مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 440

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 19971
تحميل: 8522


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19971 / تحميل: 8522
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الله تبارك وتعالى من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي.

٤ – عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسين بن عثمان ، عن محمّد بن أبي حمزة عمّن ذكره ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من حقر مؤمنا مسكينا أو غير مسكين لم يزل الله عزَّ وجلَّ حاقراً له ماقتاً حتّى يرجع عن محقرته إياه.

٥ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن معلّى بن خنيس قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن الله تبارك وتعالى يقول

_________________________________________________

والمراد بالولي المحب البالغ بجهده في عبادة مولاه المعرض عما سواه « فقد أرصد » أيّ هيأ نفسه أو أدوات الحرب ، ويمكن أن يقرأ على بناء المفعول قال في النهاية : يقال رصدته إذا قعدت له على طريقه تترقبه ، وأرصدت له العقوبة إذا أعددتها ، وحقيقته جعلتها على طريقه كالمترقبة له ، والإضافة في قوله « لمحاربتي» إلى المفعول ، ومن فوائد هذا الخبر التحذير التام لأذى كلّ من المؤمنين [ خشية ] لاحتمال(١) أن يكون من أوليائه تعالى ، كما روى الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : إن الله أخفى وليه في عباده فلا تستصغروا شيئاً من عباده فربما كان وليه وأنت لا تعلم.

الحديث الرابع : مرسل.

وفي القاموس : الحقر الذلّة كالحقرية بالضمّ ، والحقارة مثلثة والمحقرة ، والفعل كضرب وكرم ، والإذلال كالتحقير والاحتقار والاستحقار ، والفعل كضرب وقال : مقته مقتاً ومقاتة أبغضه كمقّته والتحقير يكون بالقلب فقط ، وإظهاره أشدّ وهو إما بقول كرهه أو بالاستهزاء به أو بشتمه أو بضربة أو بفعل يستلزم إهانته أو بترك قول أو فعل يستلزمها وأمثال ذلك.

الحديث الخامس : مختلف فيه معتبر عندي.

ويدلّ على أنّ عقوبة إذلال المؤمن تصل إلى المذل في الدنيا أيضاً بل بعد

__________________

(١) كذا في نسخة الأصل والظاهر « خشية احتمال » بدون اللام.

٣٨١

من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي وإنّا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي.

٦ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن معلّى بن خنيس ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عزَّ وجلَّ قد نابذني من أذلّ عبدي المؤمن.

٧ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ؛ وأبو علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار جميعاً ، عن ابن فضّال ، عن علي بن عقبة ، عن حمّاد بن بشير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عزَّ وجلَّ من أهان لي وليا فقد أرصد لمحاربتي وما تقرب إلي عبد بشيء أحب إلي ممّا افترضت عليه

_________________________________________________

الإذلال بلا مهلة ولو بمنع اللطف والخذلان.

الحديث السادس : ضعيف على المشهور.

وفي المصباح : نابذتهم خالفتهم ونابذتهم الحرب كاشفتهم إياها وجاهرتهم بها.

الحديث السابع : مجهول.

« وما تقرب » لما قدم سبحانه ذكر اختصاص الأولياء لديه أشار إجمالاً إلى طريق الوصول إلى درجة الولاية من بداية السلوك إلى النهاية أيّ ما تحبب ولا طلب القرب لدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، أيّ أصالة أو أعم منه وممّا أوجبه على نفسه بنذرّ وشبهه ، لعموم الموصول.

ويدل على أن الفرائض أفضل من المندوبات مطلقاً ، وهذا ظاهر بحسب الاعتبار أيضاً فإنه سبحانه أعلم بالأسباب الّتي توجب القرب إلى محبته وكرامته فلمّا أكد في الفرائض وأوعد على تركها علمنا أنّها أفضل ممّا خيرنا في فعله وتركه ، ووعد على فعله ولم يتوعّد على تركه.

٣٨٢

وإنّه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها إن دعاني أجبته

_________________________________________________

قال الشيخ البهائيقدس‌سره : فإن قلت : مدلول هذا الكلام هو أن غير الواجب ليس أحب إلى الله سبحانه من الواجب لا أن الواجب أحب إليه من غيره فلعلها متساويان؟ قلت : الذي يستفيده أهل اللسان من مثل هذا الكلام هو تفضيل الواجب على غيره ، كما تقول : ليس في البلد أحسن من زيد ، لا تريد مجرد نفي وجود من هو أحسن منه فيه ، بل تريد نفي من تساويه في الحسن وإثبات أنه أحسن أهل البلد وإرادة هذا المعنى من مثل هذا الكلام شائع متعارف في أكثر اللغات ، انتهى.

