مرآة العقول الجزء ٩

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 439

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 439
المشاهدات: 21920
تحميل: 8820


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 439 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21920 / تحميل: 8820
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 9

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال الفقر الموت الأحمر فقلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام الفقر من الدّينار والدّرهم فقال لا ولكن من الدّين.

_________________________________________________

وقال في النهاية : وفيه لو تعلمون ما في هذه الأمّة من الموت الأحمر يعني القتل لـمّا فيه من حمرّة الدم أو لشدته يقال : موت أحمرّ أي شديد ، ومنه حديث عليُّعليه‌السلام كنا إذاً أحمرّ البأس اتقينا برسول الله ، أي إذاً اشتدت الحربّ استقبلنا العدوّ به وجعلناه لنا وقاية ، وقيل : أراد إذاً اضطرمت نار الحربّ وتسعرت كما يقال في الشر بين القوم اضطرمت نارهم تشبيها بحمرّة النّار ، وكثيراً ما يطلقون الحمرّة على الشدة.

« ولكن من الدّين » نظيره قول أمير المؤمنينعليه‌السلام الفقر والغنى بعدّ العرض على الله ، والمعنى أنّهما يظهران بعدّ الحساب ، وهو ما أشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : أتدرون ما المفلس؟ فقالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع له ، فقال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضربّ هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطايأهمّ فطرحت عليه ثمَّ طرح في النّار ، بل قد يقال أن المفلس حقيقة هو هذا ، ويحتمل أن يراد بقولهعليه‌السلام : ولكن من الدّين الفقر القلبي وضدّه الغنى القلبي فالفقير على هذا من ليس له في الدّين معرفة وعلم بأحكامه ، ولا تقوى ولا ورع وغيرها من الصفات الحسنة كذا قيل.

وأقول : يحتمل أن يكون المعنى : الّذي يضرّ بالدّين ولا يصبر عليه ويتوسل بالظالمين والفاسقين كما مرّ.

٣٨١

(باب)

(أن للقلب أذنين ينفث فيهما الملك والشيطان)

١ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ما من قلب إلّا وله أذنان على إحداهما ملكٌ مرشدٌ وعلى الأخرى شيطان مفتّن هذا يأمره وهذا يزجره الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها

_________________________________________________

باب أن للقلب أذنين ينفث فيهما الملك والشيطان

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

إعلم أنّ معرفة القلب وحقيقته وصفاته ممّا خفي على أكثر الخلق ولم يبيّن أئمّتناعليهم‌السلام ذلك إلّا بكنايات وإشارات ، والأحوط لنا أن نكتفي من ذلك بما بينوه لنا من صلاحه وفساده وآفاته ودرجاته ، ونسعى في تكميل هذه الخلقة العجيبة واللطيفة الربانية وتهذيبها عن الصفات الذميمة الشيطانية وتحليتها بالأخلاق الملكية الروحانية لنستعدّ بذلك للعروج إلى أعلى مدارج الكمال وإفاضة المعارف من حضرة ذي الجلال ، ولا يتوقّف ذلك على معرفة حقيقة القلب ابتداء فإنّه لو كان متوقفا على ذلك لأوضح موالينا وأئمتناعليهم‌السلام لنا ذلك بأوضح البيان وحيث لم يبينوا ذلك لنا فالأحوط بنا أن نسكت عما سكت عنه الكريم المنان.

لكن نذكر هنا بعض ما قيل في هذا المقام ونكتفي بذلك والله المستعان.

فاعلم أنّ المشهور بين الحكماء ومن يسلك مسلكهم أنّ المراد بالقلب النفس الناطقة وهي جوهر روحاني متوسّط بين العالم الروحاني الصرف والعالم الجسماني يفعل فيما دونه وينفعل عما فوقه ، وإثبات الأذن له على الاستعارة والتشبيه ، قال بعض المحقّقين : القلب شرف الإنسان وفضيلته الّتي بها فاق جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه ، الّتي في الدنيا جماله وكماله وفخره ، وفي الآخرة عدّته

٣٨٢

وهو قول الله عزّ وجلّ «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ »(١) .

_________________________________________________

وذخره ، وإنّما استعدّ للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه ، فالقلب هو العالم بالله ، وهو عامل لله وهو الساعي إلى الله وهو المتقربّ إليه ، وإنما الجوارح أتباع له وخدم وآلات يستخدمها القلب ، ويستعملها استعمال الملك للعبيد واستخدام الراعي للرعية ، والصانع للآلة ، والقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله ، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا بغير الله ، وهو المطالب والمخاطب وهو المثاب والمعاقب وهو الّذي يستسعدّ بالقربّ من الله تعالى فيفلح إذا زكاه ، وهو الّذي يخيب ويشقي إذا دنسه ودساه ، وهو المطيع لله بالحقيقة.

