مرآة العقول الجزء ١٠

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 440

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 19981
تحميل: 8522


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19981 / تحميل: 8522
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكتمان الشّهادة لأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول : «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثمَّ قَلْبُهُ »(١) وشرب

_________________________________________________

كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعّم بالمطاعم الشهيّة والملابس البهية ، أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه ، وولوه ظهورهم أو لأنّها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنّها المشتملة على الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع الّتي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه.

وفي المجمع : إنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن ، وكان أبو ذرّ الغفاري يقول : بشر الكانزين بكي في الجباة ، وكي في الجنوب ، وكي في الظهور ، حتّى يلتقي الحر في أجوافهم ، ولهذا المعنى الذي أشار أبو ذرّ خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل ، وقيل : إنما خصت هذه المواضع بالعذاب لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم ، والظهر محل الحدود ، وقيل : لأن الجبهة محل السجود لظهورها والجنب محل الألم ، والظهور محل الحدود ، وقيل : لأن الجبهة محل السجود فلم يقم فيه بحقه ، والجنب مقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده ، والظهر محل الأوزار قال : «يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ » وقيل : لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه وطوى عنه كشحه وولاه ظهره.

«هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ » أي يقال لهم في حال الكي أو بعده : هذا جزاء ما كنزتم ، وجمعتم المال ولم تؤدوا حق الله عنها وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم «فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ » أي فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون أي تجمعون وتمنعون حق الله منه ، فحذف لدلالة الكلام عليه وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من عبد له مال ولا يؤدي زكاته إلّا جمع يوم القيأمّة صفائح(٢) يحمى عليها في نار جهنم فتكوى جبهته وجنباه وظهره حتّى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثمَّ يرى سبيله إما إلى الجنّة وإما إلى النّار.

« لأنّ الله عزَّ وجلَّ يقول » الآية هكذا : «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ » قال البيضاوي

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٣.

(٢) جمع الصفيحة : الحجر العريض. الواح الباب.

٦١

الخمر لأنَّ الله عزَّ وجلَّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان وترك الصلاة متعمدا

_________________________________________________

أيّها الشهود أو المديونون ، وشهادتهم إقرارهم على أنفسهم «وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثمَّ قَلْبُهُ » أي يأثمَّ قلبه أو قلبه يأثمَّ ، والجملة خبر إن وإسناد الإثمَّ إلى القلب لأن الكتمان تقترفه ، ونظيره : العين زانية والأذن زانية ، أو للمبالغة لأنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال ، وكأنه قيل : تمكن الإثمَّ في نفسه وأخذ أشرف أجزائه وفاق سائر ذنوبه.

وقال الطبرسي (ره) : أضاف الإثمَّ إلى القلب وإن كان الإثمَّ للجملة لأن اكتساب الإثمَّ بكتمان الشهادة يقع بالقلب لأن العزم على الكتمان إنما يقع به ، ولأن إضافة الإثمَّ إلى القلب أبلغ في الذم كما أن إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح ، قال سبحانه : «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ »(١) انتهى.

وأقول : ثاني الوجهين اللذين ذكراه أوفق بالخبر ، فإن تلك المبالغة مما يستلزم وعيد العذاب والعقاب ، فإنها تشعر بأنّها أفحش من أكثر الذُّنوب ، ويؤثر في القلب الذي هو محل العقائد ويفسده.

ثمَّ اعلم أنهعليه‌السلام ذكرشهادة الزور ولم يستدل على كونها كبيرة بشيء ، ويحتمل وجهين « أحدهما » أنها تدل عليها أيضاً لأن شهادة الزور إنما تكون غالبا مع العلم بخلافه ، فمن شهد بالزور فقد كتم الشهادة الّتي عنده « وثانيهما » أنها تدل عليها بالطريق الأولى ، إذ لو كان كتمان الحق والسكون عنه كبيرة كان إظهار خلاف الحقّ والتكلّم به أولى بذلك ، ولذا لم يستدلّ بقوله تعالى : «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ »(٢) لأنّه لا يدل على التحريم فضلاً عن كونه من الذُّنوب العظيمة ، مع أنّه يحتمل أن يكون المراد به لا يحضرون مجالس الباطل بل هو الأظهر ، وقال به الأكثر ، وعن الصادقينعليهما‌السلام أنّه الغناء ولا بقوله تعالى : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ »(٣) لأنه لا يدل على أكثر من

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢. (٢) سورة الفرقان : ٧٢.

(٣) سورة الحجّ : ٣٠.

٦٢

أو شيئاً ممّا فرض الله ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من ترك الصلاة متعمّداً فقد

_________________________________________________

التحريم ، مع أن الأكثر فسّروه بمطلق الكذب وإن كان يشمله كما نهى عن عبادة الأوثان ، أي ذكرهما في آية واحدة وسياق واحد ، فيدل على مقاربتهما في وجوب تركهما وترتّب العقاب على فعلهما ، ولذا ورد : شارب الخمر كعابد الوثن ، وأيضاً قال سبحانه : «فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » فيدل على أن فاعل كلّ منهما لا يفلح ، وعدم الفلاح إنّما يكون بترتّب العذاب والعقاب.

