نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ0%

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 61

  • البداية
  • السابق
  • 61 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12556 / تحميل: 3632
الحجم الحجم الحجم
نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فما هو العنصر الأساسي إذاً؟

العنصر الأساسي الذي يمتاز به هذا الاتّجاه الفكري عن غيره من الاتّجاهات يتلخّص بما يلي:

1- قوله بديالكتيكيّة الفكر: أي أنّ الفكر الإنساني جزء من الطبيعة، وهو بالتالي خاضع لقوانين الديالكتيك الأربعة: (حركة التطوّر، وتناقضات التطوّر، وقفزات التطوّر، والارتداد العام) والاتّجاه الديالكتيكي ينفرد في هذا، ولا يشاركه فيه اتّجاه آخر.

2- تحديده للتناقض بالانتقال من الأطروحة إلى الطباق ومنه إلى التركيب، أي أنّ الديالكتيك يفهم التناقض بأنّه ضرورة احتواء كلّ ظاهرة على ضدّها، ثُمّ انتقال تلك الظاهرة إلى حالة الضد، وهذه الحالة الجديدة تستمرّ في التطوّر على نفس الطريقة، وبذلك فالطبيعة والتاريخ يطويان مسيرتهما عبر الأضداد، والتكامل في رأي الديالكتيك هو اجتماع الضدّين في تركيبٍ جديد.

مبدأ التناقض قديم: وهو يعني أنّ أجزاء الطبيعة في حالة صراع، بل وأحياناً في حالة تركيب مع بعضها، وأمّا إضافة الفكر الديالكتيكي إلى هذا المبدأ هو أنّ الصراع بين المتناقضات لا يقتصر على أجزاء الطبيعة، بل إنّ كلّ

٢١

ظاهرة تربّي في أحشائها نقيضها، وتبرز ظاهرة التناقض بالصراع بين العوامل الجديدة.

هاتان الخاصيّتان تشكّلان العنصر الأساسي للفارق بين التفكير الديالكتيكي والتفكير غير الديالكتيكي.

ومن الخطأ - بناءً على ما تقدّم - إضفاء صفة الديالكتيك على كلّ مدرسة تؤمن بمبدَأي الحركة والتناقض بين أجزاء الطبيعة.

لقد حاول البعض وصف الفكر الإسلامي بأنّه فكر ديالكتيكي، بعد أن شاهدوا مبدأ الحركة والتغيير والصيرورة، وكذلك مبدأ التناقض في التراث الإسلامي.

والحقيقة غير ذلك، فالفكر الإسلامي يؤمن بوجود حقائق ثابتة خالدة غير قابلة للتغيّر، وهذا ما لا يؤمن به الفكر الديالكتيكي الذي يعتبر كلّ ما في الذهن من حقائق عن العالَم إنّما هي مؤقّتة ونسبيّة.

إضافةً إلى ذلك، فالتناقض في التراث الإسلامي يتعارض مع مفهوم التناقض الديالكتيكي، الذي يحصر حركة التاريخ والطبيعة بالسير عبر مثلث (الأطروحة، والطباق، والتركيب).

٢٢

هذا الخطأ ناشئ بالدرجة الأولى من التهريج الذي يعمد إليه كثير من أتباع المادّة الديالكتيكيّة، حين يطلقون في أحاديثهم اسم الاتّجاه الميتافيزيقي على كلّ اتّجاه فكري غير ديالكتيكي، ثُمّ يرشِّقون هذا الاتّجاه الميتافيزيقي بوابل من التُهم، كعدم الإيمان بالحركة والارتباط العام وبالتناقض.

هذه التُهم تُطرح ضمن ثرثرة لغويّة مسهبة وبعبارات قاطعة حاسمة، تدفع بقارئها السطحي إلى الإيمان بأنّ الحركة والارتباط العام والتناقض، مبادئ يختصّ بها الفكر الديالكتيكي وحده لا غير.

ومثل هذا القارئ يتّخذ تجاه الفكر الإسلامي أحد موقفين خاطئين: إمّا أن يضع الإسلام - باعتباره ديناً سماويّاً - إلى صف الأفكار الميتافيزيقيّة (غير الديالكتيكيّة) ويخرج بنتيجة سريعة هي: أنّ الفكر الإسلامي كسائر الأفكار الميتافيزيقيّة يقوم على أساس الثبات والسكون، وعدم وجود ارتباط عام بين أجزاء الطبيعة وعدم وجود تناقض بين هذه الأجزاء.

