مرآة العقول الجزء ١١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 407

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 407
المشاهدات: 30813
تحميل: 8708


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30813 / تحميل: 8708
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 11

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عزَّ وجلَّ [ بعد ذلك ] من الإيمان إلى الكفر ، قلت له : فيكون الرّجل كافراً قد ثبت له الكفر عند الله ثمَّ ينقله بعد ذلك من الكفر إلى الإيمان ؟ قال : فقال : إنَّ الله

____________________________________________________________________

الإيمان واستقرّ في قلبه لم ينقله إلى الكفر ، ولم يسلب عنه توفيقه.

« وقلت له : فيكون الرّجل كافراً » يحتمل الخبر والاستفهام ، أمّا الأوّل فظاهر ، وإمّا الثاني فلان السّائل لـمّا علم بالجواب المذكور أنّ من ثبت إيمانه لم ينقله الله إلى الكفر بسلب التوفيق عنه ، سأل عن حال من ثبت كفره هل ينقله الله من الكفر إلى الإيمان بهذا التوفيق واللّطف أم لا؟ وانطباق الجواب على الأوّل ظاهر ، لإشعاره بأنّه ممّن هداه لعدم إبطاله الفطرة الأصلية بالكلية ، فلذلك تداركته العناية الإلهية ، وأمّا انطباقه على الثاني ففيه خفاء إذ لم يصرّحعليه‌السلام بما سأله عنه إلّا أنه أشار إلى تقرير قاعدَّة كليّة للتنبيه على أن المقصود الأهم هو معرفتها والتصديق بها.

وهي أنّ الله تعالى خلق الناس على نحو من الفطرة ، وهي كونهم قابلين للخير والشرّ وهداهم إليها ببعث الرّسل ، وهم يدعونها إلى الإيمان وإلى سبّيل الخير ، وينهونهم عن سبّيل الكفر والشرّ ، فمنهم من هداه الله عزّ وجلّ بالهدايات الخاصّة لعدم إبطاله الفطرة الأصلية وتفكره في أنّه من أين جاء وإلى أين نزل ، وأي شيء يطلب منه ، واستماعه إلى نداء الحقّ ، فإنه عند ذلك يتلقاه اللطف والتوفيق والرحمة ، كما قال عزّ وجلّ : «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبّلَنا »(١) .

ومنهم من لم يهده الله عزّ وجلّ لإبطاله فطرته وعدم تفكره فيما ذكر وإعراضه عن سماع نداء الحقّ ، فيسلب عنه الرحّمة واللّطف والتوفيق ، وهو المراد من عدم هدايته له.

وقد أشارعليه‌السلام بتقرير هذه المقدّمة إلى أنّ الواجب عليكم أن تعلموا وتصدّقوا بأنّ كلّ من آمن به فإنمّا آمن لأجل هدايته الخاصّة ، وكلّ من

______________________

(١) سورة العنكبوت : ٦٩.

٢٤١

عزَّ وجلَّ خلق النّاس كلّهم على الفطرة الّتي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة ولا كفراً بجحود ثمّ بعث الله الرسل تدعوا العباد إلى الإيمان به «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ » ومنهم من لم يهده الله.

____________________________________________________________________

لم يؤمن به فلفقد استحقاقه تلك الهداية كذا قيل.

وأقول : الظاهر أنّ كلام السّائل استفهام ، وحاصل الجواب أن الله تعالى خلق العباد على الفطرة قابلة للإيمان ، وأتمّ على جميعهم الحجّة بإرسال الرّسل وإقامة الحجج ، فليس لأحدّ منهم حجة على الله في القيامة ولم يكن أحدّ منهم مجبورا على الكفر لا بحسب الخلقة ولا من تقصير في الهداية ، وإقامة الحجة ، لكنّ بعضهم استحقّ الهدايات الخاصّة منه تعالى ، فصارت مؤيدة لإيمانهم وبعضهم لم يستحقّ ذلك لسوء اختياره ، فمنعهم تلك الألطاف فكفروا ومع ذلك لم يكونوا مجبورين ولا مجبولين على الكفر ، وهذا معنى الأمر بين الأمرين كما عرفت مراراً.

ويحتمل أن يكون المراد بقوله : فمنهم من هدى الله ، منهم من اهتدى بتلك الهداية العامّة ، ومنهم من لم يهده الله أي لم يهتد بتلك الهداية ، وهذا أوفق بمسلك المتكلمين ، والأوّل أنسبّ بسائر الأخبار والله أعلم بحقيقة الأسرار.

ثمّ اعلم أنّه اختلف أصحابنا في أنّه هل يمكن زوال الإيمان بعد تحققه حقيقة أم لا ، قال الشّهيد الثانيقدس‌سره في رسالة حقائق الإيمان : المؤمن بعد اتصافه بالإيمان الحقيقي في نفس الأمر هل يمكن أن يكفر أم لا؟ ولا خلاف أنّه لا يمكن ما دام الوصف ، وإنّما النزاع في إمكان زواله بضد أو غيره ، فذهب أكثر الأصوليين إلى جواز ذلك بل إلى وقوعه ، وذلك لأنّ زوال الضد بطريان ضدّه أو مثله على القول بعدم اجتماع الأمثال أمر ممكن ، لأنّه لا يلزم من فرض وقوعه محال.

لا يقال : نمنع عدم لزوم المحال من فرض وقوعه وذلك لأنّ زوال الضد

٢٤٢

____________________________________________________________________

بطريان الآخر يلزم منه الترجيح من غير مرجّح ، بل ترجيح المرجوح لأنّ الضد الموجود راجح الوجود لوجوده ، والمعدوم مرجوح فكيف يترجّح على الراجح وكلاهما محال؟ وكذا الحكم في الأمثال.

