مرآة العقول الجزء ١١

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 407

مرآة العقول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 407
المشاهدات: 30803
تحميل: 8708


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 407 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30803 / تحميل: 8708
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 11

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخير محملاً.

_________________________________________________

ضرب كالسّابق ، أو من باب الأفعال فالظّرف متعلّق بيقلبك والضمير للأحسن ، و قولهعليه‌السلام : ولا تظنّنَّ ، تأكيد لبعض أفراد الكلام أو السّابق محمول على الفعل.

وهذه الجملة مرويّة في نهج البلاغة وفيه : من أحدّ ، ومحتملا ، والحاصل أنّه إذا صدرت منه كلمة ذات وجهين وجب عليك أن تحملها على الوجه الخير وإن كان معنى مجازيّاً بدون قرينة أو كناية أو تورية أو نحوها ، لا سيّما إذا إدّعاه القائل ومن هذا القبيل ما سماه علماء العربية أسلوب الحكيم ، كما قال الحجّاج للقبعثري متوعّداً له بالقيد : لأحملنّك على الأدهم! فقال القبعثرى : مثل الأمير يحمل على الأشهب والأدهم فأبرز وعيده في معرض الوعد ، ثمّ قال الحجّاج للتصريح بمقصوده أنّه حديد ، فقال القبعثرى : لأنّ يكون حديداً خير من أن يكون بليداً.

وقال الشّهيد الثاني روّح الله روحه وغيره ممّن سبّقه : إعلم أنّه كما يحرم على الإنسان سوء القول في المؤمن وأن يحدث غيره بلسانه بمساوئ الغير ، كذلك يحرم عليه سوء الظنّ وأن يحدّث نفسه بذلك ، والمراد من سوء الظنّ المحرّم عقد القلب وحكمه عليه بالسّوء من غير يقين ، فإمّا الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه كما أن الشك أيضاً معفوّ عنه ، قال الله تعالى : «اجْتَنِبُوا كثيراً مِنَ الظنّ إِنَّ بَعْضَ الظنّ إِثمّ » فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلّا إذا انكشف لك بعيان لا يحتمل التأويل ، وما لم تعلمه ثمّ وقع في قلبك فالشيطان يلقيه ، فينبغي أن تكذبه فإنّه أفسق الفسّاق ، وقد قال الله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ »(١) فلا يجوز تصديق إبليس ، ومن هنا جاء في الشرع أنّ من علمت في فيه رائحة الخمر لا يجوز أن تحكم عليه بشربها ولا يحدّه عليه لإمكان

______________________

(١) سورةالحجرات : ٦.

٢١

_________________________________________________

أن يكون تمضمض به ومجّه ، أو حمل عليه قهراً وذلك أمر ممكن ، فلا يجوز إساءة الظنّ بالمسلم ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله تعالى حرم من المسلم دمه وماله وأن يظنّ به ظنّ السوء ، فلا يستباح ظنّ السوء إلّا بما يستباح به الدم أو المال ، وهو بعيّن مشاهدة أو ببينة عادلة ، فإمّا إذا لم يكن ذلك وخطر ذلك سوء الظنّ فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان ، فإن ما رأيته فيه يحتمل الخير والشر.

فإن قلت : فبما ذا يعرف عقد سوء الظنّ والشكوك تختلج والنفس تحدث؟

فأقول : أمارة عقد سوء الظنّ أن تتغيّر القلب معه عمّا كان فينفر عنه نفوراً لم يعهده ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاهتمام بسبّبه ، فهذه أمارات عقد الظنّ وتحقيقه ، وقد قالعليه‌السلام : ثلاث في المؤمن لا يستحسن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظنّ أن لا يحققه أي لا يحقق في نفسه بعقد ولا فعل لا في القلب ولا في الجوارح ، إمّا في القلب فبتغيره إلى النفرة والكراهة ، وفي الجوارح بالعمل بموجبه والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس ، ويلقى إليه أن هذا من فطنتك وسرعة تنبهك وذكائك ، وأن المؤمن ينظر بنور الله وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.

فأمّا إذا أخبرك به عدل فمال ظنّك إلى تصديقه كنت معذوراً لأنّك لو كذّبته لكنت جافياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب ، وذلك أيضاً من سوء الظنّ ، فلا ينبغي أن تحسن الظنّ بالواحد وتسيء بالآخر ، نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة ومقت فيتطرق بالتهمة بسبّبه؟ وقد رد الشرع شهادة العدوّ على عدوه للتهمة ، فلك عند ذلك أن تتوقف في إخباره وإن كان عدلاً ولا تصدقه ولا تكذبه ولكنّ تقول المستور حاله كان في ستر الله عنّي ، وكان أمره محجوباً وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره.

٢٢

_________________________________________________

وقد يكون الرّجل ظاهر العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور ، ولكنّ يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم ، فهذا قد يظنّ أنّه عدل وليس بعدل ، فإن المغتاب فاسق وإذا كان ذلك من عادته ردّت شهادته إلّا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق ، ومهما خطر ذلك خاطر سوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير ، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك ، فلا يلقى إليك الخاطر السّوء خيفة من اشتغالك بالدّعاء والمراعاة.

