مرآة العقول الجزء ٨

مرآة العقول18%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 434

  • البداية
  • السابق
  • 434 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11851 / تحميل: 6942
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ٨

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في يد الـمُستعير هل يكون الولد مضموناً في يده؟ إن قلنا : إنّ العارية مضمونة ضمانَ الغاصب(١) ، كان مضموناً عليه ، وإلّا فلا. وليس له استعماله إجماعاً.

وهذا الخلاف الجاري في العارية أنّها كيف تُضمن آتٍ في المأخوذ على وجه السوم.

لكنّ الأصحّ عند بعض الشافعيّة : إنّ الاعتبار في المستام بقيمته يوم القبض ؛ لأنّ تضمين أجزائه غير ممتنعٍ(٢) .

وقال غيره : الأصحّ كهو في العارية(٣) .

وهذا كلّه فيما إذا تلفت العين بغير الاستعمال.

مسألة ١١٨ : لو تلفت العين المستعارة المضمونة بالاستعمال‌ ، مثل أن ينمحق الثوب باللُّبْس ، فالوجه : ضمان العين وقت التلف ؛ لأنّ حقّ العارية أن تُردّ ، والإذن في الانتفاع إنّما ينصرف غالباً إلى استعمالٍ غير مُتلفٍ ، فإذا تعذّر الردّ لزم الضمان ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والأصحّ عندهم : إنّ العين لا تُضمن كالأجزاء ؛ لأنّه إتلاف استند إلى فعلٍ مأذونٍ فيه(٤) .

وعلى الأوّل لهم وجهان :

أحدهما : كما قلناه من أنّه تُضمن العين وقت التلف ، وهو آخر حالات التقويم.

____________________

(١) الظاهر : « ضمانَ الغصب ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

٢٨١

والثاني : إنّه تُضمن العين بجميع أجزائها(١) .

مسألة ١١٩ : قد مضى البحث في ضمان العين‌ ، وأمّا ضمان الأجزاء فإن تلف منها شي‌ء بسبب الاستعمال المأذون فيه كانمحاق الثوب باللُّبْس المأذون فيه ، لم يلزم الـمُستعير ضمانه ؛ لحدوثه عن سببٍ مأذونٍ فيه ، وهو قول الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يلزمه الضمان ؛ لأنّ العارية مؤدّاة ، فإذا تلف بعضها فقد فات ردّه ، فيضمن بدله(٣) .

والمعتمد : الأوّل.

وأمّا إن تلف من الأجزاء شي‌ء بغير الاستعمال ، فإن كانت العين مضمونةً كان الـمُستعير ضامناً للأجزاء ، وإلّا كانت أمانةً كالعين ، كما لو تلفت العين بأسرها ، وهو أصحّ قولَي الشافعي.

والثاني : إنّه لا يجب ضمانها على الـمُستعير ، كما لو تلفت بالاستعمال ، ويكتفى بردّ الباقي(٤) .

واعلم أنّ تلف الدابّة بسبب الركوب والحمل المعتاد كانمحاق الثوب ، وتعيّبها بالركوب أو الحمل وشبهه كالانسحاق.

ولو قرّح ظهرها بالحمل وتلفت منه ، قال بعض الشافعيّة : يضمن ، سواء كان متعدّياً بما حمل أو لا ؛ لأنّه إنّما أذن له في الحمل ، لا في الجراحة ، وردُّها إلى المالك لا يُخرجه عن الضمان ؛ لأنّ السراية تولّدت من مضمونٍ ، فصار كما لو قرّح دابّة الغير في يده(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ - ٢٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٢

وفيه نظر.

مسألة ١٢٠ : المستأجر يملك المنفعة ملكاً تامّاً‌ ، ولهذا جاز له أن يؤجر العين مدّة إجارته ، والمنفعة قابلة للنقل ، فجاز أن يعيرها ، فإذا استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة ، كان حكمها حكم العارية من المالك في الضمان وعدمه.

والشافعي القائل بالضمان في مطلق العارية له هنا قولان :

أحدهما : إنّه يضمن الـمُستعير هنا ، كما لو استعار من المالك.

والثاني - وهو الأصح عنده - : إنّه لا يضمن ؛ لأنّ المستأجر لا يضمن ، وهو نائب المستأجر ، ألا ترى أنّه إذا انقضت مدّة الإجارة ارتفعت العارية واستقرّت الإجارة على المستأجر بانتفاع الـمُستعير.

ومئونة الردّ في هذه الاستعارة على الـمُستعير إن ردّ على المستأجر ، وعلى المالك إن ردّ عليه ، كما لو ردّ عليه المستأجر(١) .

مسألة ١٢١ : إذا استعار من الغاصب العينَ المغصوبة وكان عالماً أو جاهلاً ثمّ قامت البيّنة بالغصب ، لم يجز له ردّها على الـمُعير‌ ؛ لأنّه ظالم ، ووجب عليه ردّها إلى مالكها ، فإن كان قد استعملها الـمُستعير مدّةً لمثلها أُجرة كان للمغصوب منه الرجوعُ بأُجرة مثلها على أيّهما شاء.

وكذا إن نقص شي‌ء من أجزائها ، فله الرجوع بقيمة ذلك ؛ لأنّ الغاصب ضمنها باليد المتعدّية ، والـمُستعير أتلف منافع الغير بغير إذنه ، وأتلف أجزاء عينه.

فإن رجع على الـمُستعير ، فالأقرب : إنّه لا يرجع على الـمُعير ؛ لأنّ‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨١ - ٢٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٣

التلف وقع في يده ، ولأنّه ضمن ما أتلفه ، ولا يرجع به على غيره ، وهو القول الجديد للشافعي.

وقال في القديم : يرجع عليه - وبه قال أحمد - لأنّه غرّه بأنّه دخل في العارية على أنّه لا يضمن المنفعة والأجزاء(١) .

وإن رجع على الـمُعير ، فهل يرجع الـمُعير على الـمُستعير؟ يبنى على القولين ، إن قلنا : لو رجع على الـمُستعير رجع به على الـمُعير ، فإنّ الـمُعير لا يرجع به ، وإن قلنا : لو رجع على الـمُستعير لم يرجع به ، فإنّ الـمُعير يرجع به.

فأمّا إن تلفت العين في يد الـمُستعير ، فإنّ لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما بقيمتها ، و [ قرار ](٢) الضمان على الـمُستعير ؛ لأنّ المال حصل في يده بجهةٍ مضمونة.

ثمّ إن تساوت القيمة في يده ويد الغاصب فلا بحث ، وإن تفاوتت فإن كانت قيمتها في يد الـمُستعير يوم التلف أكثر ، فإن رجع المالك بها على الـمُستعير لم يرجع الـمُستعير بها على الـمُعير قولاً واحداً ؛ لأنّ العارية مضمونة على الـمُستعير.

وإن كانت قيمتها في يد الـمُعير أكثر ، لم يطالب المالكُ الـمُستعير بالزيادة ؛ لأنّها تلفت في يد الـمُعير ولم يحصل في يده ، وإنّما يطالب بالزيادة الـمُعير ؛ لأنّها تلفت في يده.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٩٤ ، البيان ٦ : ٤٥٧ - ٤٥٨ ، وانظر : المغني ٥ : ٤١٤ - ٤١٥ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٢٣.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ث » : « من ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « من أنّ ». وكلاهما ساقط في « خ ، ر ». والمثبت من العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، وروضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٤

وإذا طالَب المالك بغرامة المنافع ، فإن طالَب الـمُستعير غُرْمها ، فالمنفعة التي تلفت تحت يده قرار ضمانها على الـمُعير ؛ لأنّ يد الـمُستعير الجاهل في المنافع ليست يدَ ضمانٍ ، والتي استوفاها بنفسه الأقوى : إنّ الضمان يستقرّ عليه ؛ لأنّه مباشر للإتلاف ، وهو أظهر قولَي الشافعي.

والثاني : إنّ الضمان على الـمُعير ؛ لأنّه غرّه(١) .

والـمُستعير من المستأجر من الغاصب حكمه حكم الـمُستعير من الغاصب إن قلنا بأنّ الـمُستعير من المستأجر ضامن ، وإلّا فيرجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر ، ويرجع المستأجر على الغاصب.

مسألة ١٢٢ : لو أنفذ وكيله إلى موضعٍ وسلّم إليه دابّةً ليركبها إليه في شغله‌ فتلفت الدابّة في يد الوكيل من غير تعدٍّ ، لم يكن عليه ضمان ، وهو ظاهرٌ عندنا ؛ فإنّا لا نوجب الضمان على الـمُستعير.

وأمّا الشافعي القائل بالضمان فإنّه نفاه هنا أيضاً ؛ لأنّ الوكيل لم يأخذ الدابّة لغرض نفسه ، بل لنفع الموكّل ، فالـمُستعير في الحقيقة المالك(٢) .

وكذا لو سلّم الدابّة إلى الرائض ليروضها(٣) فتلفت ، لم يضمن ؛ لأنّه في مصلحة المالك.

وكذا لو كان له عليها متاع فأركب إنساناً غيره فوق ذلك المتاع ليحفظه ويحترز عليه ، فتلفت الدابّة ، لم يكن على الراكب ضمان ؛ لأنّه في شغل المالك.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) راض الدابّة يروضها : وطّأها وذلّلها أو علّمها السير. لسان العرب ٧ : ١٦٤ « روض ».

٢٨٥

ولو وجد ماشياً في الطريق قد تعب من المشي فأركبه دابّته ، فعندنا لا ضمان إذا لم يتعدّ ؛ بناءً على أصلنا من عدم تضمين العارية.