وقال الشهيد روح الله روحه في القواعد : الواجب أفضل من الندب غالباً لاختصاصه بمصلحة زائدة ، ولقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في الحديث القدسي : ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، وقد تخلف ذلك في صور كالإبراء من الدين الندب ، وإنظار المعسر الواجب ، وإعادة المنفرد صلاته جماعة ، فإن الجماعة مطلقاً تفضل صلاة الفذ(١) بسبع وعشرين درجة ، فصلاة الجماعة مستحبة وهي أفضل من الصلاة الّتي سبقت وهي واجبة ، وكذلك الصلاة في البقاع الشريفة فأتها مستحبة وهي أفضل من غيرها مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة ، والصلاة بالسواك والخشوع في الصلاة مستحبّ ويترك لأجله سرعة المبادرة إلى الجمعة وإن فات بعضها مع أنها واجبة لأنه إذا اشتد سعيه شغله الانتهار عن الخشوع ، وكلّ ذلك في الحقيقة غير معارض لأصل الواجب وزيادته لاشتماله على مصلحة أزيد من فعل الواجب لا بذلك القيد ، انتهى.

وأقول : ما ذكره قد لا يصلح جواباُ للجميع ويمكن الجواب عن الأوّل بأن

__________________

(١) الفذ : - بتشديد الذال المعجمة - الفرد.

٣٨٣

وإن سألني أعطيته ؛ وما ترددت عن شيء إنّا فاعله كترددي عن موت المؤمن يكره الموت وأكره مساءته.

٨ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران

_________________________________________________

الواجب أحد الأمرين والإبراء أفضل الفردين ، وعن الثاني بإنّا لا نسلّم كون هذه الجماعة أفضل من المنفرد ، ولو سلّم فيمكن أن يكون الفضل لكون أصلها واجبة وانضمت إلى تلك الفضيلة ، مع أنه قد ورد أنه تعالى يقبل أفضلهما ، واحتمل بعض الأصحاب نية الوجوب فيها أيضاً.

وكان بعض مشايخنا يحتمل هنا عدول نية الصلاة إلى الاستحباب بناء على جواز عدول النيّة بعد الفعل كما يظهر من بعض الأخبار.

وممّا ذكروه نقضا على تلك القاعدَّةٌ الابتداء بالتسليم ورده فإن الأوّل أفضل مع وجوب الثاني ، والإشكال فيه أصعب ، ويمكن الجواب بأن الابتداء بالسلام أفضل من الترك ، وانتظار تسليم الغير ، ولا نسلّم أنه أفضل من الرد الواجب ، بل يمكن أن يقال : إن إكرام المؤمن وترك إهانته واجب وهو يتحقق في أمور شتى فمنها ابتداء التسليم أو رده ، فلو تركهما عصى ، وفي الإتيان بكلّ منهما يتحقق ترك الإهانة لكن اختيار الابتداء أفضل ، فظهر أنه يمكن إجراء جوابهرحمه‌الله في الجميع.

وأقول : يمكن تخصيص الأخبار وكلام الأصحاب بكون الواجب أفضل من المستحب من نوعه وصنفه ، كصلاة الفريضة والنافلة ، فلا يلزم كون رد السلام أفضل من الحج المندوب ، ولا من صلاة جعفررضي‌الله‌عنه ولا من بناء قنطرة عظيمة أو مدرسة كبيرة ، وبالجملة فروع هذه المسألة كثيرة ولم أر من تعرض لتحقيقها كما ينبغي ، والخوض فيها يوجب بسطا من الكلام لا يناسب المقام ، وسيأتي شرح باقي الخبر في الخبر الآتي.

الحديث الثامن : صحيح.

٣٨٤

عن أبي سعيد القمّاط ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال لما أسري بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال يا رب ما حال المؤمن عندك - قال يا محمّد من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وإنّا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي وما ترددت عن شيء إنّا فاعله

_________________________________________________

وقال الشيخ البهائي برد الله مضجعه هذا الحديث صحيح السند وهو من الأحاديث المشهورة بين الخاصة والعامّة ، وقد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير هكذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد أذنته بالحرب ، وما يتقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى ممّا افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتّى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي بها إن سألني لأعطيته وإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء إنّا فاعله كترددي في قبض نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه.

« لما أسري بي » أسري بالبناء للمفعول من السري على وزن هدى ، وهو السير في الليل ، وأمّا تقييده بالليل في قوله تعالى : «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً » الآية فللدلالة بتنكير الليل على تقليل مدة الإسراء ، مع أن المسافة بين المسجدين مسير أربعين ليلة « ما حال المؤمن عندك » أيّ ما قدره ومنزلته؟ « من أهان لي ولياً » المراد بالولي المحب ، وبالمبارزة بالمحاربة إظهارها والتصدي لها.

« وما ترددت في شيء إنّا فاعله» نسبة التردّد إليه سبحانه يحتاج إلى التأويل وفيه وجوه :

الأوّل : أن في الكلام إضمارا ، والتقدير لو جاز على التردّد ما ترددت في شيء كترددي في وفاة المؤمن.

الثاني : أنه لما جرت العادة بأن يتردد الشخص في مساءة من يحترمه ويوقره كالصديق الوفي والخل الصفي وأن لا يتردد في مساءة من ليس له عنده قدر ولا حرمة ، كالعدو والحية والعقرب بل إذا خطر بالبال مساءته أوقعها

٣٨٥

كتردُّدي عن وفاة المؤمن يكره الموت وأكره مساءته وإن من عبادي المؤمنين

_________________________________________________

من غير تردد ولا تأمل ، صح أن يعبر بالتردّد والتأمل في مساءة الشيء عن توقيره واحترامه ، وبعدمها عن إذلاله واحتقاره ، فقوله سبحانه : ما ترددت في شيء إنّا فاعله كترددي في وفاة المؤمن ، المراد به والله أعلم : ليس لشيء من مخلوقاتي عندي قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته ، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية.