ومهما عرفت هفوة مسلم بحجّة فانصحه في السرّ ولا يخدعنّك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه ، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطّلاعك على نقصه لينظر إليك بعيّن التعظيم وتنظر إليه بعيّن الاستصغار ، وترتفع عليه بدلالة الوعظ وليكن قصدك تخليصه من الإثمّ وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخل عليك نقصان ، وينبغي أن يكون تركه ذلك من غير نصيحتك أحبّ إليك من تركه بالنصيحة ، وإذا أنت فعلت ذلك لكنت جمعت بين أجر الواعظ وأجر الغمّ بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.

ومن ثمرات سوء الظنّ التجسّس فإنّ القلب لا يقنع بالظنّ وبطلب التحقيق فيشتغل بالتجسّس وهو أيضاً منهي عنه ، قال الله : «وَلا تَجَسَّسُوا » فالغيبة وسوء الظنّ والتجسّس منهيّ عنها في آية واحدة ، ومعنى التجسّس أنّه لا تترك عباد الله تحت ستر الله فتتوصّل إلى الاطلاع وهتك السّتر حتّى ينكشف لك ما لو كان مستوراً عنك لكان أسلم لقلبك ودينك ، انتهى.

٢٣

( باب )

( من لم يناصح أخاه المؤمن )

١ - محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ بن النعمان ، عن أبي حفص الأعشى ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : سمعته يقول قال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من سعى في حاجة لأخيه فلم ينصحه فقد خان الله ورسوله.

٢ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول أيّما مؤمن مشى في حاجة أخيه فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله.

٣ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ؛ وأبو عليُّ الأشعري ، عن محمّد بن حسّان جميعاً ، عن إدريس بن الحسن ، عن مصبح بن هلقام قال أخبرنا أبو بصير قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول أيّما رجل من أصحابنا استعان به رجلٌ من إخوانه في حاجة فلم يبالغ فيها بكلّ جهد فقد خان الله ورسوله والمؤمنين

_________________________________________________

باب من لم يناصح أخاه المؤمن

الحديث الأول : مجهول.

« فلم يناصحه » وفي بعض النسخ فلم ينصحه أي لم يبذل الجهد في قضاء حاجته ولم يهتمّ بذلك ولم يكن غرضه حصول ذلك المطلوب ، قال الراغب : النصح تحرّي قول أو فعل فيه صلاح صاحبه ، انتهى.

وأصله الخلوص وهو خلاف الغشّ وقد مرّ تحقيقه مراراً ، ويدلّ على أنّ خيانة المؤمن خيانة لله والرّسول.

الحديث الثاني : موثق.

الحديث الثالث : مجهول.

وفي القاموس : الجهد الطاقة ، ويضمّ والمشقّة ، وأجهد جهدك أي أبلغ غايتك

٢٤

قال أبو بصير : قلت : لأبي عبد اللهعليه‌السلام ما تعني بقولك : والمؤمنين ؟ قال : من لدن أمير المؤمنين إلى آخرهم.

٤ - عنهما جميعاً ، عن محمّد بن عليّ ، عن أبي جميلة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول من مشى في حاجة أخيه ثمّ لم يناصحه فيها كان كمن خان الله ورسوله وكان الله خصمه.

٥ - عدَّةٌ من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، عن حسين بن حازم ، عن حسين بن عمرّ بن يزيد ، عن أبيه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال من استشار

_________________________________________________

وجهد كمنع جدّ كاجتهد ، قوله : من لدن أمير المؤمنين ، يحتمل أن يكون المراد بهم الأئمةعليهم‌السلام كما مرّ في الأخبار الكثيرة تفسير المؤمنين في الآيات بهمعليهم‌السلام فإنّهم المؤمنون حقّاً الذين يؤمنون على الله فيجيز أمانهم ، وأن يكون المراد ما يشمل سائر المؤمنين ، وإمّا خيانة الله فلأنه خالف أمره وادعى الإيمان ولم يعمل بمقتضاه وخيانة الرسول والأئمةعليهم‌السلام لأنه لم يعمل بقولهم ، وخيانة سائر المؤمنين لأنّهم كنفس واحدة ولأنه إذا لم يكن الإيمان سبّبا لنصحه فقد خان الإيمان واستحقره ولم يراعه وهو مشترك بين الجميع فكأنّه خانهم جميعاً.

الحديث الرابع : ضعيف.

« وكأنّ الله خصمه » أي يخاصمه من قبل المؤمن في الآخرة أو في الدّنيا أيضاً فينتقم له فيهما.

الحديث الخامس : مجهول.

وفي المصباح شرت العسل أشوره شوراً من باب قال جنيته ، وشرت الدابّة شوراً عرضته للبيع ، وشاورته في كذا واستشرته راجعته لأرى فيه رأيه ، فأشار عليُّ بكذا أراني ما عنده فيه من المصلحة ، فكانت إشارته حسنة والاسم المشورة ، وفيه لغتان سكون الشين وفتح الواو ، والثانية ضمّ الشين وسكون الواو وزان معونة ، ويقال هي من شار إذا عرضه في المشوار ، ويقال : من أشرت العسل ، فشبّه حسن النصيحة

٢٥

أخاه فلم يمحضه محض الرَّأي سلبه الله عزَّ وجلَّ رأيه.

٦ - عليُّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن سماعة قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : أيّما مؤمن مشى مع أخيه المؤمن في حاجة فلم يناصحه فقد خان الله ورسوله.

( باب خلف الوعد )

١ - عليُّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول عدَّة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفّارة له فمن أخلف فبخلف

_________________________________________________

بشري العسل ، وتشاور القوم واشتوروا والشورى اسم منه.