وإنّما الّذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره وهو المعاصي المتمردّ على الله ، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه ، إذ كل إناء يترشح بما فيه ، وهو الّذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربّه ، وهو الّذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه ، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربّه ، ومن جهل بقلبه فهو بغيره أجهل.

وأكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم ، فإن الله يحول بين المرّء وقلبه ، وحيلولته بأن لا يوفقه لمشاهدته ومرّاقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرَّحمن ، وأنه كيف يهوي مرّة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليّين ، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين ، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه فهو ممّن قال الله تعالى فيه : «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسأهمّ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٢) فمعرفة القلب وحقيقة

__________________

(١) سورة ق : ١٨.

(٢) سورة الحشر : ١٩.

٣٨٣

_________________________________________________

أوصافه أصل الدّين وأساس طريق السالكين.

فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ النفس والروح والقلب والعقل ألفاظ متقاربة المعاني فالقلب يطلق لمعنيين أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وهو لحم مخصوص وفي باطنه تجويف ، وفي ذلك التجويف دم أسود وهو منبع الروح ومعدنه ، وهذا القلب موجود للبهائم بل هو موجود للميت ، والمعنى الثّاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق ، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته فإن تعلّقها به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة أو تعلق المتمكّن بالمكان ، وتحقيقه يقتضي إفشاء سر الروح ولم يتكلّم فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس لغيره أن يتكلّم فيه.

والروح أيضاً يطلق على معنيين أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني ، وينتشر بواسطة العروق الضواربّ إلى سائر أجزاء البدن ، وجريانها في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والسمع والبصر والشم منها على أعضائها يضاهي فيضان النور من السرّاج الّذي يدار في زوايا الدار ، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلّا ويستنير به فالحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان ، والروح مثالها السرّاج ، وسريان الروح وحركتها في الباطن مثاله مثال حركة السرّاج في جوانب البيت بتحريك محركه ، والأطباء إذا أطلقوا اسم الروح أرادوا به هذا المعنى ، وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب.

والمعنى الثّاني هو اللطيفة الربانية العالمة المدركة من الإنسان ، وهو الّذي شرحناه في أحد معنيي القلب ، وهو الّذي أراده الله تعالى بقوله : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمرّ رَبِّي »(١) وهو أمرّ عجيب رباني يعجز أكثر العقول و

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٥.

٣٨٤

_________________________________________________

الأفهام عن درك كنه حقيقته.

والنفس أيضاً مشترك بين معاني ، وما يتعلّق بغرضنا منه معنيان : أحدهما : أن يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان ، وهذا الاستعمال هو الغالب على الصوفيّة ، لأنّهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان فيقولون لا بد من مجاهدة النفس وكسرها ، وإليه الإشارة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعدى عدوك نفسك الّتي بين جنبيك ، المعنى الثّاني : هو اللطيفة الّتي ذكرناها ، الّتي هو الإنسان في الحقيقة ، وهي نفس الإنسان وذاته ، ولكنّها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا سكنت تحت الأمرّ وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سمّيت النفس المطمئنة ، قال تعالى : «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مرّضِيَّةً »(١) فالنفس بالمعنى الأوّل لا يتصور رجوعها إلى الله فإنها مبعدَّةٌ عن الله تعالى ، وهو من حزب الشيطان ، وإذا لم يتمّ سكونها ولكنّها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سمّيت النفس اللوامة ، لأنّها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاها ، قال الله تعالى : «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ »(٢) وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت مقتضى الشهوات ودواعي الشيطان ، سمّيت النفس الأمارة بالسوء قال الله تعالى أخباراً عن يوسفعليه‌السلام : «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ »(٣) وقد يجوز أن يقال : الأمارة بالسوء هي النفس بالمعنى الأوّل.

فإذن النفس بالمعنى الأوّل مذمومة غاية الذم وبالمعنى الثّاني محمودة لأنّها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وبسائر المعلومات.

والعقل أيضاً مشتركة لمعان مختلفة ، والمناسب هنا معنيان : أحدهما : العلم بحقّاًئق الأمور أي صفة العلم الّذي محلّه القلب ، والثّاني أنه قد يطلق ويراد به

__________________

(١) سورة الفجر : ٢٨. (٢) سورة القيامة : ٢.

(٣) سورة يوسف : ٥٣.

٣٨٥

_________________________________________________

المدرك المعلوم ، فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة.

فإذا قد انكشف لك أنّ معاني هذه الأسامي موجودة وهو القلب الجسماني ، والروح الجسماني ، والنفس الشهوانية والعقل العلمي ، وهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة ، ومعنى خامس وهو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان ، فالألفاظ الأربعة بجملتها يتواردّ عليها ، فالمعاني خمسة والألفاظ أربعة ، وكل لفظ أطلق لمعنيين ، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها ، فترأهمّ يتكلّمون في الخواطر ، ويقولون هذا خاطر العقل ، وهذا خاطر الروح ، وهذا خاطر النفس ، وهذا خاطر القلب ، وليس يدري الناظر اختلاف معاني الأسماء.

