مرآة العقول الجزء ١١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 407

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 407
المشاهدات: 30821
تحميل: 8708


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30821 / تحميل: 8708
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 11

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

_________________________________________________

«وَلا تَكُونُوا أوّل كافِرٍ بِهِ »(١) أي جاحد له وساتر.

والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانيّة أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثها وقد يقال كفر لمن أخلّ بالشريعة وترك ما لزمه من شكر الله عليه قال «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ »(٢) ويدلّ على ذلك مقابلته بقوله : «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ » وقال : «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثمّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ »(٣) وقوله : «وَلا تَكُونُوا أوّل كافِرٍ بِهِ »(٤) أي لا تكونوا أئمة في الكفر فيقتدي بكم ، وقوله : «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ »(٥) وعنى بالكافر الساتر للحقّ فلذلك جعله فاسقاً ، ومعلوم أن الكفر المطلق هو أعظم من الفسق ، ومعناه من جحدّ حقّ الله فقد فسق عن ربّه ، ولـمّا رأي جعل كلّ فعل محمود من الإيمان جعل كلّ فعل مذموم من الكفر.

وقال في السحر : «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكنّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا »(٦) وقال : «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لا يَقُومُونَ » إلى قوله «وَاللهُ لا يحبّ كلّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ »(٧) وقال : «وَلِلَّهِ عَلَى الناس حِجُّ الْبَيْتِ » إلى قوله : «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ »(٨) .

والكفور المبالغ في كفران النعمة ، وقوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ »(٩) وقال «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إلّا الْكَفُورَ » إن قيل : كيف وصف

______________________

( ١ ) ( ٤ ) سورة البقرة : ٤١.

(٢) سورة الروم : ٤٤.

(٣) سورة النحل : ٨٣.

(٥) سورة النور : ٥٥.

(٦) سورة البقرة : ١٠٢.

(٧) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٨) سورة آل عمران : ٩٧.

(٩) سورة الزخرف : ١٥.

١٤١

____________________________________________________________________

الإنسان هيهنا بالكفور ولم يرض بذلك حتّى أدخل عليه إنّ واللّام كلّ ذلك تأكيداً وقال في موضع آخر : وكره إليكم الكفر(١) وقوله عزوجلّ : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ »(٢) فتنبيه على ما ينطوي عليه الإنسان من كفران النعمة وقلة ما يقوم بأداء الشكر ، وعلى هذا قوله : «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ »(٣) ولذلك قال : «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ »(٤) وقوله : «إِنَّا هَدَيْناهُ السبّيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كَفُوراً »(٥) تنبيها أنه عرفه الطريقين كما قال : «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ »(٦) فمن سالك سبّيل الشكر ومن سالك سبّيل الكفر وقال : «وَكانَ الشَّيْطانُ لِربّه كَفُوراً »(٧) فمن الكفر ونبه بقوله « كان » أنّه لم يزل منذ وجدّ منطوياً على الكفر.

والكفار أبلغ من الكفور ، لقوله : «كلّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ »(٨) وقال : «وَاللهُ لا يحبّ كلّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ »(٩) وقال : «إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ »(١٠) وقال : «وَلا يَلِدُوا إلّا فاجِراً كفاراً »(١١) وقد أجرى الكفار مجرى الكفور في قوله : «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ »(١٢) .

والكفار في جمع الكافر المضاد للإيمان أكثر استعمالاً لقوله تعالى : «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ »(١٣) وقوله : «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ »(١٤) والكفرة في جمع كافر النعمة أكثر استعمالاً ، وقوله عزّ وجلّ : «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ »(١٥) ألا ترى أنّه

______________________

(١) سورة الجحرات : ٧. (٢) سورة الزخرف : ١٥.

(٣) سورة عبس : ١٧. (٤) سورة سبّاً : ١٣.

(٥) سورة الإنسان : ٣. (٦) سورة البلد : ١٠.

(٧) سورة الإسراء : ٢٧. (٨) سورة ق : ٢٤.

(٩) سورة البقرة : ٢٧٦. (١٠) سورة زمرّ : ٣.

(١١) سورة نوح : ٢٧. (١٢) سورة إبراهيم : ٣٤.

(١٣ و ١٤) سورة الفتح : ٢٩. (١٥) سورة عبس : ٤٢.

١٤٢

____________________________________________________________________

وصف الكفرة بالفجرة ، والفجرة قد يقال للفسّاق من المسلمين.

وقوله «جَزاءاً لِمَنْ كانَ كُفِرَ »(١) أي الأنبياء ومن يجري مجراهم ممّن بذلوا النصح في أمر الله فلم يقبل منهم ، وقوله عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا »(٢) قيل : عنى بقوله إنّهم آمنوا بموسى ثمّ كفروا بمن بعده ، وقيل : آمنوا بموسى ثمّ كفروا بموسى إذ لم يؤمنوا بغيره.

وقيل : هو ما قال : «وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ »(٣) ولم يرد أنهم آمنوا مرتين وكفروا مرتين ، بل ذلك إشارة إلى أحوال كثيرة وقيل : كما يصعد الإنسان في الفضائل في ثلاث درجات يتسكع في الرذائل في ثلاث درجات والآية إشارة إلى ذلك ، ويقال : كفر فلان إذا اعتقد الكفر ، ويقال ذلك إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد ، ولذلك قال «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ »(٤) ويقال : كفر فلان بالشيطان إذا كفر بسبّبه ، وقد يقال ذلك إذا آمن وخالف الشيطان كقوله : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ »(٥) .