« فلم يمحضه » من باب منع أو من باب الأفعال ، في القاموس : المحض اللبن الخالص ، ومحضه كمنعه سقاه المحض كأمحضه ، وأمحضه الودّ أخلصه كمحّضه والحديث صدّقه والأمحوضة النصيحة الخالصة ، و قوله : محض الرأي ، إمّا مفعول مطلق أو مفعول به ، وفي المصباح الرأي العقل والتدبير ، ورجل ذو رأي أي بصيرة.

الحديث السادس : موثّق وقد مرّ باختلاف في أوّل السّند.

باب خلف الوعد

الحديث الأول : حسن كالصحيح.

قال الراغب : الوعد يكون في الخير والشرّ ، يقال : وعدته بنفع وضرّ وعداً وموعداً وميعاداً ، والوعيد في الشرّ خاصّة يقال منه : أوعدته ، ويقال واعدته وتواعدنا وقال : النذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب يقال : نذرت لله نذراً ، وقال الجوهري : الوعد يستعمل في الخير والشرّ قال الفراء : يقال وعدته خيراً ووعدته شرّاً ، فإذا أسقطوا الخير والشرّ قالوا في الخير الوعد والعدة ، وفي الشرّ الإيعاد والوعيد ، قال الشاعر :

٢٦

الله بدأ ولمقته تعرَّض وذلك قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ »(١) .

_________________________________________________

وإنّي وإن أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فإن أدخلوا الباء في الشرّ جاءوا بالألف ، يقال : أوعدني بالسّجن ، والعدَّة الوعد والهاء عوض عن الواو ، ويجمع على عدات ، ولا يجمع الوعد ، انتهى.

فقولهعليه‌السلام : نذر أي كالنذر في جعله على نفسه أو في لزوم الوفاء به وهو أظهر ، وعدم الكفّارة الظاهر أنه للتغليظ كاليمين الغموس أو للتخفيف وهو بعيد.

« فيخلف الله بدءاً » لأن الله أخذ على العباد العهد بأن يعملوا بأوامره وينتهوا عمّا نهى عنه ، ولـمّا أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن الخلف عنه فمن أراد خلف العهد خالف الله فيما عاهده عليه ، وإن كان معفوا مع عدم الفعل « ولمقته » أي غضبه سبّحانه « تعرَّض ».

وأمّا الآية فقال الطبرسي (ره) : قيل إنّ الخطاب للمنافقين وهو تقريع لهم بأنّهم يظهرون الإيمان ولا يبطنونه ، وقيل : إنّ الخطاب للمؤمنين وتعيير لهم أن يقولوا شيئاً ولا يفعلونه ، قال الجبائيّ : هذا على ضربين : أحدهما أن يقول سأفعله ومن عزمه أن لا يفعل وهو قبيح مذموم ، والآخر أن يقول سأفعل ومن عزمه أن يفعله والمعلوم أن لا يفعله فهذا قبيح لأنّه لا يدري أيفعله أم لا ، وينبغي في مثل هذا أن يقرن بلفظ إنشاء الله «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ ». أي كبر هذا القول وعظم مقتاً عند الله وهو أن تقولوا ما لا تفعلونه وقيل : معناه كبر أن تقولوا ما لا تفعلونه وتعدوا من أنفسكم ما لا تفون به مقتاً عند الله.

وقال البيضاوي : روي أنّ المسلمين قالوا لو علمنا أحبَّ الأعمال إلى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فأنزل «إِنَّ اللهَ يحبّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سبّيلِهِ »(٢) قولوا يوم أحدّ فنزلت : «كَبُرَ مقتاً » المقت أشدّ الغضب ونصبه على التميز للدلالة على أنّ قولهم

______________________

( ١ و٢ ) سورة الصف : ٢ - ٤.

٢٧

_________________________________________________

هذا مقت خالص كبير عند من يحقر عنده كلّ عظيم ، مبالغة في المنع عنه.

وقال الرازي : منهم من قال هذه الآية في حقّ جماعة من المؤمنين وهم الذين أحبوا أن يعملوا بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى ، فأنزل الله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ »(١) الآية ، و «إِنَّ اللهَ يحبّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سبّيلِهِ » فأحبوا الجهاد وتولوا يوم أحدّ ، فأنزل الله تعالى : «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ » وقيل : في حقّ من يقول قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وفعلت ولم يفعل ، وقيل : أنّها في حقّ أهل النفاق في القتال لأنهم تمنوا القتال ، فلـمّا أمر الله تعالى به «قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ » وقيل : أنّها في حقّ كلّ مؤمن لأنّهم قد اعتقدوا الوفاء بما وعدهم الله من الطاعة والاستسلام والخضوع والخشوع ، فإذا لم يوجدّ الوفاء بما وعدهم الله خيف عليهم ، انتهى.

وأقول : الآية تحتمل وجوها بحسب ظاهر اللفظ :

الأوّل : ما يظهر من هذا الخبر من أنها في التعيير على خلف الوعد من الناس ، ويؤيده ما روي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث قال : والخلف يوجب المقت عند الله والناس ، قال الله سبحانه : «كَبُرَ مقتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » فيكون على سبّيل القلب ، ويكون المعنى لم لا تفعلون ما تقولون ، أو يقال : النهي المفهوم من الآية يتوجّه إلى القيد ، وهو عدم الفعل كما إذا قال : لا تأتني راكباً فإن النهي يتوجّه إلى الركوب ، أو يكون محمولاً على وعد لا يكون صاحبه عند الوعد عازماً على الفعل ، فيكون مشتملاً على نوع من التدليس والكذب ، والأوّل أظهر وهذا النوع من الكلام شائع.