وحيث وردّ في الكتاب والسنّة لفظ القلب ، فالمرّاد به المعنى الّذي يفقه من الإنسان ، ويعرف حقيقة الأشياء ، وقد يكنى عنه بالقلب الّذي في الصدر ، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة ، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ، ولكنّها تتعلق به بواسطة القلب ، فتعلّقها الأوّل بالقلب فكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها ، ولذا شبه القلب بالعرش والصدر بالكرسي.

ثمَّ قال في بيان تسلط الشيطان على القلب : اعلم أن القلب مثال قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب ، ومثاله أيضاً مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب ، أو هو مثال مرّآة منصوبة يجتاز عليها أنواع الصور المختلفة ، فيتراءى فيها صورة بعدّ صورة ولا يخلو عنها ، أو مثال حوض ينصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه ، وإنّما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال ، إمّا من الظاهر فالحواسّ الخمس وإمّا من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المرّكبة في مزاج الإنسان ، فإنه إذا أدرك بالحواسّ شيئاً حصل منه أثر في القلب ، وإن كفّ عن الإحساس والخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال ، والمقصود أن القلب

٣٨٦

_________________________________________________

في التقلّب والتأثّر دائماً من هذه الآثار ، وأخصّ الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار ، وأعني به إدراكاته علوما إمّا على سبيل التجدد وإمّا على سبيل التذكر ، فإنّها تسمّى خواطر من حيث إنها تخطر بعدّ أن كان القلب غافلا عنها ، والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النيّة والعزم والإرادة إنمّا تكون بعدّ خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الأفعال الخواطر ، ثمَّ الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ويحرك العزم النيّة ، والنيّة تحرك الأعضاء.

والخواطر المحرّكة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني ما يضرّ في العاقبة وإلى ما يدعو إلى الخير أعني ما ينفع في الآخرة ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقر إلى اسمين مختلفين فالخاطر المحمود يسمى إلهاما ، والخاطر المذموم أعنّي الداعي إلى الشر يسمى وسواساً ، ثمَّ إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة وكل حادث لا بد له من سبب ، ومهماً اختلفت الحوادث دل على اختلاف الأسباب.

هذا ما عرف من سنة الله عزّ وجلّ في ترتيب المسبباًت على الأسباب ، فمهما استنار حيطان البيت بنور النّار وأظلم سقفه وأسود بالدخان ، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة ، كذلك لأنوار القلب وظلماته سبباًن مختلفان ، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً ، واللطف الّذي به يتهيأ القلب لقبول إلهام الملك يسمى توفيقا ، والّذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا ، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحقّ والوعدّ بالمعروف ، وقد خلقه الله وسخره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضدّ ذلك ، وهو الوعدّ بالشر والأمرّ بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر ، والوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان ، وإليه

٣٨٧

_________________________________________________

الإشارة بقوله تعالى : «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ »(١) .

فإن الموجودات كلّها متقابلة مزدوجة إلّا الله تعالى فإنه لا مقابل له ، بل هو الواحد الحقّ الخالق للأزواج كلّها ، والقلب متجاذب بين الشيطان والملك ، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : للقلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير ، وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ولمة من العدوّ إيعاد بالشر وتكذيب بالحقّ ونهي عن الخير ، فمن وجد ذلك فليتعوذ من الشيطان ثمَّ تلا : «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ »(٢) الآية.

ولتجاذب القلب بين هاتين اللّمتين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرَّحمن ، والله سبحانه منزه عن أن يكون له إصبع مرّكبة من دم ولحم وعظم ينقسم بالأنامل ، ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير ، فإنّك لا تريد إصبعك لشخصها بل لفعلها في التقليب والترديد ، وكما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك فالله تعالى إنما يفعل ما يفعله باستسخار الملك والشيطان ، وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلاً ، والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملائكة ولقبول آثار الشياطين صلاحاً متساوياً ، ليس يترجح أحدهما على الآخر ، وإنما يترجح أحد الجانبين باتّباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الشهوة والغضب ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى ، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه ، لأنّ الهوي هو مرّعى الشيطان ومرّتعه ، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ، ولـمّا كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير

__________________

(١) سورة الذاريات : ٤٩.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٨.

٣٨٨

_________________________________________________

ذلك من صفات البشريّة المتشعبّة عن الهوى لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة ، ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما منكم من أحد إلّا وله شيطان قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلّا أن الله عزّ وجلّ أعانني عليه فأسلم فلم يأمرّني إلّا بخير.

