نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ0%

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 61

  • البداية
  • السابق
  • 61 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12445 / تحميل: 3542
الحجم الحجم الحجم
نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

باسمه تعالى

الفِرقُ والمذاهب الإسلاميّة تجمعُ - مع اختلافٍ طفيف بينها - على حتميّة انتصار قوى الحق والعدالة والسلام في صراعها مع قوى الباطل والظلم والعدوان في نهاية المطاف، وتؤمن بغدٍ يشعّ فيه نور الإسلام على جميع ربوع المعمورة، وتسود فيه القيَم الإنسانيّة سيادة تامّة، ويتحقّق ظهور المدينة الفاضلة والمجتمع الأمثل.

المسلمون يُجمعون أيضاً: أنّ هذه الآمال الإنسانيّة الكبيرة ستتحقّق على يد شخصيّة مقدّسة، أطلَقت عليها الروايات الإسلاميّة اسم (المهدي).

هذه الفكرة تنطلق أساساً من المفاهيم القرآنيّة التي تؤكّد على حتميّة انتصار رسالة السماء

١

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (التوبة /33، الصف/9) وحتميّة انتصار الصالحين ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (الأنبياء /105)، وحتميّة انهزام قوى الظلم والطغيان ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (القصص/ 5 و6)، وحتميّة بزوغ فجر غد مشرق سعيد على البشريّة ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (الأعراف/128).

هذه الفكرة تنطوي قبل كلّ شيء على نظرة تفاؤليّة تجاه المسيرة العامّة للنظام الطبيعي وتجاه مسيرة التاريخ، وتبعث الأمل في المستقبل، وتزيل كلّ النظرات التشاؤميّة بالنسبة لمَا تنتظره البشريّة في آخر تطلّعاتها.

انتظار الفرج

الأمل في تحقّق هذا الهدف الإنساني العالَمي، وردَ في الروايات الإسلاميّة بعبارة (انتظار الفرج)،

٢

واعتبر الإسلام هذا الانتظار عبادة من أفضل العبادات.

مبدأ انتظار الفرج يمكن استنباطه من مفهوم قرآني آخر هو (حرمة اليأس من روح الله).

المجموعة المؤمنة بالنصر الإلهي لا تفقد الأمل مهما قَست الظروف، ولا تُسلّم نفسها لليأس والعبث بأي حال من الأحوال.

مفهوم انتظار الفرج وعدم اليأس من روح الله، من المفاهيم الإسلاميّة الشاملة التي لا تختص بفرد معيّن أو جماعة محدّدة، فهو يحمل البشائر البشريّة بأجمعها، ويحمل معه أيضاً صفات محدّدة لهذه البشائر.

نوعان من الانتظار:

انتظار الفرج، والتطلّع إلى مستقبلٍ أفضل على نوعين:

الأوّل: انتظار مُثمر بنّاء يبعث على الالتزام ويمنح القوّة والتحرّك، ومثل هذا الانتظار يمكنه أن يكون نوعاً من العبادة وطريقاً لطلب الحق.

٣

الثاني: انتظار محرّم هدّام يؤدّي إلى الوقوع في الأغلال وإلى شلّ الطاقات، ويمكن اعتباره نوعاً من (الإباحيّة) كما سنوضّح ذلك في آخر هذا البحث.

هذان النوعان من الانتظار ينطلقان من انطباعين مختلفين عن ظهور المهدي الموعود، وهذان الانطباعان بدورهما ناشئان عن رؤيتين متباينتين للتطوّرات والتغيّرات التاريخيّة، من هنا يلزمنا أن نُلقي بعض الضوء على طبيعة مجرى الأحداث التاريخيّة.

شخصيّةُ المجتمع وطبيعته

هل التطوّرات التاريخيّة سلسلة من الأمور الطبيعيّة، أم مجموعة من الأحداث التي تتحكّم فيها الصدفة والاتّفاق؟

الطبيعة خالية طبعاً من الصدفة الواقعيّة، أي خالية من بروز أو حدوث ظاهرة ليست لها علّة، لكنّ الصدفة موجودة بشكلٍ نسبي قطعاً.