« أو شيئاً مما فرض الله » أي في الصلاة من الواجبات والشروط وقيل : أي مطلقا فيكون إجمإلّا بعد تفصيل بعض الكبائر لبعض المصالح.

قال الوالدقدس‌سره : يمكن التعميم للاختصار ليدخل فيه ترك الحج والصوم والجهاد مع الوجوب وغيرها من الواجبات وإن ذكر عقوبة ترك الصلاة فقط ليحال عليها غيرها ، وليتدبر في البواقي كما ذكر تعالى في الحج : «وَمَنْ كفّر فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ »(١) لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال هذا ممّا يشعر بأن وعيد النّار أو ما يستلزمه أعم من أن يكون في الكتاب أو في السنة ، ويمكن أن يكون الخبر ورد تفسيرا لبعض الآيات الواردة في ذلك كقوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ »(٢) فإن الصلاة من أعظم عهود الله الّتي أخذها على العباد.

وأقول : يؤيده ما سيأتي في كتاب الصلاة بأسانيد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال : الصلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهن وحافظ على مواقيتهن لقي الله يوم القيأمّة وله عنده عهد يدخله به الجنّة ومن لم يقم حدودهن ولم يحافظ على مواقيتهن لقي الله ولا عهد له إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، ويحتمل أن يكونعليه‌السلام ذكر الحديث استطرادا ولم يتعرّض للآيات لكثرتها وظهورها ، كقوله تعالى : «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ »(٣) وقوله : «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ »(٤) وأمثال ذلك كثيرة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧. (٢) سورة الرعد : ٢٥.

(٣) سورة المدثر : ٦٣. (٤) سورة الماعون : ٥.

٦٣

برى ء من ذمّة الله وذمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونقض العهد وقطيعة الرحم لأن الله

_________________________________________________

وكان هذا أحسن من الأوّل لأن الظاهر أن الوعيد الذي ورد في أخبار الكبائر ما يفهم من ظاهر القرآن وإلّا فعلم كلّ شيء في القرآن كما ورد في الأخبار الكثيرة.

« فقد بريء من ذمّة الله وذمّة رسوله » أي من عهدهما كما مر في الخبر أو من أمانهما أي ليس ممن عهد الله إليه أن لا يعذبه ولا ممن آمنه الله من عذابه « ونقض العهد » أي مع الله في العهد والنذرّ واليمين ، أو مع الإمام في البيعة ، وقيل : في جميع الواجبات وترك المنهيات وحمله على مخالفة الوعد مع المؤمنين وشروطهم مطلقا بعيد.

وأما الآية فقد قال سبحانه قبل ذلك : «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ » وقال الطبرسيرحمه‌الله في قوله : «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ » أي يؤدون ما عهد الله إليهمُّ وألزمهم إياه عقلا وسمعا فالعهد العقلي ما جعله في عقولهم من اقتضاء صحة أمور وفساد أمور أخر كاقتضاء الفعل للفاعل وأن الصانع لا بد أن يرجع إلى صانع غير مصنوع ، وإلّا أدى إلى ما لا يتناهى ، وأن للعالم مدبرا لا يشبهه والعهد الشرعي ما أخذه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المؤمنين من الميثاق المؤكّد باليمين أن يطيعوه ولا يعصوه ولا يرجعوا عما ألزموه من أوامر شرعه ونواهيه ، وإنّما كرر ذكر الميثاق وإن دخل جميع الأوامر والنواهي في لفظة العهد لئلا يظن ظان أن ذلك خاص فيما بين العبد وربه ، فأخبر أن ما بينه وبين العباد من المواثيق كذلك في الوجوب واللزوم ، وقيل : أنّه كرره تأكيداً.

«وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ » قيل : المراد به الإيمان بجميع الرسل والكتب ، كما في قوله : «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » وقيل : هو صلّة محمّد وموازرته ومعاونته والجهاد معه ، وقيل : هو صلة الرحم عن ابن عباس ، ثمَّ ذكر

٦٤

عزَّ وجلَّ يقول : «أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ »(١) قال فخرج عمرو وله صراخ من بكائه وهو يقول هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم.

_________________________________________________

أخباراً كثيرة تدلّ على المعنى الأخير ثمَّ قال تعالى : «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ».

وفي القاموس : الصرخة الصيحة الشديدة وكغراب الصوت أو شديدة والصارخ المغيث والمستغيث ضد والصارخة الإغاثة.

وأقول : قد أحصى والديقدس‌سره في بعض مؤلفاته ما يستنبط من الأخبار المختلفة أنها من الكبائر فمنها الشرك ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، والقذف ، وأكلّ مال اليتيم بغير حق ، والفرار من الزحف ، والربا ، والسحر ، والكهانة ، والزنا ، واللواط ، والسرقة لا سيما من الغنيمة ، والحلف كاذبا ، وترك الفرائض : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وتأخير الحج عن سنة الاستطاعة بغير عذرّ ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، وشرب الخمر بل كلّ مسكر ونكث الصفقة ونقض العهد مع الله ومع الخلق ، وقطع الرحم ، والتعرّب بعد الهجرة ، والكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأئمةعليهم‌السلام ، والغيبة ، والبهتان وقيل : ترك جميع السنن ومنع الزيادة من الماء السابلة مع حاجتهم وعدم حاجته ، وعدم الاحتراز عن البول ، والتسبب إلى سب الوالدين ، والإضرار في الوصية ، وسخط قضاء الله والاعتراض على قدره على قول فيهما ، والتكبر والحسد وعداوة المؤمنين والإلحاد في الحرم وفي المدينة والنم وقطع عضو مؤمن بغير حق وأكلّ الميتة وسائر النجاسات ، والقيادة ، والإصرار على الصغيرة ، والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ، على احتمال وكذا الكذب ، وخلف الوعد والخيانة ، ولعن المؤمنين وسبهم وإيذاؤهم بغير سبب ، وضرب الخادم زائدا على ما يستحقه ومانع الماء المباح عن

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٦.