لأنا نقول : المرجّح موجود وهو الفاعل المختار القادر على الإيجاد والإعدام ، حتّى في الحقائق الوجودية فكيف بالحقائق الاعتباريّة ولا ريب أن الإيمان والكفر حقيقتان اعتباريتان للشارع ، فاعتبر الاتصاف بالإيمان عند حصول عقائد مخصوصة ، وانتفائه عند انتفائها ، وكلاهما مقدوران للمعتقد ، وظاهر كثير من الآيات الكريمة دال عليه ، كقوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ ازْدادُوا كفراً »(١) وقوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ »(٢) .

وذهب بعضهم إلى عدم جواز زوال الإيمان الحقيقي بضد أو غيره ، ونسبّ ذلك إلى السيّد المرتضىرضي‌الله‌عنه مستدلا بأن ثواب الإيمان دائم والإحباط والموافاة عنده باطلان.

إمّا الإحباط فلاستلزام أن يكون الجامع بين الإحسّان والإساءة بمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما ، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة وبمنزلة من لم يفعلهما مع تساويهما ، أو بمنزلة من لم يحسن إن زادت الإساءة وبمنزلة من لم يسيء مع العكس ، واللازم بقسميه باطل قطعاً فالملزوم مثله.

وإمّا الموافاة فليست عندنا شرطاً في استحقاق الثواب بالإيمان لأنّ وجوه الأفعال وشروطها الّتي يستحقّ بها ما يستحقّ لا يجوز أن يكون منفصلة عنها ولا متأخرة عن وقت حدوثها ، والموافاة منفصلة عن وقت حدوث الإيمان ، فلا يكون

______________________

(١) سورة النساء : ١٣٧.

(٢) كذا في النسخ والآية في سورة آل عمران (١٠٠) هكذا : « ان تتبعوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ ».

٢٤٣

____________________________________________________________________

وجهاً ولا شرطاً في استحقاق الثواب ، لا يقال : الثواب إنما يستحقّه العبد على الفعل كما هو مذهب العدلية ، والإيمان ليس فعلا للعبد وإلّا لـمّا صح الشكر عليه ، لكنّ التالي باطل إذ الأمة مجتمعة على وجوب شكر الله تعالى على نعمة الإيمان ، فيكون الإيمان من فعل الله تعالى إذ لا يشكر على فعل غيره ، وإذا لم يكن من فعل العبد فلا يستحقّ عليه ثواباً فلا يتم دليله على أنّه لا يتعقبه كفر لأنّ مبناه على استحقاق الثواب على الإيمان ، لأنا نقول : هو من فعل العبد ونلتزم عدم صحة الشكر عليه ، ونمنع بطلانه.

قولك في إثباته : الأمّة مجتمعة « إلخ » قلنا : الشكر إنّما هو على مقدّمات الإيمان وهي تمكين العبد من فعله وأقداره عليه ، وتوفيقه على تحصيل أسبّابه ، وتوفيق ذلك له لا على نفس الإيمان الذي هو فعل العبد ، فإنّ ادّعى الإجماع على ذلك سلّمناه ولا يضرّنا ، وإن ادّعى الإجماع على غيره منعناه فلا ينفعهم.

والاعتراض عليهرحمه‌الله من وجوه : « أحدها » توجه المنع إلى المقدّمة القائلة بأن الموافاة ليست شرطاً في استحقاق الثواب وما ذكره في إثباتها من أن وجوه الأفعال وشروطها الّتي يستحقّ بها ما يستحقّ لا يجوز أن يكون منفصلة عنها ، والموافاة منفصلة عن وقت الحدوث فلا يكون وجها ، لا دلالة له على ذلك بل إن دل فإنّما يدلّ على أن الموافاة ليست من وجوه الأفعال ، لكنّ لا يلزم من ذلك أن لا يكون شرطاً لاستحقاق الثواب ، فلم لا يجوز أن يكون استحقاق الثواب مشروطاً بوجوه الأفعال مع الموافاة أيضاً ، لا بد لنفي ذلك من دليل.

ثانيها : الآيات الكريمة الّتي مرّ بعضها فإنّها تدلّ على إمكان عروض الكفر بعد الإيمان ، بل بعضها على وقوعه ، وأجاب السيّد عن ذلك بأنّ المراد والله أعلم من وصفهم بالإيمان الإيمان اللساني دون القلبيّ ، وقد وقع مثله كثيراً في القرآن

٢٤٤

____________________________________________________________________

العزيز ، كقوله تعالى : «آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ »(١) وحيث أمكن صحة هذا الإطلاق ولو مجازاً سقط الاستدلال بها.

ثالثها : أنّ الشّارع جعل للمرتدّ أحكاماً خاصّة به لا يشاركه فيها الكافر الأصليّ كما هو مذكور في كتب الفروع وهذا أمر لا يمكن دفعه ، ولا مدخل للطعن فيه ، فإن الكتاب العزيز والسنّة المطهرة ناطقان بذلك ، والإجماع واقع عليه كذلك ، ولا ريب أن الارتداد هو الكفر المتعقب للإيمان ، كما دل عليه قوله تعالى : «مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ »(٢) الآية ، فقد دل على ما ذكرناه من أن المؤمن يمكن أن يكفر.

أقول : وللسيدرحمه‌الله أن يجيب عن ذلك بأن ما ذكرناه إنّما يدلّ على أن من اتصف في ظاهر الشرع بالارتداد فحكمه كذا وكذا ، ولا يدلّ على أنّه صار مرتداً بذلك في نفس الأمر ، فلعلّه كان كافراً في الأصل ، وحكمنا بأنه ظاهراً للإقرار بما يوجب الإيمان مع بقائه على كفره عند الله تعالى ، وبفعله ما يوجب الارتداد ظاهراً حكمنا بارتداده ، أو كان مؤمناً في الأصل وهو باق على إيمانه عند الله تعالى ، لكنّ لاقتحامه حرمات الشارع وتعديه هذه الحدود العظيمة جعل الشارع الحكم بالارتداد عليه عقوبة له لتنحسم بذلك مادة الاقتحام والتعدي من المكلفين فيتم نظام النواميس الإلهية.