لو خرجتَ صباح أحد الأيام من بيتك، وشاهدتَ صديقاً لك لم تراه منذ سنين وهو يمرّ من أمام بيتك، فإنّك ستقول: إنّ هذا اللقاء حدثَ بطريق المصادفة والاتّفاق، لماذا؟

٤

لأنّ طبيعة الخروج من البيت - بشكلٍ عام - لا تستلزم مثل هذا اللقاء، ولو استلزمَ ذلك لالتقيتَ بهذا الصديق كلّ يوم.

نحن إذاً نُطلق اسم (الصدفة) على كلّ ظاهرة لا تنسجم علّتها مع الطبيعة العامّة لعلّة تلك الظاهرة.

ما يحدث بالصدفة لا يخضع لضوابط عامّة، ولا لقوانين علميّة، إذ إنّ القوانين العلميّة تُعبّر عن الأحداث العامّة للطبيعة.

نعود إلى السؤال الذي طرحناه آنفاً.

رُبّ قائلٍ: إنّ أحداث التاريخ هي سلسلة من الصِدَف والاتفاقات، أي أنّها لا تنضبط تحت قاعدة عامّة، هذه المقولة تعني ‎ : أنّ المجتمع عبارة عن مجموعة من أفراد ذوي طبائع فرديّة شخصيّة، وما يقوم به هؤلاء الأفراد من نشاطات نابعة من دوافعهم الفرديّة الشخصيّة، يؤدّي إلى سلسلة من المصادفات والاتّفاقات، وهذه بدورها تؤدّي إلى التغييرات التاريخيّة.

هذه نظرة، والنظرة الأخرى، ترى أنّ للمجتمع وجوده وشخصيّته المستقلّة عن الأفراد،

٥

وله مسيرته التي تقتضيها طبيعته وشخصيّته، فشخصيّة المجتمع هي غير شخصيّة الأفراد، والشخصيّة الواقعيّة والحقيقيّة للمجتمع تركيب مكوّن من التفاعل الثقافي للأفراد كسائر التراكيب المشهودة في الطبيعة الحيّة والجامدة.

المجتمع - بناءً على هذا - له طبيعته وقواعده وضوابطه الخاصّة التي تؤطِّر مسيرته، وهذه المسيرة - بكلّ ما فيها من أفعال وردود أفعال - إنّما تقوم على أساس قوانين كليّة عامّة.

لا يمكن أن تكون للتاريخ فلسفة ولا قواعد ولا ضوابط عامّة، ولا بمقدوره أن يكون موضوعاً للفكر وأساساً للدراسة والتذكّر والاعتبار، ما لم يكن للمجتمع شخصيّة مستقلّة وطبيعة خاصّة.

وإن افتقدَ المجتمع هذه الشخصيّة المستقلّة تحوّل التاريخ إلى تعبير عن حياة مجموعة من الأفراد، وفقدَ عطاءه التربوي، وإن كانت في مثل هذا التاريخ عِظة وعبرة اقتصرت العِظة والعِبرة على الحياة الفرديّة، ولا تتعدّاها إلى حياة الشعوب والجماعات.

فَهمُنا لأحداث التاريخ يقوم إذاً على أساس فهمنا لشخصيّة المجتمع وطبيعته.

٦

القرآنُ والتاريخ

مسألة (انتظار الفرج) التي نريد معالجتها في هذا البحث دينيّة إسلاميّة، ذات جذور قرآنيّة، إضافة لمَا لها من طابع فلسفي واجتماعي، ينبغي على هذا أن نوضِّح رأي القرآن في المجتمع وأحداثه وتطوّراته قبل البحث في مسألة الانتظار.

ليس هناك شك في أنّ القرآن الكريم يذكر التاريخ على أنّه مصدر للتذكّر والتفكّر ولتلقّي العِبرة والدروس، لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد يدور حول طبيعة النظرة القرآنيّة، في طرح العِبر والدروس من حياة الأفراد أم من حياة الجماعات؟

وإذا كان القرآن يتّجه في سرده للتاريخ إلى حياة الجماعات لا الأفراد، فهل هذا يعني أنّ القرآن يعتبر المجتمع شخصيّة مستقلّة مُدركة ذات قوّة وشعور، ومستقلّة عن حياة الأفراد؟

وإذا كان جواب السؤال الأخير إيجابيّاً، فهل نستطيع أن نستنبط من القرآن الكريم السُنن

٧

والقوانين التي تحكم المجتمعات؟

هذه المواضيع تحتاج إلى دراسات وافية وتتطلّب تدوين رسالات مستقلّة (راجع تفسير الميزان)، الجزء 4 ص 103، الجزء 7 ص 333، الجزء 8 ص 85، الجزء 10 ص 71-73، الجزء 18ص 191.