٦٥

_________________________________________________

مستحقّه ، وسادّ الطريق المسلوك ، وتضييع العيال والتعصّب ، والظلم والغدر ، وكونه ذا لسانين ، وتحقير المؤمنين وتجسس عيوبهم وتعييرهم والافتراء عليهمُّ وسبهم وسوء الظن بهم وتخويفهم ، وبخس المكيال والميزان ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجلوس في مجالس الفساق لا سيما شرب الخمر بغير ضرورة ، والبدعة في الدين ، والجلوس مع أهلها ، وتحقير السيئة والقمار وأكلّ الحرام ، فمن الأمر بالمنكر إلى هنا احتمال كونها كبيرة والله يعلم.

فائدة

قال بعض المحقّقين : قد ذكر بعض العلماء ضابطة يعلم بها كبائر المعاصي عن صغائرها بل مراتب التكاليف الشرعية كلّها أو جلها ، وملخصها إنّا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا أن مقصود الشرائع كلّها سياقة الخلق إلى جوار الله وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلّا بمعرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته ورسله وكتبه ، وإليه الإشارة بقوله عزَّ وجلَّ : «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ »(١) أي ليكونوا عبيدا ولا يكون العبد عبداً ما لم بعرّف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية فلا بد وأن يعرّف نفسه وربه ، فهذا هو المقصود الأصلي ببعثة الأنبياء ، ولكن لا يتم هذا إلّا في الحياة الدنيا ، وهو المعنى لقولهعليه‌السلام : الدنيا مزرعة الآخرة ، فصا ر حفظ الدنيا أيضاً مقصودا تابعاً للدين ، لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال ، فكلما يسد باب معرفة الله فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ، ويلي ذلك ما يسد يأب المعايش الّتي بها حياة النفوس ، فهذه ثلاث مراتب ، فحفظ المعرفة على القلوب ، والحياة على الأبدان ، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلّها ، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل ، فلا يجوز أن يبعث الله نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥٦.

٦٦

_________________________________________________

ودنياهم ثمَّ يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله ويأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال.

فحصّل من هذا أنَّ الكبائر على ثلاث مراتب : « الأولى » ما يمنع عن معرفة الله ومعرفة رسله وهو الكفّر فلا كبيرة في المعاصي فوق الكفّر ، كما لا فضيلة فوق الإيمان على مراتبه في قوة المعرفة وضعفها لأن الحجاب بين العبد وبين الله هو الجهل ، ويتلو الجهل بحقائق الإيمان أعني الكفّر الأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمته ، فإن هذا باب من الجهل بالله بل عينه ، فمن عرّف الله لم يتصور أن يكون آمنا من مكره ولا أن يكون آيسا من رحمته ويتلو هذه الرتبة البدع كلّها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله ، وبعضها أشد من بعض.

المرتبة الثانية : قتل النفوس إذ ببقائها تدوم الحياة وبدوامها تحصل المعرفة والإيمان بالله وآياته فهو لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفّر لأنه يصدم عن المقصود ، وهذا يصدم عن وسيلته ، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكلّ ما يفضي إلى الهلاك حتّى الضرب وبعضها أكبر من بعض ، ويقع في هذه المرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع النّاس على الاكتفاء بالذكور لا نقطع النسل ، ودفع الوجود قريب من رفعه وأما الزنا فإنه وإن لم يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وما يتعلق بهما من عدم انتظام العيش وتحريك أسباب يكاد يفضي إلى التقاتل.

المرتبة الثالثة : تلف الأموال لأنها معائش الخلق فلا بد من حفظها إلّا أنه إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها ، فليس يعظم الأمر فيها ، نعم إذا أخذ بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر ، وذلك بطرق خفية كالسرقة وأكلّ الولي مال اليتيم وتفويته بشهادة الزور وباليمين الغموس فإن في هذه الطرق لا يمكن الاسترداد والتدارك ، ولا يجوز أن تختلف الشرائع في

٦٧

_________________________________________________

تحريمها أصلا ، وبعضها أشدّ من بعض ، وكلّها دون المرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وأما أكلّ الربا فلا بد أن تختلف فيه الشرائع إذ ليس فيه إلّا أكلّ مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه ، إلّا أن الشارع عظم الزجر عنه ، وعده من الكبائر لمصلحة يراها وإن لم يجعل الغصب الذي هو أكلّ مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع منها والله أعلم.