وأكفره إكفاراً حكم بكفره ، وقد يعبر عن التبري بالكفر ، نحو : «ثمّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ »(٦) الآية ، وقوله عزّ وجلّ : «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ »(٧) وقوله : «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثمّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا »(٨) .

وقيل : كنّى بالكفّار الزّراع لأنّهم يغطّون البذر في التراب ستر الكافر

______________________

(١) سورة القمر : ١٤. (٢) سورة النساء : ١٣٧.

(٣) سورة آل عمران : ٧٢. (٤) سورة النحل : ١٠٦.

(٥) سورةالبقرة : ٢٥٦. (٦) سورة العنكبوت : ٢٥.

(٧) سورة إبراهيم : ٢٢. (٨) سورة الحديد : ٢٠.

١٤٣

( باب )

( دعائم الكفر وشعبه )

١_ عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن عمر بن أذينة ، عن أبان بن أبي عيّاش ، عن سليم بن قيس الهلالي ،

____________________________________________________________________

حقّ الله ، بدلالة قوله : يعجب الزّراع ليغيظ بهم الكفّار ، ولأنّ الكفّار لا اختصاص لهم بذلك ، وقيل : بل عنى الكفّار وخصّهم لكونهم معجبين بالدّنيا وزخارفها ، وراكنين إليها.

والكفّارة ما يغطّي الإثم والتكفير ستره وتغطيته حتّى يصير بمنزلة ما لم يعمل ، ويصحّ أن يكون أصله إزالة الكفر ، والكفران نحو التمريض في كونه إزالة للمرض ، انتهى.

وأقول : قد مرّ بعض الكلام في حقيقة الكفر في أبواب الأيمان.

باب دعائم الكفر وشعبه

الحديث الأول : مختلف فيه.

وهو جزء من خطبة مشهورة مرّ بعضها بسند آخر في باب صفة الإيمان ، والباب الذي قبله ، ورواها الصدوق في الخصال بإسناده عن ابن نباتةرضي‌الله‌عنه في النهج قليلاً منه قد ذكرنا بعضه هنا ونذكر تتمته هيهنا قال.

والكفر على أربع دعائم على التعمق والتنازع والزيغ والشقاق ، فمن تعمّق لم ينب إلى الحقّ ، ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحقّ ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السّيئة وسكر سكر الضّلالة ، ومن شاق وعرت عليه طرقه وأعضل عليه أمره ، وضاق مخرجه.

١٤٤

عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال : بني الكفر على أربع دعائم : الفسق والغلوّ ، والشكّ والشبهة.

____________________________________________________________________

والشكّ على أربع شعب على التماري والهول والتردّد والاستسلام ، فمن جعل المراء ديدناً لم يصبح ليله ، ومن هاله ما بين يديه نكص على عقبيه ، ومن تردد في الريب وطئته سنابك الشياطين ، ومن استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك فيهما.

ثمّ قالقدس‌سره : وبعد هكذا كلام تركنا ذكره خوف الإطالة والخروج عن الغرض المقصود في هذا الكتاب.

وقال ابن ميثمّ في شرحه : وإمّا الكفر فرسمه أنه جحدّ الصانع أو إنكار أحدّ رسلهعليهم‌السلام أو ما علم مجيئهم به بالضرورة ، وله أصل وهو ما ذكرناه ، وكمالات ومتممات هي الرذائل الأربع الّتي جعلها دعائم له ، وهي الرذائل من الأصول الأربعة للفضائل الخلقية.

فأحدها التعمق وهو الغلوّ في طلب الحقّ ، والتعسّف فيه بالجهل والخروج إلى حدّ الإفراط ، وهو رذيلة الجور من فضيلة الحكمة ، ويعتمد الجهل بمظان طلب الحقّ ونفر عن هذه الرذيلة بذكر ثمرتها ، وهو عدم الإنابة إلى الحقّ والرجوع إليه لكون تلك الرذيلة صارت ملكة.

والثانية التنازع وهو رذيلة الإفراط من فضيلة العلم ويسمى جربزة ويعتمد الجهل المركب ، ولذلك نفر عنه بما يلزمه عند كثرته وصيرورته ملكة من دوام العمى عن الحق.

الثالثة : الزيغ ويشبه أن يكون رذيلة الإفراط عن فضيلة العفة وهو الميل عن حاق الوسط منها إلى رذيلة الفجور ، ويعتمد الجهل ، ولذلك لزمه قبح الحسنة وحسن السيئة وسكر الضلالة ، واستعار لفظ السكر لغفلة الجهل باعتبار ما يلزمها من سوء التصرف ، وعدم وضع الأشياء مواضعها ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة المسماة غباوة.

١٤٥

____________________________________________________________________

الرابعة : الشقاق وهو رذيلة الإفراط من فضيلة الشجاعة ، المسمّى تهوراً أو مستلزم له ، ويلزمها توعر المسالك على صاحبها ، وضيق مخرجه من الأمور ، لأنّ مبدء سهولة المسالك واتساع المداخل والمخارج في الأمور هو مسالمة الناس والتجاوز عمّا يقع منهم ، والحلم عنهم ، واحتمال مكروههم.

وإمّا الشك فعبارة عن التردد في اعتقاد أحد طرفي النقيض ويقابل اليقين ، وذكر له أربع شعب : أحدهما التماري وظاهر أن مبدء المراء الشك ، ونفر من اتخذه ملكة بكونه لا يصبح ليله ، وذلك كناية عن عدم وضوح الحقّ له من ظلمة ليل الشك والجهل.

الثاني : الهول لأنّ الشك في الأمور يستلزم عدم العلم بما فيها من صلاح أو فساد ، وذلك يستلزم الفزع منها والخوف من الإقدام عليها وثمرتها النكوص والرجوع على الأعقاب.