وأمّا عند الشافعي فالمشهور أنّ الراكب يضمن ، سواء التمس الراكب الركوبَ للاستراحة ، أو ابتدأ المالك بإركابه ؛ لأنّها عارية محضة ، والعارية على أصله مضمونة(١) .

وقال الجويني من الشافعيّة : إنّه لا يضمن الراكب ؛ لأنّ القصد من هذه العارية التصدّق والقربة ، والصدقات في الأعيان تفارق الهبات ، ألا ترى أنّه يرجع في الهبة ولا يرجع في الصدقة ، فلذلك يجوز أن تفارق العارية التي هي صدقة سائر العواريّ في الضمان(٢) .

ولو أركبه مع نفسه ، فلا ضمان عندنا على الرديف. وعلى قول الشافعي إنّه يضمن النصف(٣) .

وقال الجويني : لا يلزمه شي‌ء ؛ تشبيهاً له بالضيف(٤) .

وعلى الأوّل لو وضع متاعه على دابّة غيره وأمره أن يسيّر بالدابّة ففعل ، كان صاحب المتاع مستعيراً من الدابّة بقسط متاعه ممّا عليها ، حتى لو كان عليها مثل متاعه وتلفت ضمن نصف الدابّة(٥) .

ولو لم يقل صاحب المتاع : سيِّرها ، ولكن سيَّرها المالك ، لم يكن صاحب المتاع مستعيراً ، وضمن صاحب الدابّة المتاعَ ؛ لأنّه كان من حقّه أن‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

٢٨٦

يطرح المتاع.

ولو كان لأحد الرفيقين في السفر متاع وللآخَر دابّة ، فقال صاحب المتاع للآخَر : احمل متاعي على دابّتك ، ففَعَل ، فصاحب المتاع مستعير لها.

ولو قال صاحب الدابّة : أعطني متاعك لأضعه على الدابّة ، فهو مستودع للمتاع.

ولا تدخل الدابّة في ضمان صاحب المتاع في الصورتين عندنا ، وفي الثانية عند الشافعي(١) .

مسألة ١٢٣ : تجوز استعارة الدابّة للركوب والحمل‌ ، سواء أطلق أو قيّد بالزمان أو المنفعة ، وأن يستعيرها ليركبها ؛ لأنّه تجوز إجارتها لذلك ، والإعارة أوسع ؛ لجوازها فيما لا تجوز إجارته ، فإن استعارها إلى موضعٍ فتجاوزه فقد تعدّى في العارية من وقت المجاوزة ، وكان ضامناً من حين العدوان ، ومطلقاً عند الشافعي(٢) ، فإذا استعارها من بغداد إلى الحلّة فتجاوزها إلى الكوفة ، فعليه أُجرة ما بين الحلّة والكوفة ذهاباً وعوداً.

وهل تلزمه الأُجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان - وهو الحلّة - إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه ، وهو بغداد؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه مأذون فيه من جهة المالك ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : اللزوم ؛ لأنّ ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة(٣) . وهو ممنوع.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٧

إذا عرفت هذا ، فلو شرط الضمان في العارية أو أطلق وقلنا بضمان العواري ، فإنّ الدابّة تكون مضمونةً عليه إلى الحلّة ضمانَ العارية ، ولا أُجرة عليه ؛ لأنّه مأذون له في ركوبها ، فإذا جاوز ضمنها ضمانَ الغصب ، ووجب عليه أُجرة منافعها ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) .

وأبو حنيفة يقول : إنّها أمانة إلى الحلّة ، فإذا جاوزها كانت مغصوبةً ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل ضمان الغصب ، بخلاف قوله في الوديعة إذا أخرجها من حرزها ثمّ ردّها إليه(٢) .

إذا ثبت هذا ، فعلى قول الشافعي بانقطاع الإذن من حين التعدّي ليس له الركوب من الحلّة إلى بغداد ، بل يسلّم الدابّة إلى حاكم الحلّة الذي استعار إليه(٣) .

مسألة ١٢٤ : إذا دفع إليه ثوباً وقال : إن شئت أن تلبسه فالبسه‌ ، فهو قبل اللُّبْس وديعة ، وبعده عارية ، وهو المشهور عند الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر مخرَّج من السوم ؛ لأنّه مقبوض على توقّع الانتفاع ، فكما أنّ المأخوذ على سبيل السوم مقبوض على توقّع عقد ضمانٍ ، كذا هنا.

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٦ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٣٧ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٤ ، وراجع أيضاً الهامش (٢) من ص ١٦٠.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٨

قال هذا القائل : لو قيل : لا ضمان في السوم أيضاً تخريجاً ممّا نحن فيه ، لم يبعد(١) .

ولو استعار صندوقاً فوجد فيه شيئاً ، فهو أمانة عنده ، كما لو طيّر الريح الثوبَ في داره ، فلا ضمان فيه وإن كانت العارية مضمونةً ، إلّا مع التفريط أو التعدّي.

مسألة ١٢٥ : قد بيّنّا أنّه لا يجوز للمُحْرم أن يستعير الصيد‌ ، فإن استعاره من الـمُحلّ لم يجز ، فإن قبضه ضمنه لله تعالى بالجزاء ، ولصاحبه ضمان العارية.

فإن استعار مُحلٌّ من مُحْرمٍ صيداً كان يملكه قبل أن يُحرم ، كان ذلك مبنيّاً على القولين في زوال ملكه عنه بالإحرام.

فإن قلنا : لـمّا أحرم زال ملكه عنه بالإحرام ، فقد وجب عليه إرساله ، فإذا دفعه إلى الـمُحلّ لم يجز له ، إلّا أنّ الـمُحلّ لا يضمنه له ؛ لأنّه ليس يملكه ، ولا يضمنه لله تعالى ؛ لأنّه مأذون له في إتلاف الصيد ، إلّا أنّه إذا تلف ضمنه الـمُحْرم ؛ لأنّه تلف بسببٍ من جهته ، وهو تسليمه إلى الـمُحلّ.

وإن قلنا ببقاء ملك الـمُحْرم فيه ، جاز له إعارته ، ويكون مضموناً على الـمُحلّ ضمانَ العارية لصاحبه.

ولو كان الـمُحْرم في الحرم والصيد فيه ، لم يجز له إعارته ، ولا للمُحلّ استعارته.

مسألة ١٢٦ : إذا ردّ الـمُستعير العاريةَ إلى مالكها أو إلى وكيله ، برئ من ضمانها.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٩

وإن ردّها إلى ملك مالكها بأن حمل الدابّةَ إلى اصطبل المالك وأرسلها فيه ، أو ردّ آلةَ الدار إليها ، لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) ، بل عندنا إن لم تكن العارية مضمونةً فإنّها تصير بهذا الردّ مضمونةً ؛ لأنّه لم يدفعها إلى مالكها ، بل فرّط بوضعها في موضعٍ لم يأذن له المالك بالردّ إليه ، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها فتلفت قبل أن يتسلّمها المالك ؛ لأنّه لم يردّها إلى صاحبها ولا إلى مَنْ ينوب عنه ، فلم يحصل به الردّ ، كما لو ردّها إلى أجنبيٍّ.

وقال أبو حنيفة : إذا ردّها إلى ملك المالك ، صارت كأنّها مقبوضة ؛ لأنّ ردّ العواري في العادة يكون إلى أملاك أصحابها ، فيكون ذلك مأذوناً فيه من طريق العادة(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه يبطل بالسارق إذا ردّ المسروق إلى الحرز ، ولا نعرف العادة التي ذكرها ، فبطل ما قاله.

المبحث الثالث : في التنازع.

مسألة ١٢٧ : إذا اختلف المالك والـمُستعير ، فقال المالك : آجرتك هذه العين مدّة كذا بكذا‌ ، وقال الـمُستعير : بل أعرتنيها ، والعين باقية بعد انقضاء المدّة بأسرها أو بعضها ممّا له أُجرة في العادة ، قال الشيخرحمه‌الله في الخلاف :

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٢ - ٢٧٣ / ٤٤٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٣ ، البيان ٦ : ٤٦٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٩١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٣.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٨٣ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٢ ، الفقه النافع ٣ : ٩٤٩ / ٦٧٥ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

٢٩٠

القول قول الـمُستعير - وبه قال أبو حنيفة(١) - لأنّهما اتّفقا على أنّ تلف المنافع كان على ملك الـمُستعير ؛ لأنّ المالك يزعم أنّه ملَّكها بالإجارة ، والـمُستعير يزعم أنّه مَلَكها بالاستيفاء ؛ لأنّ الـمُستعير يملك بذلك ، وقد ادّعي عليه عوض ما تلف على ملكه ، والأصل عدم وجوبه ، فكان القولُ قولَه ، ولأنّ الأصل براءة الذمّة ، والمالك يدّعي شغلها ، فيحتاج إلى البيّنة(٢) .

وقال مالك : القول قول المالك مع اليمين ؛ لأنّ المنافع جارية مجرى الأعيان ، وقد ثبت أنّه لو كان أتلف عليه عيناً كما لو أكل طعامه وقال : كنتَ أبحتَه لي ، وأنكر المالك ، فإنّ القول قول المالك ، أو كانت في يده وادّعى أنّه وهبها منه وأنكر صاحبها ذلك وادّعى أنّه باعها منه : إنّ القول قول صاحبها ، كذا هنا ، ولأنّ المنافع تابعة للأعيان في الملك ، فهي بالأصالة لمالك العين ، فادّعاء الـمُستعير التفرّدَ بالملكيّة لها على خلاف الأصل ، فيحتاج إلى البيّنة(٣) .