وقال الشهيدقدس‌سره : كلّ ما توعّد الشرع عليه بخصوصه فإنه كبيرة وقد ضبط ذلك بعضهم ، فقال : هي الشرك بالله تعالى ، والقتل بغير حق ، واللواط ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسحر ، والربا ، وقذف المحصنات ، وأكلّ مال اليتيم والغيبة بغير حق ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور ، وشرب الخمر ، واستحلال الكعبة والسرقة ، ونكث الصفقة ، والتعرّب بعد الهجرة ، واليأس من روح الله تعالى ، والأمن من مكر الله تعالى ، وعقوق الوالدين ، وكلّ هذا ورد في الحديث منصوصا عليه بأنه كبيرة ، وورد أيضاً التهمة ، وترك السنة ومنع ابن السبيل فضل الماء ، وعدم التنزه من البول والتسبب إلى شتم الوالدين ، والإضرار في الوصية.

وهناك عبارات أخر في حد الكبيرة ، منها كلّ معصية توجب الحد ، ومنها الّتي يلحق بها صاحبها الوعيد الشديد بكتاب أو سنة ، ومنها كلّ معصية يوجب في جنسها حد ، وهذه الكبائر المعدودة عند النّاس يرجع إلى ما يتعلق بالضروريات الخمس الّتي هي مصلحة الأديان والنفوس والعقول والأنساب والأموال لمصلحة الدين ، منها ما يتعلق بالاعتقاد ، وهو إما كفّر وهو الشرك بالله تعالى ، أو ليس بكفّر وهو ترك السنة إذا لم ينته إلى الكفّر ، وتدخل فيه مقالات المبتدعة من الأمّة كالمرجئة والخوارج والمجسمة وقد يكون الاعتقاد في نفسه خطاء وإن لم يسم كفراً ولا بدعة كالأمن من مكر الله تعالى ، واليأس من روح الله سبحانه ، ويدخل فيه كلّ ما أشبهه كالسخط بقضاء الله تعالى ، والاعتراض بقدره وقد يكون من أفعال القلوب المتعدّية

٦٨

(باب)

(استصغار الذنب )

١ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي أسأمّة زيد الشحام قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام اتّقوا المحقّرات من الذُّنوب فإنهّا لا تغفر قلت وما المحقّرات ؟ قال الرجل يذنب الذنب فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك

_________________________________________________

كالكبر والحسد والغلّ للمؤمنين ، ومن مصالح الدّين ما يتعلّق بالبدن إما قاصراً كالإلحاد في الحرم ، فيدخل فيه شبهه كإخافة المدينة الشريفة والإلحاد فيها ، والكذب على النبيّ والأئمّةعليهم‌السلام ، وإمّا متعدياً وقد نصّ على النميمة والسحر والتولي من الزحف ونكث الصفقة لأن ضرره متعد وأما مصلحة النفس فكالقتل بغير حق ويدخل فيه جناية الطرف ، وأما العقل فشرب الخمر ويدخل فيه كلّ مسكر ، وأكلّ الميتة وسائر النجاسات في معناه ، لاشتمال الخمر على النجاسة ، وأما الأنساب فالزنا واللواط ويدخل فيها القيادة ، ومن النسب عقوق الوالدين والإضرار في الوصية.

باب استصغار الذنب

الحديث الأول : حسن كالصحيح موثق.

« اتّقوا المحقّرات » لأنّ التحقير يوجب الإصرار وترك الندأمّة الموجبين للبعد عن المغفرة « غير ذلك » أي غير ذلك الذنب.

وأقول : مثل هذا الكلام يمكن أن يذكر في مقامين : أحدهما : بيان كثرة معاصيه وعظمتها ، وأن له معاصي أعظم من ذلك ، وثانيهما : بيان حقارة هذا الذنب وعدم الاعتناء به ، وكأنه محمول على الوجه الأخير.

٦٩

٢ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة قال سمعت أبا الحسنعليه‌السلام يقول لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذُّنوب فإن قليل الذُّنوب يجتمع حتّى يكون كثيرا وخافوا الله في السر حتّى تعطوا من أنفسكم النصف

٣ - أبو علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبار ، عن ابن فضّال والحجال جميعا ، عن ثعلبة ، عن زياد قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه ائتوا بحطب فقالوا يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب قال فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه فجاءوا به حتّى رموا بين يديه بعضه على بعض فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا تجتمع الذُّنوب ثمَّ قال إياكم والمحقرات من الذُّنوب فإن لكلّ شيء طالبا إلّا وإن طالبها يكتب ما قَدَّمُوا

_________________________________________________

الحديث الثاني : موثق.

« في السر » أي في الخلوة أو في القلب ، وعلى الأوّل التخصيص لأن الإخلاص فيه أكثر ولاستلزامه الخوف في العلانية أيضاً « حتّى تعطوا » أي حتّى يبلغ خوفكم درجة يصير سبباً لإعطاء الإنصاف والعدل من أنفسكم للناس ، ولا ترضون لهم ما لا ترضون لأنفسكم ، أو حتّى تعطوا الإنصاف من أنفسكم أنكم تخافون الله وليس عملكم لرئاء النّاس ، وكان الأوّل أظهر.

الحديث الثالث : مجهول.