وإنّما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرّف إلّا بواسطة الشهوة ، فمن أعانه الله على شهوته حتّى صار لا ينبسط إلّا حيث ينبغي وإلى الحدّ الّذي ينبغي ، فشهوته لا تدعوه إلى الشر ، فالشيطان المتدرع بها لا يأمرّ إلّا بالخير ، ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا ومتقضيات الهوى وجد الشيطان مجالاً فوسوس ، ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجالة وأقبل الملك وألهم ، فالتطاردّ بين جندي الملائكة والشيطان في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيسكن ويستوطن ، ويكون اجتياز الثّاني اختلاسا ، وأكثر القلوب قد فتحها جنود الشيطان وملكوها ، فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة ، ومبدء استيلائها اتباع الهوى ، ولا يمكن فتحها بعدّ ذلك إلّا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات ، وعمارته بذكر الله إذ هو مطرح أثر الملائكة ، ولذلك قال الله تعالى : «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ »(١) .

وكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ، فلذلك تسلط عليه الشيطان وقال تعالى : «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ »(٢) إشارة إلى أن الهوى إلهه ومعبوده فهو عبد الهوى لا عبد الله ، ولا يمحو وسوسة الشيطان عن القلب إلّا ذكر شيء سوى ما يوسوس به ، لأنه إذا حضر في القلب ذكر شيء انعدم عنه ما كان فيه من قبل ، ولكن كل شيء سوى ذكر الله وسوى ما يتعلق به ، فيجوز أن يكون أيضاً مجالاً

__________________

(١) سورة الحجر : ٤٢.

(٢) سورة الجاثية : ٢٣.

٣٨٩

_________________________________________________

للشيطان ، فذكر الله سبحانه هو الّذي يؤمن جانبه ، ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ، ولا يعالج الشيطان إلّا بضدّه وضدّ جميع وساوس الشيطان ذكر الله تعالى ، والاستعاذة به والتبري عن الحول والقوة ، وهو معنى قولك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليُّ العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلّا المتقون الذين الغالب عليهم ذكر الله ، وإنما الشيطان يطوف بقلوبهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة ، قال الله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُونَ »(١) وقال مجاهد في قوله : «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ » قال : هو منبسط على قلب الإنسان ، فإذا ذكر الله سبحانه خنس وانقبض ، وإذا غفل انبسط على عقله فالتطاردّ بين ذكر الله ووسوسة الشيطان كالتطاردّ بين النور والظلام وبين الليل والنهار ، ولتطاردهما قال الله تعالى : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْسأهمّ ذِكْرَ اللهِ »(٢) وفي الحديث : أن الشيطان واضع خطمه(٣) على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإن نسي الله التقم قلبه.

وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم الآدمي ودمه فسلطنة الشيطان أيضاً سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ، ولذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع ، وذلك لأن الجوع يكسر الشهوة ومجرى الشيطان الشهوات ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال الله تعالى أخباراً عن إبليس : «لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ »(٤) وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الشيطان قعدّ لابن آدم في طرقه فقعدّ له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتترك دينك ودين آبائك فعصاه

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠١.

(٢) سورة المجادلة : ١٩.

(٣) الخطم من الدابّة : مقدم أنفها وفمها.

(٤) سورة الأعراف : ١٦.

٣٩٠

_________________________________________________

فأسلم ، ثمَّ قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك ونساءك فعصاه فهاجر ، ثمَّ قعدّ له بطريق الجهاد ، فقال : أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك وتقسم مالك فعصاه فجاهد ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن فعل ذلك فمات كان حقّاً على الله أن يدخله الجنّة

فقد ذكرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معنى الوسوسة فإذا الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب ويفتقر إلى اسم تعرفه ، فاسم سببه الشيطان ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته ، ولذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من أحد إلّا وله شيطان.

وقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان ، فبعدّ هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان ، وأنه جسم لطيف أو ليس بجسم ، وإن كان جسما فكيف يدخل في بدن الإنسان ما هو جسم ، فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة ، بل مثال الباحث عن هذا كمثال من دخل في ثوبه حية وهو محتاج إلى دفع ضرارتها ، فاشتغل بالبحث عن لونها وطولها وعرضها ، وذلك عين الجهل لمصادفة الخواطر الباعثة على الشّرور ، وقد علمت ، ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة ، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور المستقبل عدوّ فقد عرف العدوّ فينبغي أن يشتغل بمجاهدته.

وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى : «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عدوّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ »(١) وقال تعالى : «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عدوّ مُبِينٌ »(٢) فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدوّ عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه ، نعم ينبغي أن يسئل عن سلاحه ليدفعه عن

__________________

(١) سورة فاطر : ٦. (٢) سورة يس : ٦٠.

٣٩١

_________________________________________________

نفسه ، وسلاح الشيطان الهوى والشهوات ، وذلك كاف للعالمين ، فإمّا معرفة صفة ذاته وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات ، ولا يحتاج في المعاملة إلى معرفته « إلى آخر ما حقّقه في هذا المقام ».