الثاني : أن يكون المراد بها ذمّ مخالفة عهود الله ومواثيقه ، كما هو ظاهر

______________________

(١) سورة الصف : ١٠.

٢٨

٢ - عليٌّ ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن شعيب العقرقوفي ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » فليف إذا وعد.

_________________________________________________

بعض ما تقدّم من قول المفسرين ، ويحتمل أيضاً الوجهين السّابقين بأن يكون الذمّ على عدم الفعل أو على القول مع عدم إرادة الفعل ، ويؤيده ما ذكر عليُّ بن إبراهيم (ره) حيث قال : مخاطبة لأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين وعدوه أن ينصروه ولا يخالفوا أمره ، ولا ينقضوا عهده في أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فعلم الله أنّهم لا يفون بما يقولون ، فقال : «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مقتاً عِنْدَ اللهِ » الآية ، فقد سماهم الله مؤمنين بإقرارهم وإن لم يصدقوا.

الثالث : أن يكون المراد أعمّ من عهود الله وعهود الخلق فلا ينافي هذا الخبر ، وبه يجمع بين الأخبار ، وخصوص أخبار النزول لا ينافي عموم الحكم.

الرابع : أن يكون المعنى لم تقولون للناس وتأمرونهم بما لا تعملون به فيكون نظير قوله سبّحانه : «أَتَأْمُرُونَ الناس بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ »(١) وهذا المعنى ليس ببعيد من الآية ، وإن لم يذكره المفسّرون وهو أيضاً يرجع إلى ذم عدم الفعل لا القول ، فإن بذل العلم واجب والعمل به أيضاً واجب ، فمن تركهما ترك واجبين ، ومن أتى بأحدهما فقد فعل واجبا ، لكنّ ترك العمل مع القول أقبح وأشنع وقد مرّ بعض القول فيه.

الحديث الثاني : حسن كالصحيح.

« من كان يؤمن بالله » يحتمل أن يكون على وفق سائر الأوأمر والنواهي المتوجّهة إلى المؤمنين لكونهم المنتفعيّن بها ، ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ ذلك مقتضى الإيمان ومن لوازمه ، فمن لم يفعل ذلك فليس بمؤمن ، وقيل : أن إدخال كان على المضارع لإفادة استمراره في الماضي ، فيدلّ على أنّ خلف الوعد يوجب

______________________

(١) سورة البقرة : ٤٤.

٢٩

_________________________________________________

إبطال الإيمان وكماله فيما سبّق.

ثمّ اعلم أنّ هذين الحديثين مع قوّة سندهما يدلّان على وجوب الوفاء بالوعد ، والخبر الأوّل فيه تهديد شديد ، ويدلّ على نزول الآية في خلف الوعد وهي مشتملة على تأكيدات ومبالغات ، فالآية بتوسّط الخبر المعتبر تدلّ أيضاً على وجوب الوفاء به.

فإن قيل : الآية لـمّا كانت محتملة لوجوه شتّى فالاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر مشكلّ لا سيّما وقد ورد في الأخبار الخاصيّة والعاميّة أنّها في المنافقين والمخالفين ، فالاستدلال إنّما هو بالخبر؟

قلت : لا يبعد إدّعاء ظهور الآية بإطلاقها أو بعمومها لا سيّما مع كون « ما » موصوفة فيما يشمل خلف الوعد أيضاً ، وقد عرفت أن خصوص سبّب النزول لا يصير سبّبا لخصوص الحكم ، فظهر أنّه يمكن الاستدلال بالآية مع قطع النظر عن الخبر أيضاً ، وظاهر أكثر أصحابنا استحباب الوفاء به إن لم يكن في ضمّن عقد لازم ، ويدلّ على الوجوب أيضاً ما مرّ في كثير من الأخبار أنه من صفات الإيمان ، وإن خلفه من صفات النفاق.

وقد مرّ في باب أصول الكفر أنّه سئل الصّادقعليه‌السلام : رجل على هذا الأمر إن حدث كذب وإن وعد أخلف وإن ائتمن خان ما منزلته؟ قال : هي أدنى المنازل من الكفر وليس بكافر ، وفي الباب المذكور عنهعليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاث من كن فيه كان منافقاً وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم ، من إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وقد روي أيضاً في الموثّق وغيره عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته وكملت مروته ، وظهر عدله ووجبت إخوته.

فيدلّ على أنّ من أخلف الوعد تجوز غيبته ، ومعلوم أنّه ليس تجويز

٣٠

_________________________________________________

الغيبة هنا إلّا من جهة الفسق.

فإن قيل : المترتّب على هذه الصفات أربعة أمور مفهومه أن مع عدم كلّ من تلك الخصال لا تجتمع تلك الأربعة ، فلعلّ ذلك بانتفاء أمر آخر سوى حرمة الغيبة.

قلت : الظاهر من العطف استقلال كلّ في الحكم ، كما إذا قلت جاء زيد وعمرو ، كان بمنزلة قولك جاء زيد وجاء عمرو ، وكون الواو بمعنى مع نادر.