وأقول : الحقّ أن المعلومات الّتي يتحقّق الإيمان بالعلم بها أمور متحققة ثابتة لا تقبل التغير والتبدل ، إذ لا يخفى أن وحدة الصانع تعالى ووجوده وأزليته وأبديته وعلمه وقدرته وحياته إلى غير ذلك من الصفات أمور تستحيل تغيرها ، وكذا كونه تعالى عدلا لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ، وكذا النبوة والمعاد ،

______________________

(١) كذا في النسخ والآية في سورة المائدة (٤١) هكذا «قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ. ».

(٢) سورة المائدة : ٥٤.

٢٤٥

____________________________________________________________________

فإذا علمها الشخص على وجه اليقين والثبات بحيث صار علمه بها كعلمه بوجود نفسه غير أنّ الأولى نظريّ والثاني بديهيّ لكن لـمّا كان النظري إنّما يصير يقينيا بانتهائه إلى البديهي ولم يبق فرق بين العلمين امتنع تغير ذلك العلم وتبدله كما يمتنع تغيّر علمه بوجود نفسه.

والحاصل أنّ العلم إذا انطبق على المعلوم الحقيقيّ الذي لا يتغيّر أصلاً فمحال تغيره ، وإلّا لـمّا كان منطبقاً ، فعلم أن ما يحصل لبعض الناس تغيير عقيدة الإيمان لم يكن بعد اتصاف أنفسهم بما ذكرناه من العلم ، بل كان الحاصل لهم ظناً غالباً بتلك المعلومات لا العلم بها ، والظنّ يمكن تبدله وتغيره وإن كان المظنون لا يمكن تبدله لأنّ الانطباق غير حاصل ، وإلّا لصار علماً.

إن قلت : يتصور زوال الإيمان بصدور بعض الأفعال الموجبة للكفر كما تقدّم ، وإن بقي التصديق اليقينيّ بالمعارف المذكورة فقد صح أن المؤمن قد يكفر بعد اتّصافه بالإيمان.

قلت : لا نسلّم إمكان صدور فعل يوجب الكفر ممّن اتصف بالعلم المذكور ، بل صار ذلك الفعل ممتنعاً بالغير الذي هو العلم اليقيني وإن أمكن بالذات وحينئذ فصدور بعض الأفعال المذكورة إنّما كان لعدم حصول العلم المذكور ، وبالجملة فكلام علم الهدى ومذهبه هنارضي‌الله‌عنه في غاية القوّة والمتانة بعد تدقيق النظر. وقد ظهر ممّا حررناه أن القائلين بإمكان زوال الإيمان لعروض الكفر إن أرادوا به إمكان زوال العلم بالأمور المذكورة فظاهر أنّه ممتنع بالذات ، كانقلاب الحقائق ، وإن أرادوا به إمكان انتفاء الإيمان لعروض شيء من الأفعال وإن بقي العلم فقد بينا أنّه ممتنع بالغير ، فإن أرادوا بالإمكان على هذا التقدير الإمكان الذاتي فلا نزاع لأحدّ فيه ، وإن أرادوا به عدم الامتناع ولو بالغير فقد بينا منعه وامتناعه.

وبالجملة فظواهر كثير من الآيات الكريمة والسنّة المطهّرة تدلّ على

٢٤٦

____________________________________________________________________

إمكان طروّ الكفر على الإيمان ، وعلى هذا بناء أحكام المرتدين وهو مذهب أكثر المسلمين ، نعم في الاعتبار ما يدلّ على عدم جواز طروه عليه كما أشرنا إليه إن جعلنا الإيمان عبارة عن التصديق مع الإقرار أو حكمه ، لكنّ الأوّل هو الأرجح في النفس ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وأقول : الحقّ أنّ الإيمان إذا بلغ حدّ اليقين فلا يمكن زواله ، ولكنّ بلوغه إلى هذا الحدّ نادر ، وتكليف عامة الخلق بها في حرج ، بل الظاهر أنه يكفي في أيمان أكثر الخلق الظنّ القوي الذي يطمئن به النفس ، وزوال مثل ذلك ممكن ، ودرجات الإيمان كثيرة كما عرفت ، ففي بعضها يمكن الزوال والعود إلى الشك ، بل إلى الإنكار ، وهو إيمان المعاد ، وفي بعضها لا يمكن الزوال لا بالقول ولا بالعقيدة ولا بالفعل ، وفي بعضها يمكن الزوال بالقول والفعل مع عدم زوال الاعتقاد كقوم من الكفرة كانوا يعتقدون صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانوا يعاندون وينكرون أشدّ الإنكار للأغراض الفاسدة والمطالب الدنيويّة كأبي جهل وأضرابه ، وكثير من الصحابة رأوا نصب عليُّعليه‌السلام في يوم الغدير ، وسمعوا النص عليه في سائر المواطن ، وغلبت عليهم الشقاوة وحب الدّنيا ، وأنكروا ذلك.

فلو قيل باشتراط الجزم في الإيمان وعدم إمكان زوال اليقين فلا ريب في أنه مشروط بعدم الإنكار ظاهراً كما قال تعالى : «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ »(١) فيمكن حصول الارتداد وزوال الإيمان بالإنكار الظاهري أو فعل ما حكم الشّارع بحصول الكفر عنده كسجود الصّنم ، وقتل النبّي أو الإمام وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالمصحف أو الكعبة ، وأمثال ذلك.

______________________

(١) سورة النمل : ١٤.