وإمّا أن يكون هذا القارئ مطّلعاً على الفكر الإسلامي وعالِماً بخلوّ الفكر ممّا يُتهم به الفكر الميتافيزيقي، بل بوجود مبادئ الحركة والارتباط العام

٢٣

والتناقض في الفكر الإسلامي، فيستنتج من ذلك أنّ التفكير الإسلامي ليس بميتافيزيقي.

ولمّا كان دعاة الماديّة الديالكتيكيّة قد أوحوا له أنّ الاتّجاهات الفكريّة لتفسير الطبيعة لا تزيد على اثنين:

الديالكتيكي، والميتافيزيقي، فإنّ مثل هذا القارئ السطحي ناتج - كما قلنا - عن تساهل دعاة الماديّة الديالكتيكيّة في عرض أفكار الآخرين، وعن انتهاجهم أسلوب التهريج وإلقاء التُهم بالنسبة للاتّجاهات الفكريّة غير الديالكتيكيّة، وحقيقة المسألة - كما ذكرنا - هي غير ذلك.

٢٤

نتائج الاتّجاه الآلي لتفسير التاريخ

1- مفهوم القديم والجديد:

تعبير القديم والجديد في المنطق الديالكتيكي لا ينطلق من تعاقب جيلي، أي لا يُعني المجابهة بين الجيل الجديد والجيل القديم، لا يعني أنّ الجيل الجديد يقف بالضرورة في صفوف الجبهة الثوريّة، ولا يعني أيضاً أنّ الجيل القديم يقف بالضرورة في الجبهة المحافظة.

كما أنّ هذا المفهوم لا ينطلق من إطار ثقافي، أي أنّه لا يعني المجابهة بين المثقّفين والأُميين، بل إنّه مفهوم اجتماعي واقتصادي بَحت.

فالطبقة القديمة هي التي ترتبط مصالحها بالوضع الموجود، والطبقة الجديدة هي الناقمة على الوضع

٢٥

الموجود، وهي التي فَرضت عليها وسائل الإنتاج الجديدة أن ترى الأوضاع الموجودة معارضة لمصالحها، وأن تسعى إلى تغيير البناء الفوقي للمجتمع.

فالتقدّمي - في رأي هذا الاتّجاه -: هو نصير تغيير الأوضاع الموجودة وتكامل المجتمع.. والرجعي: هو الذي يطالب بالثبات وببقاء الأوضاع الاجتماعيّة على ما هي عليه.

الطبقة المُرفّهة والمنتفعة من الأوضاع الموجودة هي رجعيّة جامدة الفكر بالضرورة؛ لأنّ محتوى التفكير الاجتماعي للأفراد يتكوّن من خلال مكانتهم الطبقيّة وظروفهم الاقتصاديّة، وبنفس السبب فالطبقة المسحوقة المستثمرة تقدميّة ذات فكر متطوّر متحرِّك، وهذه مسألة لا علاقة لها بالمعلومات وبالثقافة، فالحركة الاجتماعيّة تبدأ غالباً من الفئات والطبقات ذات المستوى العلمي الهابط، لكنّ هذه الفئات مثقّفة لمكانتها الطبقيّة.

2- التسلسل المنطقي للتاريخ:

المراحل التاريخيّة - في المنطق الديالكتيكي - مرتبطة مع بعضها ارتباطاً طبيعيّاً ومنطقيّاً، وكلّ حَلقة من حلقات

٢٦

التاريخ لها مكانها المعيّن الخاص، وليس بالإمكان أن تتقدّم أو تتأخّر.

فالرأسماليّة: مرحلة تاريخيّة تتوسّط مرحلة الإقطاع والمرحلة الاشتراكيّة، ومن المستحيل أن ينتقل المجتمع من الإقطاع إلى الاشتراكيّة دون أن يمرّ بالمرحلة الرأسماليّة، فلا طفرة في مراحل التاريخ كما كان يعتقد الفلاسفة الأقدمون.