الثالث : أنه قد ورد في الحديث من طرق الخاصة والعامّة أن الله سبحانه يظهر للعبد المؤمن عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنّة ما يزيل عنه كراهة الموت ، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقل تأذيه به ويصير راضياً بنزوله راغبا في حصوله ، فأشبهت هذه الحالة معاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقبه نفع عظيم ، فهو يتردد في أنّه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذيه به ، فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسمية ، والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول ، ويعده من الغنائم المؤدية إلى إدراك المأمول.

وأقول : يمكن أن يكون التردّد إشارة إلى المحو والإثبات في لوحهما ، فإنه يكتب أجله في زمان وآن فيدعو لتأخيره أو يتصدق فيمحو الله ذلك ، ويؤخره إلى وقت آخر فهو يشبه فعل المتردد ، أطلق عليه التردّد على وجه الاستعارة ، هذا بحسب ما ورد في لسان الشريعة.

أما الحكماء والصوفية فيقولون : النفوس المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة ، لعدم تناهيها بل إنما ينتقش فيها الحوادث شيئاً فشيئاً ، وجملة فجملة مع أسبابها وعللها ، وربما حكمت بشيء باعتبار الاطلاع على بعض عللها ، ولم تطلع على ما يضادها ويمنع من تأثيرها ، فإذا اطلعت عليها رجعت عن ذلك الحكم كما إذا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب يقتضي ذلك ، ولم يحصل لها العلم بتصدقه الذي يأتي به قبيل ذلك ، لعدم اطلاعها على أسباب التصدق بعد ، ثمَّ علم به ، وكان موته بتلك الأسباب مشروطاً بأن لا

٣٨٦

_________________________________________________

يتصدّق فتحكم أوّلاً بالموت وثانياً بالبرء ، وذلك لأنّ شأن النفوس أن يكون توجهها إلى بعض المعلومات يذهلها عن البعض الآخر ، وذلك هو البداء.

ثمَّ إذا كانت الأسباب بوقوع أمرّ ولا وقوعه متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمرّ ولا وقوعه ، وينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع أخرى ، فهذا هو التردد.

ثمَّ لما كانت أفعال الملائكة المسخرين وإرادتهم مستهلكة في فعله سبحانه وإرادته إذ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ومكتوبهم مكتوب الله بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل ، جاز أن يوصف الله سبحانه بالبداء والتردّد وأمثالهما ، فلذا قال سبحانه : ما ترددت في شيء ، إلخ.

مع أنّه عزَّ وجلَّ قد قضى عليه الموت قضاء حتما كما قال عزَّ وجلَّ : «ثمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ »(١) وقال : «وَلِكلّ أمّة أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ »(٢) .

وأقول : هذا بحسب آرائهم ومصطلحاتهم ، وقد مرّ تحقيق ذلك في باب البداء وقد مرت لتأويل هذا الحديث وجوه أخرى في باب الرضا بموهبة الإيمان.

ثمَّ قالقدس‌سره : والجملة الاسمية يعني « إنّا فاعله » نعت « شيء » واسم الفاعل فيها يجوز أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال « يكره الموت وأكره مساءته » جملة مستأنفة استينافاً بيانياً كان سائلاً يسأل ما سبب التردد؟ فأجيب بذلك ، ويحتمل الحالية من المؤمن والاستئناف أولى ، والمساءة على وزن سلامة مصدر ميمي من ساءه إذا فعل ما يكرهه.

وقال روّح الله روحه : قد يتوهّم المنافاة بين ما دلّ عليه هذا الحديث وأمثاله

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢.

(٢) سورة الأعراف : ٣٢.

٣٨٧

_________________________________________________

من أنّ المؤمن الخاصّ يكره الموت ويرغب في الحياة ، وبين ما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فإنّه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه كما نقل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يقول : أن ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه ، وأنّه قال حين ضربه ابن ملجم عليه اللعنة : فزّت وربّ الكعبة.

وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد في الذكرى فقال : إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحب كما روينا عن الصادقعليه‌السلام ورووه في الصحاح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قيل : يا رسول الله إنّا لنكره الموت؟ فقال : ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه ممّا أمامه ، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وأن الكافر إذا احتضره يبشر بعذاب الله فليس شيء أكره إليه ممّا أمامه ، كره لقاء الله فكره الله لقاءه ، انتهى.

وقد يقال : إن الموت ليس نفس لقاء الله فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء الله ، وهذا ظاهر ، وأيضاً حب لقاء الله يوجب حب كثرة العمل الصالح النافع وقت لقائه ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع لها ، انتهى.

وأقول : أوردت وجوها أخرى في الكتاب الكبير ، وعسى أن يأتي بعضها في كتاب الجنائز إن شاء الله.