نستطيع هنا أن نشير بشكلٍ موجَز جدّاً إلى أنّ القرآن ينطلق في قِسم من دروسه وعِبره - على الأقل - من حياة الأُمم والجماعات.

( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (البقرة/134).

القرآن يطرح مِراراً مسألة حياة الأُمم وآجالها فيقول مثلاً:

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (الأعراف/34).

القرآن الكريم يرفض بشدّة النظرة العبثيّة إلى التاريخ

٨

ويشدِّد على وجود قواعد ثابتة دائمة لمسيرة الأُمم والجماعات فيقول:

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (فاطر/ 43)

القرآن يشير إلى مسألة تربويّة هامّة في حقل القوانين التي تحكم التاريخ، حين يؤكّد أنّ البشريّة هي التي ترسم بيدها مصيرها عن طريق ما تقوم به من أعمال صالحة أم طالحة.

وهذا يعني أنّ النظريّة القرآنيّة تذهب إلى أنّ قوانين المسيرة البشريّة، ما هي إلاّ سلسلة من ردود الفعل لمَا تفعله الأقوام والجماعات.

من هنا نفهم أنّ النظريّة القرآنيّة تؤكّد على وجود قوانين ونواميس كونيّة ثابتة لمسيرة التاريخ، كما تؤكّد في الوقت ذاته على دور الإنسان وحريّته واختياره.

في القرآن الكريم آيات كثيرة بهذا الصدد، نذكر منها على سبيل المثال الآية 11 من سورة الرعد:

٩

( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم )

(الرعد/11).

تفسير تكامل التاريخ

المدرسة الفكريّة التي تنظر إلى المجتمع باعتباره موجوداً ذا شخصيّة مستقلّة وطبيعة خاصّة، لها نظرتها المعيّنة أيضاً إلى تكامل المجتمع، ولها تفسيرها الخاص لطبيعة المسيرة البشريّة ولمسألة التكامل.

مرّ بنا أنّ القرآن الكريم يؤكّد على شخصيّة المجتمع وواقعيّته، كما يؤكّد أيضاً على الاتّجاه الارتقائي التكاملي للمجتمع.

ومن جهةٍ أخرى، نعلم أنّ ثمّة مدارس فكريّة أخرى تذهب أيضاً إلى أنّ مسيرة البشريّة تسير سيراً ارتقائياً تفرضه حتميّة التاريخ.

من هنا كان لزاماً علينا أن نُلقي الضوء على الفَرق بين النظرة القرآنيّة في هذا المجال، ونظرة بعض المدارس الفكريّة الأخرى، وأن نفهم من خلال ذلك دور الإنسان ومسؤوليّته لنستجلي من ذلك كلّه طبيعة (الانتظار الكبير) وكيفيّته.

١٠

طريقتان مختلفتان:

تكامل التاريخ يمكن تفسيره بطريقتين مختلفتين:

الطريقة الأولى: نُطلق عليها اسم التفسير (الآلي) أو (الديالكتيكي).

والطريقة الأخرى: التفسير (الإنساني) أو (الفطري)، ومن هاتين الطريقتين المتباينتين لتفسير تكامل التاريخ ينبثق اتّجاهان فكريان مختلفان شكلاً وماهية.

نستعرض فيما يلي هاتين الطريقتين بقدر ما يتعلّق الموضوع بمسألة (الانتظار) و (الأمل) بالمستقبل لا أكثر.

الطريقة الديالكتيكيّة أو الآليّة

هذه الطريقة تفسِّر تكامل التاريخ على أساس الصراع بين النقائض، وأولئك الذين يتّخذون من هذه الطريقة وسيلة لتفسير تكامل المسيرة البشريّة لا يقتصرون على التاريخ، بل يفسِّرون كلّ أجزاء الطبيعة على هذا الأساس.

١١

نشير فيما يلي بشكلٍ موجز إلى التفسير الديالكتيكي للطبيعة باعتباره أساساً للتفسير الآلي للتاريخ.