ثمّ اعلم أنّه لا بدّ من تقييد الخبر بما إذا لم يرتكب سائر الكبائر ، بل المقصود في الخبر إفادة المفهوم لا المنطوق فافهم ، والأخبار في ذلك كثيرة ويستفاد من عموم كثير من الآيات أيضاً ذلك نحو قوله سبّحانه : «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً »(١) ويشمل بعمومه أو إطلاقه عهود الخلق أيضاً ، والعهد والوعد متقاربان ، وقوله : «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا »(٢) .

وروى الصّدوق في الخصال بإسناده عن عنبسة بن مصعب قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : ثلاثة لم يجعل الله تعالى لأحدّ فيه رخصة : بر الوالدين برين كانا أو فاجرين ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وأداء الأمانة للبر والفاجر.

ويؤيدها أيضاً أخبار كثيرة كما روى الكليني عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : إذا قال الرّجل للرّجل هلمّ أحسن بيعك يحرم عليه الربح ، وقد ورد في أخبار صحيحة وغير صحيحة : المسلمون عند شروطهم إلّا ما خالف كتاب الله ، وليس فيها التقييد بكونها في ضمّن العقد ، وكذا ما روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي جعفر عن أبيهعليهما‌السلام أنّ عليّاًعليه‌السلام كان يقول : من شرط لامرأته شرطاً فليف به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً ، أو أحلّ حراماً.

______________________

(١) سورة الإسراء : ٣٤.

(٢) سورة البقرة : ١٧٧.

٣١

_________________________________________________

وقد يستدلّ على الجواز بما رواه الكليني (ره) بإسناده عن الحسين بن المنذر قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يجيئني الرّجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثمّ أبيعه إياه ثمّ أشتريه منه مكاني؟ قال : إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء لم يبع ، وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس.

وبإسناده عن خالد بن الحجّاج قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : الرّجل يجيء فيقول : اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، قال : أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت : بلى قال : لا بأس به ، إنما يحلّ الكلام ويحرم الكلام.

وبإسناده أيضاً عن معاوية بن عمار قال : قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : يجيئني الرّجل فيطلب مني بيع الحرير وليس عندي منه شيء فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتّى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه؟ فقال : أرأيت إن وجدّ بيعا هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت : نعم قال : لا بأس.

وروي مثله باختلاف يسير بأسانيد كثيرة.

ووجه الاستدلال بها أنها تدلّ على أن محض المواعدَّة بينهما لا يوجب الوفاء من الجانبين ما لم يكن بيعه وكالة عنه.

والجواب أنه يحتمل أن يكون المعنى أنها ليست مواعدَّة حتمية بل يقول اشتر لنفسك إن شئت اشتريته منك وإلّا فلا ، لكنه بعيد.

وأقول : يمكن أن يستدلّ بما ورد في الأيمان والنذور من أنه مع عدم التلفظ. بالصيغة بشرائطها لا يلزمه الوفاء بها ، وظاهره شمولها لـمّا إذا وقعت المواعدة بينهما ويمكن أن يستدلّ عليه بما رواه الكليني (ره) عن عليُّ بن إبراهيم عن أبيه عن

٣٢

_________________________________________________

إسماعيل بن مرار عن يونس في المدبّر والمدبرة يباعان يبيعهما صاحبهما في حياته فإذا مات فقد عتقا ، لأنّ التدبير عدَّة وليس بشيء واجب ، فإذا مات كان المدبّر من ثلثه الذي يتركه ، وفرجها حلال لمولاها الذي دبّرها ، وللمشتري الذي اشتراها حلال بشرائه قبل موته ، فإن الظاهر أنّه فرع كون عدم الوجوب على كونه عدة فيدلّ على أنّه لا يجب الوفاء بها.

ويرد عليه وجوه من الإيراد : الأوّل : إن الخبر مجهول بابن مرار فلا يمكن إثبات نفي الوجوب به.

الثاني : أنّه موقوف لم يسنده إلى إمام ويشبه أن يكون من اجتهادات يونس وتلفيقاته كما هو دأبه في أكثر المواضع ، ولذا كان المحدثون يقدحون فيه مع جلالته بالاجتهاد والرأي ، وتشويش الكلام يدلّ عليه أيضاً.

الثالث : إن ما تضمنه من حكم التدبير خلاف المشهور بين الأصحاب لا سيّما المتأخّرين.

الرابع : أن قوله : عدَّة معلوم أنه ليس بمحمول على الحقيقة ، بل هو على التشبيه والمجاز ، فإن التدبير إمّا عتق بشرط أو وصية بالعتق باتفاق الخاصّة والعامّة وليس شيء منهما وعداً ، بل الوعد ما يعدّه الرّجل أن يفعله بنفسه ، فيمكن أن يكون التشبيه من جهة أنّه لا يترتب عليه حكمه الأنّ ، بل يتوقف على حلول الأجل.

الخامس : سلمنا أن الحمل على الحقيقة لا نسلم كون عدم الوجوب تفريعا بل يمكن أن يكون تقييداً له.