الثالث : التردد في الشك إلى الانتقال من حال إلى حال ، ومن شك في أمر إلى شك في آخر من غير ثقة بشيء ، وذلك دأب من تعود التشكك في الأمور ، ونفر عن ذلك بما يلزمه ممّا كنّى عنه بوطئ سنابك الشياطين ، وهو ملك الوهم والخيال لأرض قلبه ، حتّى يكون سلطان العقل بمعزل عن الجزم بما من شأنه الجزم به.

الرابع : الاستسلام لهلكة الدّنيا والآخرة ، ولزومه عن الشك لأنّ الشاك في الأمور الدنيويّة والأخروية المتعود لذلك غير عامل لشيء منها ، ولايتّهم لأسبّابها ، وبحسب ذلك يكون استسلامه لـمّا يرد منها عليه ، ولزوم هلاكه فيها لاستسلامه ظاهر ، وبالله التوفيق ، انتهى.

ولنرجع إلى شرح ما في الكتاب : « الدّعائم » جمع الدّعامة بالكسر ، وهي عماد البيت ، والمراد هنا أصوله وبواعثه ، و الفسق الخروج عن الطّاعة ، ويقال : أصله

١٤٦

____________________________________________________________________

خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، وقال الراغب : أكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرّ به ، ثمّ أخل بجميع أحكامه أو ببعضه.

والغلوّ هو مجاوزة الحدِّ في الدّين ، وفي التنزيل : «لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ »(١) ويقال : أصله الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيء ، وفي الخصال : والعتو ، قال في المصباح : عتا يعتو عتوا من باب قعد استكبر ، وقال الراغب : العتو النبو عن الطّاعة قال تعالى : «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً »(٢) «فَعَتَوْا عَنْ أمر رَبِّهِمْ »(٣) «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أمر رَبِّها »(٤) وقال : «بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ »(٥) وقوله تعالى : «أَيُّهُمْ أشدّ عَلَى الرَّحمن عِتِيًّا »(٦) قيل : المعنى هيهنا مصدر ، وقيل : هو جمع عاتي ، وقيل : العاتي الجاني ، انتهى.

وما في المتن أظهر لذكر العتو بعد ذلك إلّا أن يكون بمعنى آخر ، و الشك في الاصطلاح وهو تساوي الطرفين عند العقل ، وقال في المصباح : الشك الارتياب ويستعمل الفعل لازما ومتعديا بالحرف ، فيقال : شك في الأمر قال أئمة اللّغة : الشك خلاف اليقين فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين الشيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر ، قال تعالى : «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ممّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ »(٧) قال المفسّرون : أي غير مستيقن وهو يعم الحالتين ، انتهى.

وكأنّ المراد به هنا الشكّ في أصول الدّين وضروريّاته ، وهو أعظم أصول الكفر.

والشبهة ما يشبه الحقّ وليس به ، وقال الراغب : الشبهة هو أن لا يتميّز أحد

______________________

(١) سورة النساء : ١٧١. (٢) سورة الفرقان : ٢١.

(٣) سورة الذاريات : ٤٤. سورة الطلاق : ٨.

(٤) سورة الملك : ٢١.(٦) سورة مريم : ٦٩.

(٧) سورة يونس : ٩٤.

١٤٧

والفسق على أربع شعب : على الجفاء ، والعمى ، والغفلة ، والعتوّ ، فمن جفا

____________________________________________________________________

الشيئين من الآخر لـما بينهما من التشابه عيناً كان أو معنى ، انتهى.

وقيل : هي ترجيح الباطل بالباطل ، وتصوير غير الواقع بصورة الواقع ، وجلها بل كلها يحصل بمزج الباطل بالحقّ ولـمّا فرغ من دعائم الكفر وأصوله وكان لكلّ واحدة منها أربع شعب وكانت لتلك الشعب ثمرات وآثار مهلكة أشار إلى تلك الشعب وثمراتها للتحذير منها ، والتنفير عنها ، بقوله : والفسق على أربع شعب.

والشعبة من الشجرة بالضمّ الغصن المتفرع منها ، وقيل : الشعبة ما بين الغصنين والقرنين ، والطائفة من الشيء أو طرف الغصن والمراد هنا الفروع ، و الجفاء الغلظة في الطبع ، والخرق في المعاملة ، والفظاظة في القلب ، ورفض الصلة والبر والرفق والبعد عن الآداب الحسنة ، قال في المصباح : جفا السرج عن ظهر الفرس يجفو جفاء ارتفع ، وجافيته فتجافى ، وجفوت الرّجل أجفوه أعرضت عنه أو طردته ، وهو مأخوذ من جفاء السيل وهو ما نفاه السيل ، وقد يكون مع بغض ، وجفا الثوب يجفو إذا غلظ فهو جاف ، ومنه جفاء البدو وهو غلظتهم وفظاظتهم.

والعمى ذهاب بصر القلب وترك التفكر في الأمور النافعة في الآخرة ، وعدم إدراك الحقّ والتميز بينه وبين الباطل.

وفي المصباح : الغفلة غيبة الشيء عن بال الإنسان ، وعدم تذكّره له ، وقد استعمل فيمن ترك إهمالاً وإعراضا كما في قوله تعالى : «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ »(١) يقال منه غفلت عن الشيء غفولاً من باب قعد ، وله ثلاثة مصادر غفول وهو أعمها وغفلة وزان تمرة ، وغفل وزان سبّب ، وأغفلت الشيء إغفالاً تركته إهمالاً من غير نسيان ، وقال الراغب : الغفلة سهو يعتري من قلة التحفّظ والتيقظ ، قال عزّ وجلّ : «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا »(٢) «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ »(٣) «وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ »(٤)

______________________

( ١ و٣ ) سورة الأنبياء : ١.(٢) سورة ق : ٢٢.