وقالرحمه‌الله في قوله سبحانه : وإن من عبادي من لا يصلحه إلّا الغني ، الصناعة النحوية تقتضي أن يكون الموصول اسم إن ، والجار والمجرور خبرها ، لكن لا يخفى أنّه ليس الغرض الأخبار عن أن الذي لا يصلحه إلّا الفقر بعض العباد إن لا فائدة فيه ، بل الغرض العكس ، فالأولى أن يجعل الظرف اسم إن والموصول خبرها وهذا وإن كان خلاف ما هو المتعارف بين القوم لكن جوز بعضهم مثله في قوله تعالى

٣٨٨

_________________________________________________

«وَمِنَ النّاس مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ »(١) .

قال المحقق الشريف في حواشي الكشاف عند تفسير هذه الآية : فإن قيل : لا فائدة في الإخبار بأن من يقول كذا وكذا من الناس؟ أجيب : بأن فائدته التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي النوع الإنساني ، فينبغي أن يجهل كون المتصف بها من النّاس ويتعجب منه ، ورد بأن مثل هذا التركيب قد يأتي في مواضع لا يتأتى فيها مثل هذا الاعتبار ، ولا يقصد منها إلّا الإخبار بأنّ من هذا الجنس طائفة متصفة بكذا ، كقوله تعالى : «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ »(٢) .

فالأولى أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدء على معنى وبعض النّاس ، أو بعض منهم من اتصف بما ذكر ، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدءا ، انتهى كلامه.

ثمَّ لما كان مضمون هذا الخبر مظنة التردّد والإنكار حسن فيه التأكيد ، فإن قلت : المخاطب هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يتردد في أن أفعاله سبحانه مبنية على الحكم العميمة والمصالح العظيمة؟ قلت : أمثال هذه الخطابات من قبيل : « اسمعي يا جارة »(٣) وأكثر ما خاطب الله سبحانه الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا القبيل ولا ريب أن أكثر الخلق مترددون في مضمون ذلك الخبر بل ربما ينكره بعضهم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٨.

(٢) سورة الأحزاب : ٢٣.

(٣) قد ورد عن المعصومينعليهم‌السلام : « ان القرآن نزل باياك أعنى واسمعى يا جارة » وهذا مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئاً غيره ، وقيل : ان أوّل من قال ذلك سهل بن مالك الفزارى ، ذكر قصته في مجمع الامثال ، وقال الطريحى هو مثل يراد به التعريض للشيء يعنى ان القرآن خوطب به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن المراد به الأمة.

٣٨٩

من لا يصلحه إلّا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشيء أحب إلي ممّا افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى

_________________________________________________

« لو صرفته إلى غير ذلك لهلك » فصل هذه الجملة الشرطيّة عن جملة الصلة لأنها كاشفة ومبينة لها إذ كون هلاك دينه في الفقر ممّا يبين كون صلاحه في الغنى ، فبينهما كمال الاتصال ، وما مرّ في حديث آخر شبيه بهذا الخبر من عطف مثل هذه الشرطيّة على الصلة بالواو ، حيث قال : وإن من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك ، فلملاحظة كون حصول الإفساد أمرا مغايرا لعدم الإصلاح وغير مندرج في جنسه ، وقد صرّح علماء المعاني بأن الجملتين اللتين بينهما كمال الاتصال الموجب للفصل ربما يلاحظ بينهما الانقطاع بوجه من الوجوه ، فتعطف إحداهما على الأخرى لتوسطهما حينئذ بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع.

إلّا ترى إلى ما قالوه في قوله تعالى في سورة البقرة : «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ »(١) وفي سورة إبراهيم «وَيُذَبِّحُونَ »(٢) بالواو من أن طرح الواو في الآية الأولى يجعل تذبيح الأبناء بيإنّا ليسومونكم وتفسيرا للعذاب ، وإثباتها في الآية الثانية لملاحظة كون التذبيح فوق العذاب المتعارف وزائدا عليه ، فكأنّه جنس آخر غير مندرج فيه.

« وأنّه ليتقرب إلى بالنوافل حتّى أحبّه » النوافل جميع الأفعال الغير الواجبة وأمّا تخصيصها بالصلوات المندوبة فعرّف طار ، ومعنى محبة الله سبحانه للعبد هو كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه من أن يطأ على بساط قربه فإن ما يوصف به سبحانه إنّما يؤخذ باعتبار الغايات لا باعتبار المبادئ ، وعلامة حبه سبحانه للعبد

__________________

(١) الآية : ٤٩.

(٢) الآية : ٦.

٣٩٠

أحبّه فإذا أحببته كنت إذاً سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته

_________________________________________________

توفيقه للتجافي عن دار الغرور والترقي إلى عالم النور ، والأنس بالله والوحشة عما سواه ، وصيرورة جميع الهموم هما واحدا.

قال بعض العارفين : إذا أردت أن تعرّف مقامك فانظر فيما أقامك.

« فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به » إلخ أقول : تمسك بعض الصوفية والاتحادية والحلولية والملاحدة بظواهر تلك العبارات وأعرضوا عن بواطن هذه الاستعارات فضلوا وأضلوا ، مع أن عقل جميع أرباب العقول يحكم باستحالة اتخاذ شيء مع أشياء كثيرة متباينة الحقائق مختلفة الآثار ، وأيضاً ما ذكروه من الكفّر الصريح لا اختصاص له بالمحبين والعارفين ، بل يحكمون باتحاده تعالى بجميع أصناف الموجودات حتّى الكلاب والخنازير والقاذورات سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

فهذه الأخبار نافية لمذاهبهم الفاسدة الخبيثة لا مثبتة لها ، ولها عند أهل الإيمان وأصحاب البيان وأرباب اللسان معان واضحة ظاهرة تقبلها الأذهان ومبنية على مجازات واستعارات شائعة في الحديث والقرآن ، ومشتملة على نكأت بليغة استحسنها أرباب المعاني ، ولا تنافي عقائد أهل الإيمان ، وهي كثيرة نومئ هنا إلى بعضها.

الأوّل : ما ذكره الشيخ البهائيقدس‌سره وإن داهن في أوّل كلامه حيث قال : لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سنية وإشارات سرية وتلويحات ذوقية تعطر مشام الأرواح وتحيي رميم الأشباح ، لا يهتدي إلى معناها ولا يطلع على مغراها إلّا من أتعب بدنه في الرياضات وعنى نفسه بالمجاهدات حتّى ذاق مشربّهم وعرّف مطلبهم ، وأمّا من لم يفهم تلك الرموز ولم يهتد إلى هاتيك الكنوز لعكوفه على الحظوظ الدنيّة وانهماكه في اللذات البدنية فهو عند سماع تلك الكلمات على خطر

٣٩١

_________________________________________________

عظيم من التردي في غياهب الإلحاد والوقوع في مهاوي الحلول والاتحاد ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ونحن نتكلم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام.

فنقول : هذا مبالغة في القرب وبيان لاستيلاء سلطان المحبة على ظاهر العبد وباطنه وسره وعلانيته ، فالمراد والله أعلم : إني إذا أحببت عبدي جذبته إلى محل الأنس وصرفته إلى عالم القدس وصيرت فكره مستغرقا في أسرار الملكوت وحواسه مقصورة على اجتلاء أنوار الجبروت ، فيثبت حينئذ في مقام القرب قدمه ويمتزج بالمحبة لحمه ودمه ، إلى أن يغيب عن نفسه ويذهل عن حسه فيتلاشى الأغيار في نظره حتّى أكون له بمنزلة سمعه وبصره كما قال من قال :

جنوني فيك لا يخفى

وناري منك لا تخبو

فأنت السمع والأبصار

والأركان والقلب

وقالرحمه‌الله : « يبطش بها » بالكسر والضمّ أيّ يأخذ بها ، وأصل البطش الأخذ بالعنف والسطوة ، انتهى.

الثاني : ما قيل : المعنى أنّي إذا أحببته كنت كسمعه وبصره في سرعة الإجابة فقوله : إن دعاني أجبته ، إشارة إلى وجه التشبيه يعني إني أجيبه سريعاً إن دعاني إلى مقاصده كما يجيبه سمعه عند إرادته سماع المسموعات ، وبصره عند إرادته أبصار المبصرات ، وهذا مثل قول النّاس المعروف بينهم : فلان عيني ونور بصري ويدي وعضدي ، وإنما يريدون به التشبيه في معنى من المعاني المناسبة للمقام ، ويسمون هذا تشبيها بليغاً بحذف الأداة مثل زيد أسد.

الثالث : أن المعنى أنّه تعالى هو المطلوب لهذا العبد عند سمعه للمسموعات وبصره للمبصرات وهكذا ، يعني مني يسمع المسموعات وبها يرجع إلى ، والمقصود أنّه يبتدئ بي في سماع المسموعات وينتهي إلى ، فلا يصرف شيئاً من جوارحه فيما ليس فيه رضاي ، وإليه أشار بعضهم بقوله : ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله قبله أو

٣٩٢

_________________________________________________

بعده أو معه.

وأقول : على هذا يرجع الحمل إلى المبالغة في السببيّة أو الغائية ، ويؤيده ما ورد في رواية أخرى فبي يسمع وبي يبصر وبي يمشي وبي ينطق.

الرابع : أنه لكثرة تخلقه بأخلاق ربه ووفور حبه لجناب قدسه تخلى عن محبته وإرادته ، فلا يسمع إلّا ما يحبه تعالى ، ولا ينظر إلّا إلى ما يحبه تعالى ، ولا يبطش إلّا إلى ما يوصل إلى قربه سبحانه ، وقريب منه ما قيل : لا يسمع إلّا بحق وإلى حق ولا ينظر إلّا بحق وإلى حق ، ولا يبطش إلّا بإذن الحقّ ولا يمشي إلّا إلى ما يرضى به الحقّ وهو المحق الولي والمؤمن حقّاً الذي انزاح عنه كلّ باطل وصار واقفا مع الحقّ ، وهو قريب من الوجه الثالث.