وأمّا الشافعي فقد قال في كتاب العارية : إنّه إذا اختلف مالك الدابّة وراكبها ، فقال صاحبها : آجرتكها بكذا ، وقال الراكب : أعرتنيها ولا أُجرة لك علَيَّ ، فالقول قول الراكب(٤) .

____________________

(١) روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٩ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٥ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، البيان ٦ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٨٨ ، المسألة ٣ من كتاب العارية.

(٣) النوادر والزيادات ١٠ : ٤٦٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١.

(٤) الأُم ٣ : ٢٤٥ ، مختصر المزني : ١١٦ و ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، =

٢٩١

وقال في كتاب المزارعة : ولو اختلف الزارع وصاحب الأرض ، وادّعى صاحب الأرض أنّه آجره إيّاها ، وادّعى الزارع أنّه أعاره إيّاها : إنّ القولَ قولُ صاحب الأرض(١) .

واختلف أصحابه في ذلك :

فقال أبو إسحاق وجماعة : إنّه لا فرق بين المسألتين ، وإنّ فيها قولين ، ونقلوا جوابه من كلّ واحدةٍ منهما إلى أُخرى(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألتين مختلفتان ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جارية بأنّ الدوابّ تُعار ، فكان الظاهر مع الراكب ، ولم تَجْر العادة بإعارة الأرضين ، فكان الظاهر مع صاحبها(٣) .

قال الأوّلون : هذا ليس بصحيحٍ ؛ لأنّ مثل هذه العادة لا اعتبار بها في التداعي ، ولهذا لو اختلف العطّار والدبّاغ في آلة العطر لا يُرجّح قول العطّار‌

____________________

= الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٩.

(١) مختصر المزني : ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣٢٠٠.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ - ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ و ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠.

٢٩٢

وإن كانت العادة جاريةً بأنّ آلة العطّار لا تكون للدبّاغ.

وفرّقوا بين هذه المسألة وبين ما إذا غسل ثوبه غسّال أو خاطه خيّاط ثمّ قال : فعلتُه بالأُجرة ، وقال المالك : بل فعلتَ ذلك مجّاناً ، فإنّ القول قول المالك مع يمينه قولاً واحداً ؛ لأنّ الغسّال فوّت منفعة نفسه ثمّ ادّعى لها عوضاً على الغير ، وهناك المتصرّف فوّت منفعة مال الغير وأراد إسقاط الضمان عن نفسه ، فلم يُقبل(١) .

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا : القول قول الـمُستعير ، فحلف على نفي الإجارة ، كفاه ، وسقط عنه المطالبة ، وردّ العين ، وإن نكل حلف المالك ، واستحقّ بيمينه المسمّى ؛ لأنّ اليمين مع النكول إمّا أن تكون بمنزلة البيّنة أو الإقرار ، وأيّهما كان يثبت به المسمّى ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يستحقّ أُجرة المثل ؛ لأنّ الناكل ينفي أصل الإجارة ، فتقع يمين المدّعي على إثباته(٣) .

وليس هذا الوجه عندي بعيداً من الصواب.

وإن قلنا : القول قول المالك مع يمينه ، فإنّه يحلف على نفي الإعارة التي تدّعى عليه ، ولا يتعرّض لإثبات الإجارة ؛ لأنّه مدّعٍ فيها ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

فحينئذٍ إذا حلف على نفي الإعارة ، فالأقوى عندي : إنّ الـمُستعير يحلف على نفي الإجارة ، فإذا حلف ثبت للمالك أقلّ الأمرين من أُجرة‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢.

(٣) البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٤) الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٣

المثل والمسمّى ؛ لأنّه إن كانت أُجرة المثل أقلَّ فهو لم يُقم حجّةً على الزيادة ، وإن كان المسمّى أقلَّ فقد أقرّ بأنّه لا يستحقّ الزيادة.

وقال بعض الشافعيّة : إذا حلف المالك على نفي الإعارة ، استحقّ أقلَّ الأمرين من أُجرة المثل والمسمّى إن لم يحلف الـمُستعير.

قال : وإن قلنا : إنّ المالك يحلف على إثبات الإجارة ونفي الإعارة ويجمع بينهما في يمينه ، ففيما يستحقّه وجهان :

أحدهما : المسمّى إتماماً لتصديقه.

وأظهرهما - وهو مقتضى منصوص الشافعي في الأُم(١) - أُجرة المثل ؛ لأنّهما لو اتّفقا على الإجارة واختلفا في الأُجرة كان الواجب أُجرة المثل ، فإذا اختلفا في أصل الإجارة كان أولى(٢) .

والجويني حكى الوجه الثاني على غير ما ذكر ، بل حكى بدله : إنّه يستحقّ أقلَّ الأمرين ؛ لما(٣) تقدّم.

قال : والتعرّض للإجارة على هذا ليس لإثبات المال الذي يدّعيه ، لكن لينتظم كلامه من حيث إنّه اعترف بأصل الإذن ، فحصل فيما يستحقّه ثلاثة أوجُه(٤) .

ولو نكل المالك عن اليمين المعروضة عليه ، لم تُردّ اليمين على الراكب والزارع ؛ لأنّهما لا يدّعيان حقّاً على المالك حتى يُثبتاه باليمين ، وإنّما يدّعيان الإعارة ، وليست حقّاً لازماً على الـمُعير.

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢٤٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٣) الظاهر : « كما » بدل « لما ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

٢٩٤

وقال بعض الشافعيّة : إنّها تُردّ ؛ ليتخلّص من الغرم(١) .

مسألة ١٢٨ : لو وقع هذا الاختلاف عقيب العقد قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أجر‌ ، فالقول هنا قول الـمُستعير مع اليمين ، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط عنه دعوى الأُجرة ، واستردّ المالك العين ، وإن نكل حلف المالك اليمينَ المردودة ، واستحقّ الأُجرة.

وهذا قول الشافعي أيضاً ، ولا قول له سواه ؛ لأنّ الراكب هنا لا يدّعي لنفسه حقّاً ولا أتلف المنافع على المالك ، والمدّعي في الحقيقة هنا هو المالك ، وإذا تمحّضت الدعوى له لم يتعدّد قوله كما يتعدّد في الصورة الأُولى ؛ لأنّ المنافع هناك تلفت تحت يد الراكب ، وكان القول بسقوطها مجّاناً بعيداً ، فلهذا كان له في الصورة الأُولى قولان(٢) .

مسألة ١٢٩ : لو حصل هذا الاختلاف بعد تلف العين‌ ، فإن تلفت عقيب الأخذ قبل أن يثبت لمثلها أُجرة وشرط في العارية الضمان أو قلنا به على مذهب القائلين بضمان العارية ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّ صاحبها يدّعي الإجارة وقد انفسخت بتلفها ، والـمُستعير يُقرّ بالقيمة ويعترف باستحقاقها في ذمّته ، والمالك ينكرها ، فليس للمالك حينئذٍ المطالبة بها.

ولو لم نقل بالضمان في العارية ولا شرطه المالك ، فلا بحث هنا ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعترف ببراءة ذمّة الـمُستعير.

وإن تلفت بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة مع شرط الضمان أو القول به ، فالـمُستعير يُقرّ بالقيمة ، والمالك ينكرها ويدّعي الأُجرة ، فيبنى على الخلاف بين العامّة في أنّ اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٥

إن قلنا : نعم ، سقطت القيمة بردّه ، والقول في الأُجرة قول المالك أو الـمُستعير على الخلاف الذي تقدّم في الحالة الأُولى.

وإن قلنا : إنّ اختلاف الجهة لا يمنع الأخذ ، فإن كانت الأُجرة مثلَ القيمة أو أقلَّ أخذها بغير يمينٍ ، وإن كانت أكثر أخذ قدر القيمة ، وفي المصدّق في الزيادة الخلافُ المتقدّم(١) .

مسألة ١٣٠ : لو انعكس هذا الاختلاف ، فادّعى المالكُ الإعارةَ ، والمتصرّفُ الإجارةَ‌ ، فإن كانت العين باقيةً وكان الاختلاف عقيب التسليم قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة ، كان القولُ قولَ المالك ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي عليه عقداً واستحقاق منفعةٍ ، والمالك ينكره ، وإذا لم تكن بيّنة كان القولُ قولَ المنكر مع اليمين ، ثمّ تُستردّ العين.

وإن نكل حلف المتصرّف ، واستحقّ المنفعة المدّة والإمساك طولها.

وإن كان بعد مضيّ مدّة الإجارة ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّهما اتّفقا على وجوب ردّها ، والمتصرّف يُقرّ للمالك بالأُجرة ، والمالك ينكرها.

وإن كان بعد مضيّ بعض المدّة ، فالقول قول المالك ؛ لأنّ الأصل عدم استحقاق الغير منفعة مال الغير ، فإذا حلف على نفي الإجارة أخذ العين ، وليس له مطالبته بالأُجرة عمّا مضى من المدّة ؛ لأنّه ينكرها والمتصرّف معترف له بها.

هذا إذا كان الاختلاف والعين باقية ، وأمّا إن اختلفا والعين تالفة ، فإن كان الاختلاف عقيب القبض قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك هنا يدّعي قيمتها على المتصرّف مع شرط الضمان عندنا ، ومطلقاً عند‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٦

الشافعي(١) ، والمتصرّف ينكرها ، فيُقدَّم هنا قول المالك مع اليمين ؛ لأنّهما اختلفا في صفة القبض ، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمانُ ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٢) .