« بأرض قرعاء » أي لا نبات ولا شجر فيها تشبيها بالرأس الأقرع ، وفي القاموس قرع كفرح ذهب شعر رأسه وهو أقرع وهي قرعاء والجمع قرع وقرعان بضمهما ، ورياض قرع بالضم بلا كلاء ، وفي النهاية : القرع بالتحريك هو أن يكون في الأرض ذات الكلاء موضع لا نبات فيها كالقرع في الرأس حتّى رموا بين يديه أي كثر وارتفع والطالب للذنوب هو الله سبحانه وملائكته «ما قَدَّمُوا » أي أسلفوا في حياتهم «وَآثارَهُمْ » ما بقي عنهم بعد مماتهم يصل إليهمُّ ثمرته أما حسنة كعلم علموه أو حبيس وقفوه ،

٧٠

وَآثارَهُمْ وَكلّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ

(باب )

(الإصرار على الذنب )

١ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عبد الله بن محمّد النهيكي ، عن عمّار بن مروان القندي ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.

_________________________________________________

أو سيئة كإشاعة باطل أو تأسيس ظلم أو نحو ذلك « والإمام المبين » اللوح المحفوظ وقيل : القرآن ، وقيل : كتاب الأعمال ، وفي كثير من الأخبار أنه أمير المؤمنينعليه‌السلام وكأنه من بطون الآية ، وأما قوله : «أَحْصَيْناهُ » فيحتمل أن يكون في الأصل أحصاه فصحف النساخ موافقاً للآية ، أو هو على سبيل الحكاية ، وقرأ بعض الأفاضل نكتب بالنون موافقا للآية ، فيكون لفظ الآية خبراً لأن أي طالبها هذه الآية على الإسناد المجازي ، وله وجه لكنه مخالف للمضبوط في النسخ ، وقد مر بعض القول في الآية في العاشر من باب الذنوب.

باب الإصرار على الذنب

الحديث الأوّل : مجهول.

وأما أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، فالمراد بالاستغفار التوبة والندم عليها والعزم على عدم العود إليها ، ومع التوبة لا يبقى أثر الكبيرة ولا يعاقب عليها ، وأما أنّه لا صغيرة مع الإصرار فيدل على أن الإصرار على الصغيرة كبيرة كما ذكره جماعة من الأصحاب ، وربما يجعل هذا مؤيدا لما مر من أن المعاصي كلّها كبيرة ، بناء على أن المراد بالإصرار الإقأمّة على الذنب بعدم التوبة والاستغفار كما يدل عليه الخبر الآتي ، وروي من طريق العأمّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أصر من استغفر ، ويرد عليه أنّه يجوز أن يكون المراد بالإصرار المداومة عليه والعزم على المعاودة ، فإن ذلك أنسب

٧١

_________________________________________________

باللّغة قال الجوهري : أصررت على الشيء أي أقمت ودمت ، وفي النهاية : أصرَّ على الشيء يصر إصراراً إذا لزمه ودامه وثبت عليه ، وفي القاموس : أصر على الأمر لزم وقريب منه كلام مجمل اللغة.

وقال الشيخ البهائيقدس‌سره : قد يفهم من نفي الصغيرة مع الإصرار أنها تصير كبيرة معه فلو لبس الحرير مثلاً مصراً عليه يصير ذلك اللبس كبيرة والمشهور فيما بين القوم أن الكبيرة هي نفس الإصرار على الصغيرة المصر عليها تصير بالإصرار كبيرة ، فكأنّهم يحملون الحديث على معنى أنه لا أثر للصغيرة في ترتّب العقاب مع الإصرار بل العقاب معه يترتّب على نفس الإصرار الذي هو من الكبائر ، فكأن الصغيرة مضمحلة في جنبه والإصرار في الأصل من الصر وهو الشد والربط ، ومنه سميت الصرة ، ثمَّ أطلق على الإقأمّة على الذنب من دون استغفار ، كان المذنب ارتبط بالإقأمّة عليه ، كذا ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) .

وقال الشهيد رفع الله درجته : الإصرار إما فعلي وهو المداومة على نوع واحد من الصغائر بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة ، وإما حكمي وهو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها ، أما من فعل الصغيرة ولم يخطر بباله توبة ولا عزم على فعلها ، فالظاهر أنه غير مصر ولعله مما تكفره الأعمال الصالحة من الوضوء والصلاة والصيام كما جاء في الأخبار ، انتهى.

وقال الشيخ البهائي روح الله روحه بعد نقل هذا الكلام : ولا يخفى أن تخصيصه الإصرار الحكمي بالعزم على تلك الصغيرة بعد الفراغ منها يعطي أنه لو كان عازماً على صغيرة أخرى بعد الفراغ مما هو فيه لا يكون مصراً ، والظاهر أنه مصر أيضاً وتقييده ببعد الفراغ منها يقتضي بظاهره أن من كان عازما مدة سنة على لبس الحرير مثلاً لكنه لم يلبسه أصلاً لعدم تمكنه لا يكون في تلك المدة مصرا وهو

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٣٥.

٧٢

٢ - أبو علي الأشعري ، عن محمّد بن سالم ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام في قول الله عزَّ وجلَّ : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »(١) قال الإصرار هو أن يذنب الذَّنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه

_________________________________________________

محلّ نظر ، انتهى.

