهاية فيه : إن لهذا القرآن شرّة ، ثم إن للنّاس عنه فترة ، الشرّه : النشاط والرغبة ، ومنه الحديث الآخر : لكلّ عابدّ شرّة ، وقال في حديث ابن مسعود : أنّه مرض فبكى فقال : إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة ، ولم يصبني على حال اجتهاد ، أي في حال سكون وتقليل من العبادات والمجاهدات ، انتهى.

١١١

خالف سنتي فقد ضل وكان عمله في تباب إمّا إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأضحك وأبكي فمن رغب عن منهاجي وسنتي فليس منّي وقال كفى بالموت موعظة وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلا.

_________________________________________________

« إلى سنتي » أي منتهيا إليها ، أو إلى بمعنى مع ، أي لا تدعوه كثرة الرغبة في العبادة إلى ارتكاب البدع كالرياضات المبتدعة للمتصوفة ، بل يعمل بالسنن والتطوعات الواردة في السنة ، ويحتمل أن يكون المراد بانتهاء الشرّه أن يكون ترك الشرّه بالاقتصاد والاكتفاء بالسنن وترك بعض التطوعات لا بترك السنن أيضاً ، ويؤيده الخبر الآتي.

« في تباب » أي تباب العمل أو صاحبه ، والتباب الخسران والهلاك ، وفي بعض النسخ في تبار بالراء وهو أيضاً الهلاك.

« كفى بالموت موعظة » الباء زائدة والموعظة ما يتعظ الإنسان به ، ويصير سبباً لانزجار النفس عن الخطايا والميل إلى الدنيا والركون إليها وأعظمها الموت ، إذ العاقل إذا تفكر فيه وفي غمراته وما يعقبه من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها وما فعله بأهل الدنيا من قطع أيديهم عنها وإخراجهم منها طوعا أو كرها فجأة من غير اطلاع منهم على وقت نزوله وكيفية حلوله ، هانت عنده الدنيا وما فيها ، وشرع في التهيئة له إن أعطاه الله تعالى بصيرة في ذلك.

« وكفى باليقين غنى » أي كفى اليقين بأنّ الله رازق العبّاد ، وأنّه يوسّع على من يشاء ويقتر على من يشاء بحسب المصالح سبباً لغني النفس وعدم الحرص وترك التوسّل بالمخلوقين ، وهو من اليقين بالقضاء والقدر ، وقد مرّ في باب اليقين أنه يطلق غالباً عليه « وكفى بالعبادة شغلاً » كان المقصود أن النفس يطلب شغلا يشتغل به ، فإذا شغلها المرء بالعبادة تحيط بجميع أوقاته فلا يكون له فراغ يصرفه في الملاهي ، وإذا لم يشتغل بالعبادة يدعوه الفراغ إلى البطر واللهو وصرف العمرّ في المعاصي والملاهي

١١٢

٢ - عدَّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن الحجّال ، عن ثعلبة قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام لكلّ أحد شرَّة ولكلّ شرَّة فترة فطوبى لمن كانت فترته إلى خير.

( باب )

( الاقتصاد في العبادة )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إن هذا الدّين متين فأوغلوا

_________________________________________________

والأمور الباطلة ، كسماع القصص الكاذبة وأمثالها ، والغرض الترغيب في العبادة وبيان عمدة ثمراتها ، والظاهر أن هذه الفقرات الأخيرة مواعظ آخر لا ارتباط لها بما تقدّمها ، وقد يتكلّف بجعلها مربوطة بها بأنّ المراد بالأولى كفى الموت موعظة في عدم مخالفته السنة ، وكفى اليقين غنى لئلّا يطلب الدنيا بالريّاء وارتكاب البدع ، وكفت العبادة المقرّرة الشرعيّة شغلاً ، فلا يلزم الاشتغال بالبدع.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور وقد مرّ مضمونه.

والحاصل أنّ لكلّ أحد شوقاً ونشاطاً في العبادة في أول الأمرّ ، ثم يعرض له فترة وسكون ، فمن كانت فترته بالاكتفاء بالسنن وترك البدع أو ترك التطوّعات الزائدة فطوبى له ، ومن كانت فترته بترك السنن أيضاً أو بترك الطاعات رأساً وارتكاب المعاصي ، أو بالاقتصار على البدع فويل له ، وقد مرّ في آخر كتاب العقل بسند آخر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : ما من أحد إلّا وله شرّة وفترة فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد غوى ، وهو يؤيّد ما ذكرنا.