(٤) سورة الروم : ٧.

١٤٨

احتقر الحقَّ ومقت الفقهاء ، وأصرَّ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، ومن عمي نسي الذكر واتبع الظنّ وبارز خالقه ، وألحَّ عليه الشيطان ، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة.

____________________________________________________________________

«وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ »(١) «لِتُنْذِرَ قوماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ »(٢) .

« احتقر الحقّ » وفي بعض النسخ الخلق أي أهل الحقّ « ومقت الفقهاء أي » أهل البيتعليهم‌السلام . أو الأعمّ منهم ومن علماء شيعتهم وهو أظهر ، « وأصر على الحنث العظيم » وهو الإثمّ بالاحتقار والمقت ، أو بالأعمّ منهما ومن سائر الكبائر وهو إشارة إلى قوله تعالى : «وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ »(٣) في وصف أصحاب الشمال بعد ذكر شدة عذابهم وأنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، قال الطبرسي : الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف.

وقال : أي الذنب العظيم ، وقال : الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه ولا يتوب منه ، وقيل : الحنث العظيم الشرك أي لا يتوبون عنه ، وقيل : كانوا يحلفون لا يبعث الله من يموت وأن الأصنام أنداد الله ، وقال الراغب : أي الذنب المؤثمّ ، وسمي اليمين الغموس حنثا لذلك « ومن عمي نسي الذكر » أي ذكر الله أو الآخرة أو القرآن أو القرآن أو أهل البيتعليهم‌السلام ، وذكر الله يعم الجميع إشارة إلى قوله تعالى : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ »(٤) وقد مرّ وسيأتي أنهمعليه‌السلام ذكر الله.

« واتبع الظنّ » أي في أصول الدّين الّتي لا يجوز فيها اتبّاعه ، أو المراد به الظنون الّتي لا يجوز اتباعها كالظنّ الحاصل بالرأي والقياسات والاستحسانات العقلية كما هو شأن المخالفين ، وليست هذه الفقرة في « ل ».

« وبارز خالقه » أي حاربّه مطلقاً أو في اتباع الظنّ حيث ارتكب ما نهاه

______________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠٥.

(٢) سورة يس : ٦.

(٣) سورة الواقعة : ٤٦. (٤) سورة المجادلة : ١٩.

١٤٩

ولا غفلة ؛ ومن غفل جنى على نفسه ؛ وانقلب على ظهره وحسب غيّه رشداً ؛ وغرَّته

____________________________________________________________________

عنه بقوله عزّ وجلّ : «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ »(١) وبقوله : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظنّ وَإِنَّ الظنّ لا يُغْنِي مِنَ الحقّ شيئاً »(٢) .

« وألحّ عليه الشيطان » إشارة إلى قوله : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ » « وطلب المغفرة » هذا أيضاً ليست في « ل ».

« بلا توبة » أي ندامة عمّا فعل ولا استكانة وتضرّع في طلب المغفرة.

« ولا غفلة » عن الذنوب ، وشبهة عرضت له فيها « ومن غفل » أي عن الآخرة وعقوباتها ومضرة الشيطان واتباع شهوات الدّنيا ولذّاتها « جنى على نفسه » أي أهلكها « وانقلب » عن الدين « على ظهره ».

« وحسب غيّه » وضلاله « رشداً » وصلاحاً وذلك لغفلته عن تسويلات الشيطان ووساوسه « وغرته الأماني » أي المواعيد الكاذبة من الشيطان حيث قال اللعيّن : «وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ »(٣) قال الراغب : الأمنية الصورة الحاصلة في النفس من تمنى الشيء ، ولـمّا كان الكذب تصور ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ صار التمني كالمبدء للكذب ، فصح أن يعبر عن الكذب بالتمني ، وقال : التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها ، وذلك قد يكون عن تخمين وظنّ ، وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل لكنّ لـمّا كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك.

قال بعض الأفاضل : من المغرورين من ينكر الحشر والنشر ، ومنهم من يزعم أن وعيد الأنبياء من باب التخويف ولا عقاب في الآخرة ، ومنهم من يقول أن لذات الدّنيا متيقنة ، وعقوبة الآخرة مشكوكة والمتيقّن لا يترك بالمشكوك ، ومنهم من يفعل المعاصي ويقول إنّ الله غفور رحيم ، ومنهم من يزعم أن الدّنيا نقد والآخرة

______________________

(١) سورة الإسراء : ١٣٦.

(٢) سورة النجم : ٢٨.

(٣) سورة النساء : ١١٩.

١٥٠

الأمانيُّ ؛ وأخذته الحسرة والنّدامة إذا قضي الأمر وانكشف عنه الغطاء وبدا له ما لم يكن يحتسبّ ومن عتا عن أمر الله شكَّ ومن شكَّ تعالى الله عليه فأذلّه بسلطانه

____________________________________________________________________

نسيئة والنقد أحسن من النسيئة ، ومنهم من اغترّ بنفسه وبعلمه وغفل عن آفاته ، ومنهم من اغتر بعلمه وظنّ أنه بلغ حدّ الكمال وليس مثله أحدّ وكأنه لم يسمع ما ورد في ذم العلماء المغرورين بعلومهم ، ومنهم من علم وعمل وغفل عن طهارة الباطن عن الأخلاق الرذيلة وظنّ أنه منزه عنها مستحقّ للثواب الجزيل بسبّبه ، ومنهم من اغتر بأصل العلم وطلب علوما نافعة في الدّنيا وغفل عن علم الآخرة ، ومنهم من اغتر بأصل الطهارة والنيات واتبع وسواس الشيطان وظنّ أنه يحسن شيئاً وأنه مستحقّ للأجر به ، ومنهم من اغتر بالعبادة وظنّ أنه فاق العابدين ، ومنهم من اغتر بالزهد وظنّ أنه أزهد الناس وأنه شفيع للخلق يوم القيامة ، ومنهم من اغتر بالمال والمغرورون به كثير ، ومنهم من اغتر بالأولاد والأنصار ، ومنهم من اغتر بالجاه والرئاسة ، إلى غير ذلك من أسباب الغرة الّتي لا تحصى كثرة.