الخامس : ما ظهر لي في بعض المقامات وهو أظهر عندي من سائر الوجوه ، وتفصيله يحتاج إلى بسط وسيع في الكلام لا يسعه هذا المقام ، ومحصله أنه سبحانه أودع في بدن الإنسان وقلبه وروحه قوي ضعيفة هي في معرض الانحلال والاختلال والانقضاء والفناء ، فإذا اكتفي بها وصرفها في شهوات النفس والهوى تفنى كلّها ، ولا يبقى معه شيء منها ومن ثمراتها إلّا الحسرة والندأمّة ، وإذا استعملها في طاعة ربه وصرفها في طاعة محبوبة أبدله الله خيراً منها ، وأقوى وأبقى تكون معه في الدنيا والعقبى ، لقوله تعالى : «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ »(١) فمنها قوة السمع إذا بذلها في طاعة النفس والشيطان ، وما يلهى عن الرَّحمن ، بطل سمعهم الروحاني وهذا السمع الجسماني في معرض الفناء ولذا قال سبحانه فيهمُّ : «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إلّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً »(٢) .

فهم صمّ بكم عمي في الدنيا والآخرة ، فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٧.

(٢) سورة الفرقان : ٤٤.

٣٩٣

_________________________________________________

إلّا دعاءاً ونداءاً فهم في الدنيا أيضاً كذلك ، فإذا بطل بالموت حسّهم لم يبق لهم إلّا الضلال والوبال ، وإذا صرفها في طاعة ربه أبدله الله سمعا كاملاً روحانيا لا يذهب بالصمم ولا بالموت ، فهو يسمع كلام الملائكة ويصغي إلى خطاب الرب تعالى في الآخرة والأولى ، ويفهم كلام الله وكلام الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فما منحه الله تعالى سمع قلبي روحاني لا يضعف بضعف البدن ولا يذهب بالموت ، وبه يسمع في القبر الخطاب ويعد الجواب ، ويناديهمُّ الحبيب كما نادى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل القليب.

وكذا أودع الله سبحانه حسا ضعيفاً في البصر فإذا صرفه في مشتهيات نفسه ذهب الله بنوره وأعمى عين قلبه فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ، وإذا بذله في طاعة ربه نور الله عين قلبه وأعطى بصره نورا أعلى وأقوى فيه ينظر إلى الملكوت الأعلى ويتوسم في وجوه الخلق ما لا يعرّف غيره ، ويرى الملائكة الروحانيين كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله ، وقال تعالى : «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ »(١) .

وكذا قوة البطش البدنية إذا صرفها في طاعة الله وقربه ونهكها بالرياضات الحقة أعطاه الله قوة روحانية لا تضعف بالأمراض ، ولا تذهب بالموت فيها يقدر على التصرف في عالم الملك والملكوت ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية بل بقوة ربانية.

وكذا النطق إذا صدق فيه وكان موافقا لعمله ومصادفا لرضا ربه فتح الله به ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فظهر معنى قوله سبحانه : كنت سمعه وبصره ، وغير ذلك على ألطف الوجوه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

السادس : ما هو أرفع وأوقع وأحلى وأدق وألطف وأخفى ممّا مضى ، وهو أن العارف لما تخلى من شهواته وإرادته وتجلى محبة الحقّ على عقله وروحه ومسامعه

__________________

(١) سورة الحجر : ٧٥.

٣٩٤

_________________________________________________

ومشاعره وفوض جميع أموره إليه وسلّم ورضي بكلّ ما قضى ربه عليه يصير الرب سبحانه متصرفا في عقله وقلبه وقواه ، ويدبر أموره على ما يحبه ويرضاه ، فيريد الأشياء بمشية مولاه كما قال سبحانه مخاطبا لهم : «وَما تَشاؤُنَ إلّا أَنْ يَشاءَ اللهُ »(١) كما ورد في تأويل هذه الآية في غوامض الأخبار عن معادن الحكم والأسرار والأئمة الأخيار.

وروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرَّحمن يقلبها كيف يشاء.

وكذلك يتصرف ربه الأعلى منه في سائر الجوارح والقوي ، كما قال سبحانه مخاطبا لنبيه المصطفى : «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى »(٢) وقال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهمُّ »(٣) فلذلك صارت طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله ، فاتضح بذلك معنى قوله تعالى : كنت سمعه وبصره وأنه به يسمع ويبصر فكذا سائر المشاعر تدرك بنوره وتنويره ، وسائر الجوارح تتحرك بتيسيره وتدبيره ، كما قال تعالى : «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى »(٤) .

وقريب منه ما ذكره الحكماء في اتصال النفس بالعقول المفارقة ، والأنوار المجردة على زعمهم حيث قالوا : قد تصير النفس لشدة اتصالها بالعقل الفعال بحيث يصير العقل بمنزلة الروح للنفس ، والنفس بمنزلة البدن للعقل ، فيلاحظ المعقولات في لوح العقل ويدبّر العقل نفسه كتدبير النفس للبدن ، ولذا يظهر منه الغرائب الّتي يعجز عنها سائر النّاس كإحياء الموتى وشق القمرّ وأمثالهما.