باب الاقتصاد في العبادة

الحديث الأول : ضعيف بسنديه.

وقال في النهاية المتين الشّديد القويّ ، وقال فيه : إنّ هذا الدّين متين فأوغل

١١٣

فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عبّاد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى.

محمّد بن سنان ، عن مقرن ، عن محمّد بن سوقة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام مثله.

٢ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعاً ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختريّ ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال لا تكرهوا

_________________________________________________

فيه برفق ، الإيغال : السير الشّديد يقال : أوغل القوم وتوغّلوا إذا أمعنوا في سيرهم ، والوغول الدّخول في الشيء وقد وغل يغل وغولا يريد : سر فيه برفق ، وأبلغ الغاية القصوى منه بالرفق ، لا على سبيل التهافت والخرق ، ولا تحمل نفسك وتكلفها ما لا تطيقه فتعجز وتترك الدين والعمل.

وقال فيه : فإنّ المنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ، يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته قد أنبتّ من البت القطع ، وهو مطاوع بت يقال بتة وأبته يريد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب ظهره ، انتهى.

« ولا تكرهوا عبادة الله » كأن المعنى أنكّم إذا أفرطتم في الطاعات يريد النّاس متابعتكم في ذلك ، فيشقّ عليهم فيكرهون عبادة الله ويفعلونها من غير رغبة وشوق ، ويحتمل أن يكون أوغلوا في فعل أنفسهم ولا تكرهوا في دعوة الغير ، أي لا تحملوا على النّاس في تعليمهم وهدايتهم فوق سعتهم وما يشق عليهم كما مرّ في حديث الرّجل الذي هدى النصراني في باب درجات الإيمان ، ويحتمل أن يكون عبّاد الله شاملا لأنفسهم أيضاً ، ويمكن أن يكون الإيغال هنا متعدّياً أي أدخلوا النّاس فيه برفق ليوافق الفقرة الثانيّة ، قال في القاموس : وغل في الشيء يغل وغولا دخل وتوارى ، أو بعد وذهب ، وأوغل في البلاد والعلم ذهب وبالغ وأبعد كتوغّل ، وكلّ داخل مستعجلاً موغل ، وقد أوغلته الحاجة.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

١١٤

إلى أنفسكم العبادة.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن حنان بن سدير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الله عزَّ وجلَّ إذا أحبّ عبدا فعمل [ عملاً ] قليلاً جزاه بالقليل الكثير ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له.

٤ - عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجهم ، عن منصور ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال مرّ بي أبي وأنا بالطواف وأنا حدث وقد اجتهدت في العبادة فرآني وأنا أتصابُّ عرقاً فقال لي : يا جعفر يا بني إن الله إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّة ورضي عنه باليسير.

٥ - عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري وغيره ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال اجتهدت في العبادة وأنا شابٌّ ، فقال لي أبيعليه‌السلام يا بنيَّ

_________________________________________________

وحاصله النهي عن الإفراط في التطوّعات بحيث يكرهها النفس ، ولا يكون فيها راغباً ناشطاً.

الحديث الثالث : موثق.

وفي القاموس تعاظمه عظم عليه ، وكان في أكثر هذه الأخبار إشارة إلى أن السّعي في زيادة كيفيّة العمل أحسن من السّعي في زيادة كميّته ، وأن السّعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهم من السّعي في كثرة الأعمال.

الحديث الرابع : مجهول.

« إذا أحبّ عبداً » أي بحسن العقائد والأخلاق ورعاية الشرائط في الأعمال التّي منها التقوى.

الحديث الخامس : حسن كالصحيح.

١١٥

دون ما أراك تصنع ، فإنّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحبَّ عبداً رضي عنه باليسير.

٦ - حميد بن زياد ، عن الخشّاب ، عن ابن بقّاح ، عن معاذ بن ثابت ، عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يا عليّ إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك فإن المنبت يعنّي المفرط لا ظهراً أبقى ولا أرضا قطع فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما واحذر حذر من يتخوَّف أن يموت غداً.

_________________________________________________

« دون ما أراك تصنع » دون منصوب بفعل مقدر أي أصنع دون ذلك.

الحديث السادس : ضعيف.

« فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما » أي تأن وارفق ولا تستعجل ، فإن من يرجو البقاء طويلا لا يسارع في الفعل كثيراً ، أو أن من يرجو ذلك لا يتعب نفسه بل يداري بدنه ولا ينهكه بكثرة الصيام والسهر وأمثالها ، واحذر عن المنهيات كحذر من يخاف أن يموت غداً ، قيل : ولعلّ السر فيه أن العبادات أعمال وفيها تعب الأركان وشغل عمّا سواها ، فأمرّ فيها بالرفق والاقتصاد كيلا تكلّ بها الجوارح ولا تبغضها النفس ، ولا تفوت بسببها حق من الحقوق ، فإمّا الحذر عن المعاصي والمنهيات فهو ترك واطراح وليس فيه كثير كد ولا ملالة ، ولا شغل عن شيء فيترك ترك من يخاف أن يموت غداً على معصية الله تعالى ، وقيل : الفرق أن فعل الطاعات نفل وفضل ، وترك المخالفات حتم وفرض.

١١٦

( باب )

( من بلغه ثواب من الله على عمل )

١ - عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن سنان ، عن عمران الزعفراني ، عن محمّد بن مروان قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه.

_________________________________________________

باب من بلغه ثواب من الله على عمل

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

« كان » أي الثواب « له » وفي بعض النسخ كان له أجره.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

ويدلّ على صحّة العمل بنيّة الثواب وأنّها لا تنافي الإخلاص كما عرفت.

فائدة جليلة

اعلم أنّ أصحابنا رضوان الله عليهم كثيراً ما يستدلّون بالأخبار الضعيفة والمجهولة على السنن والآداب ، ويحكمون بها بالكراهة والاستحباب ، وأورد عليه أن الاستحباب أيضاً حكم شرعيّ كالوجوب فلا وجه للفرق بينهما والاكتفاء فيه بأخبار الضعفاء والمجاهيل ، وكذا الكراهة والحرمة لا فرق بينهما في ذلك ، وأجيب عنه بأن الحكم بالاستحباب فيما ضعفّ مستنده ليس في الحقيقة بذلك الخبر الضعيف ، بل بالرّوايات الواردة في هذا الباب وغيره.

فإن قيل : هذه الروايات أيضاً ليست صحيحة على مصطلح القوم؟ قلت : الخبر الأوّل وإن كان حسنا لكن حسن إبراهيم بن هاشم لا يقصر عن الصّحيح ، مع أنّه مؤيّد

١١٧

_________________________________________________

بالخبر الثاني ، وبما رواه الصّدوق في ثواب الأعمال عن أبيه عن عليّ بن موسى عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن هشام عن صفوان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ، وبما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه عن أحمد بن النضر عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : من بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له ذلك الثواب وإن كان النبي لم يقله.

مع أنّه روى البرقي بسند صحيح أيضاً وإن غفل عنه الأكثر وقالوا : لم يرد فيه خبر صحيح حيث روي عن أبيه عن عليّ بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : من بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ، وقد روته العامة أيضاً بأسانيد عن النبي ، فلا يبعد عدّه من المتواترات فمهما عملنا بخبر ضعيف لم نعمل بهذا الخبر بل بهذه الأخبار المستفيضة الدالة على جواز العمل به ، وترتّب الثواب عليه.

ومع ذلك فقد يخدش بوجوه : الأوّل : أن مفاد الروايات أنه إذا روي أن في العمل الفلاني ثوابا معينا فعمل أحد ذلك العمل رجاء ذلك الثواب يعطي ذلك الثواب وإن كان الخبر خلاف الواقع ولم يقله المعصومعليه‌السلام فلا تشمل هذه الأخبار ما لم يرد فيه ثواب مع أن الأصحاب يستدلّون بالأخبار غير الصحيحة التّي لم تشتمل على الثواب على الكراهة والاستحباب ، ويمكن أن يجاب بأن الأمرّ بالعبادة يستلزم ترتب الثواب عليه وإن لم يذكر في الخبر ، فإذا فعل المؤمن ذلك العمل رجاء للثواب المعلوم ترتبه على العمل وإن لم يعلم مقداره يكون داخلا في تلك الأخبار ، ولا بدّ أن يثاب في الجملة لاقتضائها ذلك ولا يخلو من تمحّل.