فالطفرة في التاريخ تشبه انتقال نطفة الإنسان إلى مرحلة الطفولة دون أن تمرّ في المرحلة الجنينيّة، وتشبه انتقال الوليد إلى مرحلة الشباب دون أن يمرّ في مرحلة الطفولة.

من هنا فأصحاب هذا المنطق يطلقون اسم الاشتراكيين المثاليين على الاشتراكيين، الذين أرادوا أن ينطلقوا من إيمانهم بالفكرة الاشتراكيّة إلى تطبيق هذه الاشتراكيّة، دون أن يراعوا جبر التاريخ والتسلسل المنطقي للمراحل التاريخيّة، كما سمّوا اشتراكيّتهم بالاشتراكيّة الطوباويّة أو الخياليّة، خلافاً للاشتراكيين الماركسيين الذين يقيمون فكرهم على أساس التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ.

٢٧

3- ذروة كلّ مرحلة:

ليس من الضروري أن يمرّ التاريخ في مراحله المتوالية المرسومة دون طفرة فحسب، بل من الضروري أيضاً أن تبلغ كلّ مرحلة من المراحل إلى ذروة كمالها لتتبدّل إلى مرحلة جديدة أخرى، ولتستمرّ المسيرة التكامليّة.

لابدّ لمرحلة الإقطاع - مثلاً - أن تطوي مسيرتها بالتدريج؛ لتبلغ مرحلة تاريخيّة معيّنة يحدث فيها التغيير.

وانتظار أيّة مرحلة مُقبلة من مراحل التاريخ دون أن تبلغ المرحلة الراهنة ذروتها، كانتظار الولادة قبل أن تطوي النطفة مراحلها الجنينيّة، وولادة مثل هذه - إن تمّت - فهي إجهاض وليست ولادة سليمة.

4- قدسيّة النضال:

لمّا كان الصراع بين القديم والجديد شرطاً أساسيّاً لانتقال التاريخ من مرحلة إلى مرحلة أخرى، وركناً ضروريّاً من أركان تكامل المجتمع البشري، فالصراع بين القديم والجديد هو نضال مقدّس مهما كان لونه.

فالقديم يستحقّ الفناء لا لكونه معتدياً،... بل لأنّه

٢٨

قديم..؛ ولأنّ زواله يَدفع بالمجتمع نحو التكامل.

من هنا فقدسيّة النضال لا تنطلق من كونها دفاعاً عن حق أو ردّاً لهجوم.

5- إثارة الفوضى:

نضال الجديد للقديم ليس وحده هو المشروع والمقدّس، بل كلّ تحرّك يمهِّد للثورة ويدفع بعجلة التكامل مشروع ومقدّس أيضاً، كإثارة الاضطرابات من أجل خلق الاستياء، وتعميق الفجوات وتصعيد النضال.

فالتكامل - كما ذكرنا - هو أن ينقلب الضدّ إلى ضدّه في حركة ثوريّة سريعة، وطريق هذا التغيير هو الصراع الداخلي للتناقضات.

ولا يمكن لهذا التغيير أن يتمّ دون أن يصل عمق الفجوات وشدّة الصراع إلى أعلى مرحلة من مراحل تكامله.

وكلّ ما من شأنه أن يوسِّع الثغور يعمل على الإسراع في تغيير المجتمع من مرحلة إلى مرحلة أسمى.

ولمّا كانت عمليّة إثارة الفوضى والاضطرابات تستطيع أن تنهض بهذا الدور،

٢٩

فهي مشروعة ومقدّسة طبقاً لهذا المنطلق.

6- الإصلاحات:

من جهةٍ أخرى، الإصلاحات الجانبيّة والخطوات الرامية إلى تسكين آلام المجتمع، هي خيانة وتخدير ووقوف بوجه التكامل وانخراط في جبهة أعداء التطوير، إذ إنّ مثل هذه الإصلاحات والخطوات تقلِّل من الفجوات ولو بشكلٍ مؤقّت، وتخفِّض حدّة التناقضات، وهذا ما يؤدي إلى تأخير موعد انفجار الثورة.. وتأخير هذا الموعد يعادل زيادة مدّة بقاء المجتمع في مرحلة معيّنة، وتأخير موعد التغيير والتكامل.

هذه هي أهم نتائج الاتّجاه الديالكتيكي أو الآلي لتفسير التاريخ.