وأقول : ما ذكره أن دفع الشيطان لا يتوقّف على معرفته حقّ لكن تأويل الملك والشيطان بما أومأ إليه في هذا المقام وصرّح به في غيره مع تصريح الكتاب بخلافه جرأة على الله تعالى وعلى رسوله ، كما حققناه في كتابنا الكبير والتوكّل على الله العليم الخبير ، وإنّما بسطنا الكلّ ام في هذا المقام ليسهل عليك فهم الأخبار الماضية والآتية.

« وشيطان مفتّن » بكسر التاء المشددة أو المخففة أي مضل ، في القاموس : الفتنة بالكسر الخبرة وإعجابك بالشيء ، فتنة يفتنه فتنا وفتونا وافتنه ، والضلال والإثمَّ والكفر والفضيحة والعذاب ، وإذابة الذهب والفضّة ، والإضلال والجنون والمحنة ، واختلاف النّاس في الآراء ، وفتنة يفتنه أوقعه في الفتنة كفتنه وافتنه. قال سبحانه : «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ » قال البيضاوي : مقدر بأذكر ، أو متعلّق بأقربّ ، يعني في قوله : «وَنَحْنُ أَقْربّ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ » أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، أي مقاعدّ كالجليس ، فحذف الأوّل لدلالة الثّاني عليه كقوله : « فإني وقيار بها لغريب »(١) وقيل : يطلق الفعيل للواحد والمتعدد كقوله : «وَالْمَلائِكَةُ بَعدّ ذلِكَ ظَهِيرٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ » ما يرمى به من فيه «إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ » ملك يرقب عمله «عَتِيدٌ » معدّ حاضر ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب ، انتهى.

__________________

(١) عجز بيت لضانىء بن حاث البرجمى وصدره : « فمن يك أمسى بالمدينة رحله » والشعر في جامع الشواهد.

٣٩٢

٢ - الحسينُ بن محمّد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : إنَّ للقلب أذنين فإذا همّ العبد بذنب قال له روح

_________________________________________________

وأقول : ظاهر أكثر الأخبار الواردة من طريق الخاصّ والعام أن المتلقيين والرقيب العتيد هما الملكان الكاتبان للأعمال ، فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيّئات ، وظاهر هذا الخبر أن الرقيب والعتيد الملك والشيطان ، بل المتلقيين أيضاً ، ويحتمل أن يكون هذا بطن الآية أو يكون الرقيب العتيد صاحب اليمين ويكون الزاجر والكاتب متحّداً.

الحديث الثاني : مجهول.

« فإذا هم العبد » للنفس طريق إلى الخير وطريق إلى الشر ، وللخير مشقّة حاضرة زائلة ولذة غائبة دائمة ، وللشر لذة حاضرة فانية ومشقّة غائبة باقية ، والنفس يطلب اللذة ويهربّ عن المشقّة ، فهو دائماً متردد بين الخير والشر ، فروح الإيمان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ، والشيطان بالعكس ، وقد مرّ بعض الكلّ ام في روح الإيمان في كتاب الحجّة في باب الأرواح الّتي فيهمعليهم‌السلام .

وهنا يحتمل وجوهاً : « الأوّل » : أن يكون المرّاد به الملك كما صرّح به في بعض الأخبار وسمّي بروح الإيمان ، لأنه مؤيّد له وسبب لبقائه فكأنه روحه وبه حياته.

الثّاني : أن يراد به العقل فإنه أيضاً كذلك ، ومتى لم يغلب الهوى والشهوات النفسانية العقل لم يرتكب الخطيئة ، فكان العقل يفارقه في تلك الحالة.

الثالث : أن يراد به الروح الإنساني من حيث اتصافه بالإيمان فإنها من هذه الجهة روح الإيمان ، فإذا غلبها الهوى ولم يعمل بمقتضاها فكأنّها فارقته.

الرابع : أن يراد به قوة الإيمان وكماله ونوره فإن كمال الإيمان باليقين واليقين بالله واليوم الآخر لا يجتمع مع ارتكاب الكبائر والذُّنوب الموبقة ، فمفارقته

٣٩٣

الإيمان : لا تفعل ؛ وقال له الشيطان افعل وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان.

_________________________________________________

كناية عن ضعفه فإذا ندم بعدّ انكسار الشهوة ممّا فعل وتفكر في الآخرة وبقائها وشدّة عقوباتها ، وخلوص لذّاتها ، يقوّى يقينه فكأنّه يعود إليه.