يقوم التفسير الديالكتيكي للطبيعة على الأُسس التالية:

أولاً: الطبيعة في حركة مستمرّة ودائمة، وليس فيها ما هو ساكن وثابت، فالنظرة الصحيحة للطبيعة إذاً هي أن ترى الأشياء في حالة حركة وتغيّر دائمَين، والفِكر هو أيضاً متغيّر باعتباره جزءاً من الطبيعة.

ثانياً: كلّ جزء من أجزاء الطبيعة يتأثّر بأجزاء الطبيعة الأخرى ويؤثّر فيها، فهناك ارتباط عام بين جميع الأجزاء، وعلى هذا فالنظرة إلى الطبيعة لا تكون صحيحة ما لم تدرس جميع الأشياء وهي مرتبطة مع بعضها، لا مفكّكة ومجزّأة.

ثالثاً: الحركة ناشئة عن صراع النقائض، فكما قال (هرقليطس) اليوناني قبل خمس وعشرين قرناً: الصراع أساس كلّ تطوّر.

وصراع النقائض يأتي عن طريق اتّجاه كلّ ظاهرة نحو ضدّها ونقيضها، وهذه الظاهرة تحمل نقيضها معها، فكلّ ظاهرة موجودة ومعدومة في آنٍ واحد؛ لأنّها تحملعوامل عدمها وفنائها معها.

١٢

ومع نموّ النقيض يحتدم الصراع بين الظاهرة الأصليّة التي نريد الحفاظ على وضعها ووجودها، وبين نقيضها الذي يريد أن يبدّلها إلى ضدّها.

رابعاً: الصراع بين النقائض داخل الظاهرة يزداد شدّة باستمرار حتى يبلغ ذروته، أي أنّ التغيير الكمّي يزداد ليبلغ أقصى حدّ ممكن، وحينئذٍ تحدث طفرة ثوريّة في التغييرات الكميّة لتتحوّل إلى تغييرات كيفيّة، وينتهي الصراع لصالح القوى الجديدة، وتندحر القوى القديمة ويتبدّل الشيء بأجمعه إلى نقيضه.

فهذه الطريقة لفهم الوجود تتلخّص إذاً في افتراض قضيّة أولى وجعلها أصلاً: وهي ما يطلق عليها اسم (الأطروحة)، ثُمّ ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه وهو (الطباق) بحكم الصراع في المحتوى الداخلي بين المتناقضات، ثُمّ يأتلف النقيضان في وحدة وهي (التركيب)، وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلاً ونقطة انطلاق جديدة، وهكذا يتكرّر هذا التطوّر الثلاثي وبهذا الشكل تطوي الطبيعة مراحل تكاملها.

فالطبيعة ليست هادفة ولا تنشُد كمالها، بل تتّجه نحو انهدامها، لكنّ هذا الانهدام يحمل بدوره عنصر انهدامه،

١٣

وكلّ نقيض يتّجه بدوره نحو نقيضه.. ونفي النفي نوع من التركيب الذي يؤدّي إلى دفع التاريخ نحو التكامل بشكلٍ حتمي وجبري.

والتاريخ جزء من الطبيعة، وهو لذلك يطوي نفس مسيرة الطبيعة على الرغم من أنّ عناصر المسألة التاريخيّة هم أفراد البشر.

أي أنّ التاريخ تحرّك مستمر وارتباط متبادل بين الإنسان والطبيعة والإنسان والمجتمع.. وهو مواجهة وجدل دائمان بين المجموعات الإنسانيّة الفتيّة، والمجموعات التي تتّجه نحو الزوال، وهذه المواجهة تؤدّي في نهاية الأمر إلى حركة حادّة ثوريّة لصالح القوى الفتيّة النامية.

بعبارة أخرى: التاريخ مسرح لصراع الأضداد... حيث تتّجه كلّ ظاهرة نحو ضدّها ثُمّ يتمّ التكامل على أثر تركيب الأضداد.

هذه النظريّة تذهب بعد ذلك إلى أنّ العمل الإنتاجي هو أساس حياة البشريّة والعامل المحرِّك للتاريخ.

فالعمل الاجتماعي - في أيّة مرحلة من مراحل التاريخ - يخلق نوعاً خاصّاً من العلاقات الاقتصاديّة

١٤

بين الأفراد، وهذه العلاقات الاقتصاديّة تؤدّي إلى انبثاق مجموعة من العلاقات الأخرى: كالعلاقات الخلقيّة، والسياسيّة، والقضائيّة، والعائليّة ونظائره.