« وأخذته الحسرة » ممّا لحقه من الفضائح « والندامة » ممّا فعله من القبائح « إذا قضى الأمر » بين الخلائق في القيامة أو أمر الدّنيا بالموت « وانكشف عنه الغطاء » المانع من مشاهدة سوء عاقبته أو في وقت الموت فرأى ما سمعه عيانا.

هذا بالنظر إلى أصحاب الغفلة فأمّا من رأى أمور الآخرة بعيّن اليقين فقد قامت قيامته في الدّنيا كما قال سيد أصحاب اليقين : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

« وبدا له » أي من الله ومن أمور الآخرة وفي « ل » : وأخذته الحسرة إذا انكشف الغطاء وبداً له من الله « ما لم يكن يحتسبّ » أي يظنّ ويتوقع إشارة إلى قوله سبّحانه : «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جميعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسبّونَ »(١) .

« ومن عتا من أمر الله » أي تركه استكباراً « شكّ » أي في الله أو في أمره ، فإن

______________________

(١) سورة الزمر : ٤٧.

١٥١

وصغّره بجلاله كما اغترَّ بربّه الكريم وفرَّط في أمره.

والغلوُّ على أربع شعب : على التعمق بالرَّأي ، والتنازع فيه ، والزيَّغ

____________________________________________________________________

المعصية طريق إلى الكفر ويستلزمه « تعالى الله عليه » أي غضب عليه « فأذّله » في الدّنيا والآخرة « بسلطانه » أي بقدرته وعزّته « وصغّره » عند الخلائق « بجلاله » وعظمته فيفعل به نقيض مقصوده.

« كما اغترّ بربّه الكريم » الذي أحسن إليه وأنعم عليه ، إشارة إلى قوله تعالى : «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ »(١) قال البيضاوي : أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه ، وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار ، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي ، فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر والانتقام ، والإشعار بما يغره به الشيطان ، فإنه يقول له : افعل ما شئت فربك كريم لا يعذب أحداً ، أو لا يعاجل بالعقوبة والدلالة على أن كثرة كرمه يستدعي الجدّ في طاعته لا الانهماك في عصيانه اغتراراً بكرمه.

« وفرّط في أمره » أي قصر في طاعته ، وجعل المفعول في أذله وصغره راجعيّن إلى الله تعالى بعيد جدا ، وفي « ل » ثمّ أذله بسلطانه وصغّره لجلالة كما فرط في جنبه وعتا عن أمر ربّه الكريم « على التعمق بالرأي » أي التعمق والغور في الأمور بالآراء والمقاييس الباطلة ، وليس قوله بالرأي في « ل » يقال تعمق في الأمر أي بالغ في النظر فيه ، والمراد به المبالغة المفضية إلى حدّ الإفراط ، وبعد ظهور الحقّ ، كمن وصل في البئر إلى الماء وقضى الوطر ثمّ غاص في البئر فغرق ، وقيل : المراد بالتعمق تدقيق النظر في طلب الباطل ، لأنّ طلب الحقّ يشبه الصعود والعروج ، وطلب الباطل يشبه النزول إلى القعر ، وعلى الأوّل يدلّ على ذم كثرة التفكر والتعمق في أمور الدين.

« والتنازع فيه » أي في الرأي وليس في « ل » والزيغ الميل عن الاستقامة على

______________________

(١) سورة الإنفطار : ٦.

١٥٢

والشقاق فمن تعمّق لم ينب إلى الحقّ ولم يزدد إلّا غرقاً في الغمرات ولم تنحسر عنه فتنة إلّا غشيته أخرى وانخرق دينه فهو يهوي «فِي أمر مَرِيجٍ » ومن نازع في الرأي وخاصم شهر بالعثل من طول اللجاج ومن زاغ قبحت عنده الحسنة وحسنت عنده

____________________________________________________________________

الحقّ إلى الباطل ، كما قال تعالى : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا »(١) وقال : «بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ »(٢) وقال تعالى : «فَلـمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ »(٣) أي لـمّا فارقوا الاستقامة عاملهم بذلك « والشقاق » أي المخالفة الشديدة مع أهل الحقّ « لم ينب » على صيغة الأفعال أي لم يرجع إلى الحقّ وإن ظهر له ، لأنّ من خاض في الباطل وتمكن في قلبه لم يرجع إلى الحقّ الواضح إلّا من شذ « ولم يزدد » أي في تعمقه « إلّا غرقاً في الغمرات » أي الشبه القوية والآراء الفاسدة الّتي لم يمكنه التخلص منها.