٢٤٧

( باب المعارين )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم ، عن أبي أيّوب ، عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهماعليهما‌السلام قال سمعته يقول : إنَّ الله عزَّ وجلَّ خلق خلقاً للإيمان لا زوال له وخلق خلقاً للكفر لا زوال له وخلق خلقاً بين ذلك

____________________________________________________________________

باب المعارين

الحديث الأول : صحيح.

« خلق خلقاً للإيمان » قيل : اللّام لام العاقبة أي خلق خلقاً عاقبتهم الإيمان في العلم الأزليّ لا زوال لإيمانهم وهم الأنبياء والأوصياء والتابعون لهم من المؤمنين الثابتين على الإيمان ، وخلق خلقاً عاقبتهم الكفر في علمه عزّ وجلّ ، وخلق خلقاً مترددين بين الإيمان والكفر ، مستضعفين في علمه ، فمن آمن منهم كان إيمانه مستودعاً فإن يشأ الله أن يتم لهم بحسن استعدادهم وإقبالهم إلى الله عزّ وجلّ أتمه بفضله وتوفيقه ، وجعله ثابتاً مستقراً فيهم وإن يشأ أن يسلبهم إياه لزوال استعدادهم الفطري وفساد استعدادهم الكسبّي سلبهم ورفع عنهم توفيقهم ، ويفهم بالمقايسة حال من كفر منهم.

وأقول : من علم أنّهم يموتون على الإيمان كان ينبغي أن يدخلهم في القسم الأوّل على هذا الوجه ، ومن علم أنهّم يموتون على الكفر في القسم الثاني ، بل الأحسن أن يقال : لـمّا علم الله سبحانه استعدادتهم وقابليّاتهم وما يؤول إليه أمرهم ومراتب إيمانهم وكفرهم ، فمن علم أنهّم يكونون راسخين في الإيمان كاملين فيه وخلقهم فكأنّه خلقهم للإيمان الكامل الراسخ ، وكذا الكفر ، ومن علم أنّهم يكونون متزلزلين متردّدين بين الإيمان والكفر ، فكأنّه خلقهم كذلك فهم مستعدّون لإيمان ضعيف ، فمنهم من يختم له بالإيمان ، ومنهم من يختم له بالكفر فهم المعارون ،

٢٤٨

واستودع بعضهم الإيمان فإن يشأ أن يتمّه لهم أتمّه ، وإن يشأ أن يسلبهم إيّاه سلبهم وكان فلان منهم معاراً.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيّوب والقاسم بن محمّد الجوهري ، عن كليب بن معاوية الأسدي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن العبد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً وقوم يعارون الإيمان ثمّ يسلبونه ويسمون المعارين ثمّ قال فلان منهم.

٣ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري

____________________________________________________________________

والظاهر أنّ المراد بفلان أبو الخطاب وكنّى عنه بفلان لمصلحة ، فإن أصحابه كانوا جماعة كثيرة كان يحتمل ترتّب مفسدة على التصريح باسمه.

ويحتمل أن يكون كناية عن ابن عبّاس فإنّه قد انحرف عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وذهب بأموال البصرة إلى الحجاز ، ووقع بينهعليه‌السلام وبينه مكاتبات تدلّ على شقاوته وارتداده كما ذكرته في الكتاب الكبير ، والتقيّة فيه أظهر ، لكنّ سيأتي التصريح بأبي الخطاب في خبر شلقان ، وعلى التقديرين « منهم » خبر كان ، وضمير الجمع للخلق بين ذلك ، و معاراً خبر بعد خبر ، وقيل : فلان كناية عن عثمان ، والضمير للخلفاء الثلاثة ، والظرف حال عن فلان ، ومعاراً خبر كان ، ولا يخفى بعده لفظاً ومعنى ، فإن الثلاثة كانوا كفرة لم يؤمنوا قط.

الحديث الثاني : صحيح.

« ثمّ يسلبونه » يدلّ على أن السلب متعد إلى مفعولين بخلاف ما يظهر من كتب اللّغة ، ويومئ إليه أيضاً تمثيلهم لبدل الاشتمال بقولهم سلب زيد ثوبه ، إذ لو كان متعدياًّ إلى مفعولين لـمّا احتاج إلى البدلية لكنّ لا عبرة بقولهم بعد وروده في كلام أفصح الفصحاء.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

وفي المصباح البهمة ولد الضأن ، يطلق على الذكر والأنثى والجمع بهم ، مثل

٢٤٩

وغيره ، عن عيسى شلقان قال كنت قاعداً فمرَّ أبو الحسن موسىعليه‌السلام ومعه بهمة قال : قلت : يا غلام ما ترى ما يصنع أبوك ؟ يأمرنا بالشيء ثمَّ ينهانا عنه ، أمرنا أن نتولّى أبا الخطّاب ثمَّ أمرنا أن نلعنه ونتبرَّء منه ؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام وهو غلامٌ :

____________________________________________________________________

تمرة وتمر ، وجمع البهم بهام مثل سهم وسهام ، وتطلق البهام على أولاد الضّأن والمعز إذا اجتمعت تغليباً ، فإذا انفردت قيل : لأولاد الضّأن بهام ولأولاد المعزّ سخال ، وقال ابن فارس : البهم صغار الغنم ، وقال أبو زيد : يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها الضأن أو المعزّ ، ذكراً كان الولد أو أنثى سخلة ، ثمّ هي بهمة والجمع بهم ، وقال : الغلام الابن الصّغير.

وأبو الخطاب هو محمّد بن مقلاص الأسدي الكوفي وكان في أوّل الحال ظاهراً من أجلاء أصحاب الصادقعليه‌السلام ثمّ ارتد وابتدع مذاهب باطلة ، ولعنه الصادقعليه‌السلام وتبرأ منه.