قال صاحب الشجرة الإلهيّة : كما أن في النفس في حال التعلق بالبدن تتوهم أنهّا هي البدن أو أنّها فيه وإن لم تكن هو ولا فيه ، فكذلك النفس الكاملة إذا

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣٠. (٢) سورة الأنفال : ١٧.

(٣) سورة الفتح : ١٠. (٤) سورة الليل : ٧.

٣٩٥

_________________________________________________

فارقت البدن وقطعت تعلقها من شدة قوتها ونوريتها وعلاقتها العشقية مع نور الأنوار والأنوار العقلية ، تتوهم أنّها هي فتصير الأنوار مظاهرا لنفوس المفارقة كما كانت الأبدان أيضاً ، فهذا هو معنى الاتحاد لا بمعنى صيرورة الشيئين شيئاً واحدّاً فإنه باطل ، انتهى.

وما ذكرنا أوفق بالكتاب والسنّة وأنسب بالحقّ ومصطلحات أهله ولا يتوقف على إثبات ما نفته الشريعة من العقول المفارقة القديمة وغيرها ، وكثيراً ما يشتبه الحقّ بالباطل كما اشتبه على كثير من الأوائل.

قال المحقق الطوسي قدس الله روحه القدوسي : العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحقّ رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات ، وكلّ علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات ، وكلّ إرادة مستغرقة في إرادته الّتي لا يتأبى عنها شيء من الممكنات ، بل كلّ وجود وكلّ كمال وجود فهو صادر عنه فائض من لدنه.

فصار الحقّ حينئذ بصره الذي يبصر به ، وسمعه الذي به يسمع ، وقدرته الّتي بها يفعل ، وعلمه الذي به يعلم ، وجوده الذي به يجود ، فصار العارف حينئذ متخلقاً بأخلاق الله في الحقيقة.

وقال بعض المحقّقين في شرح هذا الخبر أيضاً : معنى محبة الله كشفه الحجاب عن قلبه وتمكينه إياه من قربه ، ومعنى المحبة من العبد ميل نفسه إلى الشيء لكمال إدراكه فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه ، فإذا علم العبد أن الكمال الحقيقي ليس إلّا لله ، وأن كلّ ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبه إلّا لله وفي الله ، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه واتباعه من كان وسيلة له إلى معرفته ومحبته ، قال الله تعالى لرسوله : «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ »(١) فإن بمتابعة الرسول في عبادته

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣١.

٣٩٦

_________________________________________________

وسيرته وأخلاقه وأحواله ونوافله ، يحصل القرب إلى الله ، وبالقرب يحصل محبّة الله إياه.

وقال بعض العارفين بزعمه : إذا تجلّى الله سبحانه بذاته لأحد يرى كلّ الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته وصفاته وأفعاله ، ويجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنّها مدبرة لها وهي أعضاؤها ولا يلم بواحد منها شيء إلّا ويراه ملما به ، ويرى ذاته الذات الواحدة ، وصفته صفتها ، وفعله فعلها لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد ، وليس للإنسان وراء هذه الرتبة مقام في التوحيد.

ولما انجذب بصيرة الرّوح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة ، وارتفع التميز بين القدم والحدوث لزهوق الباطل عند مجيء الحقّ.

وقيل : إلى هذا المعنى يشير ما ورد في الحديث النبوي : علي ممسوس في ذات الله ، ولعلّ هذا هو السر في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولإنّا أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة البيان وأمثالها ، انتهى.

وأقول : الاكتفاء بما أسلفنا وأومانا وترك الخوض في تلك المسالك الخطيرة أولى وأحوط وأحرى والله الموفقّ للهدي.

فائدة

قال في المصباح المنير : الأعضاء ثلاثة أقسام : الأوّل يذكر ولا يؤنث ، والثاني يؤنث ولا يذكر ، والثالث جواز الأمرين ، فعد من الأوّل الروح على الأشهر والوجه والرأس والحلق والشعر وقصاصه ، والفم والحاجب والصدغ والصدر واليافوخ واللحى والذهن والبطن والقلب والطحال والخصر والحشا والظهر والمرفق والزند والظفر والثدي والعصعص ، وكلّ اسم للفرج من الذكر والأنثى ، والكوع والكرسوع وشفر العين والجفن والهدب ، والحجارة والمأق والنخاع والمصير والناب والضرس

٣٩٧

٩ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من استذلّ مؤمناً واستحقره لقلة ذات يده ولفقره شهره الله يوم القيامة على رءوس الخلائق.

١٠ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن معاوية ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أسرى ربي بي فأوحى إلي من وراء الحجاب ما أوحى وشافهني إلى أن قال لي يا محمّد من أذلّ لي وليا فقد أرصدني

_________________________________________________

والناجذ والضاحك والعارض واللسان وربما أنث.

وعد من الثاني العين ، وأوّل ما وقع فيه التذكير في الاستعمالات بوجوه ، والأذن والكبد والإصبع والعقب والساق والفخذ واليد والرجل والقدم والكفَّ والضلع والذراع والسن.

وكذلك السن من الكبر والورك والأنملة واليمين والشمال والكرش.

وعدّ من الثالث العنق والعاتق والمعي والتذكير أكثر ، والإبط والعضد والعجز والنفس إن أريد بها الروح ، وإن أريد بها الإنسان نفسه فمذكر.