وإن كان الاختلاف بعد مضيّ المدّة ، فالمتصرّف يُقرّ بالأُجرة ، والمالك يدّعي عليه القيمة في المضمونة ، فإن كانت القيمة بقدر الأُجرة دفع إليه من غير(٣) يمينٍ ؛ لاتّفاقهما على استحقاق ذلك المقدار ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : لا تثبت الأُجرة ؛ لأنّه لا يدّعيها ، ويكون القولُ قولَه في وجوب القيمة(٥) .

وإن كانت أقلَّ ، كان في قدرها الوجهان.

وإن كانت أكثر ، كان قدر الأُجرة منهما على الوجهين ، والباقي يستحقّه بيمينه.

وإن كان التلف في أثناء المدّة ، فقد أقرّ له ببعض الأُجرة ، وهو يدّعي القيمة ، والحكم في ذلك على ما ذكر.

مسألة ١٣١ : لو ادّعى المالكُ الغصبَ ، والمتصرّفُ الإعارةَ والعين باقية قائمة ، ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فلا معنى لهذا الاختلاف‌ ؛ إذ لم تفت العين ولا المنفعة ، ويردّ المتصرّفُ العينَ إلى المالك.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : إنّ القولَ قولُ المالك مع‌

____________________

(١) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٧١ ، الهامش (٢)

(٣) في « ج » : « بغير » بدل « من غير ».

(٤ و ٥) البيان ٦ : ٤٧٦.

٢٩٧

يمينه ؛ لما تقدّم(١) من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان في التملّك ، فالقول قول مَنْ يدّعيها مع اليمين وعدم البيّنة ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبراءة ذمّته من التصرّف في مال الغير ، فعليه البيّنة.

وقال الشيخرحمه‌الله في الخلاف : القول قول المتصرّف - وهو أحد أقوال الشافعي نقله المزني عنه(٢) - لأنّ المالك يدّعي عليه عوضاً ، والأصل براءة ذمّته منه ، ولأنّ الظاهر من اليد أنّها بحقٍّ ، فكان القولُ قولَ صاحبها(٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لما بيّنّا من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان ، ولأصالة عدم الإذن ، وكما أنّ الظاهر أنّ اليد بحقٍّ ، كذا الظاهر التبعيّة.

ولأصحاب الشافعي هنا ثلاثة طُرق :

أظهرها : إنّ الحكم هنا على ما تقدّم في المسألة السالفة ، فيُفرّق بين الدابّة والأرض على طريقٍ ، ويُجعلان على قولين في طريقٍ ؛ لأنّ المالك ادّعى أُجرة المثل هنا ، كما ادّعى المسمّى في الإجارة هناك ، والأصل براءة الذمّة.

والثاني : القطع بأنّ القول قول المالك ، بخلاف تلك المسألة ؛ لأنّهما متّفقان على الإذن هناك ، وهنا المالك منكر له ، والأصل عدمه. ومَنْ قال بهذا خطّأ المزني في النقل.

قال أبو حامد : لكنّه ضعيف ؛ لأنّ الشافعي نصّ في الأُمّ على ما رواه‌

____________________

(١) في ص ٢٩٠.

(٢) مختصر المزني : ١١٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٩٠ ، البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، المغني ٥ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٣) الخلاف ٣ : ٣٨٩ ، المسألة ٥ من كتاب العارية.

٢٩٨

المزني(١) .

والثالث : القطع بأنّ القول قول المتصرّف ؛ لأنّ الظاهر من حال المسلم أنّه لا يتصرّف إلّا على وجهٍ جائز(٢) .

هذا إذا تنازعا والعين باقية.

مسألة ١٣٢ : لو وقع هذا الاختلاف وقد تلفت العين‌ ، فإن هلكت بعد انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك يدّعي أُجرة المثل والقيمة بجهة الغصب ، والمتصرّف يُنكر الأُجرة ويُقرّ بالقيمة بجهة العارية إن كانت مضمونةً ، فالحكم في الأُجرة على ما تقدّم عند بقاء العين.

وأمّا القيمة فإنّه يُحكم فيها بقول المتصرّف ؛ لأصالة براءة ذمّته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القِيَم.

وقال بعض الشافعيّة : إن قلنا : إنّ اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، فلا يأخذ المالك إلّا باليمين. وإن قلنا : لا يمنع فإن قلنا : العارية تُضمن ضمانَ الغصب ، أو لم نقل به لكن كانت قيمته يوم التلف أكثر ، أخذها باليمين ، وإن كانت قيمته يوم التلف أقلَّ ، أخذها بغير يمينٍ ، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين(٣) .

وإن هلكت عقيب القبض قبل مضيّ وقتٍ يثبت لمثله أُجرة ، لزمه القيمة.

ثمّ قياس القول الأوّل أن يقال : إن جعلنا اختلاف الجهة مانعاً من

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، وراجع الأُم ٣ : ٢٤٥ ، ومختصر المزني : ١١٦.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٩

الأخذ ، حلف ، وإلّا أخذ بغير يمينٍ.

وقضيّة ما قاله الجويني في مسألة التنازع بين الإجارة والعارية : إنّه لا يُخرّج على ذلك الخلاف لا هذه الصورة ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ يثبت لمثلها أُجرة.

قال : لأنّ العين متّحدة ، ولا وَقْع للاختلاف في الجهة مع اتّحاد العين(١) .

والظاهر : الأوّل عندهم(٢) .

وإن كانت العارية غيرَ مضمونةٍ ، فإنّ القولَ قولُ المالك في عدم الإعارة ، وقولُ المتصرّف في عدم الغصب لئلّا يضمن ضمانَ الغصب ، ثمّ يثبت على المتصرّف بعد حلف المالك على نفي الإعارة قيمتُها وقت التلف.

مسألة ١٣٣ : لو انعكس الفرض ، فقال المالك : أعرتُكها ، وقال المتصرّف : بل غصبتُها ، فلا فائدة في هذا الخلاف‌ ؛ لأنّ المتصرّف يُقرّ بالضمان ، والمالك يُنكره إن كانت العارية غير مضمونةٍ ، وإن كانت مضمونةً فإنّه يُنكر ضمان الغصب.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالمالك ينفي استحقاق العوض عنها ، والمتصرّف يعترف له بها.

ولو قال المالك : غصبتَها ، وقال المتصرّف : بل آجرتني ، فإن كانت العين باقيةً ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : التحالف.

أمّا حلف المتصرّف على نفي الغصب : فلنفي زيادة الضمان إن‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٣٠٠

كنومة نمتها ثم استيقظت منها يا مبتغي العلم قدم لمقامك بين يدي الله عز وجل فإنك مثاب بعملك كما تدين تدان يا مبتغي العلم.

١٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن القاسم بن يحيى ، عن

_________________________________________

فليس بين الدنيا والآخرة لهما فاصلة ، فيتحولون من الدنيا إلى الآخرة كما روي : من مات فقد قامت قيامته ، وأما المستضعفون فلما كانوا ملهي عنهم استدرك ذلك بأن حالهم في البرزخ كنوم وليلة ، فلا فاصلة بين دنيا هم وآخرتهم حقيقة ، ويحتمل أن يكون الغرض بيان قلة نعيم البرزخ وجحيمها بالنسبة إلى نعيم الآخرة وجحيمها ، فكأنهم نائمون أو لأن جل عذابهم بعد السؤال والضغطة وأمثالهما لما كان روحانيا شبه تلك الحالة بالنومة.

ولم يتعرض أحد لتحقيق هذه الفقرة مع إشكالها ومخالفتها ظاهرا للآيات والأخبار الكثيرة.

قوله (ره) : قدم ، أي العمل الصالح« لمقامك بين يدي الله عز وجل » أي للحساب« كما تدين تدان » أي كما تفعل تجازى ، فهو على المشاكلة ولا يضر تقدمه أو كما تجازي الرب تجازى ، ولا يخلو من بعد ، أو كما تجازي العباد تجازى فيكون تأسيسا قال الجوهري : دانه دينا أي جازاه كما يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت ، وقوله تعالى : «إِنَّا لَمَدِينُونَ »(١) أي مجزيون.

« يا مبتغي العلم » قيل : هذا افتتاح كلام آخر تركه المصنف ، وإنما ذكر ليعلم أن ما ذكره ليس جميع الخطبة كما مر بعضه في باب الصمت ، حيث قالرضي‌الله‌عنه : يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير « إلخ ».

الحديث التاسع عشر : ضعيف.

__________________

(١) سورة الصافّات : ٥٣.

٣٠١

جده الحسن بن راشد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثم راح وتركها.

٢٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يحيى بن عقبة الأزدي ، عن

_________________________________________

« ما لي وللدنيا » أي أي شغل لي مع الدنيا ، وقيل : « ما » نافية أي ما لي محبة مع الدنيا أو للاستفهام أي أي محبة لي معها حتى أرغب فيها ذكره الطيبي في شرح بعض رواياتهم « وما أنا والدنيا » أي أي مناسبة بيني وبين الدنيا ، ومن طريق العامة روي عن ابن مسعود أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نام على حصير فقام وقد أثر في جسده فقالوا : لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل؟ فقال : ما لي وللدنيا وما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.