في القاموس : الغمرّ الماء الكثير ، ومعظم البحر وغمرة الشيء شدته ومزدحمة ، والجمع غمرات وغمار « ولم تنحسر » أي لم تنكشف « عنه فتنة » مضلة « إلّا غشيته أخرى » لأنّ الشرور بعضها يجر إلى بعض فيتعسر عليه الخروج عنها والتخلص منها « وانخرق دينه » بمقراض الفتنة « فهو يهوي في أمر مريج » أي في أمر مختلط بالأباطيل المختلفة أو بالحقّ وبالباطل ، قال الراغب : أصل المرج الخلط ، والمرج الاختلاف يقال : أمرهم مريج أي مختلط وقال البيضاوي في قوله تعالى : «بَلْ كَذَّبُوا بِالحقّ لـمّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أمر مَرِيجٍ »(٤) أي مضطرب من مرج الخاتم من إصبعه إذا خرج ، وذلك قولهم تارة أنه شاعر ، وتارة أنه ساحر ، وتارة أنه كاهن.

« شهر بالعثل » في بعض النسخ بالعيّن المهملة والثاء المثلثة أي الحمق ، في القاموس العثل ككتف الغليظ الضخم ، وكصبور الأحمق ، والنخلة الجافية الغليظة ، وقد يقرأ

______________________

(١) سورة آل عمران : ٨.

(٢) سورة التوبة : ١١٧.

(٣) سورة الصفّ : ٥.

(٤) سورة ق : ٥.

١٥٣

السيّئة ومن شاقَّ اعورت عليه طرقه واعترض عليه أمره ، فضاق عليه مخرجه إذا لم

____________________________________________________________________

بالتاء المثناة ، في القاموس عتل إلى الشرّ كفرح فهو عتل أسرع ، وفي أكثر النسخ بالفشل ، بالفاء والشين المعجمة ، وهو الضعف والجبن ، قيل : وإنما شهر بالفشل لأنّ خصمه المبطل لا ينقاد للحقّ ، بل لا يزال يجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، فيظهر ضعف هذا المحقّ فيشهر به.

« ومن زاغ » أي مال عن منهج الحقّ إلى الباطل زين له الشيطان سوء أعماله فقبحت عنده الحسنة ، وحسنت عنده السيئة. « ومن شاق » أي عارض ونازع أهل الدين والإمام المبين « أعورت عليه طرقه » على بناء الأفعال أو الافعلال أي صار أي طريق سلك فيه أعور أي بلا علم يهتدى به فيتحير فيها ، في القاموس الأعور من الطرق الذي لا علم فيه ، وفي بعض النسخ أوعرت أي صعبت. في القاموس الوعر ضد السهل ، وقد وعر المكان ككرم ووعد وولع وتوعر صار وعرا ، وأوعر به الطريق وعر عليه وأفضى به إلى وعر ، والرّجل وقع في وعر واستوعروا طريقهم رأوه وعرا كأعوره ، انتهى.

وجمع الطرق إشارة إلى كثرة طرق الباطل « واعترض عليه أمره » أي يحول بينه وبين الوصول إلى مقصوده أو يصعب عليه ولا يتأتى له بسهولة ، أو على بناء المجهول أي تعترض له الشبهات فتحول بينه وبين الوصول إلى أمره الذي يريده ، وفي القاموس الاعتراض المنع والأصل فيه أن الطريق إذا اعترض فيه بناء أو غيره منع السابلة من سلوكه ، واعترض صار وقت العرض راكباً. وصار كالخشبة المعترضة في النهر ، والشيء دون الشيء حال ، والفرس في رسنه لم يستقم لقائده ، وزيد البعير ركبه ، وهو صعب بعد ، انتهى.

وقيل : أي أمره معترض عليه مستول كالفرس الحرون يمشي نشاطاً في عرض الطريق ، وهو كناية عن عدم استقامته أو عن قوته ونشاطه في الباطل ، أو يعترض عليه مانع له عن قبول الحقّ من عرض له عارض أي مانع ومنه اعتراضات العلماء لأنّها تمنع من التمسك بالدليل ، وتعارض البينات لأنّ كلّ واحدة تعترض الأخرى

١٥٤

يتّبع سبيل المؤمنين.

والشكُّ على أربع شعب : على المرية والهوى والتردد والاستسلام - وهو قول الله عزّ وجلّ : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى »(١)

____________________________________________________________________

وتمنع نفوذها ، وفي بعض النسخ أعورت عليه طرفه ، بالفاء ، أي صار عيّن قلبه أعور لا يبصر الحق.

وأقول : الظاهر أنّه إشارة إلى قوله تعالى : «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سبّيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً »(٢) .

« على المرية » قال الجوهري : المرية الشك والجدل ، وقد يضمّ ، وقرئ قوله تعالى : «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ »(٣) بهما ، وقال : هاله الشيء يهوله هولا أي أفزعه ، وقال : استسلم أي انقاد وقال : نكص على عقبيه ينكص وينكص أي رجع ، وقيل :

المراد بالشك الشك في أصول الدين أو خلاف اليقين ، وبالمرية الشك في فروعه ، أو بمعنى تساوي الطرفين الحقّ والباطل ، والأخيران من شعب الأولين والهوى ، إذ الشك يوجب متابعة الهوى « والتردد » أي بين الحقّ والباطل ، لأنّ الشاك متردد بينهما ، قد يختار هذا وقد يختار ذاك ، والاستسلام الانقياد لأنّ الشاك واقف على الجهل مستسلم له أو لـمّا يوجب هلاك الدّنيا والآخرة.

« وهو قول الله عزّ وجلّ » أي الشك الذي ذكرنا شعبه هو الذي زجر الله عنه في قوله «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى » إذ المماراة مجادلة على طريقة الشك ، قال البيضاوي : أي تتشكك ، والخطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكلّ أحد.

أقول : الظاهر أن المراد بالشك هنا الشك في أصول الدين لا سيّما في الإمامة

______________________

(١) سورة النجم : ٥٥.

(٢) سورة النساء : ١١٥.