وأقول : كأنّ نظره في غير محله لأنّ الظاهر من الأخبار الكثيرة وأقوال الجم الغفير من الأصحاب عدم المؤاخذة على العزم على المعاصي ، مع عدم الإتيان بها ، وأما قول الشهيد (ره) بتكفير الأعمال الصالحة للصغائر فلعله مع عدم اجتناب الكبائر ومعه يكفرها اجتنابها كما مر ، وقال بعض العأمّة : الإصرار هو إدأمّة الفعل والعزم على إدامته إدأمّة يصح معها إطلاق وصف العزم عليه ، وقال بعضهم : هو تكرار الصغيرة تكرارا يشعر بقّلة المبالاة إشعار الكبيرة بذلك ، أو فعل صغائر من أنواع مختلفة بحيث يشعر بذلك ، ثمَّ إن العلّأمّةقدس‌سره لم يعد من الكبائر الإصرار على الصغائر في بعض كتبه ، وكان ذلك لدخوله في الكبائر.

الحديث الثاني : ضعيف.

وقد مر القول فيه ، ويدل على أحد معاني الإصرار كما أومإنّا إليه ، وقال به بعض الأصحاب فقال : المراد بالإصرار عدم التوبة لكن رده بعضهم لضعفه ومخالفته لظاهر اللغة فقيل : المراد بالإصرار على الصغيرة الإكثار منها ، سواء كان من نوع واحد أو أنواع مختلفة ، وقيل : هو الإصرار على نوع واحد منها ، وقيل : يحصل بكلّ منهما ، وظاهر الأصحاب أن الإكثار من الذُّنوب وإن لم يكن من نوع واحد بحيث يكون ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عن له من غير توبة فهو قادح في العدالة بل لا خلاف في ذلك بينهم ، نقل الجماع عليه العلّأمّة في التحرير فلا فائدة في تحقيق كونه داخلا في مفهوم الإصرار أم لا ، وظاهر المحقق أنه غير داخل في مفهوم الإصرار ، وكذا من كلام العلّأمّة في الإرشاد والقواعد.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٣٥.

٧٣

بتوبة فذلك الإصرار.

٣ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه.

(باب )

(في أصول الكفّر وأركانه )

١ - الحسينُ بن محمّد ، عن أحمد بن إسحاق ، عن بكر بن محمّد ، عن أبي بصير قال :

_________________________________________________

وقال في التحرير : وعن الإصرار على الصغائر أو الإكثار منها ، ثمَّ قال : وأما الصغائر فإن داوم عليها أو وقعت منه في أكثر الأحوال ردت شهادته إجماعا وعلى كلّ تقدير فالمداومة والإكثار من الذنب والمعصية قادح في العدالة وأما العزم عليها بعد الفراغ ففي كونه قادحا تأمل إن لم يكن ذلك اتفاقيا ، وفي صحيحة عمر ابن يزيد أن إسماع الكلام الغليظ للأبوين لا يوجب ترك الصلاة خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا ، وهي تدلّ على أن مثل ذلك العزم غير قادح إذ الظاهر أن إسماع الكلام المغضب للأبوين معصية.

الحديث الثالث : حسن موثق.

وفيه إشعار بأن الإصرار على الصغيرة كبيرة إذ يبعد أن تكون الصغيرة المكفرة مانعة عن قبول الطاعة ، وفي الخبر إيماء إلى قوله تعالى : «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(١) .

باب في أصول الكفّر وأركانه

الحديث الأوّل : صحيح.

وكان المراد بأصول الكفّر ما يصير سبباً للكفّر أحيانا لا دائماً وللكفر

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٧.

٧٤

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : أصول الكفر ثلاثة : الحرص والاستكبار والحسد فأما الحرص فإن آدمعليه‌السلام حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكلّ منها وأما الاستكبار فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى وأما الحسد فابنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه.

٢ - علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله

_________________________________________________

أيضاً معان كثيرة ، منها ما يتحقق بإنكار الربّ سبحانه ، والإلحاد في صفاته ، ومنها ما يتضمن إنكار أنبيائه وحججه أو ما أتوا به من أمور المعاد وأمثالها ، ومنها ما يتحقق بمعصية الله ورسوله ، ومنها ما يكون بكفران نعم الله تعالى إلى أن ينتهي إلى ترك الأولى فالحرص يمكن أن يصير داعيا إلى ترك الأولى أو ارتكاب صغيرة أو كبيرة حتّى ينتهي إلى جحود يوجب الشرك والخلود ، فما في آدمعليه‌السلام كان من الأوّل ثمَّ تكامل في أولاده حتّى انتهى إلى الأخير ، فصح أنه أصل الكفّر ، وكذا سائر الصفات ، وقيل : قد كان إباء إبليس لعنه الله من السجود عن حسد واستكبار ، وإنما خص الاستكبار بالذكر لأنّه تمسك به حيث قال : «إنّا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » أو لأن الاستكبار أقبح من الحسد ، انتهى.