أقول : وجه الشبه سرعة الرحيل وقلة المكث وعدم الرضا به وطنا ، وقال الكرماني في شرح البخاري : فيه فرفعت لنا صخرة أي ظهرت لأبصارنا ، وفيه أيضا فرفع لي البيت المعمور ، أي قرب وكشف وعرض وقال الجوهري :يوم صائف أي حار وليلة صائفة وربما قالوا : يوم صاف بمعنى صائف ، كما قالوا : يوم راح« فقال » القائلة الظهيرة ، يقال : أتانا عند القائلة ، وقد يكون بمعنى القيلولة أيضا ، وهي النوم في الظهيرة تقول : قال يقيل قيلولة وقيلا ومقيلا وهو شاذ فهو قائل ، وفي المصباح :راح يروح رواحا وتروح مثله ، يكون بمعنى الغدو وبمعنى الرجوع ، وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار ، وليس كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار ، وقال ابن فارس : الرواح رواح العشي وهو من الزوال إلى الليل.

الحديث العشرون : مجهول.

قال في المصباح :القز معرب ، قال الليث : هو ما يعمل منه الإبريسم ، ولهذا

٣٠٢

أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال أبو جعفرعليه‌السلام مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت على نفسها لفا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما قال وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام كان فيما وعظ به لقمان ابنه يا بني إن الناس قد جمعوا قبلك لأولادهم فلم يبق ما جمعوا ولم يبق من جمعوا له وإنما أنت عبد مستأجر قد أمرت بعمل ووعدت عليه أجرا فأوف عملك واستوف أجرك ولا تكن في هذه الدنيا بمنزلة شاة وقعت في زرع أخضر فأكلت حتى سمنت(١) فكان حتفها عند سمنها ولكن اجعل الدنيا بمنزلة قنطرة على نهر جزت عليها وتركتها ولم ترجع إليها آخر الدهر أخربها ولا تعمرها فإنك لم تؤمر بعمارتها واعلم أنك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي الله عز وجل عن أربع شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك مما اكتسبته وفيما أنفقته فتأهب لذلك وأعد له

_________________________________________

قال بعضهم : القز الإبريسم ، مثل الحنطة والدقيق ، انتهى.

« ولفا » تميز عن نسبة ازدادت ، وغما مفعول له أو حال« فلم يبق ما جمعوا » في بعض النسخ ما جمعوا له ، وكأنه زيد « له » من النساخ ، وعلى تقديره كان المعنى لم تبق الأغراض والمطالب الباطلة التي جمعوا لها الدنيا كالجاه والعزة والغلبة والفخر وأمثالها « فكان حتفها » أي هلاكها المعنوي فإن التمتع بالمستلذات الجسمانية موجب لقوة القوى الشهوانية وطغيانها ، وهذا استعارة تمثيلية شبه توسع الإنسان في لذات الدنيا وشهواتها وعدم مبالاته بحرامها وشبهاتها وابتلائه بعد الموت بعقوباتها بشاة وقعت في زرع أخضر فأكلت منها حيث شاءت وكيف شائت بلا مانع حتى إذا سمنت قتلها صاحبها لسمنها.

« آخر الدهر » أي إلى آخر الزمان أي أبدا« أخربها » أي دعها خرابا بترك ما لا تحتاج إليه من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن ، والاقتصار على القدر الضروري في كل منها« ستسأل » قيل : السين لمحض التأكيد« فيما أبليته »

__________________

(١) كذا في الأصل والظاهر « سمنت » بالتاء.

٣٠٣

...........................................................................

_________________________________________

كلمة « ما » في المواضع الأربعة استفهامية وإثبات الألف مع حرف الجر فيها شاذ ، والثوب البالي هو الذي استعمل حتى أشرف على الاندراس.

ثم إن العمر لا يستلزم القوة والشباب ، فكل منهما نعمة يسأل عنها ، ومع الاستلزام أيضا تكفي المغايرة للسؤال عن كل منهما وأما السؤال عن المال إما لغير المؤمنين أو لغير الكاملين منهم ، لما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كتب إلى أهل مصر : من عمل لله أعطاه الله أجره في الدنيا والآخرة وكفاه المهم فيهما ، وقد قال الله تعالى : «يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »(١) فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة ، قال الله تعالى : «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ »(٢) والحسنى هي الجنة ، والزيادة هي الدنيا.

وروى البرقي في الصحيح عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ثلاثة أشياء لا يحاسب العبد المؤمن عليهن : طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وزوجة صالحة تعاونه ويحصن بها فرجه وقد وردت أخبار كثيرة في تفسير قوله تعالى : «لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ » أن النعيم(٣) ولاية أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد روى العياشي وغيره أنه سأل أبو حنيفة أبا عبد اللهعليه‌السلام عن هذه الآية فقال له : ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال : القوت من الطعام والماء البارد ، فقال : لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه؟ قال : فما النعيم جعلت فداك؟ قال : نحن أهل بيت النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد ، الخبر.

ويمكن أن يقال : السؤال عن المال اكتسبه من حلال أو حرام أو أنفقه في حلال

__________________

(١) سورة الزمر : ١٠.

(٢) سورة يونس : ٢٦.

(٣) سورة التكاثر : ٨.

٣٠٤

جوابا ولا تأس على ما فاتك من الدنيا فإن قليل الدنيا لا يدوم بقاؤه وكثيرها لا يؤمن بلاؤه فخذ حذرك وجد في أمرك واكشف الغطاء عن وجهك وتعرض

_________________________________________

أو حرام ، لا ينافي عدم محاسبتهم على ما أنفقوه في الحلال من مأكلهم ومسكنهم وملبسهم ونحو ذلك ، أو المراد بتلك الأخبار أنهم لا يعاتبون بذلك ولا يقاص من حسناتهم بها ، فلا ينافي أصل المحاسبة كما روى الشيخ في مجالسه بإسناده عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : يوقف العبد بين يدي الله فيقول : قيسوا بين نعمتي عليه وبين عمله ، فتستغرق النعم العمل ، فيقولون : قد استغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له نعمتي وقيسوا بين الخير والشر منه فإن استوى العملان أذهب الله الشر بالخير ، وأدخله الجنة وإن كان له فضل أعطاه الله بفضله ، وإن كان عليه فضل وهو من أهل التقوى ولم يشرك بالله تعالى ، واتقى الشرك به فهو من أهل المغفرة يغفر الله له برحمته إن شاء ويتفضل عليه بعفوه.

وقال الجوهري : تأهب استعد وأهبه الحرب عدتها وقال : الأسي مفتوح مقصور : الحزن ، وأسى على مصيبته بالكسر يأسى أسى أي حزن« لا يدوم بقاؤه » والعاقل لا يتأسف بفوات قليل لا بقاء له.

« لا يؤمن بلاؤه » أي في الدنيا والآخرة ، والعاقل لا يتأسف بفوت ما يتوقع منه الضرر والبلية ، مع أن الرب الذي فوتها عليه أعلم بمصلحته ، أو المعنى لا تحزن على ما لم يصل إليك من الدنيا فإن الصبر على قليل الدنيا وقلته سهل فإنه لا يدوم وينقضي قريبا بالموت ، والكثرة محل الآفات« فخذ حذرك » بالكسر أي ما تحذر به من مكائد النفس والشيطان في الدنيا والعذاب في الآخرة قال الراغب في قوله تعالى : «خُذُوا حِذْرَكُمْ »(١) أي ما فيه الحذر من السلاح وغيره« وجد في أمرك » أي في تهيئة سفر الآخرة والاستعداد للقاء الله من العقائد الحسنة والأعمال الصالحة

__________________

(١) سورة النساء : ٧١.

٣٠٥

لمعروف ربك وجدد التوبة في قلبك واكمش في فراغك قبل أن يقصد قصدك ويقضى

_________________________________________

والأخلاق المرضية فإن من أراد سفرا يأخذ الأسلحة لدفع ضرر الطريق ويجهز ويهيئ ما يحتاج إليه في ذلك السفر« واكشف الغطاء عن وجهك » أي ارفع غطاء الغفلة عن وجه قلبك لتميز بين الحق والباطل والفاني والباقي أو عن الجهة التي تتوجه إليه ، والطريق الذي تسلكه لئلا يشتبه عليك فتسلك طريقا يؤديك إلى النار وأنت لا تعلم« وتعرض لمعروف ربك » بما به تستحق إحسانه وتفضله عليك من صالح النيات والأعمال.

« وجدد التوبة في قلبك » أي كلما ذكرت معاصيك ، وفي النسبة إلى القلب إشعار بأن التوبة أمر قلبي وهي الندامة عما مضى والعزم على عدم الإتيان بمثله فيما سيأتي ، وفيه دلالة على حسن تكرار التوبة وإن كانت عن معصية واحدة« واكمش » أي أسرع وعجل ، في الصحاح : الكمش الرجل السريع الماضي ، وقد كمش بالضم كماشة فهو كمش وكميش وكمشته تكميشا أعجلته ، وانكمش أسرع ، انتهى.

« في فراغك » أي في أن تفرغ من الأمور التي تحتاج إليه في الآخرة أو في فراغك من الدنيا وجعلك نفسك فارغة منها للآخرة أو في قصدك إلى الآخرة أو أسرع في العمل في أيام فراغك قبل أن تشتغل أو تبتلي بشيء يمنعك عنه ، فإن الفراغ خلاف الشغل ، قال في المصباح : فرغ من الشغل فروغا من باب قعد ، ومن باب تعب لغة لبني تميم والاسم الفراغ ، وفرغت للشيء وإليه قصدت.

أقول : ويؤيد المعنى الأخير ما روي في مجالس الشيخ عن ابن عمر : خذ من حياتك لموتك ، وخذ من صحتك لسقمك ، وخذ من فراغك لشغلك ، فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا ، وما رواه الصدوق في مجالسه عن الكاظم عن آبائهعليهم‌السلام

٣٠٦

قضاؤك ويحال بينك وبين ما تريد.