وروى الكشي روايات كثيرة تدلّ على كفره ولعنه ، فمنها ما رواه عن الصادقعليه‌السلام أنه قال : اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي ، اللهم أذقه حر الحديد.

وروى بإسناده عن حنان بن سدير قال : كنت جالسا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام وميسر عنده فقال له ميسر : جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم ، قال : ومن هم؟ قال : أبو الخطاب وأصحابه وكان متكئاً فجلس فرفع إصبعيه إلى السّماء ثمّ قال : على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعيّن ، فأشهد بالله أنه كافر فاسق مشرك ، وأنه يحشرّ مع فرعون في أشدّ العذاب غدوا وعشياً ثمّ قال : إمّا والله إني لأنفس على أجساد أصبت معه.

وعنهعليه‌السلام قال : تراءى والله إبليس لأبي الخطاب على سور المدينة والمسجد وكأني أنظر إليه وهو يقول : أيّها تظفر الأنّ ، أيها تظفر الأنّ ، انتهى.

٢٥٠

إنَّ الله خلق خلقاً للإيمان لا زوال له وخلق خلقاً للكفر لا زوال له ، وخلق خلقاً بين ذلك أعاره الإيمان يسمّون المعارين ، إذا شاء سلبهم وكان أبو الخطّاب ممّن أعير الإيمان قال فدخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام فأخبرته ما قلت لأبي الحسنعليه‌السلام وما قال لي فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام إنّه نبعة نبوَّة.

____________________________________________________________________

وروي أنّه كان يدعي ألوهيّة الصّادقعليه‌السلام ويدّعي أنّه نبّي من قبله على أهل الكوفة ، وبه يتأوّل قوله تعالى : «وَهُوَ الَّذِي فِي السّماء إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ »(١) واختلف الأصحاب فيما رواه في حال استقامته والأكثر على جواز العمل بها ، وكأنه متفرّع على المسألة السّابقة فمن ادعى جواز تحقّق الإيمان وزواله يجوز العمل بروايته ، لأنّه حينئذ كان مؤمناً ومن زعم أنّه كاشف عن عدم كونه مؤمناً لا يجوز العمل بها.

« أنّه نبعة نبوة » أي عمله من ينبوع النبوة أو هو غصن من شجرة النبوة والرسالة ، في القاموس : نبع الماء ينبع مثلثة نبعاً ونبوعاً خرج من العيّن ، والنبع شجر للقسي والسهام ينبت في قلة الجبل.

وأقول : روى الكشي بسند صحيح عن شلقان قال : قلت لأبي الحسنعليه‌السلام وهو يومئذ غلام قبل أوان بلوغه : جعلت فداك ما هذا الذي نسمع من أبيك أنه أمرنا بولاية أبي الخطاب ثمّ أمرنا بالبراءة منه؟ قال : فقال أبو الحسنعليه‌السلام من تلقاء نفسه : إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلّا أنبياء ، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين ، واستودع قوماً إيمانا فإن شاء أتمّه وإن شاء سلبهم إيّاه وإن أبا الخطاب كان ممّن أعاره الله الإيمان ، فلـمّا كذب على أبي ، سلبه الله الإيمان ، قال : فعرضت هذا الكلام على أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : فقال : لو سألتنا عن ذلك ما كان يكون عندنا غير ما قال.

______________________

(١) سورة الزخرف : ٨٤.

٢٥١

٤ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرَّار ، عن يونس ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن صلوات الله عليه قال : إنَّ الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلّا أنبياء وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين وأعار قوماً إيمانا فإن شاء تممه لهم وإن شاء سلبهم إيّاه قال وفيهم جرت «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ » وقال لي إن فلاناً كان مستودعاً إيمانه فلـمّا كذب علينا سلب إيمانه ذلك.

٥ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن

____________________________________________________________________

الحديث الرابع : مجهول.

وقال تعالى : «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ »(١) قال البيضاوي : أي فلكم استقرار في الأصحاب أو فوق الأرض ، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، أو موضع الاستقرار والاستيداع ، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنّه اسم فاعل ، والمستودع مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع ، لأنّ الاستقرار منّا دون الاستيداع ، انتهى.

ولعلّ تأويلهعليه‌السلام أنسبّ بالقراءة الأخيرة ، أي فمنكم إيمانه مستقر أي ثابت ، وبعضكم إيمانه مستودع ، أو بعضكم مستقرّ في الإيمان وبعضكم غير مستقر بل مستودع اسم مفعول أو اسم مكان ، وعلى القراءة الأولى اسم مكان ، أي بعضكم محلّ استقرار الإيمان ، والمستودع يحتمل الوجهين.

قوله : سلب إيمانه ، يحتمل بناء المفعول والفاعل ، وعلى الثاني ذلك إشارة إلى الكذب.

الحديث الخامس : مجهول.

وفي القاموس : جبلهم الله يجبل خلقهم ، وعلى الشيء طبعه وجبره كأجبله ،

______________________

(١) سورة الأنعام : ٩٨.

٢٥٢

القاسم بن حبيب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن الله جبل النبيين على نبوتهم فلا يرتدون أبداً وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبداً وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدون أبداً ومنهم من أعير الإيمان عارية فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على الإيمان.

____________________________________________________________________

« فإذا هو دعا » فيه حث على الدعاء لحسن العاقبة وعدم الزيغ ، كما كان دأب الصالحين قبلنا ، وفيه دلالة أيضاً على أن الإيمان والسلب مسبّبان عن فعل الإنسان ، لأنه يصير بذلك مستحقّاً للتوفيق والخذلان.