والعمل الإنتاجي لا يتوقّف على شكل معيّن، إذ إنّ الإنسان مزوّد بقدرة على تطوير وسائل الإنتاج، وتكامل وسائل الإنتاج يؤدّي إلى زيادة الإنتاج، وإلى خَلق جيل جديد يحمل أفكاراً جديدة متكاملة.. أي أنّ هناك تأثيراً متبادلاً بين الإنسان والآلة، الإنسان يخلق الآلة، والآلة تخلق الإنسان الجديد.

ومن جهةٍ أخرى، زيادة الإنتاج تؤدّي إلى إيجاد علاقات اقتصاديّة تبعث مجموعة أخرى من العلاقات الاجتماعيّة، وهذا هو المقصود من مقولة: الاقتصاد يشكِّل البناء التحتي للمجتمع، وكلّ ما عداه فهو بناء فوقي، أي أنّ جميع الأوضاع الاجتماعيّة معلولة للوضع الاقتصادي.

وعندما يتغيّر البناء التحتي على أثر تطوّر وسائل الإنتاج تتغيّر كلّ الأبنية الفوقيّة، وفي هذه الحالة تحاول القوى التي ترتبط مصالحها بالوضع الاقتصادي القديم أن تحافظ على هذا الوضع بشكله الموجود، لكنّ الطبقة الفتيّة - المرتّبة بوسائل الإنتاج الجديدة - ترى أنّ مصالحها

١٥

تقتضي تغيّر الأوضاع وإحلال نظام اقتصادي جديد، ومن هنا تسعى إلي تغيير المجتمع وتطويره، وإلى إيجاد نوع من التناسق بين المسائل الاجتماعيّة من جهة، ووسائل الإنتاج المتكاملة ومستوى الإنتاج الجديدة من جهةٍ أخرى.

ويستمرّ الصراع بين الفريقين: فريق رجعي ومرتبط بالماضي، وفريق تقدّمي يرتبط بالمستقبل.

أحدهما: يرى ضرورة بقاء الأوضاع الموجودة من أجل استبقاء وجوده، والآخر: يسعى نحو أجواء جديدة وأوضاع جديدة، أحدهما: يتّجه نحو الزوال، والآخر: نحو النمو.

ويشتدّ الصراع ويحتدم ليبلغ ذروته حيث يحدث الانفجار، ويتبدّل المجتمع في خطوة ثوريّة تبدّلاً يتمثّل بتغيّر النظام القديم، وإحلال النظام الجديد وانتصار القوى الجديدة وفشل القوى القديمة.

وهنا تبدأ مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، وهذه المرحلة الجديدة تتطوّر أيضاً إلى مرحلة جديدة أخرى بنفس الطريقة السابقة.

فالتاريخ - في مفهوم هذه النظريّة - يطوي مسيرته عبر الأضداد، وكلّ مرحلة من مراحل التاريخ تحمل

١٦

في أحشائها المرحلة التالية، وبعد صراع مستمر تترك المرحلة السابقة مكانها للمرحلة التالية.

هذا الاتّجاه الفكري لتفسير الطبيعة والتاريخ يسمّى (الاتّجاه الديالكتيكي).

ولمّا كان هذا الاتّجاه يعتبر كلّ القيَم والأوضاع الاجتماعيّة - في جميع مراحل التاريخ - مرتبطة بوسائل الإنتاج وتابعة لها، فقد أطلقنا عليه اسم (التفسير الآلي)، ومتى ما ذَكرنا مصطلح (التفسير الآلي للتاريخ)؛ فإنّنا نقصد به هذا اللون من التفكير.

العنصر الأساسي

ما هو العنصر الأساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة؟

ما هو الفرق الرئيسي بين هذا الاتّجاه وهذا المنطق، والاتّجاهات الفكريّة والمنطقيّة الأخرى؟

ما الذي يميّز هذا التفسير للظواهر الطبيعيّة، عن التفسير الذي يَطلق عليه أرباب المنطق الديالكتيكي اسم) التفسير الميتافيزيقي)؟

١٧

دُعاة المنطق الديالكتيكي يتّبعون مع الأسف طريقة (الغاية تبرِّر الوسيلة) في عرض المفاهيم، وهم لذلك يلقون التُهم تلو التُهم على ما يسمّونه بـ(المنطق الميتافيزيقي)، عند إجابتهم على الأسئلة المذكورة.