٢١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن بعض أصحابه ، عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول فيما ناجى الله عز وجل به موسىعليه‌السلام يا موسى لا تركن إلى الدنيا ركون الظالمين وركون من اتخذها أبا وأما يا موسى لو وكلتك إلى نفسك لتنظر لها إذا لغلب عليك حب الدنيا وزهرتها يا موسى

_________________________________________

عن عليعليه‌السلام في قول الله عز وجل : «وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ »(١) قال : لا تنس صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك تطلب بها الآخرة« قبل أن يقصد » على بناء المجهول« قصدك » أي نحوك كناية عن توجه ملك الموت إليه لقبض روحه أو توجه الأمراض والبلايا من الله إليه« ويقضي قضاءك » أي يقدر ويحتم موتك ، ويحال بالموت أو الأعم بينك وبين ما تريد من التوبة والأعمال الصالحة ولا ينفعه تمنى الحياة والرجعة حيث يقول : «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ » فيقال : «كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » أعاذنا الله وسائر المؤمنين من ندامة تلك الساعة وأهوال هذا اليوم.

الحديث الحادي والعشرون : مرسل.

وسيأتي تمام تلك المناجاة في الروضة بسند آخر ، وبعض تلك الفقرات مذكور فيها علي خلاف الترتيب ، ويقال :ركن إليه كنصر وعلم ومنع : مال ، ويطلق غالبا على الميل القلبي« لو وكلتك » يدل على أن الزهد في الدنيا لا يحصل بدون توفيقه تعالى ، وفي القاموس : نظر لهم رثى لهم وأعانهم وقال : النظر محركة الفكر في الشيء تقدره وتقيسه ، والحكم بين القوم والإعانة والفعل كنصر ، وفي النهاية المنافسة الرغبة في الشيء والانفراد به ، وهو من الشيء النفيس الجيد في نوعه ونافست في الشيء منافسة ونفاسا إذا رغبت فيه.

__________________

(١) سورة القصص : ٧٧.

٣٠٧

نافس في الخير أهله واستبقهم إليه فإن الخير كاسمه واترك من الدنيا ما بك الغنى عنه ولا تنظر عينك إلى كل مفتون بها وموكل إلى نفسه واعلم أن كل فتنة

_________________________________________

قوله تعالى :فإن الخير كاسمه ، لعل المعنى أن الخير لما دل بحسب أصل معناه في اللغة على الأفضلية وما يطلق عليه في العرف والشرع من الأعمال الحسنة أو إيصال النفع إلى الغير هي حير الأعمال ، فالخير كاسمه أي إطلاق هذا الاسم على تلك الأمور بالاستحقاق ، والمعنى المصطلح مطابق للمدلول اللغوي ، أو المراد به أن الخير لما كان كل من سمعه يستحسنه فهو حسن واقعا وحسنه حسن واقعي.

والحاصل أن ما يحكم به عقول عامة الخلق في ذلك مطابق للواقع ، أو المراد باسمه ذكره بين الناس ، يعني إن الخير ينفع في الآخرة كما يصير سببا لرفعة الذكر في الدنيا« ما بك الغناء عنه » أي ما لم تحتج إليه بل لم تضطر إليه« ولا تنظر » على بناء المجرد« عينك » بالرفع أو بالنصب بنزع الخافض ، أي بعينك ، وربما يقرأ تنظر على بناء الأفعال أي لا تجعلها ناظرة إلى كل مفتون بها أي مبتلى مخدوع بها ، والمراد النظر إلى كل من لقيه منهم ، فإنه لا يمكن النظر إلى كلهم أو كناية عن أن النظر إلى واحد منهم بالإعجاب به وبما معه من زينتها بمنزلة النظر إلى جميعهم ، لاشتراك العلة« وموكل إلى نفسه » المتبادر أنه على بناء المفعول لكن كان الظاهر حينئذ وموكول ، إذ لم يأت أو كله فيما عندنا من كتب اللغة لكن كثير من الأبنية المتداولة كذلك ، ويمكن أن يقرأ على بناء الفاعل من الإيكال بمعنى الاعتماد ، في القاموس : وكل بالله وتوكل عليه وأو كل واتكل استسلم إليه ، ووكل إليه الأمر وكلا ووكولا سلمه وتركه.

« أن كل فتنة » أي ضلاله أو بلية أو امتحان أو إثم ، في القاموس : الفتنة بالكسر الخبرة وإعجابك بالشيء والضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب ، وإذابة الذهب والفضة والإضلال والجنون والمحنة والمال والأولاد ، واختلاف الناس

٣٠٨

بدؤها حب الدنيا ولا تغبط أحدا بكثرة المال فإن مع كثرة المال تكثر الذنوب لواجب الحقوق ولا تغبطن أحدا برضى الناس عنه حتى تعلم أن الله راض عنه ولا تغبطن مخلوقا بطاعة الناس له فإن طاعة الناس له واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن اتبعه.

٢٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن غياث بن إبراهيم ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن في كتاب علي صلوات الله عليه إنما مثل الدنيا كم ثل الحية ما ألين مسها وفي جوفها السم الناقع يحذرها الرجل العاقل ويهوي إليها الصبي الجاهل

_________________________________________

في الآراء.

وأقول : يناسب هنا أكثر المعاني« ولا تغبط أحدا » بأن تتمنى حاله« تكثر الذنوب » بصيغة المضارع من باب حسن أو مصدر باب التفعل« لواجب الحقوق » أي للتقصير في أداء الحقوق الواجبة غالبا« بطاعة الناس له » أي في الباطل.

الحديث الثاني والعشرون : حسن موثق.

وفي النهاية :السم الناقع أي القاتل ، وقد نقعت فلانا إذا قتلته ، وقيل :

الناقع الثابت المجتمع ، من نقع الماء ، انتهى.

وما أحسن هذا التشبيه وأتمه وأكمله ، وفي النهج عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : مثل الدنيا مثل الحية لين مسها والسم الناقع في جوفها ، يهوي إليها الغر الجاهل ، ويحذرها ذو اللب العاقل.

وفي خبر المتن ظاهره أن الجملتين الأخيرتين لبيان المشبه به ، وفي النهج لبيان المشبه ، ويحتمل العكس في كل منهما ، وكون المشبه به أقوى لا ينافي كون ضرر الدنيا على طالبها واقعا أشد من ضرر الحية على لامسها لأن الأشدية والأظهرية إنما تعتبران بالنسبة إلى المخاطب ، والمخاطبون هنا هم أهل الدنيا

٣٠٩

٢٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي جميلة قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام كتب أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى بعض أصحابه يعظه أوصيك ونفسي بتقوى من لا تحل معصيته ولا يرجى غيره ولا الغنى إلا به فإن من اتقى الله جل وعز وقوي وشبع وروي ورفع عقله عن أهل الدنيا فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الآخرة فأطفأ بضوء قلبه ما أبصرت عيناه من حب الدنيا فقذر

_________________________________________

المغرورون بها ، الغافلون عن مضارها وضرر الحية عندهم أشد وأبين.

الحديث الثالث والعشرون : ضعيف.

وقال الراغب :الوعظ : خبر مقترن بتخويف وقال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب والعظة والموعظة الاسم ، وقال :الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم أرض واصية متصلة النبات يقال : أوصاه ووصاه«فإن من اتقى الله» علة للوصية«عز» أي بعزة واقعية ربانية لا تزول بإزلال الناس ، كما قال تعالى «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ »(١) وقوي بقوة معنوية إلهية ، ولا تشبه القوي البدنية كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية«وشبع وروي» من غير اكتساب لقوله تعالى : «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ »(٢) أو شبع بالعلوم اللدنية ، وارتوى بزلال الحكمة الإلهية« ورفع عقله » على بناء المجهول« عن أهل الدنيا » أي صار عقله أرفع من عقولهم أو أرفع من أن ينظر إلى الدنيا وأهلها ويلتفت إليهم ويعتني بشأنهم إلا لهدايتهم وإرشادهم« فبدنة مع أهل الدنيا » لكونه من جنس أبدانهم في الصورة الجسدانية« وقلبه وعقله » لشدة يقينه« معائن الآخرة » لتخليه عن العلائق الجسمانية« من حب الدنيا » من للبيان أو للتبعيض ، وإسناد الإبصار

__________________

(١) سورة المنافقون : ٨.

(٢) سورة الطلاق : ٢.

٣١٠

حرامها وجانب شبهاتها وأضر والله بالحلال الصافي إلا ما لا بد له من كسرة منه يشد بها صلبه وثوب يواري به عورته من أغلظ ما يجد وأخشنه ولم يكن له فيما لا بد له منه ثقة ولا رجاء فوقعت ثقته ورجاؤه على خالق الأشياء فجد واجتهد وأتعب

_________________________________________

إلى الحب علي المجاز ، أو المصدر بمعنى المفعول أو هو بالكسر ، قال في القاموس : الحب بالكسر المحبوب شبهعليه‌السلام ما أبصره أو أحبه بالنار في الإهلاك استعارة مكنية ونسبة الإطفاء إليه تخييلية« فقذر حرامها » أي عده قذرا نجسا يجب اجتنابه أو كرهه ، في الصحاح : القذر ضد النظافة وشيء قدر بين القذارة وقذرت الشيء بالكسر وتقذرته واستقذرته إذا كرهته.