السادس : أنّه لو سلمنا أنّه تفريع فالتفريع من جهة أنّه لا يترتب عليه حكم العتق قبل الأجل وإلّا لكان الكلام متناقضاً ، ونحن لا نقول في الوعد أنه يجب الوفاء به قبل محله بل نرجع ونستدلّ به على وجوب الوفاء بالوعد لأنّه فرع وجوب التدبير ولزومه بعد الموت ، على كونه عدَّة فالوفاء بالوعد بعد حلول الأجل واجب ،

٣٣

_________________________________________________

فظهر أنّ مفاد كلامه أنّ التدبير ليس عتقاً منجّزاً لا يمكن التصرف في المدبّر ، قبل حلول الأجل الذي هو الموت ، بل هو عدَّة أي معلق على شرط وليس بشيء واجب أي لازم منجّز يترتب عليه حكمه عند إيقاعه ، بل يتوقف على حصول شرطه فلا دلالة له على عدم وجوب الوفاء بالوعد ، بل دلالته على الوجوب أقرب ، وبقي في زوايا المقام خبايا أحلناها على فهم المتأمّل.

وقد يستدلّ على عدم الجواز بأنّه كذب وهو قبيح وحرام ، وعندي فيه نظر لا لـمّا قيل أن الكذب لا يكون إلّا في الماضي أو الحال ولا يكون في المستقبل ، فإنه سخيف فإن المنكر للمعاد لا ريب أنه كاذب ، والمنجم إذا أخبر بوقوع أمر في المستقبل ولم يقع يقال : أنه كاذب ، ويصدق عليه تعريف الكذب ، بل لأنّ الوعد ليس من هذا القبيل بل هو معاملة تجري بين المتواعدين ، فإن المولى إذا قال لعبده إذا فعلت الفعل الفلاني أعطيتك درهما وإذا فعلت الفعل الفلاني ضربتك سوطا ليس المراد به الإخبار من وقوع أحدّ الأمرين بل هو إلزام أمر عليه أو على نفسه ، وإن علم أنّه لا يوقعه كالبيع والشراء والبيعة ، فإنها إنشاء أمر يوجب عليه متابعة من بايعه لا محض الإخبار عن ذلك ، فإنا نجدّ الفرق بين أن يعد زيد عمروا أن يعطيه درهماً أو بأن يخبر بأن سيعطيه درهما لكنّ ليس من إنشاء إلّا ويلزمه خبر يجري فيه الصدق والكذب ، فما ورد من نسبّة الصدق إلى الوعد من هذا القبيل ، كقوله تعالى : «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ »(١) فإذا خالف الوعد فليس هذا من الكذب المصطلح في شيء ، نعم إذا وعده وكان عازماً على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء ، فإن الوعد يدلّ ضمناً على أنه عازم على عدم الوفاء كان كذبه في لازم الإنشاء ، فإن الوعد يدلّ ضمناً على أن عازم على الوفاء ، كما أن أضرب يدلّ على أنّه يريد إيقاع الضرب وليس مدلول الوعد الإخبار عن أنّه عازم على أن يفعل ذلك ، وحرمة هذا الكذب الضمني في محلّ المنع ، وكذا شمول الآيات والأخبار الدالة على حرمة الكذب له ممنوع.

______________________

(١) سورة مريم : ٥٣.

٣٤

_________________________________________________

ولو سلم فلا يدلّ على حرمة الخلف مطلقاً قال الراغب : الصدق والكذب أصلهما في القول ماضياً كان أو مستقبلا ، وعداً كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأوّل إلّا في القول ، ولا يكون من القول إلّا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام ، ولذلك قال : «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً »(١) «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً »(٢) «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ »(٣) وقد يكونان بالعرض في غيره من أنواع الكلام الاستفهام والأمر والدعاء وذلك ، نحو قول القائل : أزيد في الدار؟ فإن في ضمنه أخبارا بكونه جاهلاً بحال زيد ، وكذا إذا قال. واسني ، في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة ، وإذا قال : لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه ، وقد يستعمل الصدق والكذب في كلّ ما يحقّ ويحصل في الاعتقاد ، نحو صدق ظني وكذب ، ويستعملان في أعمال الجوارح فيقال : صدق في القتال إذا وفي حقه ، وفعل على ما يجب وكما يجب ، وكذب في القتال إذا كان على خلاف ذلك ، قال الله تعالى : «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ »(٤) أي حققوا العهد بما أظهروه من أفعالهم ، انتهى.

فقد تبين أن للصدق والكذب معاني غير المعنى المصطلح ، فنسبّة الصدق والكذب إلى الوعد محمول على بعض تلك المعاني المجازية ، فظهر أن حسن الوفاء بالوعد أو وجوبه ليس من جهة أن مخالفته تستلزم الكذب حتّى يقال : أن ذلك يجري في الوعيد أيضاً ، ويجاب بأن الكذب في المصلحة حسن ، بل من جهة أن العقل يحكم بحسن الوفاء بالعهد أو بقبح خلفه ، ويحكم في الوعيد بخلاف ذلك ، وكذلك

______________________

(١و٢) سورة النساء : ١٢٢ ، ٧٨.

(٣) سورة مريم : ٥٤.

(٤) سورة الأحزاب : ٢٣.