وقوله : فأما الحرص فهو مبتدء ، وقوله : فإن ، إلى قوله : أكلّ منها خبر ، والعائد تكرار المبتدء وضعاً للظاهر موضع المضمر ، مثل الحاقة ما الحاقة ، وقوله : فإبليس بتقدير فمعصية إبليس وكذا قوله : فأبناء آدم بتقدير فمعصية ابني آدم ، أي معصية أحدهما كما قيل.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

وأركان الكفّر قريب من أصوله ولعلّ المراد بالرغبة الرغبة في الدنيا والحرص عليها ، أو اتباع الشهوات النفسانية ، وبالرهبة الخوف من فوات الدنيا واعتباراتها بمتابعة الحق أو الخوف من القتل عند الجهاد ، ومن الفقر عند أداء

٧٥

عليه‌السلام قال قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أركان الكفّر أربعة الرغبة والرهبة والسخط والغضب.

٣ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن نوح بن شعيب ، عن عبد الله الدهقان ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إن أول ما عصي الله عزَّ وجلَّ به ست حبّ الدنيا وحب الرئاسة وحب الطعام وحب النوم وحب الراحة وحب النساء.

_________________________________________________

الزكاة ، ومن لؤم اللائمين عن ارتكاب الطاعات وإجراء الأحكام ، وقيل : الخوف من فوات الدنيا والهم من زوالها وهو يوجب صرف العمر في حفظها والمنع من أداء حقوقها ، وبالسخط عدم الرضا بقضاء الله ، وانقباض النفس في أحكامه وعدم الرضا بقسمة ، وبالغضب ثوران النفس نحو الانتقام عند مشاهدة ما لا يلائمها من المكاره والآلام.

الحديث الثالث : ضعيف.

« حبّ الدنيا » أي مال الدنيا أو البقاء فيها للذاتها ومألوفاتها لا للطاعة ، وحب الرئاسة بالجور والظلم والباطل ، أو في نفسها لا لإجراء أو أمر الله تعالى وهداية عباده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحبّ الطعام لمحض اللّذة لا لقوة الطاعة والإفراط في حبه بحيث لا يبالي من حلال حصل أو من حرام ، وكذا حب النوم أي الإفراط فيه بحيث يصير مانعاً عن الطاعات الواجبة أو المندوبة ، أو في نفسه لا للتقوى على الطاعة ، وكذا حب الاستراحة على الوجهين ، وكذا حب النساء أي الإفراط فيه بحيث ينتهي إلى ارتكاب الحرام أو ترك السنن والاشتغال عن ذكر الله بسبب كثرة معاشرتهن ، أو ما يوجب إطاعتهن في الباطل وإلّا فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اخترت من دنياكم الطيب والنساء.

٧٦

٤ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أن رجلا من خثعم جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال أي الأعمال أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ فقال الشرك بالله قال ثمَّ ما ذا قال قطيعة الرحم قال ثمَّ ما ذا قال الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

٥ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حسن بن عطية ، عن يزيد الصائغ قال قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام رجل على هذا الأمر إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان ما منزلته قال هي أدنى المنازل من الكفّر وليس بكافر.

_________________________________________________

الحديث الرابع : كالسابق.

وخثعم أبو قبيلة من معد ، وقد مر معنى الشرك ، وقطيعة الرحم يمكن شمولها لقطع رحم آل محمّد كما مر ، ويمكن إدخاله كلا أو بعضاً في الشرك ، والمنكر ما حرمه الله أو ما علم بالشرع أو العقل قبحه ويحتمل شموله للمكروه أيضاً ، وقال الشهيد الثانيقدس‌سره : المنكر المعصية قولاً أو فعلاً وقال أيضاً : هو الفعل القبيح الذي عرّف فاعله قبحه أو دل عليه ، والمعروف ما عرّف حسنه عقلاً أو شرعاً ، وقال الشهيد الثاني (ره) : هو الطاعة قولاً أو فعلاً ، وقال : يمكن بتكلف دخول المندوب في المعروف.

الحديث الخامس : كالسابق أيضاً.

وقوله : على هذا الأمر ، صفة رجل ، وجملة إن حدث ، خبر « أدنى المنازل » أي أقربها من الكفّر أي الذي يوجب الخلود في النّار وليس بكافر بهذا المعنى ، وإن كان كافرا ببعض المعاني ، ويشعر بكون خلف الوعد معصية بل كبيرة ، والمشهور استحباب الوفاء به وكأنه مر القول فيه وسيأتي إن شاء الله.

٧٧

٦ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب وشدة الحرص في طلب الدنيا والإصرار على الذنب.

٧ - علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن أسباط ، عن داود بن النعمان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله النّاس فقال إلّا أخبركم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يمنع رفده ويضرب عبده ويتزود وحده فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا ثمَّ قال إلّا أخبركم بمن هو شر من ذلك قالوا بلى يا رسول الله قال الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شره فظنوا أن الله لم يخلق خلقا هو شر من هذا.

_________________________________________________

الحديث السادس : ضعيف على المشهور.

والشقاء والشقاوة والشقوة سوء العاقبة بالعقاب في الآخرة ضد السعادة ، وهي حسن العاقبة باستحقاق دخول الجنّة ، وجمود العين كناية عن بخلها بالدموع وهو من توابع قسوة القلب وهي غلظته وشدته وعدم تأثره من الوعيد بالعقاب والمواعظ قال تعالى : «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ »(١) وكون تلك الأمور من علامات الشقاء ظاهر ، وفيه تحريص على ترك تلك الخصال ، وطلب أضدادها بكثرة ذكر الله وذكر عقوباته على المعاصي والتفكر في فناء الدنيا وعدم بقاء لذاتها ، وفي عظمة الأمور الأخرويّة ومثوباتها وعقوباتها وأمثال ذلك.