وجملة القول في ذلك أن كلّ واحدّ من الإيمان والكفر قد يكون ثابتاً وقد يكون متزلزلاً يزول بحدوث ضدّه لأنّ القلب إذا اشتد ضياؤه وكمل صفاؤه استقر الإيمان وكلّ ما هو حقّ فيه ، وإذا اشتدت ظلمته وكملت كدورته استقر الكفر وكلّ ما هو باطل فيه ، وإذا كان بين ذلك باختلاط الضياء والظلمة فيه كان متردداً بين الإقبال والأدبار ، ومذبذباً بين الإيمان والكفر ، فإن غلب الأوّل دخل الإيمان فيه من غير استقرار ، وإن غلب الثاني دخل الكفر فيه كذلك ، وربّما يصير الغالب مغلوباً فيعود من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان فلا بد للعبد من مراعاة قلبه فإن رآه مقبلاً إلى الله عزّ وجلّ شكره وبذل جهده وطلب منه الزيادة لئلا يستدبر وينقلب ويزيغ عن الحقّ ، كما ذكره سبّحانه عن قوم صالحين : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ »(١) وإن رآه مدبراً زائغاً عن الحقّ تاب واستدرك ما فرط فيه ، وتوكلّ على الله وتوسل إليه بالدعاء والتضرع ، لتدركه العناية الربانية فتخرجه من الظلمات إلى النور ، وإن لم يفعل ربما سلّط عليه عدوّه الشيطان ، واستحقّ من ربّه الخذلان ، فيموت مسلوب الإيمان كما قال سبّحانه : «فَلـمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ »(٢) أعاذنا الله من ذلك وسائر أهل الإيمان.

______________________

(١) سورة آل عمران : ٨. (٢) سورة الصفّ : ٥.

٢٥٣

( باب في علامة المعار )

١ - عنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن المفضّل الجعفي قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام إن الحسرة والنّدامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الّذي هو عليه مقيم ، أنفعٌ له أم ضرٌّ ، قلت له : فبم يُعرف الناجي من

____________________________________________________________________

باب في علامة المعار

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« إنّ الحسرة والندامة والويل » الحسرة اسم من حسرت الشيء حسراً من باب تعب ، وهي التلهّف والتأسّف على فوات أمر مرغوب ، والندامة الحزن على شيء مكروه ، والويل العذاب وواد في جهنّم ، يعني هذا كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره ، وعلمه من العقائد والأحكام والأعمال والأخلاق والآداب ، وعدم الانتفاع بها بأنّ لا يعمل بمقتضى علمه بها « ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم » من العقائد والأحكام والأعمال والأخلاق والآداب و « أنفع » بصيغة المصدر أي نافع ، ويحتمل الماضي وكذا « أم ضرّ » يحتملهما والأوّل أظهر فيهما ، وفيه حث على مراقبة النفس في جميع الحالات ومحاسبّتها في جميع الحركات والسكنات ، ليعلم ما ينفعها فيجلبها ويزيد منها وما يضرّها فيجتنبها.

« فبم يعرف الناجي من هؤلاء » أي من يكون أمره آئلا إلى النجاة من المهالك وعقوبات الآخرة؟ فقال : « من كان فعله لقوله موافقاً » أي لقوله الحقّ وهو ما يأمر الناس به من الخيرات والطاعات وترك المنكرات ، أو لـمّا يدعيه من الإيمان بالله واليوم الآخر والأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فإن مقتضى ذلك العمل بما يأمره الله تعالى ، ويوجب الوصول إلى مثوباته والنجاة من عقوباته ومتابعة أئمّة الدّين في أقوالهم وأفعالهم أو لما يدّعي لنفسه من الكمالات وما نصب نفسه له من الحالات

٢٥٤

هؤلاء جعلت فداك ؟ قال : من كان فعله لقوله موافقاً فأثبت له الشّهادة بالنجاة ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً فإنّما ذلك مستودع.

( باب سهو القلب )

١ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن عثمان ، عن سماعة ، عن أبي بصير وغيره قال قال أبو عبد اللهعليه‌السلام إن القلب ليكون الساعة

____________________________________________________________________

والدرجات أو الجميع.

« فأثبتت له الشهادة » على صيغة المجهول أي يشهد الله تعالى وملائكته وحججهعليهم‌السلام وكلّ المؤمنين بأنّه من الناجين لاتصافه بكمال الحكمة النظرية لقوله الحقّ ، وكمال الحكمة العملية لعمله بأقواله الحقة ، وفي بعض النسخ « فأتت ».

« ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً » أي بأن يكون قوله حقّاً وفعله باطلا كما هو شأن أكثر الخلق « فإنّما ذلك مستودع » إيمانه غير ثابت فيه ، فيحتمل أن يبقى على الحقّ ويثبت له الإيمان وتحصل له النجاة ، وأن يزول عن الحقّ ويعود إلى الشقاوة ويستحقّ الويل والحسرة والندامة.

باب سهو القلب

الحديث الأول : مجهول أو حسن موثّق لاشتراك عثمان ، وسنده الثاني ضعيف.

« إنّ القلب ليكون » المشهور أن المراد بالقلب النفس الناطقة الإنسانية الّتي هي محلّ الإيمان والكفر ، لا العضو الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وإنما سميت بالقلب لتقلب أحواله ، أو لأنّ تعلق النفس الإنسانية ابتداء إنما هو بالروّح الحيواني وهو البخار اللطيف المنبعث من القلب الذي هو محلّ القوي الإدراكية ، وقد مرّ بعض الكلام في تحقيق القلب في باب أن للقلب أذنين ، والمراد بالساعة ساعة الغفلة عن الحقّ والاشتغال بما سواه.

٢٥٥

من اللّيل والنّهار ما فيه كفرٌ ولا إيمان كالثوب الخلق قال ثمّ قال لي إمّا تجدّ ذلك من نفسك قال ثمّ تكون النكتة من الله في القلب بما شاء من كفر وإيمان.