الطريقة الإنسانيّة أو الفطريّة

الطريقة الإنسانيّة أو الفطريّة لتفسير التاريخ تقف في النقطة المقابِلة للتفسير الآلي.

٣٠

هذه الطريقة تمنح الإنسان والقيَم الإنسانيّة أصالة، سواء على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع.

هذه الطريقة تنظر إلى الكائن الإنساني - في إطار علم النفس - بأنّه مكوّن من مجموعة غرائز ماديّة يشترك فيها سائر الحيوانات، ومجموعة من الغرائز السامية التي تميّزه عن غيره من الحيوانات: كالغريزة الدينيّة، والغريزة الأخلاقيّة، وغريزة البحث عن الحقيقة (حبّ التطلّع)، والغريزة الجماليّة.

وفي الإطار الفلسفي، تنظر هذه الطريقة إلى المجتمع (من حيث ارتباط أجزائه وأفراده بأنّه تركيب حقيقي، كما تنظر إلى المجتمع (من حيث خصاله) بأنّه مجموعة من الخصال الدانية والسامية للأفراد، إضافة إلى مجموعة خصال باقية مستمرّة في المجتمع.

هذه الخصال الباقية المستمرّة تتحكّم في المجتمعات دون أن تتأثّر بفناء الأفراد.

على أنّ تكامل الإنسان والمجتمع الإنساني يمنح هذه الخصال الباقية نظاماً أفضل.

مسيرة التاريخ - انطلاقاً من هذه النظرة - متحوّلة متكاملة كالطبيعة ذاتها، والحركة باتّجاه الكمال ضرورة لا

٣١

تنفصل عن ذات أجزاء الطبيعة بما فيها التاريخ.

تحوّل التاريخ وتكامله لا يقتصر على الجانب الفنّي والآلي.. أي يقتصر على الجانب المَدني، بل إنّه يعمّ ويشمل جميع الشؤون المعنويّة والثقافيّة للإنسان، ويتّجه نحو تحرير الإنسان من القيود البيئيّة والاجتماعيّة.

والإنسان - بفعل تكامله الشامل - يتحرّر تدريجيّاً من ارتباطه ببيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة، ويتّجه نحو توثيق ارتباطه بالعقيدة والإيمان والأيديولوجيّة، وسيصل في المستقبل إلى الحريّة المعنويّة التامّة المتمثّلة في الارتباط التام بالعقيدة والإيمان والمدرسة الفكريّة.

الإنسان في الماضي كان أسيراً وعبداً لقوى الطبيعة على الرغم من قلّة تمتّعه بمواهبها، والإنسان في المستقبل سيتحرّر من قيود الطبيعة، وستزداد سيطرته عليها في نفس الوقت الذي سيزداد للطبيعة إلى أقصى حدٍ ممكن.

لا ينبغي تفسير التكامل بآلات الإنتاج، ولا ينبغي اتّخاذ المعلول مكانة العلّة، تكامل وسائل الإنتاج هو بدوره معلول اندفاع الإنسان الفطري نحو الكمال والتنويع والاستزادة، وناتج عن قوّة الابتكار لدى الأفراد.

٣٢

هذه القوّة وذاك الاندفاع باستمرار جَنباً إلى جنب في جميع جوانب الحياة الإنسانيّة.

وهذه الطريقة ترى أنّ من خصائص الإنسان انطواءه على صراع داخلي بين الجانب الأرضي أو الترابي، والجانب السماوي المتعالي... أي بين الغرائز الهابطة ذات الهدف الفردي المحدود المؤقت، والغرائز السامية التي تتجاوز حدود الفرديّة وتتّسع لجميع البشريّة، وتستهدف تحقيق القيَم الخلقيّة والدينيّة والعلميّة والعقليّة.. هذا الصراع أطلقَ عليه القدماء اسم (النزاع بين العقل والنفس).

هذا الصراع الداخلي في نفس الإنسان سينجر إلى صراع بين المجموعات البشريّة، ويتّخذ صورة حرب بين الإنسان المتكامل المتحرِّر روحيّاً، والإنسان المنحط المغلول بقيود حيوانيّة.