(٣) سورة هود : ١٧.

١٥٥

وفي رواية أخرى على المرية والهول من الحقّ والتردد والاستسلام للجهل وأهله.

____________________________________________________________________

كمايومى إليه الاستشهاد بآية سورة النجم ، لأنه تعالى قال فيها : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى » وقد روي عن ابن عبّاس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : سينقض كوكب من السّماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيي وخليفتي والإمام بعدي ، فسقط في دار عليُّعليه‌السلام فقال المنافقون : لقد ضل محمّد في محبّة ابن عمه وغوى ، وما ينطق في شأنه إلّا بالهوى ، فأنزل الله تعالى : «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى » يقول : وخالق النجم إذا هوى «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ » يعني في محبّة عليُّ «وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى » يعني في شأنه «إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى ».

وروى عليُّ بن إبراهيم عن الباقرعليه‌السلام يقول : ما ضل في عليُّ وما غوى ، وما ينطق فيه عن الهوى ، وما كان ما قاله فيه إلّا بالوحي الذي أوحى إليه ومثله كثير وقد ورد في الأخبار الكثيرة أنه لـمّا عرج بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان قاب قوسين أو أدنى أوحى الله إليه في ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال بعد ذلك : فأوحى إلى عبده ما أوحى ، يعني في عليُّعليه‌السلام ثمّ قال : «أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى » أي أفتجادلونه من المراء. وقال عليُّ ابن إبراهيم سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك الوحي ، فقال : أوحى إلى أن عليا سيد المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ، وأوّل خليفة يستخلفه خاتم النبيين فدخل القوم في الكلام ، فقالوا : أمن الله أو من رسوله؟ فقال الله جل ذكره لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى » ثمّ رد عليهم فقال : «أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى » فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أمرت فيه بغير هذا ، أمرت أن أنصبه للناس. فأقول : هذا وليكم من بعدي. ثمّ قال : «إِنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظنّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ».

إلى أن قال : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إلّا الْحَياةَ الدّنيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » ثمّ قال : «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى » وقد ورد في الأخبار الكثيرة

١٥٦

فمن هاله ما بين يديه «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ » ومن امترى في الدّين تردّد في الرَّيب وسبقه الأوَّلون من المؤمنين وأدركه الآخرون ووطئته سنابك الشيطان ومن

____________________________________________________________________

أنّهمعليهم‌السلام آلاء الله ، فإذا تأملت في آيات تلك السورة عرفت ما ذكرهعليه‌السلام من الشك. وشعبه حقّ المعرفة.

« فمن هاله من بين يديه » من الحقّ والرغبة إلى الآخرة «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ » إلى الباطل والدّنيا كما قال سبّحانه : «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى » الآية.

« ومن امترى في الدين » في القاموس المرية بالكسر والضمّ الشك والجدل ، وماراه مماراة ومراء وامترى فيه وتمارى شك « تردد في الريب » بالفتح أو بكسر الراء وفتح الباء جمع ريبة كسدرة وسدر ، وهو أظهر أي انتقل من حال إلى حال ومن شك إلى شك آخر من غير ثقة بشيء أو استمرار على أمر كما هو دأب المعتادين بالتشكيك في الأمور « وسبّقه الأولون من المؤمنين » أي الذين كانوا في مرتبته من الإيمان ، ولعدم الشك والمرية صعدوا إلى درجات اليقين « وأدركه الآخرون » أي الذين كانوا أخفض مرتبة منه فترقوا إلى مرتبته وهو واقف متحير لا يبرح من درجته الخسيسة لابتلائه بالشك والشبهة.

« ووطئته سنابك الشيطان » السنابك جمع سنبك كقنفذ ، وهو طرف الحافر وهو كناية عن استيلاء الشيطان وجنوده من الجن والإنس عليه وفي « ل » الشياطين « ومن استسلم لهلكة الدّنيا والآخرة هلك فيما بينهما » فلم تكن له الدّنيا خالصة لزوالها مع ما عليه من العقوبات فيها ، ولم تكن له الآخرة لعدم إتيانه بما ينفعه فيها.

قال بعض المحققين : فيه إشارة إلى أن الطالب للدنيا المستسلم لها هالك ، وأن الطالب للعقبى ونعيمها أيضاً هالك ، وللإنسان الموقن شأن وراء ذلك يليق به ، وهو نبذ الدّنيا والعقبى وراء ظهره ، والترقي إلى ساحة الوصول أمام دهره ، وروي أن الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام يا داود أحبّ الإحياء إلى من عبدني بغير نوال

١٥٧

استسلم لهلكة الدُّنيا والآخرة هلك فيما بينهما ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين ولم يخلق الله خلقاً أقلَّ من اليقين.

والشبهة على أربع شعب إعجاب بالزّينة وتسويل النفس وتأوّل العوج

____________________________________________________________________

ولكن عبدني ليعطي الربوبيّة حقّها ، ومن أظلم ممّن عبدني لجنة أو نار ، ألم أكن أهلا أن أطاع وأعبد خالصة.

« ومن نجا من ذلك فمن فضل اليقين » قيل : اليقين ليس محض الاعتقاد ، بل هو كيفية نفسانيّة تبعث على متابعة من أقرّ بهم من الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام من جميع الوجوه وتمنع عن مخالفتهم ، ولذا قالعليه‌السلام : ولم يخلق الله خلقا أقل من اليقين ، لأنّ اليقين بالمعنى المذكور لا يكون إلّا لمن اصطفاه الله تعالى من عباده ، ولمن تابعهم حقّ المتابعة ، وقد مرّ الكلام في اليقين ، وكان المراد بالخلق هنا التقدير.