الخامس : أن يراد به نفس الإيمان ، وتكون الإضافة للبيان فإن الإيمان الحقيقي ينافي ارتكاب موبقات المعاصي كما أشير إليه بقولهمعليهم‌السلام : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، فإن من آمن وأيقن بوجود النّار وإيعاد الله تعالى على الزنا أشدّ العذاب فيها كيف يجترئ على الزنا وأمثالها ، إذ لو أو عده بعض الملوك على فعل من الأفعال ضرباً شديداً أو قتلاً بل ضرباً خفيفا أو إهانة ، وعلم أن الملك سيطلّع عليه لا يرتكب هذا الفعل ، وكذا لو كان صبي من غلمانه أو ضعيف من بعض خدمه فكيف الأجانب حاضراً ، لا يفعل الأمور القبيحة ، فكيف يجتمع الإيمان بأن الملك القادر القاهر الناهي الآمرّ مطلع على السرائر ولا تخفى عليه الضمائر مع ارتكاب الكبائر بحضرته ، وهل هذا إلّا من ضعف الإيمان؟ ولذا قيل : الفاسق إمّا كافر أو مجنون.

السادس : أن يقال في الكافر ثلاثة أرواح هي موجودة في الحيوانات ، وهي الروح الحيوانية والقوة البدنيّة والقوة الشهوانية فإنّهم ضيعوا الروح الّتي بها يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان وجعلوها تابعة للشهوات النفسانيّة والقوي البهيمية فإمّا أن تفارقهم بالكلّ يّة كما قيل ، أو لـمّا صارت باطلة معطلة فكأنّها فارقتهم ولذا قال تعالى : «إِنْ هُمْ إلّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً »(١) وفي المؤمنين أربعة أرواح فإنه يتعلق بهم روح يصيرون به أحياء بالحياة المعنويّة الأبدية ، فهي مع الأرواح البدنيّة تصير أربعاً ، وفي الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام روح خامس هو روح

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٤.

٣٩٤

٣ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليُّ بن الحكم ، عن سيف بن عميرة ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ما من مؤمن إلّا ولقلبه أذنان في جوفه أذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس وأذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله

_________________________________________________

القدس كما سيأتي تفصيله.

وهذا على بعض الوجوه قريب من الوجه الثالث. والحاصل أن الإنسان في بدو الأمرّ عند كونه نطفة جماد ولها صورة جماديّة ثمَّ يترقى إلى درجة النباتات فتتعلق به نفس نباتية ثمَّ يترقى إلى أن يتعلق به نفس حيوانية هي مبدء للحس والحركة ، ثمَّ يترقّى إلى أن يتعلق به روح آخر هو مبدء الإيمان ومنشأ سائر الكمالات ، ثمَّ يترقى إلى أن يتعلق به روح القدس فيحيط بجميع العوالم ويصير محلاً للإلهامات الربانيّة ، والإفاضات السبحانية.

وقال بعضهم بناء على القول بالحركة في الجوهر : أن الصورة النوعية الجمادية المنوية تترقى وتتحرك إلى أن تصير نفساً نباتية ثمَّ تترقى إلى أن تصير نفساً حيوانية وروحاً حيوانيا ثمَّ تترقى إلى أن تصير نفسه مجردة على زعمّه مدركة للكليات ، ثمَّ تترقى إلى أن تصير نفسا قدسياً وروح القدس ، وعلى زعمّه يتحد بالعقل.

هذا ما حضرني ممّا يمكن أن يقال في حل هذه الأخبار باختلاف مسالك العلماء ومذاهبهم في تلك الأمور ، والأوّل أظهر على قواعدّ متكلمي الإماميّة وظواهر الأخبار ، والله المطلع على غوامض الأسرار وحججه صلوات الله عليهم ما تعاقب الليل والنهار ، وأقول : البارز في قولهعليه‌السلام : على بطنها راجع إلى المرّأة المزني بها في الزنا ، ذكره على سبيل المثال.

الحديث الثالث : صحيح.

وقوله : في جوفه ، تأكيد لئلّا يتوهّم أن المرّاد بهما الأذنان اللتان في الرأس لأن لهما أيضاً طريقاً إلى القلب ، وقال البيضاوي : «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ » أي الوسوسة

٣٩٥

المؤمن بالملك ، فذلك قوله : «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »(١) .

_________________________________________________

كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأمّا المصدر فبالكسر كالزلزال ، والمرّاد به الموسوس سمّي به مبالغة «الْخَنَّاسِ » الّذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإنسان ربّه «الّذي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاس » إذا غفلوا عن ذكر ربهم ، وذلك كالقوة الوهمية فإنها تساعدّ العقل في المقدمات ، فإذا آل الأمرّ إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه «مِنَ الجنّة وَالنّاس » بيان للوسواس أو للذي أو متعلّق بيوسوس أي يوسوس في صدورهم من جهة الجنّة والنّاس ، وقيل : بيان للنّاس ، على أن المرّاد به ما يعم القبيلتين وفيه تعسف إلّا أن يراد به الناسي كقوله : «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ »(٢) فإن نسيان حقّ الله يعم الثقلين.