هذا الاتّجاه الفكري يقبل مبدأ الصراع الاجتماعي ويؤمن بدور هذا الصراع في تغيير التاريخ وتكامله، لكنّه يرفض أن يكون هذا الصراع طبقيّاً دائراً بين الفئة المرتبطة بوسائل الإنتاج والنُظم الاجتماعيّة القديمة، وبين الفئة المرتبطة بوسائل الإنتاج الجديدة.

٣٣

فالصراع الذي يؤمن به هذا الاتّجاه الفكري ويؤمن بدوره في تطوير التاريخ هو: الصراع بين الأفراد الملتزمين المؤمنين الهادفين المتحرّرين من قيود الطبيعة والغرائز الحيوانيّة، والأفراد المنحطّين المتسافِلين الراسفين في أغلال الشهوات الهابطة.

وقائع التاريخي تشهد أنّ كثيراً من الثورات التي قامت من أجل تأمين الاحتياجات الماديّة للمجتمع، تصدّرَ قيادتها أو دَعمها على الأقل رجال متحرّرون من قيود الشهوات الهابطة.

وبين الطريقين: (الآليّة والإنسانيّة) اختلاف في تفسير طبيعة الثورات والنهضات.

الطريقة الآليّة: ترى أنّ تكامل وسائل الإنتاج يخلق طبقة محرومة تنهض بالثورات من أجل تأمين احتياجاتها الماديّة، فتعمد هذه الطبقة إلى تغيير الأنظمة والقوانين الموجودة وتستبدلها بأنظمة وقوانين جديدة... وتدّعي أيضاً: أنّ المحتوى الداخلي لأي إنسان يعكس مكانته الطبقيّة، والطبقة الحاكمة تسعى دوماً إلى حفظ النظام القائم وصيانته.

٣٤

أمّا الطريقة الإنسانيّة: فتقدِّم أمثلة تاريخيّة للثورات التي لم تقتصر على الطبقة المحرومة، بل نهضَ فيها أفراد نشأوا في الطبقات المرفّهة، ووقفوا بوجه النظام الحاكم بقوّة وبسالة كنهضات: إبراهيم، وموسى، ومحمّد، والحسين بن علي.

ولم تكن أهداف الثوار ماديّة دوماً، وخير دليل على ذلك: ما شهده التاريخ الإسلامي من نهضات في سبيل الله، وخاصّة في عصر صدر الإسلام، فيصف علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام) الرعيل الأول من المسلمين المجاهدين فيقول: (حَملوا بصائرهم على أسيافهم) نهج البلاغة، الخطبة 148.

والثورات والنهضات لم تكن دوماً مرافقة لتطوّر وسائل الإنتاج، كالنهضات التي شهدها الشرق والغرب خلال القرون الأخيرة؛ من أجل مقارعة الاستبداد والطغيان..

فأيّ تطوير لوسائل الإنتاج حدثَ في إيران - مثلاً - أبانَ النهضة الدستوريّة؟!

ولم تكن الفوضى الاجتماعيّة دوماً وليدة نقص القوانين الموجودة.. بل كانت أحياناً وليدة عدم تنفيذ القوانين النظريّة المقبولة، فانطلقت الحركات الاجتماعيّة من أجل تطبيق هذه القوانين وتنفيذها عمليّاً: كحركات الشعوبيّة،

٣٥

وثورات العلَويين في التاريخ الإسلامي.

وأخيراً.. فالإنسان ليس بالموجود الذي لا يملك أيّة قدرة في التحكّم بنفسه، وليس بالكائن المدفوع دوماً بدوافع غرائزه الماديّة ومصالحة الذاتيّة الآنيّة.

٣٦

نتائج الاتّجاه الإنساني أو الفطري

لتفسير التاريخ

1- المعارك الرابحة:

معارك التاريخ اتّخذت أشكالاً وماهيّات مختلفة وانطلقت من عِلل وأسباب متباينة، لكنّ المعارك التقدّميّة - التي دَفعت بعجلة التاريخ والإنسانيّة على سلّم الارتقاء - هي المعارك التي دارت رحاها بين الإنسان العقائدي الملتزم المؤمن المتسامي، والإنسان العابث المنحط المغلول بقيود شهواته الحيوانيّة والبعيد عن خط الالتزام والهدف والتعقّل.

المعارك التقدّميّة التكامليّة ليست بذات صفة طبقيّة، وليست بالمجابهة بين القديم والجديد بالمفهوم الذي ينصّ عليه الاتّجاه الآلي.