٣٥

_________________________________________________

الكلام في وعده سبّحانه ووعيده ، لكنّ مخالفة الوعد فيه تعالى محال لأخباره بأنه لا يخلف الميعاد ، بخلاف الوعيد فإنه لم يقل أنّه لا يخلف الوعيد بل وعد عباده بالعفو والصفح والمغفرة ، وليس ذلك من الكذب في شيء ، هذا ما تبين لي في هذا المقام لكنّ ظاهر المحققين من أصحابنا والمخالفين أن الوعد من نوع الخبر وهو محتمل للصدق والكذب وكذا الوعيد ، مع أن ظاهر أكثر أصحابنا أن الوفاء بالوعد مستحب كما قالوا في كثير من الشروط إذا لم يكن في ضمّن العقد اللازم هو وعد يستحب الوفاء به ، ولنذكر بعض كلماتّهم :

قال السيد الشريف في حاشية شرح التخليص : الخبر إذا قيد حكمه بزمان أو قيد آخر كان صدّقه بتحقق حكمه في ذلك الزمان أو مع ذلك القيد ، وكذبه بعدمه فيه أو معه ، وإذا لم يقيد فصدّقه بتحققه في الجملة ، وكذبه بمقابله ، فإذا قلت أضرب زيدا وأردّت الاستقبال فإن تحقق ضربك إياه في وقت من الأوقات المستقبلة كان صادقاً وإلّا فكاذباً ، وكذلك إذا قلت أضربّه يوم الجمعة أو قائما فلا بد في صدّقه من تحقق ضربك إياه وتحقق ذلك القيد معه ، فإن لم يضربّه أو ضربّه في غير حالة القيام كان كاذباً ، وكذلك إذا كان القيد ممتنعاً كقولك اضربّه في زمان لا يكون ماضياً ولا حإلّا ولا مستقبلا ، فالخبر يكون كاذبا.

وبالجملة انتفاء القيد سواء كان ممتنعاً أو غير ممتنع يوجب انتفاء المقيد من حيث هو مقيد فيكذب الخبر الذي يدلّ عليه ، وكيف لا وقولك أضربّه يوم الجمعة أو قائماً مشتمل على وقوع الضرب منك عليه ، وعلى كون ذلك الضرب واقعاً يوم الجمعة أو مقارنا للقيام ، فلو فرض انتفاء القيام مثلاً لم يكن الضرب المقارن له موجوداً فينتفى مدلول الخبر ، فيكون كاذباً سواء وجدّ منك ضرب في حال غير القيام أو لم يوجد ، انتهى.

٣٦

_________________________________________________

وهذا لا دلالة فيه على كون الوعد خبرا بل إنّما يدلّ على أنه يمكن تعلق الخبر بالمستقبل ولا ريب فيه ، وإن زعم بعضهم اختصاصه بالماضي والحال كما عرفت والخبر عن الآتي لا ينحصر في الوعيد والوعد ، بل يمكن أن يكون الغرض فيه محض الإخبار.

وإنما أوردّت ذلك لئلّا يتوهّم متوهّم أنه يمكن الاستدلال به وإن كان لا حجة في قوله ، ولتستعيّن به على فهم بعض ما سيأتي من الوجوه في بعض الآيات.

وقال في شرح المقاصد : تمسك القائلون بجوار العفو عقلا وامتناعه سمعا بالنصوص الواردة في وعيد الفسّاق وأصحاب الكبائر ، فلو تحقق العفو وترك العقوبة بالنار لزم الخلف في الوعيد والكذب في الإخبار ، واللازم باطل فكذا الملزوم ، وأجيب : بأنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب ودخول الجنّة على ما مرّ ، والخلف في الوعد لؤم لا يليق بالكريم وفاقاً ، بخلاف الخلف في الوعيد فإنه ربما يعدّ كرماً.

ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : نعم لزوم الكذب بإخبار الله تعالى مع الإجماع على بطلانه ولزوم تبديل القول مع النص الدال على انتفائه مشكلّ ، فالجواب الحقّ أن من تحقق العفو في حقه يكون خارجاً عن عموم اللفظ بمنزلة التائبين.

فإن قيل : صيغة العموم المعرية عن دليل الخصوص يدلّ على إرادة كلّ فرد ممّا يتناوله التنصيص عليه باسم الخاص ، فإخراج البعض بدليل متراخ يكون نسخاً وهو لا يجري في الخبر للزوم الكذب ، وإنّما التخصيص هو الدلالة على أن المخصوص غير داخل في العموم ولا يكون ذلك إلّا بدليل متصل؟

قلنا : ممنوع بل إرادة الخصوص من العام والتقييد من المطلق شائع من غير دليل متصل ، ثمّ دليل التخصيص والتقييد بعد ذلك وإن كان متراخياً بيان لا نسخ

٣٧

_________________________________________________

وهذا هو المذهب عند الفقهاء الشافعية والقدماء من الحنفية ، وكانوا ينسبّون القول بخلاف ذلك إلى المعتزلة ، إلّا أن المتأخّرين منهم تعدون ذلك نسخا ويخصون التخصيص بما يكون دليله متصلاً ويجوزون الخلف في الوعيد ، ويقولون الكذب يكون في الماضي دون المستقبل ، وهذا ظاهر الفساد فإن الأخبار بالشيء على خلاف ما هو كذب ، سواء كان في الماضي أو في المستقبل ، قال الله تعالى : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً »(١) ثمّ قال : «وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ » على أن المذهب عندنا أن أخبار الله تعالى أزلي لا يتعلق بالزمان ولا يتغير المخبر به ، على ما سبّق في بحث الكلام.