وقال الطبرسيقدس‌سره : فيه أقوال : أحدها : أن معناه من شر الوسوسة الواقعة من الجنّة ، والوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي ، وأصله الصوت الخفي والوسوسة كالهمهمة ، ومنه قولهم : فلان موسوس إذا غلب عليه ما يعتريه من المرّة(٣) يقال : وسوس يوسوس وسواساً ووسوسة وتوسوس ، والخنوس : الاختفاء بعدّ الظهور ، خنس يخنس ، وثانيها : أن معناه من شر ذي الوسواس وهو الشيطان كما جاء في الأثر أنه يوسوس فإذا ذكر ربّه خنس ، ثمَّ وصفه الله تعالى بقوله : «الّذي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاس » أي بالكلّ ام الخفي الّذي يصل مفهومه إلى قلوبهم من غير سماع ، ثمَّ ذكر أنّه من الجنّة وهو الشياطين ، والنّاس عطف على الوسواس ، وثالثها : أن معناه من شر ذي الوسواس الخناس ثمَّ فسرّه بقوله : من الجنّة والناس. فوسواس الجنّة هو وسواس الشّيطان.

وفي وسواس الإنس وجهان : أحدهما أنّه وسوسة الشيطان من نفسه ، والثاني

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

(٢) سورة القمر : ٦.

(٣) كذا في النسخ وكأنه مصحف « المرية » بمعنى الشك.

٣٩٦

_________________________________________________

إغواء من يغويه من الناس ، ويدلّ عليه شياطين الإنس والجن فشيطان الجن يوسوس وشيطان الإنس يأتي علانية ، ويرى أنه ينصح وقصده الشر قال مجاهد : الخناس الشيطان إذا ذكر الله سبحانه خنس وانقبض ، وإذا لم يذكر الله سبحانه انبسط على القلب ، ويؤيّده ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإذا ذكر الله سبحانه خنس وإن نسي التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخناس ، وقيل : الخناس معناه الكثير الاختفاء بعدّ الظهور وهو المستتر المختفي عن أعين النّاس لأنه يوسوس من حيث لا يرى بالعين ، وقيل : إن المعنى يلقي الشغل في قلوبهم بوسواسه ، والمرّاد أن له رفقا به يوصل الوسواس إلى الصدر وهو أعزب من خلوصه بنفسه إلى الصدر.

وروى العياشي عن الصادقعليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من مؤمن إلّا ولقلبه في صدره أذنان : أذن ينفث فيه الملك ، وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك ، وهو قوله سبحانه : «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ »(١) وقالرحمه‌الله في قوله تعالى : «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ »(٢) أي ثبت في قلوبهم الإيمان بما فعل بهم من الألطاف فصار كالمكتوب ، وقيل : كتب في قلوبهم علامة الإيمان ، ومعنى ذلك أنها سمة لمن شاهدهم من الملائكة على أنهم مؤمنون «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » أي قوأهمّ بنور الإيمان ويدلّ عليه قوله : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ روحاً مِنْ أَمرّنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ »(٣) وقيل معناه : قوأهمّ بنور الحجج والبرهان حتّى اهتدوا للحقّ وعملوا به ، وقيل : قوأهمّ بالقرآن الّذي هو حياة القلوب من الجهل ، وقيل : أيّدهم بجبرئيل في كثير من

__________________

(١) و (٢) سورة المجادلة : ٢٢.

(٣) سورة الشورى : ٥٢.

٣٩٧

_________________________________________________

المواطن ينصرهم ويدفع عنهم.

وقال البيضاوي : «بِرُوحٍ مِنْهُ » أي من عند الله ، وهو نور القلب أو القرآن أو النصر على العدوّ ، وقيل : الضمير للإيمان فإنه سبب لحياة القلب ، انتهى.

وروي من طريق العامّة أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، قال الأزهري : معناه أنه لا يفارق ابن آدم ما دام حيا كما لا يفارقه دمه ، وقال : هذا على طريق ضربّ المثل وجمهورهم حملوه على ظاهره ، وقالوا : إن الشيطان جعل له هذا القدر من التطرق على باطن الآدمي بلطافة هيئته فيجري في العروق الّتي هي مجاري الدم إلى أن يصل إلى قلبه ، فيوسوسه على حسب ضعف إيمان العبد ، وقلة ذكره وكثرة غفلته ، ويبعدّ عنه ويقل تسلطه وسلوكه إلى باطنه بمقدار قوته ويقظته ودوام ذكره وإخلاص توحيده.