الحديث السابع : حسن موثق كالصحيح.

« الذي يمنع رفده» الرفد بالكسر العطاء والصلة وهو اسم من رفده رفدا من باب ضرب أعطاه وأعانه ، والظاهر أنه أعم من منع الحقوق الواجبة والمستحبة « ويضرب عبده » أي دائماً وفي أكثر الأوقات أو من غير ذنب ، أو زائداً على القدر المقرر أو مطلقاً ، فإن العفو من أحسن الخصال « ويتزود وحده » أي يأكلّ زاده وحده من غير رفيق مع الإمكان ، أو أنّه لا يعطي من زاده غيره شيئاً من عياله وغيرهم ،

__________________

(١) سورة الزمر : ٢٢.

٧٨

ثمَّ قال : إلّا أخبركم بمن هو شرُّ من ذلك قالوا بلى يا رسول الله قال المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم وإذا ذكروه لعنوه.

٨ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن بعض أصحابه ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث من كن فيه كان منافقا وإن صام وصلى وزعم أنه مسلّم من إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف إن الله عزَّ وجلَّ قال في كتابه «إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ »(١) وقال «أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ »(٢) وفي قوله عزَّ وجلَّ : «وَاذْكُرْ

_________________________________________________

وقيل : أي لا يأخذ نصيب غيره عند أخذ العطاء ، وهو بعيد.

ثمَّ اعلم أنه لا يلزم حمل هذه الخصال على الأمور المحرمة فإنه يمكن أن يكون الغرض عد مساوئ الأخلاق لا المعاصي ، والتفحش المبالغة في الفحش وسوء القول كما سيأتي ، واللعان المبالغة في اللعن ، وهو من الله الطرد والإبعاد من الرحمة ، ومن الخلق السب والدعاء على الغير ، وقريب منه في النهاية.

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

واعلم أنه كما يطلق المؤمن والمسلّم على معان كما عرفت فكذلك يطلق المنافق على معان ، منها أن يظهر الإسلام ويبطن الكفّر ، وهو المعنى المشهور ، ومنها الرياء ، ومنها أن يظهر الحب ويكون في الباطن عدوا ، أو يظهر الصلاح ويكون في الباطن فاسقا ، وقد يطلق على من يدعي الإيمان ولم يعمل بمقتضاه ، ولم يتصف بالصفات الّتي ينبغي أن يكون المؤمن عليها ، فكان باطنه مخالفاً لظاهرة ، فكأنه المراد هنا ، وسيأتي معاني النفاق في بابه إنشاء الله ، والمراد بالمسلّم هنا المؤمن الكامل المسلّم لأوامر الله ونواهيه ، ولذا عبر بلفظ الزعم المشعر بأنه غير صادق في

__________________

(١) سورة الأنفال : ٥٨. (٢) سورة النور : ٧.

٧٩

فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا »(١) .

٩ - علي بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أخبركم بأبعدكم مني شبها قالوا بلى يا رسول الله قال الفاحش المتفحش البذيء البخيل المختال الحقود

_________________________________________________

دعوى الإسلام.

« من إذا ائتمن » أي على مال أو عرض أو سر خان صاحبه وقيل : المراد به من أصر علي الخيانة كما يدل عليه قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ »(٢) حيث لم يقل إن الله لا يحب الخيانة ، ويدلّ على أنّه كبيرة لا يقبل منه معها عمل ، وإلّا كان محبوبا في الجملة ، وأما الاستدلال بآية اللعان فلأنه علق اللعنة بمطلق الكذب وإن كان مورده الكذب في القذف ، ولو لم يكن مستحقّاً للعن لم يأمره الله بهذا القول.

وأما قولهعليه‌السلام : وفي قوله عزَّ وجلَّ ، فلعلهعليه‌السلام إنّما غير الأسلوب لعدم صراحة الآية في ذمه بل إنما يدل على مدح ضده وبتوسطه يشعر بقبحه ، وإنما لم يذكرعليه‌السلام الآية الّتي هي أدل على ذلك حيث قال : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ »(٣) وسيأتي الاستدلال به في خبر آخر إما لظهوره واشتهاره ، أو لاحتمال معنى آخر كما سيأتي ، وقيل : كلمة « في » في قوله : « في قوله » بمعنى مع أي قال في سورة الصف ما هو مشهور في ذلك ، مع قوله في سورة مريم « واذكر » لدلالته علي مدح ضده.

الحديث التاسع : مرسل كالصحيح.

والفحش القول السيء والكلام الرديء وكلّ شيء جاوز الحد فهو فاحش ومنه غبن فاحش ، والتفحش كذلك مع زيادة تكلف وتصنع وقيل : أراد بالمتفحش

__________________

(١) سورة مريم : ٥٤. (٢) سورة الأنفال : ٥٨.

(٣) سورة الصف ٣٠.

٨٠