____________________________________________________________________

« ما فيه كفر ولا إيمان » أي ليس متذكراً لشيء منهما ، أو في حال لا يمكن الحكم بكفره لكنّ ليس فيه الإقبال على الحقّ والتوجه إلى عالم القدس ، قيل : وفيه إشعار بأن الكفر وجودي إذ لو كان عبارة عن عدم الإيمان كما زعم لـمّا انتفيا معاً والخلق محرّكة البالي للمذكر والمؤنث ، والتشبيه إمّا للكثافة والرثاثة وعدم الاعتناء بشأنه ، وإمّا لأنه ليس باطلا بالمرة ولا كاملا في الجملة ، أو لأنه في معرض الانخراق والفساد ولا طراوة ولا نضارة له ، ويمكن أن ينتفع به ويرجع إلى الثاني.

« إمّا تجد » استفهام إنكاري وقيل : وذلك إذا وسوس إليه الشيطان بأن قال له لعلّ ما تقول الزنادقة في إنكار الصانع أو منكروا النبوة أو الإمامة في إنكارهما حقّ وأمثال ذلك ، وذلك محض تصور ، وإلّا كان شركاً.

وأقول : من تفكر في تارات القلب وعرف حالاته علم أنه أعمّ من ذلك وله شؤون غريبة وحالات عجيبة في القرب والبعد من ربّه تعالى ، وفي الشوق والتيقظ والغفلة والكسل والرغبة في الدّنيا والزهد فيها ، ومراتب حبه تعالى والأشواق العارضة له ممّا يوجب قربّه وبعده وغير ذلك ممّا يطول ذكره ، وقال في النهاية في حديث الجمعة : فإذا فيها نكتة سوداء أي أثر قليل كالنقطة شبه الوسخ في المرآة والسيف ونحوهما ، وفي القاموس : النكت أن تضرب في الأرض بقضيب فتؤثر فيها ، والنكتة بالضمّ النقطة وشبه الوسخ في المرآة ، انتهى.

وكون نكتة الإيمان والكفر من الله سبحانه باعتبار توفيقه وخذلانه المسبّبان من سوء اختيار العبد وحسن اختياره ، وقيل : يحتمل أن يكون باعتبار أنّه وكل

٢٥٦

عدَّةٌ من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن أبي عمير مثله.

٢ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن العبّاس بن معروف ، عن حمّاد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول يكون القلب ما فيه إيمان ولا كفر شبه المضغة إمّا يجدّ أحدكم ذلك.

٣ - محمّد بن يحيى ، عن العمركي بن عليُّ ، عن عليُّ بن جعفر ، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال إن الله خلق قلوب المؤمنين مطوية مبهمة على الإيمان فإذا أراد

____________________________________________________________________

على القلب ملكاً يهديه إلى الخير وشيطاناً يرشده إلى الشرّ كما مرّ ، وبهذا الاعتبار كان النكتتان منه تعالى ، ومعنى مشيّته للإيمان والكفر المشيّة باعتبار الأقدار عليهما دون المشيّة على سبّيل الإجبار ، فإنه تعالى لـمّا جعل فيه آلة الكفر وآلة الإيمان ، فقد شاء منه الكفر والإيمان لكنّ لا بحيث يكون مجبورا وتكون المشيّة مشية حتم.

الحديث الثاني : موثق.

والمضغة بالضمّ القطعة من اللحم قدر ما يمضغ.

الحديث الثالث : صحيح.

« خلق قلوب المؤمنين مطويّة » استعار الطّي هنا لكمون الإيمان فيها كناية عن استعدادها لكمال الإيمان وأنه لا يعلم ذلك غير خالقها كالثوب المطويّ أو الكتاب المطوي لا يعلم ما فيهما غير من طواهما ، وفي القاموس : الأبهم الأعجم واستبهم عليه استعجم فلم يقدر على الكلام ، وأبهم الأمر اشتبه ، والمبهم كمكرم المغلق من الأبواب والأصمت كالأبهم ، فالمراد بالمبهمة هنا المغلقة والمقفلة على التشبيه بالبيت ، فلا يعلم ما فيها إلّا هو ، أو المعضلة الّتي لا يعلم حالها ووضعها إلّا هو ، من أبهم الأمر فهو مبهم إذا لم يجعل عليه دليلا أو الخالصة الصحيحة الّتي ليس فيها شيء من العاهات والأمراض ، ومنه فرس بهيم وهو الذي له لون واحدّ لا يخالطه

٢٥٧

استنارة ما فيها نضحها بالحكمة ، وزرعها بالعلم وزارعها والقيّم عليها ربُّ العالمين.

____________________________________________________________________

لون سواه.

وقوله : على الإيمان ، متعلّق بمطويّة أو بمبهمة أو بهما على التنازع ، وقيل : حال عن القلوب أي خلقها كائنة على الإيمان ، وفي ذكر المطوية والمبهمة إشعار بأن إيمانها مغفول عنه ، وهو عبارة عن سهو القلب فلذا ذكره في هذا الباب ، قيل : ولـمّا كان الخلق تابعا للعلم وكان علم الله عزّ وجلّ بالشيء قبل خلقه كعلمه به بعده ، وكان قلب المؤمن متّصفاً بالإيمان باختياره إيّاه ، صدق أنّه تعالى خلقه على هذا الوصف ، فلا يلزم الجبر.