ونقل عن ابن عباس أنّه تعالى جعله بحيث يجري من بني آدم مجرى الدم وصدور بني آدم مسكن له كما قال : «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ » إلخ. والجنّة الشياطين وكما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الشيطان ليجثمَّ(١) على قلب بني آدم له خرطوم كخرطوم الكلب ، إذا ذكر العبد لله عزّ وجلّ خنس أي رجع على عقبيه ، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس ، فاشتق له اسمان من فعليه ، الوسواس من وسوسته عند غفلة العبد ، والخناس من خنوسه عند ذكر العبد ، قيل : والنّاس عطف على الجنّة والإنس لا يصل في وسوسته بذاته إلى باطن الآدمي فكذا الجنّة في وسوسته ، وأجيب بأن الإنس ليس له ما للجن من اللطافة ، فعدم وصول الإنس إلى الجوف يستلزم عدم وصول الجن إليه.

ثمَّ أن الله تعالى بلطفه جعل للإنسان حفظة من الملائكة ، وأعطأهمّ قوي

__________________

(١) جثم : تلبد بالأرض.

٣٩٨

(باب)

(الروح الذي أيد به المؤمن)

١ - الحسين بن محمّد ومحمّد بن يحيى جميعاً ، عن عليُّ بن محمّد بن سعدّ ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي سلمة ، عن محمّد بن سعيد بن غزوان ، عن ابن أبي نجران ، عن محمّد بن سنان ، عن أبي خديجة قال : دخلت على أبي الحسنعليه‌السلام فقال

_________________________________________________

الإلهام والإلمام بهم في بواطن الإنسان في مقابلة لـمّة الشيطان ، كما روي أن للملك لمة بابن آدم وللشيطان لمة ، لمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك فليحمد الله ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحقّ ، فمن وجد من ذلك شيئاً فليستعذ بالله من الشيطان.

وفي النهاية في حديث ابن مسعود : لابن آدم لمتان لمة من الملك ولمة من الشيطان ، اللمة : الهمة والخطرة تقع في القلب ، أراد إلمام الملك أو الشيطان به ، والقربّ منه ، فما كان من خطرات الخير فهو من الملك وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان.

باب الروح الذي أيد به المؤمن

الحديث الأول : ضعيف.

وقد مرّ تفسير الروح والأظهر أن المرّاد هنا أيضاً الملك ، والمرّاد بالإحسان الإتيان بالطاعات وبالاتقاء الاجتناب عن المنهيات ، والاعتداد التجاوز عن حدود الشريعة أو الظلم على غيره بل على نفسه أيضاً « تهتز » أي تتحرك سروراً ، في القاموس هزه وبه حركه ، والحادي الإبل هزيزاً نشطها بحدائه ، والهزة بالكسر النشاط والارتياح ، وتهزهز إليه قلبي ارتاح للسرور ، واهتز عرش الرَّحمن لموت سعدّ أي ارتاح بروحه واستبشر لكرامته على ربّه ، وقال : ساخت قوائمه أي خاضت والشيء

٣٩٩

لي : إنَّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بِرُوحٍ مِنْهُ تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتّقي وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي فهي معه تهتز سروراً عند إحسانه وتسيخ في الثرى عند إساءته فتعاهدوا عباد الله نعمّه بإصلاحكم أنفسكم

_________________________________________________

رسب ، والأرض بهم انخسفت ، والثرى قيل : هو التراب الندى وهو الّذي تحت الظاهر من وجه الأرض ، فإن لم يكن فهو تراب ، ولا يقال ثري.

وأقول : يظهر من الأخبار أنه منتهى المخلوقات السفلية وعند ذلك ضل علم العلماء.

وقال الفيروزآبادي : الثرى الندى والتراب الندى ، أو الّذي إذا بل لم يصر طينا والأرض ، وقال : تعهده وتعاهده تفقده وأحدث العهد به ، وفي المصباح : عهدت الشيء ترددت إليه وأصلحته ، وحقيقته تجديد العهد به ، وتعهدته حفظته قال ابن فارس : ولا يقال تعاهدته لأن التفاعل لا يكون إلّا من اثنين ، وقال الفارابي : تعهدته أصلح من تعاهدته ، انتهى.

والظاهر أن المرّاد هنا حفظ نعم الله واستبقاؤها ، واستعمال ما يوجب دوامها وبقاؤها ، والمرّاد بالنعم هنا النعم الروحانية من الإيمان واليقين ، والتأييد بالروح والتوفيقات الربانية ، وتعاهدها إنما يكون بترك الذنوب والمعاصي ، والأخلاق الذميمة الّتي توجب نقصها أو زوالها ، كما قالعليه‌السلام : بإصلاحكم أنفسكم.

و « يقيناُ » تميز وزيادة اليقين لقوله تعالى : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »(١) وأيضاً إصلاح النفس يوجب الترقي في الإيمان واليقين وما يوجب الفلاح في الآخرة كما قال سبحانه : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها »(٢) والنفيس الكريم الشريف الّذي يتنافس فيه ، في المصباح : نفس الشيء نفاسا كرم فهو نفيس ، ونفست

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧.

(٢) سورة الشمس : ٩.

٤٠٠