ثمّ قال : وللإمام الرازي هنا جواب إلزامي وهو أن صدق كلامه لـمّا كان عندنا أزلياً امتنع كذبه ، لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، وإمّا عندكم فإنّما امتنع كذبه لكونه قبيحا ، ولم قلتم أن هذا الكذب قبيح وقد توقف عليه العفو الذي هو غاية الكرم ، وهذا كمن أخبر أنّه يقتل زيدا غدا ظلـمّا ، ففي الغد إمّا أن يكون الحسن قتله وهو باطل ، وإمّا ترك قتله وهو الحقّ لكنه لا يوجدّ إلّا عند وجود الكذب ، وما لا يوجدّ الحسن إلّا عند وجوده حسن قطعا فهذا الكذب حسن قطعاً.

ويمكن دفعه بأن الكذب في إخبار الله تعالى قبيح وإن تضمّن وجوها من المصلحة ، وتوقف عليه أنواع من الحسن لـمّا فيه من مفاسد لا تحصى ، ومطاعن في الإسلام لا تخفى ، منها مقال الفلاسفة في المعاد ، ومجال الملاحدة في العناد ، ومنها بطلان ما وقع عليه الإجماع من القطع بوجود الكفار في النار ، فإن غاية الأمر شهادة النصوص القاطعة بذلك وإذا جاز الخلف لم يبق القطع إلّا عند شرذمة لا

______________________

(١) سورة الحشر : ١١.

٣٨

_________________________________________________

يجوّزون العفو عنهم في الحكمة ، على ما يشعر به قوله تعالى : «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »(١) وغير ذلك من الآيات.

ووجه التفرقة أنّ المعاصي قلـمّا تخلو عن خوف عقاب ورجاء رحمة وغير ذلك من خيرات تقابل ما ارتكب من المعصية اتّباعاً للهوى ، بخلاف الكافر ، وأيضاً الكفر مذهب والمذهب يعتقد للأبد وحرمته لا تحتمل الارتفاع أصلا ، فكذلك عقوبته بخلاف المعصية فإنّها لوقت الهوى والشهوة ، وإمّا من جوز العفو عقلا والكذب في الوعيد إمّا قولاً بجواز الكذب المتضمّن لفعل الحسن ، أو بأنّه لا كذب بالنسبّة إلى المستقبل ، فمع صريح إخبار الله تعالى بأنّه لا يعفو عن الكافر ، ويخلده في النار ، فجواز الخلف وعدم وقوع مضمون هذا الخبر محتمل ، ولـمّا كان هذا باطلاً علم أن القول بجواز الكذب في إخبار الله تعالى باطل قطعاً.

وقال المحقق الدواني في شرح العقائد : لا يجب الثواب عليه تعالى في الطاعة ولا العقاب على المعصية خلافاً للمعتزلة والخوارج ، فإنّهم أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة على الله تعالى ، وحرموا عليه العفو ، واستدلوا عليه بأن الله تعالى أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره ، وهما محالان على الله تعالى.

وأجيب عنه : بأن غايته عدم وقوعه ولا يلزم منه الوجوب على الله تعالى ، واعترض عليه الشريف العلامة بأنّه حينئذ يلزم جوازهما وهو محال ، لأنّ إمكان المحال محال ، وأجاب عنه بأن استحالتهما ممنوعة كيف وهما من الممكنات يشملهما قدرة الله تعالى عليهما.

قلت : الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال ، فلا يكون من الممكنات ولا يشملهما القدرة كسائر وجوه النقص عليه كالجهل والعجز ونفي صفة الكلام وغيرها

______________________

(١) سورة القلم : ٣٥.

٣٩

_________________________________________________

من صفات الكمال ، بل الوجه في الجواب ما أشرنا إليه سابقاً من أن الوعد والوعيد مشروطتان بقيود وشروط معلومة من النصوص فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشروط ، وأنّ الغرض منهما إنشاء الترغيب والترهيب.

على أنّه بعد التسليم إنّما يدلّ عليُّ أن استحالة وقوع التخلف لا على الوجوب عليه ، إذ فرق بين استحالة الوقوع وبين الوجوب عليه كما أن إيجاد المحال محال على الله تعالى ، ولا يقال : أنّه حرام عليه بل الوجوب والحرمة ونحوهما فرع القدرة على الواجب والحرام.

واعلم أن بعض العلماء ذهب إلى أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى ، وممّن صرح به الواحدي في تفسير الوسيط في قوله تعالى في سورة النساء : «وَمَنْ يَقْتُلْ مؤمناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها »(١) حيث قال : والأصل في هذا أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد وبهذا وردّت السنة ، ثمّ ذكر في ذلك أخباراً.

ثمّ قال : وقيل : إن المحققين على خلافه كيف وهو تبديل للقول وقد قال الله تعالى : «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ »(٢) قلت : إن حمل آيات الوعيد على إنشاء التهديد ، فلا خلاف لأنّه حينئذ ليس خبرا بحسب المعنى وإن حمل على الإخبار كما هو الظاهر ، فيمكن أن يقال بتخصيص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد بالدلائل المفصلة ولا خلف على هذا التقدير أيضاً فلا يلزم تبدل القول ، وإمّا إذا لم نقل بأحدّ هذين الوجهين فيشكلّ التفصي عن لزوم التبدل والكذب ، إلّا أن تحمل آيات الوعيد على استحقاق ما أوعد به لا على وقوعه بالفعل ، وفي الآية المذكورة إشارة إلى ذلك حيث قيل «فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها » انتهى.

______________________

(١) سورة النساء : ٩٣.

(٢) سورة ق : ٢٩.

٤٠