الثاني : أن الثواب كما يكون للمستحبّ كذلك يكون للواجب أيضاً ، فلم

١١٨

_________________________________________________

خصّصوا الحكم بالمستحبّ ، والجواب أنّك قد عرفت أنّا لم نعمل بهذا الخبر الدال على الوجوب بل إنما عملنا بتلك الأخبار وهي لا تدل إلّا على رجحان العمل به وترتب الثواب عليه ولا تدل على ترتب العقاب على تركه فالحكم الثابت لنار بهذا الخبر بانضمام تلك الروايات ليس إلّا الحكم الاستحبابي فافهم.

الثالث : أنّ بين تلك الرّوايات وبين ما يدلّ على عدم جواز العمل بخبر الفاسق كقوله تعالى : «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا »(١) عموما من وجه ، فلا وجه لتخصيص الثاني بالأوّل بل العكس أولى لقطعيّة طريقه وتأيّده بالأصل ، إذ الأصل عدم التكليف وبراءة الذمة منه ، ويمكن أن يجاب بأن الآية إنمّا تدل على عدم العمل بخبر الفاسق بدون التثبت والتبين ، والعمل به فيما نحن فيه بعد ورود الرّوايات ليس عملاً بلا تثبت فلم تخصص الآية بالأخبار ، بل بسبب ورودها خرجت تلك الأخبار الضعيفة عن عنوان الحكم المثبت في الآية الكريمة.

الرابع : أن هذه المسألة أي ثبوت الاستحباب بالأدلة الضعيفة إنما هو من مسائل الأصول على المشهور وجواز الاكتفاء فيه بالظنّ الحاصل من خبر الواحد مشكلّ ، والجواب أن مثل هذا الخبر المشتهر بين الفريقين الوارد بأسانيد كثيرة ممّا يورث القطع بمضمونه ، مع أن وجوب تحقّق العلم القطعي في جميع مسائل الأصول ممّا يمكن المناقشة فيه.

الخامس : أن عموم العمل الذي ورد في الخبر ترتب الثواب عليه غير معلوم ، فإنه فيما سبق من الأخبار نكرة في سياق الإثبات وهي غير مفيدة للعموم ، فحينئذ يحتمل أن يكون المراد فيها أن من سمع ثواباً من الله على عمل ثابت بدليل شرعي قطعي أو ظنّي جائز العمل به ، ثم عمل بذلك العمل أعطي ذلك الأجر فلا يدل

____________________

(١) سورة الحجرات : ٦.

١١٩

_________________________________________________

على إثبات أصل العمل بالأخبار الغير المعتبرة ، والجواب أن العمل وإن كان نكرة في إثبات وهو لا يفيد العموم إلّا أنه لما كان مقنن القوانين ومن صدر عنه الحكم لما كان(١) حكيما لا يليق به أن يصدر عنه حكم مجمل لا يمكن العمل به ، ولا يفيد المخاطب فائدة تامة فلا بدّ من حمل النكرة على العموم ، مثلها في قوله تعالى : «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ »(٢) وقولهم : تمرة خير من جرادة ، أو يقال أن العموم المستفاد من لفظة « من » كاف لإفادة عموم العمل أيضاً فإنه يصدق على من بلغه ثواب من الله على عمل غير ثابت بدليل شرعي خارج أنه ممن بلغه الحديث ، فإن اسم الموصول وغيره من أدوات العموم كما يقتضي عموم الأفراد يقتضي عموم جميع ما يتعلق به ويتم به الصلة أو الاسم الذي دخل عليه أداة العموم.

ففي ما نحن فيه نقول : اسم الموصول دخل على بلغه ثواب من الله على عمل ، فكلّ شيء يصدق عليه أنه بلغه ثواب ما على عمل ما يتناوله اسم الموصول مع قطع النظر عن عمومه تناولا كتناول المطلق لأفراده ، ومعنى العموم شموله بحسب الحكم لكلّ ما تناوله تناولا إطلاقيا ، فلو فرضنا أن بلوغا ما أو ثواباً ما أو عملاً ما خارج عن تعلق هذا الحكم لم يكن العام المفروض عإمّا لجميع من بلغه ثواب على عمل وهو يخل بالعموم.

ومن أقوى الشواهد على ذلك أن علماءنا وعلماء العامة اتفقوا على أن قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً »(٣) عام يشمل أولات الحمل وغيرها في قوله تعالى : «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ »(٤) واختلفوا في

____________________

(١) كذا في النسخ والظاهر زيادة « لما كان ».

(٢) سورة التكوير : ١٤.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٤) سورة الطلاق : ٤.

١٢٠