« وجانب شبهاتها » وهي المشبهات بالحرام مع عدم العلم بكونها حراما كأموال الظلمة فيكون مكروها على المشهور ، أو الذي اشتبه عليه الحكم فيه فاجتنابه مستحب على المشهور وكأنهعليه‌السلام لذلك غير التعبير فعبر هنا بالاجتناب ، وفي الحرام بالحكم بالقذارة« وأضر » على بناء المعلوم كناية عن تركه وعدم الاعتناء به ، وترك الالتفات إليه ، أو على بناء المجهول أي يعد نفسه متضررة به أو يتضرر به لعلو حاله« بالحلال الصافي » من الشبهة فكيف بالحرام والشبهة.

وفي المصباح : الكسرة القطعة من الشيء المكسور ومنه الكسرة من الخبز ، وفي القاموس :الكسرة القطعة من الشيء المكسور ، والجمع كسر ، انتهى.

« يشد بها صلبه » أي يقوي بها على العبادة« من أغلظ ما يجد » ظاهره استحباب الاكتفاء بالثياب الخشنة وإن كان قادرا على الناعمة وهو مخالف لأخبار كثيرة إلا أن يحمل على أن المراد به من الأغلظ الذي يجده أي إذا لم يجد غيره أو على ما إذا لم يجد غيره إلا بارتكاب الحرام والشبهة أو بصرف جل أوقاته في تحصيله ، بحيث يمنعه عن النوافل وفواضل الطاعات ، أو على ما إذا علم أنه يصير سببا لطغيانه وإن علاج كبره وصفاته الذميمة منحصر في ذلك« ثقة ولا رجاء » أي بغيره سبحانه كما

٣١١

بدنه حتى بدت الأضلاع وغارت العينان فأبدل الله له من ذلك قوة في بدنه وشدة

_________________________________________

بينه في الفقرة الآتية.

وفي المصباح :الجد بالكسر الاجتهاد وهو مصدر يقال منه : جد يجد من بابي ضرب وقتل والاسم الجد بالكسر« وأتعب بدنه » أي بالعبادات الشرعية لا الأعمال المبتدعة« فأبدل الله له » لأنه تعالى قال : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »(١) .

فمن بذل ما أعطاه الله من الأموال الفانية عوضه الله من الأموال الباقية أضعافها ، ومن بذل قوته البدنية في طاعة الله أبد له الله قوة روحانية لا يفنى في الدنيا والآخرة فتبدو منه المعجزات وخوارق العادات والكرامات وما لا يقدر عليه بالقوى الجسمانية ، ومن بذل علمه في الله وعمل به ورثه الله علما لدنيا يزيد في كل ساعة ، ومن بذل عزه الفاني الدنيوي في رضا الله تعالى أعطاه الله عزا حقيقيا لا يتبدل بالذل أبدا ، كما أن الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام لما بذلوا عزهم الدنيوي في سبيل الله أعطاهم الله عزة في الدارين ، لا يشبه عز غيرهم فيلوذ الناس بقبورهم وضرائحهم المقدسة ، والملوك يعفرون وجوههم على أعتابهم ويتبركون بذكرهم ، ومن بذل حياته البدنية في الجهاد في سبيله عوضه حياة أبدية يتصرفون بعد موتهم في عوالم الملك والملكوت ، وقد قال تعالى : «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ »(٢) ومن بذل نور بصره وسمعه في الطاعة أعطاه الله نورا منه ينظر في ملكوت السماوات والأرض ، وبه يسمع كلام الملائكة المقربين ووحي رب العالمين ، كما ورد : المؤمن ينظر بنور الله ، وورد : بي يسمع وبي يبصر ، وإذا تخلى من إرادته وجعلها تابعة لإرادة الله جعله الله بحيث لا يشاء إلا أن يشاء الله ، وكان الله هو الذي يدبر في بدنه وقلبه وعقله وروحه ، والكلام هنا دقيق لا تفي به العبارة والبيان ، وفي هذا المقام تزل الأقدام.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧.

(٢) سورة آل عمران : ١٦٩.

٣١٢

في عقله وما ذخر له في الآخرة أكثر فارفض الدنيا فإن حب الدنيا يعمي ويصم ويبكم ويذل الرقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غدا أو بعد غد فإنما هلك من كان قبلك بإقامتهم على الأماني والتسويف حتى أتاهم أمر الله بغتة وهم غافلون فنقلوا على أعوادهم إلى قبورهم المظلمة الضيقة وقد أسلمهم الأولاد والأهلون

_________________________________________

والرفض الترك« يعمى » أي بصر القلب من رؤية الحق كما قال تعالى : «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ »(١) ويصم القلب أيضا عن سماع الحق وقبوله ، ويمكن أن يراد بها عمى البصر الظاهر لعدم انتفاعه بما يرى فكأنه أعمى ، وصمم السمع الظاهر لأنه لا ينتفع بما يسمع فكأنه أصم كما قال سبحانه : «خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »(٢) .

والبكم نسبته إلى الظاهر أظهر فإنه لما لم يتكلم بالحق وبما ينفعه فكأنه أبكم ، وإن أمكن حمله أيضا على لسان القلب ، فإن لسان الرأس معبر عنه حقيقة« ويذل الرقاب » لأنه موجب للتذلل عند أهل الدنيا لتحصيله أو يذلها لقبول الباطل من أهله من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة.

« فتدارك ما بقي » التدارك ليس هنا بمعنى التلافي ، ولا بمعنى التلاحق بل بمعنى الإدراك أي أدركه ولا تفوته كقوله تعالى : «لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ »(٣) أي أدركته بإجابة دعائه كما قاله الطبرسي (ره) ، ويحتمل أن يكون « ما بقي » ظرفا والمفعول مقدرا أي تلاف ما فات منك فيما بقي من عمرك ، لكنه بعيد.

« ولا تقل غدا » أي أتوب أو اعمل غدا« حتى أتاهم أمر الله » أي بالموت أو بالعذاب« بغتة » بالفتح ، وقد يحرك أي فجاءة« وهم غافلون » عن إتيانه« على أعوادهم » أي كائنين على السرر والتوابيت المعمولة من الأعواد« إلى قبورهم المظلمة الضيقة »

__________________

(١) سورة الحجّ : ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٧.

(٣) سورة القلم : ٤٩.

٣١٣

فانقطع إلى الله بقلب منيب من رفض الدنيا وعزم ليس فيه انكسار ولا انخزال أعاننا الله وإياك على طاعته ووفقنا الله وإياك لمرضاته.

٢٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة وغيره ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله.

٢٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال سمعت الرضا

_________________________________________

فإنها على الأشقياء كذلك وإن كانت للأصفياء روضة من رياض الجنة« فانقطع » أي عن الدنيا وأهلها «بِقَلْبٍ » أي مع قلب «مُنِيبٍ » أي تائب راجع عن الذنوب ، إشارة إلى قوله تعالى : «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ »(١) قال الطبرسي أي وافى الآخرة بقلب مقبل على طاعة الله ، راجع إلى الله بضمائره« من رفض الدنيا » من تعليل للإنابة ، أو للانقطاع ، وعزم عطف على قلب« ليس فيه انكسار » أي وهن« ولا انخزال » أي تثاقل أو انقطاع ، في القاموس : الانخزال مشية في تثاقل والاختزال الانفراد والحذف والاقتطاع ، وانخزل عن جوابي لم يعبأ به ، وفي كلامه : انقطع« لمرضاته » أي لما يوجب رضاه عنا.

الحديث الرابع والعشرون : ضعيف كالموثق أو كالحسن.

« كمثل ماء البحر » أي المالح ، وهذا من أحسن التمثيلات للدنيا وهو مجرب فإن الحريص على جمع الدنيا كلما ازداد منها ازداد حرصه عليها ، وأيضا كلما حصل منها لا بد له لحفظه ونموه وسائر ما يليق به ويناسبه من أشياء أخرى ولا ينتهي إلى حد فيصرف جميع عمره في تحصيلها حتى يموت ولا يبقى له إلا حسراتها وعقوباتها أعاذنا الله منها.

الحديث الخامس والعشرون : ضعيف على المشهور معتبر.

وقال في النهاية : فيه حواريي من أمتي أي خاصتي من أصحابي وناصري ،

__________________

(١) سورة ق : ٣٣.

٣١٤

عليه‌السلام يقول قال عيسى ابن مريم صلوات الله عليه للحواريين : يا بني إسرائيل لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا كما لا يأسى أهل الدنيا على ما فاتهم من دينهم إذا أصابوا دنياهم.

_________________________________________

ومنهالحواريون أصحاب عيسىعليه‌السلام أي خلصائه وأنصاره ، وأصله من التحوير التبييض قيل : إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها ، ومنه : الخبز الحوارى الذي نخل مرة بعد مرة قال الأزهري : الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب ، وقال الراغب : الحواريون أنصار عيسىعليه‌السلام قيل : كانوا قصارين ، وقيل : كانوا صيادين ، وقال بعض العلماء : إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم ، المشار إليه بقوله : «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »(١) قال : وإنما قيل : كانوا قصارين على التمثيل والتشبيه ، وتصور منه من لم يتخصص بمعرفة الحقائق المهنة المتداولة بين العامة ، قال : وإنما قال : كانوا صيادين لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة وقودهم إلى الحق ، انتهى.

والأسي الحزن على فوت الفائت ، والغرض لا يكن أهل الدنيا علي باطلهم أشد حرصا منكم على الحق.

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣.