وطباع الإنسان التأنيث فيه أكثر ، ورحم المرأة مذكر ، وحكي فيه التأنيث ورحم القرابة أنثى وقد يذكر ، والذراع أنثى وقد تذكر.

الحديث التاسع : حسن كالصحيح.

« لقلة ذات يده » أيّ ما في يده من المال كناية عن فقره « شهره الله » على بناء المجرد أو التفعيل ، أيّ جعل له علأمّة سوء يعرفه جميع الخلائق بها أنّه من أهل العقوبة فيفتضح بذلك في المحشر ، ويذل كما أذلّ المؤمن في الدنيا ، في القاموس : استذلّه رآه ذليلاً ، وقال : الشهرة بالضم ظهور الشيء في شنعة ، شهره كمنعه وشهره واشتهره فاشتهر « على رؤوس الخلائق » أيّ على وجه يطلع عليه جميع الخلائق كأنه فوق رؤوسهم.

الحديث العاشر : صحيح.

« من وراء الحجاب » كان المراد بالحجاب الحجاب المعنوي ، وهو إمكان

٣٩٨

بالمحاربة ومن حاربني حاربته قلت يا ربِّ ومن وليّك هذا فقد علمت أن من حاربك حاربته قال لي ذاك من أخذت ميثاقه لك ولوصيّك ولذّريّتكما بالولاية.

١١ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن معلّى بن خنيس ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عزَّ وجلَّ من استذل عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت في شيء إنّا فاعله كترددي في عبدي المؤمن إني أحب لقاءه فيكره الموت فأصرفه عنه - وإنه ليدعوني في الأمر

_________________________________________________

العبد المانع لأن يصل العبد إلى حقيقة الربوبيّة ، أو كان خلق الصوت أوّلاً من وراء حجاب ثمَّ ظهر الصوت في الجانب الذي هو صلى الله عليه فيه ، وهو المراد بالمشافهة.

وفي بعض النسخ : فشافهني ، فيمكن أن يكون الفاء للتفسير وللترتيب المعنوي فكلاهما كان بالمشافهة ، والمراد بها عدم توسط الملك ، وقيل : المراد بالحجاب الملك وبالمشافهة ما كان بدون توسط الملك ، وفي القاموس : شافهه أدنى شفته من شفته ، وفي الصحاح : المشافهة المخاطبة من فيك إلى فيه.

قوله : إلى أن قال ، في بعض النسخ : فشافهني أن قال ، فكلمة « أن » مصدرية والتقدير بأن قال « فقد علمت » الفاء للبيان من أخذت كان المراد به الأخذ مع القبول.

الحديث الحادي عشر : مختلف فيه.

« فأصرفه عنه » أيّ فاصرف الموت عنه بتأخير أجله ، وقيل : أصرف كراهة الموت عنه بإظهار اللطف والكرامة والبشارة بالجنّة فاستجيب له بما هو خير له أيّ بفعل ما خير له من الذي طلبه ، وإنما سماه استجابة لأنه يطلب الأمرّ لزعمه أنه خير له ، فهو في الحقيقة يطلب الخير ويخطأ في تعيينه ، وفي الآخرة يعلم أن ما أعطاه خير له ممّا طلبه ، كما إذا طلب الصبي المريض ما هو سبب لهلاكه فيمنعه

٣٩٩

فأستجيب له بما هو خيرٌ له.

( باب )

(من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن إبراهيم والفضل ابني يزيد الأشعري ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليه‌السلام قإلّا أقرب ما يكون العبد إلى الكفّر أن يواخي الرجل على

_________________________________________________

والده ويعطيه دنانير فإذا كبر وعقل علم أنّ ما أعطاه خير ممّا منعه ، فكأنه استجاب له على أحسن الوجوه.

ويحتمل أن يكون المعنى : استجيب له بما أعلم أنه خير له ، إما بإعطاء المسؤول أو بدله في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.

باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« وأقرب » مبتدء « وما» مصدرية ويكون من الأفعال التأمّة وإلى متعلق بأقرب ، وأن في قوله : أن يؤاخي مصدرية ، وهو في موضع ظرف الزمان مثل رأيته مجيء الحاج ، وهو خبر المبتدء ، والعثرة الكبوة في المشي أستعير للذنب مطلقاً أو الخطا منه ، وقريب منه الزلة ، ويمكن تخصيص إحداهما بالذُّنوب والأخرى بمخالفة العادات والآداب ، والتعنيف التعيير واللوم ، وهذا من أعظم الخيانة في الصداقة والأخوة.

ولذا قال بعض العارفين : لا بد من أن تأخذ صديقا معتمدا موافقا مأمونا شره ولا يحصل ذلك إلّا بعد اعتبارك إياه قبل الصداقة آونة من الزمان في جميع أقواله وأفعاله مع بني نوعه ، ومع ذلك لا بد بعد الصداقة من أن تخفى كثيراً من أحوالك وأسرارك منه ، فإنّه ليس بمعصوم فلعلّ بعد المفارقة منك لأمرّ قليل يوجب زوال

٤٠٠