ويقولون أيضاً: إنّ التفكير الديالكتيكي ينظر إلى جميع الأشياء باعتبارها متحرِّكة، بينما يعتبر الاتّجاه الميتافيزيقي جميع أجزاء الطبيعة ساكنة جامدة.

لكنّ الحقيقة غير ذلك، فأرباب الاتّجاه الميتافيزيقي لا ينظرون الأشياء باعتبارها جامدة غير متحرِّكة، بل بالعكس فالبحوث المتعلّقة بالطبيعة في الفلسفة الإلهيّة ترى أنّ السكون في الطبيعة مفهوم نسبي، والثبات من خصائص ما وراء الطبيعة(للتوسّع في هذا الصدد راجع (فلسفتنا)، محمّد باقر الصدر، فصل (حركة التطوّر) (المترجِم).

ويقولون أيضاً: إنّ التفكير الديالكتيكي يَعتبر الأشياء مرتبطة مع بعضها وذات تأثير متبادل مع بعضها، بينما أصحاب ما يسمّى بالمنطق الميتافيزيقي ينظرون إلى الأشياء مفكّكة غير مترابِطة مع بعضها.

١٨

وهذا مخالف للواقع فيما يسمّونه بالمنطق الميتافيزيقي، فهو لا ينظر إلى الأشياء باعتبارها منفصلة ومفكّكة عن بعضها (راجع نفس المصدر، فصل (الارتباط العام) (المترجم)).

والفلاسفة الإلهيّون أوّل مَن نظرَ إلى أجزاء العالَم باعتبارها مرتبطة مع بعضها ارتباطا عضويّاً، وإلى العالَم على أنّه إنسان كبير، وإلى الإنسان على أنّه عالَم صغير، مع فارق في التعبير وطريقة الاستنتاج بين المادّيين والإلهيّين في هذا الصدد.

ويقول كذلك: إنّ المسألة الأساسيّة التي تميّز التفكير الديالكتيكي عن التفكير الميتافيزيقي هي: مسألة التضاد.

ويستند هؤلاء إلى المبدأ المعروف في المنطق والفلسفة القائل بعدم إمكان اجتماع النقيضين وارتفاعهما ليستنتجوا: أنّ التفكير الميتافيزيقي يرفض أي نوع من التناقض، وإنّه يرى جميع أجزاء الطبيعة منسجمة مع بعضها حتى الماء والنار! وإنّ أرباب التفكير الميتافيزيقي يَدعون القوى الاجتماعيّة الكادِحة المسحوقة - انطلاقاً من رؤيتهم هذه - إلى المصالحة والمسألة كذا.

١٩

والحقيقة أنّ المبدأ المذكور لا علاقة له إطلاقاً بمسألة التناقض، وهذا اللون من الاستنتاج تحريق للحقائق.. فأصحاب التفكير الإلهي يرون أنّ التضاد في عناصر الطبيعة، شرط لازم لدوام الفيض من الباري تعالى (كتب المؤلِّف الشهيد مقالاً قيّماً في هذا الحقل تحت عنوان (أصل التضاد في الفلسفة الإسلاميّة) عسى أن أوفّق لنشر ترجمته العربيّة قريباً) (المترجِم).

ويدّعون أيضاً: أنّ العنصر الأساسي الذي يمتاز به التفكير الديالكتيكي في حقل التاريخ والطبيعة، هو مبدأ قفزات التطوّر والحركات الثوريّة في التاريخ.

لكنّ هذا الادّعاء مرفوض أيضاً؛ لأنّ مسألة قفزات التطوّر ليست لها أصالة في التفكير الديالكتيكي.

هيغل - أبو الديالكتيك - لم يذكر هذا المبدأ ضمن مبادئ الديالكتيك وهكذا كارل ماركس.

ظهرَ مبدأ قفزات التطوّر خلال القرن التاسع عشر في علم الأحياء، وإضافة أنجلس - تلميذ ماركس - إلى مبادئ الديالكتيك، واليوم يُعتبر هذا المبدأ من قوانين علم الأحياء، وليس له ارتباط بأيّة مدرسة فكريّة.

٢٠