« والشبهة على أربع شعب : إعجاب بالزينة » أي إعجاب المرء بالزينة الدنيويّة أو القلبية من الأمور الّتي اخترعتها النفس بالرأي والاستحسّان ، مع استعانة الوهم والخيال فأعجبت بها.

« وتسويل النفس » أي تزيينها للأمور الباطلة بحسب المادة والصورة ، مع شوب الحقّ وعدمه ، فإن النفس باستعانة الوهم قد تزين الأمور الباطلة الصرفة ، كما تزين الباطل الممتزج بالحقّ ، والظاهر أن الإضافة إلى الفاعل كما قال تعالى «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً »(١) والإضافة إلى المفعول بعيد ، قال الراغب : التسويل تزيين النفس لـمّا تحرص عليه وتصوير القبيح منه بصورة الحسن ، قال تعالى : «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً » «الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ »(٢) .

« وتأوّل العوج » أي تأويل الأمر المعوج والباطل بما يظنّ أنه حقّ ومستقيم

______________________

(١) سورة يوسف : ١٨.

(٢) سورة محمّد : ٢٥.

١٥٨

ولبس الحقّ بالباطل ، وذلك بأنَّ الزّينة تصدف عن البيّنة وأنَّ تسويل النفس

____________________________________________________________________

وقيل : أي التأويل الغير المستقيم قال في القاموس : أوّل الكلام تأويلا وتأوله دبره وقدره وفسرّه ، وقال : عوج كفرح والاسم كعنب ، أو يقال في كلّ منتصب كالحائط والعصا فيه عوج محرّكة ، وفي نحو الأرض والدين كعنب ، وقال في النهاية : هو بفتح العيّن مختص بكلّ شيء مرئي كالأجسام وبالكسر فيما ليس بمرئي كالرأي والقول.

« وليس الحقّ بالباطل » أي خلط الحقّ والواقع بما هو ليس بواقع كالجمع بين خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام وخلافة الثلاثة أو إخفاء الحقّ بتأويله بالباطل كتأويل حدوث العالم بالحدوث الذاتي ، وهو إشارة إلى قوله تعالى : «وَلا تَلْبِسُوا الحقّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الحقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ »(١) وقال البيضاوي : اللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره ، والمعنى لا تخلطوا الحقّ المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتّى لا يميز بينهما ، أو لا تجعلوا الحقّ ملتبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتبونه في خلاله أو تذكرونه في تأويله.

« وذلك بأن الزينة تصدف عن البينة » أي تصرف النفس عن البينة الشرعيّة والعقلية الّتي يحكم بصحتها النص الصحيح ، والعقل الصريح ، في القاموس صدف عنه يصدف أعرض وفلاناً صرفه كأصدّقه ، انتهى.

وقال سبّحانه : «فَمَنْ أَظْلَمُ ممّن كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ »(٢) « تقحم على الشهوة » أي يوجب دخول الإنسان في المشتهيات النفسانيّة من غير روية ، قال في القاموس : قحم في الأمر كنصر قحوما رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية وقحمه تقحيما وأقحمته فانقحم وقحمه الفرس تقحيماً رمته على وجهه « وإن العوج يميل بصاحبه » أي إلى الباطل «مَيْلاً عَظِيماً » يتعسر معه الرجوع إلى الحقّ ، وإنمّا لم يقل تأوّل العوج لأن

______________________

(١) سورة البقرة : ٤٢.

(٢) سورة الأنعام : ١٥٧.

١٥٩

يقحّم على الشهوة ، وأنَّ العوج يميل بصاحبه ميلاً عظيما وأن اللبس «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » فذلك الكفر ودعائمه وشعبه.

( باب )

( صفة النفاق والمنافق )

قال والنفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع

____________________________________________________________________

تأوَّل العوج لاختياره ، فإذا اختاره فهو يميل به ، وقيل : هو إمّا للاختصار اكتفاءاً بما سبّق ، أو للتنبيه على أن تأوّل العوج أيضاً عوج.

« وإنّ اللبس » أي لبس الحقّ بالباطل وإن كان واحداً «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » ظلمة الباطل وظلمة القلب ، وظلمة الأعمال المترتبة عليه كذا قيل ، أو المعنى أن سلوك هذه الطريقة يوجب تراكم الظلمات الكثيرة لكثرة موارده.

باب صفة النفاق والمنافق

الحديث الأول : كالسّابق وهو تتمّته ، أفرده المصنّف عنه وجعله جزء هذا الباب كما أنّه جعل سائر أجزائه أجزاء لأبواب أخر ، مرت في أوّل الكتاب ، والنفاق بالكسر فعل المنافق ومحله القلب واشتقاقه إمّا من نفقت الدابّة تفوقا من باب قعد إذا ماتت ، لأنّ المنافق بنفاقه بمنزلة الميت الهالك ، أو من نفق البيع نفاقا بالفتح إذا راج ، لأنّ المنافق يروج إيمانه ظاهراً ويخفى باطله باطنا أو من النفق بفتحتين وهو ضرب من الأرض يكون له مخرج من موضع آخر. لأنّ المنافق يستر نفاقه كما يستر السائر في الأرض نفاقه أي دراهمه وغيرها ، أو من النافقاء وهي إحدى جحرتي اليربوع ، لأنّ له جحرتين يقال لإحديهما النافقاء وللأخرى القاصعاء ، فإذا دخل عن إحداهما وهي القاصعاء أخرج من الأخرى وهي النافقاء ، وفيه تشبيه له باليربوع فإن اليربوع يخرق الأرض من أسفل حتّى إذا قارب وجهها أرق التراب ،

١٦٠