المعارك البشريّة تتّجه على مرّ التاريخ بالتدرّج نحو اتّخاذ صفة أيديولوجيّة،

٣٧

ويتّجه الإنسان بالتدرّج نحو التكامل في قيَمه الإنسانيّة، أي يقترب من الإنسان المثالي ومن المجتمع المثالي.

ستكون نهاية المسيرة الإنسانيّة إقامة حكومة العدل وحكومة سيادة القيَم الإنسانيّة، أو بالتعبير الإسلامي (حكومة المهدي)،

كما ستزول حكومة قوى الباطل والطغيان والضلال المنساقة بدوافعها الحيوانيّة والأنانيّة.

2- حَلقات التاريخ:

التسلسل المنطقي لحلقات التاريخ ليس له أساس من الصحّة كما يصوِّره أصحاب التفسير الآلي، وقائع التاريخ عامّة - وما شهده القرن الماضي خاصّة - تؤكّد زيف هذه النظريّة.

في القرن الماضي اتّجهت بلدان إلى الاشتراكيّة دون أن تطوي المرحلة الرأسماليّة، نظير الاتحاد السوفيتي والصين وبلدان أوروبا الشرقيّة.

ومن جهةٍ أخرى، ثمّة بلدان بَلغت فيها الرأسماليّة ذروتها كالولايات المتّحدة وبريطانيا، لكنّها بقيت في هذه المرحلة دون تغيير أو انتقال، وثبت خطأ كلّ التوقّعات التي أعربَ عنها زعماء الاتّجاه الآلي

٣٨

حين أكّدوا على قرب اندلاع الثورة العمّاليّة في البلدان الصناعيّة: كبريطانيا، وفرنسا.

أحداث التاريخ أوضحت زيف ادّعاءات الجبر، وأثبتَت إمكان وصول طبقة البروليتاريا إلى درجة معيّنة من الرفاه بحيث لم تعد تخامرها فكرة الثورة، كما أثبَتت إمكان انتقال مجتمع من الحالة البدويّة إلى أسمى مراحل الحضارة الإنسانيّة على أثر انبثاق إيديولوجيّة معنيّة، وانتشار إيمان ديني بين أفراد المجتمع كما حدثَ في صدر الإسلام.

- قدسيّة النضال

مشروعيّة النضال وقداسته لا تنحصر في إطار الوقوف بوجه الاعتداء على الحقوق الفرديّة والوطنيّة، بل إنّ إطار هذه المشروعيّة والقداسة يتّسع لكلّ نضال يستهدف الدفاع عن إحدى المقدّسات البشريّة المهدّدة بالخطر.

فالنضال مشروع متى ما تعرّض حقٌ لخطر، خاصّة إذا كان ذلك الحق يتعلّق بالمجتمع الإنساني: كالنضال من أجل التحرير، ومن أجل إنقاذ المستضعفين - على حد التعبير القرآني - كما أنّ النضال على طريق التوحيد مشروع

٣٩

متى ما تعرّض التوحيد للخطر - أيّاً كان هذا الخطر - إذ إنّه أهم مقوّمات سعادة البشريّة.

4 - الإصلاحات

الإصلاحات الجانبيّة والتدريجيّة لا يمكن إدانتها بأي شكل من الأشكال، فالتاريخ لا يطوي مسيرته عبر الأضداد، ومن هنا فالإصلاحات الجانبيّة والتدريجيّة لا تمنع مسيرته التكامليّة ولا تقف بوجه انفجار أحداثه.

الإصلاحات الجانبيّة التدريجيّة تساهم بدورها في دعم الحق خلال صراعه مع الباطل، كما تساعد في دفع مسيرة التاريخ لصالح دعاة الحق.

ومقابل ذلك، فأعمال الفسق والفجور تساعد قوى العدوان، وتُعيق حركة التاريخ لمَا فيه ضرر أصحاب الحق.

تطوّر الأحداث - بناءً على هذا التصوّر - هو كنضج الفاكهة على غصن الشجرة، لا كانفجار القدر الكاتم - كما في التصوّر الآلي -.

فالشجرة تعطي فاكهة أفضل وأسلم، وربّما أسرع،

٤٠