٣١٥

باب

١ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال إن الله عز وجل يقول وعزتي وجلالي وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هوى

_________________________________________

باب

إنما لم يعنون هذا الباب لأنه قريب من الباب الأول فكأنه داخل في عنوانه لأنه فيه المنع عن إيثار هوى الأنفس وشهواتها على رضا الله تعالى ، وليس هذا الإيثار إلا لحب الدنيا وشهواتها ، لكن لما لم تذكر في الخبرين ذكر الدنيا صريحا أفرد لهما بابا وألحقه بالباب السابق.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور ، ولا يضر عندي ضعف المعلى.

قوله تعالى :وعزتي ، العزة القوة والشدة والغلبة ، وقيل : عزته عبارة عن كونه منزها عن سمات الإمكان وذل النقصان ، ورجوع كل شيء إليه وخضوعه بين يديه ، والعظمة في صفة الأجسام كبر الطول والعرض والعمق ، وفي وصفه تعالى عبارة عن تجاوز قدره عن حدود العقول والأوهام حتى لا تتصور الإحاطة بكنه حقيقته عند ذوي الأفهام وعلوه علو عقلي على الإطلاق بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته ، وذلك لأن أعلى مراتب الكمال العقلي هو مرتبته العلية ولما كانت ذاته المقدسة مبدأ كل موجود حسي وعقلي ، لا جرم كانت مرتبته أعلى مراتب العقلية مطلقا وله العلو المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء ، وعن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه ، وهذا معنى قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : سبق في العلو فلا أعلى منه ، وارتفاع مكانه كناية عن عدم إمكان الإشارة إليه بالعقول والحواس« لا يؤثر عبد هواي على هوى نفسه » المراد بهوى النفس ميلها إلى ما هو مقتضى طباعها من اللذات الحاضرة الدنيوية والخروج عن الحدود الشرعية ، وبإيثار هواه سبحانه

٣١٦

...........................................................................

_________________________________________

إعراضها عن هذا الميل ورجوعها إلى ما يوجب قرب الحق تعالى ورضاه ، وقد قال تعالى مخاطبا لداودعليه‌السلام : «إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ »(١) فبين سبحانه أن متابعة الهوى أي ما تهوي الأنفس مخالفة لاتباع سبيل الله وسلوك طريق الحق.

ثم بين أن متابعة الهوى متفرع على نسيان يوم الحساب فإن من تذكر الآخرة ونعيمها وعذابها لا يتبع الأهواء النفسانية والدواعي الشهوانية وقال سبحانه : «فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى »(٢) فأشار إلى أن إيثار الحياة الدنيا مقابل لنهي النفس عن الهوى واتباع الهوى إيثار الحياة الدنيا ولذاتها على الآخرة. وقال سبحانه : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً »(٣) وقال عز من قائل : «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ »(٤) ومثله في الكتاب العزيز كثير.

قوله عليه‌السلام : ألا كففت عليه ضيعته ، قال في النهاية : فيه أمرت أن لا أكف شعرا ولا ثوبا يعني في الصلاة يحتمل أن يكون بمعنى المنع أي لا أمنعها من الاسترسال حال السجود ، ليقعا على الأرض ، ويحتمل أن يكون بمعنى الجمع أي لا يجمعهما ويضمهما ، ومنه الحديث : المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ، أي يجمع عليه

__________________

(١) سورة ص : ٢٦.

(٢) سورة النازعات : ٤٠.

(٣) سورة الفرقان : ٤٣.

(٤) سورة القصص : ٥٠.

٣١٧

نفسه إلا كففت عليه ضيعته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

_________________________________________

معيشته ويضمها إليه ، وقال في حديث سعد : إني أخاف على الأعناب الضيعة أي أنها تضيع وتتلف ، والضيعة في الأصل المرة من الضياع ، وضيعة الرجل في غير هذا ما يكون منه معاشه كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك ، ومنه الحديث : أفشى الله عليه ضيعته أي أكثر عليه معاشه ، انتهى.

وأقول : هذه الفقرة تحتمل وجوها : الأول : ما ذكره في النهاية أي جمعت عليه ضيعته ومعيشته ، والتعدية بعلى لتضمين معنى البركة أو الشفقة ونحوهما ، أو على بمعنى إلى كما أومأ إليه في النهاية فيحتاج أيضا إلى تضمين.

الثاني : أن يكون الكف بمعنى المنع وعلى بمعنى عن والضيعة بمعنى الضياع ، أي أمنع عنه ضياع نفسه وما له وولده وسائر ما يتعلق به ، ويؤيده أن الصدوق (ره) رواه في الخصال عن ابن الوليد عن الصفار عن الحسن بن علي بن فضال عن عاصم عن أبي عبيدة ، وفيه : وكففت عنه ضيعته.

الثالث : ما ذكره بعض المحققين وتبعه غيره أنه من الكفاف وهو ما يفي بمعيشته ويغنيه عن غيره ، أي جعلت معيشته مباركا عليه كفافا له ، ولا يخفى بعده لفظا إذ لا تساعده اللغة.

قوله تعالى :وضمنت ، على صيغة المتكلم من باب التفعيل أي جعلت السماوات والأرض ضامنتين لرزقه كناية عن تسبيب الأسباب السماوية والأرضية له وربما يقرأ بصيغة الغائب على بناء المجرد ، ورفع السماوات والأرض ، وهو بعيد« وكنت له من وراء تجارة كل تاجر » الوراء فعال ولامه همزة عند سيبويه وأبي علي الفارسي ، وياء عند العامة ، وهو من ظروف المكان بمعنى قدام وخلف ، والتجارة مصدر بمعنى البيع والشراء للنفع وقدير أدبها ما يتجر به من الأمتعة ونحوها على تسمية المفعول باسم المصدر ، وهذه الفقرة أيضا تحتمل وجوها :

٣١٨

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن ابن سنان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال قال الله عز وجل وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي وعلو ارتفاعي لا يؤثر عبد مؤمن هواي على هواه في شيء

_________________________________________

الأول : أن يكون المعنى كنت له عقب تجارة كل تاجر أسوقها إليه أي ألقى محبته في قلوب التجار ليتجروا له ويكفوا مهماته.

الثاني : أن يكون المعنى كنت له عوضا من تجارة كل تاجر فإن كل تاجر يتجر لمنفعة دنيوية أو أخروية ، ولما أعرض عن جميع ذلك كنت أنا ربح تجارته ، وهذا معنى رفيع دقيق خطر بالبال ، لكن لا يناسب إلا من بلغ في درجات المحبة أقصى مراتب الكمال.

الثالث : الجمع بي المعنيين أي كنت له بعد حصول تجارة كل تاجر له.

الرابع : ما قيل : أن كل تاجر في الدنيا للآخرة يجد نفع تجارته فيها من الجنة ونعيمها ، والله سبحانه بذاته المقدسة والتجليات اللائقة وراء هذا لهذا العبد ، ففيه دلالة على أن للزاهدين في الجنة نعمة روحانية أيضا وهو قريب من الثالث.

الخامس : أن يكون الوراء بمعنى القدام أي كنت له أنيسا ومعينا ومحبا ومحبوبا قبل وصوله إلى نعيم الآخرة الذي هو غاية مقصود التاجرين لها.

السادس : ما قيل : أي أنا أتجر له فأربح له مثل ربح جميع التجار لو اتجروا له ، ولا يخفى بعده.

الحديث الثاني : صحيح.

والبهاء الحسن والمراد الحسن المعنوي ، وهو الاتصاف بجميع الصفات الكمالية« إلا جعلت غناه في نفسه » أي أجعل نفسه غنية قانعة بما رزقته ، لا بالمال فإن الغني بالمال الحريص في الدنيا أحوج الناس ، وإنما الغني غنى النفس فكلمة في للتعليل ، و

٣١٩

من أمر الدنيا إلا جعلت غناه في نفسه وهمته في آخرته وضمنت السماوات والأرض رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.

باب القناعة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن زيد الشحام ، عن عمرو بن هلال قال قال أبو جعفرعليه‌السلام إياك أن تطمح بصرك إلى من فوقك فكفى بما قال الله عز وجل ـ لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله «فَلا تُعْجِبْكَ

_________________________________________

يحتمل الظرفية أيضا بتكلف« وهمته » أي عزمه وقصده في آخرته ففي للتعليل أيضا ، أو المعنى أنها مقصورة في آخرته ولا يوجه همته إلى الدنيا أصلا.

باب القناعة

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« أن تطمح بصرك » الظاهر أنه على بناء الأفعال ونصب البصر ، ويحتمل أن يكون على بناء المجرد ورفع البصر أي لا ترفع بصرك بأن تنظر إلى من هو فوقك في الدنيا ، فتتمنى حاله ولا ترضى بما أعطاك الله ، وإذا نظرت إلى من هو دونك في الدنيا ترضى بما أوتيت وتشكر الله عليه وتقنع به ، قال في القاموس : طمح بصره إليه كمنع فهي طامح ، وأطمح بصره رفعه ، انتهى.

« فكفى بما قال الله » الباء زائدة أي كفاك للاتعاظ ولقبول ما ذكرت ما قال الله لنبيه وإن كان المقصود بالخطاب غيره «وَلا تُعْجِبْكَ » كذا في النسخ التي عندنا والظاهر « فلا » إذ الآية في سورة التوبة في موضعين أحدهما «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ »(١) والأخرى : «وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ »(٢) وما ذكر هنا لا يوافق شيئا منهما ، وإن احتمل أن يكون نقلا بالمعنى إشارة إلى الآيتين معا.

__________________

(١) الآية : ٥٥.

(٢) الآية : ٨٥.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434