« فإذا أراد استثارة ما فيها »(١) أي تهييجها وسطوح أنوار ما كان كامنا فيها ، وفي بعض النسخ : استشارة ما فيها ، بالشين ، تشبيها لـمّا في قلوب المؤمنين بالعسل في رغبة النفوس الصحيحة إليها ، في القاموس : الثور الهيجان والوثب والسطوح ، وأثاره وثورة واستثاره غيره ، وقال : شار العسل شوراً استخرجه من الوقبة أي الموضع الذي اجتمع فيه كأشاره واشتاره واستشاره ، و النضح الرش وكان المراد بالحكمة العلوم اللدنية والإفاضات الربانية ، وبالعلم ما يكتسبّه الإنسان بالتفكر والنظر والأخذ من الكتاب والسنّة فأشارعليه‌السلام إلى أن الكسبّ والنظر لا ينفع ولا يثمرّ بدون الإفاضات السبّحانية وأن الكسبّ أيضاً لا يتم إلّا بالتوفيقات الربانية فشبّهعليه‌السلام العلم بالبذر والحكمة الّتي هي الإفاضات الربانية بالمطر ، فمن يطرح البذر في الأرض لا ينبت ولا ينمو إلّا بالمطر الذي هو من فضله تعالى ، وبعد ذلك الإنبات من فعله سبّحانه لا من فعل العبد ، كما قال عزّ وجلّ «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ »(٢) حيث نسبّ الحرث إليهم لكونه فعلا لهم ، ونسبّ

______________________

(١) وفي نسخة « استنارة ما فيها » بالنون.

(٢) سورة الواقعة : ٦٤.

٢٥٨

٤ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن القلب ليترجّج فيما بين الصدر والحنجرة

____________________________________________________________________

الزرع إلى ذاته المقدّسة لكونه من فعله ، وكذلك العلم لا يحصل إلّا بإفاضته وأصلاًح أرض القلب عمّا يضر بالزّرع ، من الشكوك والشبه والرغبات الدنية والوساوس الشيطانية ، وأفاض عليها ماء الحكمة أثمرّ ما يوجب الحياة الأبدية في النشأة الباقية كما أن إنبات الزرع في الدّنيا يوجب بقاء الأبداًن في النشأة الفانية ، فكم بينهما من المباينة ، ويحتمل أن يكون المراد بالحكمة ما يجريه على لسان الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام بالوحي والإلهام ، كما قال تعالى : «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ».

وقيل : الحكمة الدين الحقّ وعلى التقادير ظهر أن زارع القلوب ومحييها والقيم عليها والقائم بما يصلحها هو رب العالمين الذي بيده إيجاد العالم بأنواعه المختلفة وتربيتها وإخراج كلّ منها من حدّ النقص إلى ما يستحقّه من الكمال ، فظهر أنه تعالى مقلب القلوب والمتصرف فيها والحاكم عليها كما روي : قلب المؤمن بين إصبعيّن من أصابع الرَّحمن يقلبه كيف يشاء ، وورد في الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، بل هو عرشه ومحلّ معرفته ومحبّته ومستقر عظمته وجلاله كما روي : قلب المؤمن عرش الرَّحمن ، فلا بد للعبد أن يتوسل بربّه سبحانه في تصفية قلبه وتزكيته ، ويسعى في إخلائه عن محبّة غيره ليصير محلّ معرفته سبّحانه ومظهر أنواره ومهبط إسراره ، رزقنا الله وسائر المؤمنين ذلك بفضله ورحمته.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور.

وفي المصباح : رججت الشيء رجا من باب قتل حركته فأرتج هو ، وارتج البحر اضطرب ، وفي القاموس : الرج التحريك والتحرك والاهتزاز والحبس والرجرجة الاضطراب كالارتجاج والترجرج ، والحنجرة الحلقوم ، يعني أن قلب من علم الله إيمانه يتحرك ويضطرب فيما بين الصدر والحنجرة طلباً للحقّ حتى

٢٥٩

حتّى يعقد على الإيمان فإذا عقد على الإيمان قرَّ وذلك قول الله عزّ وجلّ : «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ »(١) .

٥ - عدَّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن ابن فضّال ، عن أبي جميلة ، عن محمّد الحلبي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن القلب ليتجلجل في الجوف يطلب الحقّ فإذا أصابه اطمأن وقر ثمّ تلا أبو عبد اللهعليه‌السلام هذه الآية «فَمَنْ »

____________________________________________________________________

يعقد عليه أي يعتقده ويعقد قلبه عليه ، فإذا اعتقده وتيقّن سقط عنه الاضطراب واستقر لحصول مطلوبه وزوال الشك عنه ، وفي المصباح : اعتقدت كذا عقدت عليه القلب والضمير حتّى قيل : العقيدة ما يدين الإنسان به ، وإمّا الاستشهاد بالآية فكأنّه كان في قراءتهمعليهم‌السلام يهدأ قلبه بفتح الدال والهمز ورفع « قلبه » أو بفتح الدال بغير همز بالقلب والحذف ، وقد قرأ بالأوّل في الشواذ.

قال البيضاوي : يهد قلبه للثبات والاسترجاع عند حلول المصيبة وقرأ يهد قلبه بالرفع على إقامته مقام الفاعل وبالنصب على طريق سفه نفسه ، ويهدأ بالهمز أي يسكن.

وقال الطبرسي : قرأ عكرمة وعمرو بن دينار يهدأ قلبه أي يطمئن قلبه كما قال سبّحانه : «وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ »(٢) انتهى.

ويؤيده أنه روى البرقي في المحاسن هذه الرواية وزاد في آخره ، قال : يسكن وعلى القراءة المشهورة يمكن أن يكون المعنى أن من كان من شأنه أن يؤمن بالله يهدي الله قلبه للإيمان ويرشده إليه ويوفقه له فيستقر عليه.

الحديث الخامس : ضعيف.

« ليتجلجل » في القاموس التجلجل التحرك والتضعضع ، والجلجلة التحريك وشدّة الصّوت وفي النهاية : الجلجلة حركة مع صوت «فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ

______________________

(١) سورة التغابن : ١١.

(٢) سورة النحل : ١٠٦.

٢٦٠