نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ0%

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 61

  • البداية
  • السابق
  • 61 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12564 / تحميل: 3633
الحجم الحجم الحجم
نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لو اهتمَمنا برعايتها وسقيها وكافَحنا آفاتها.

5 - إثارة الفوضى

الدليل على شرعيّة الإصلاحات الجزئيّة التدريجيّة، هو ذاته الدليل على عدم شرعيّة أعمال التخريب وإثارة الفوضى والاضطرابات من أجل خلق الأزمات والضائقات، بخلاف النظريّة الآليّة التي تضفي صفة الشرعيّة على مثل هذه الإعمال.

6 - تأرجِح مُنحني التاريخ

المسيرة التاريخيّة في خطّها الكلّي العام تتّجه نحو التكامل، إلاّ أنّ هذا الخط المتصاعد لا يسير سيراً تكامليّاً جبرياً في جميع نقاطه، فليس من الضروري حتماً أن يكون المجتمع في مرحلة معيّنة من تاريخه أكثر تكاملاً من مرحلته التاريخيّة السابقة؛ لأنّ العامل الأساسي في حركة التاريخ هو الإنسان، والإنسان موجود مختار وذو إرادة حرّة.

مُنحني المسيرة البشريّة يتأرجَح بين الهبوط والارتفاع، وبين السرعة والبطء والسكون أحياناً، وتاريخ الحضارات

٤١

البشريّة ليس سوى سلسلة من حالات الازدهار والهبوط والسقوط والانقراض، كما يقول تويمبي:

انحطاط الحضارات أمرٌ لا يمكن رفضه، لكنّ تاريخ البشريّة يُطوى بمجموعة مسيرة تكامليّة.

7 - التحرّر من أغلال الطبيعة

المسيرة التكامليّة للبشريّة تتّجه نحو التحرّر من أغلال الطبيعة الماديّة والظروف الاقتصادية والمصالح الفرديّة والجماعيّة؛ لتتّخذ طابع الالتزام والإيمان الفكري.

إرادة الإنسان الابتدائي كانت محدودة غالباً بتأثيرات بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة وغرائزه الحيوانيّة، لكنّ إرادة الإنسان المتطوّر تحرّرت بالتدرّج من أسِر البيئة والغرائز الحيوانيّة، بل وأضحت تتحكّم في عوامل البيئة والغرائز تَبعاً لتكامل ثقافة الإنسان، واتّساع آفاقه وازدياد التزامه بالأيديولوجيات التقدّميّة.

8 - ماهيّة الجهاد

حركة الجهاد والأمر بالمعروف لها ماهيّة إنسانيّة لا طبقيّة.

٤٢

9 - أصالة القوى الفكريّة والأخلاقيّة

قوّة الإقناع الفكري، أي قوّة الاستدلال والبرهان، لها أصالتها في الموجود الإنساني، وبعبارةٍ أخرى: الضمير البشري - سواء من الناحية الفكريّة، أو من حيث النزوع نحو السمو الإنساني - قوّة أصيلة تتحكّم أحياناً في المتطلّبات الماديّة.

10 - المثلث الهيغلي

مثلث الديالكتيك: (الأطروحة، والطباق، والتركيب) بشكله الهيغلي الماركسي، لا ينطبق على التاريخ ولا على الطبيعة.

حلقات التاريخ ليست سلسلة من الأضداد المنبثقة بعضها من بعض، كما أنّ الطبيعة لا تسير عبر هذا المثلث.

هذا المثلث يقوم على أساس تبدّلين وتركيب واحد، أي تبدّل الشيء إلى ضدّه، وهذا الضدّ إلى ضدّه، ثُمّ يحدث التركيب في المرحلة الثالثة

٤٣

وما يحدث في الطبيعة إمّا أن يكون تركيباً للأضداد دونما تبدّل، أو تبدّلاً للأضداد دونما تركيب، أو أن يكون تكاملاً خالياً من تركيب الأضداد وتبدّلها.

فتفاعل الأوكسجين والهيدروجين، تركيب ليس فيه تبدّل أي: لم يتبدّل أحد العنصرين إلى العنصر الآخر.

ويحدث أحياناً أن تتدخّل الطبيعة في إيجاد حالة تعادل بين ظاهرتين متناقضتين، وفي مثل هذه الحالة يحدث تبدّل ليس معه تركيب وتكامل.

وجدير بنا أن نقول للمغرَمين بألفاظ المثلث الهيغلي وبلفظة الديالكتيك: إنّنا نستطيع أن نطلق على أحد الموجودين المتفاعلين اسم (الأطروحة)، وعلى الآخر اسم (الطباق)، وكذلك على حالة التعادل بين الظاهرتين المتناقضتين اسم (التركيب).

كما نستطيع أيضاً أن نُطلق على كلّ فكر يقوم على أساس الحركة والتناقض اسم (الفكر الديالكتيكي)، ولو أنّ هذا الفكر يفتقد العنصر الأساسي الذي امتازت به الماركسيّة.

٤٤

لكنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ إطلاق هذه الألفاظ هو اصطلاحي محض، قد تدفعنا إليه رغبة شخصيّة لا أكثر.

نطريتان لتفسير الانسان

الطريقتان السابقتان لتفسير الحركة التكامليّة للتاريخ، ناتجتان عن نظريّتين مختلفتين لتفسير الإنسان وهوّيته الواقعيّة ومَلكاته الكامنة.

إحدى النظريّتين: ترى الإنسان موجوداً مغلولاً بمصالحه الماديّة ومصالحه الاقتصاديّة، ومُسيّراً في اتّجاه جبري يفرضه عليه تطوّر وسائل الإنتاج.

وكلّ ما ينطوي عليه الإنسان من مشاعر ورغبات وأحكام وأفكار وقدرة على الانتخاب؛ إنّما هو انعكاس لظروف بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة.

الإنسان - بموجِب هذه النظرة - مرآة لا تستطيع أن تعكس سوى ما يحيطه، وليس بمقدوره أن يقوم بأدنى حركة، خلافاً لمَا تسمح به الظروف البيئيّة الطبيعيّة والاجتماعيّة.

والنظرة الأخرى: ترى الإنسان موجوداً متمتّعاً بخصال إلهيّة، ومزوّداً بفطرة تدفعه لأن يطلب الحقّ وينشده،

٤٥

وقادراً على التحكّم بنفسه وعلى التحرّر من جبر الطبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم.

والقيَم الإنسانيّة بموجِب هذه النظرة لها أصالتها في الإنسان، أي أنّ ثمّة نَزعات قد أودِعت في طبيعة الإنسان، والموجود البشري بموجِب طبيعته الإنسانيّة ينشد القيَم الإنسانيّة السامية، وبعبارة أخرى: ينشد الحق والحقيقة والعدالة ومكارم الأخلاق، ويستطيع بموجب قواه العقليّة أن يخطّط لبناء مجتمعه وأن لا يستسلم استسلاماًً أعمى لظروف البيئة، وأن ينفِّذ مشاريعه الفكريّة انطلاقاً من إرادته وقدرته على الانتخاب.

دور الوحي هو الموجّه والمساعد للإنسان، باعتبار أنّ الوحي هادي البشريّة وحامي القيَم الإنسانيّة.

الإنسان يتأثّر دون شك بظروف بيئته، لكنّ هذا التفاعل لا يسير باتّجاه واحد، بل إنّ الإنسان يؤثّر أيضاً على بيئته.

والمسألة الأساسيّة في هذا التفاعل: هي أنّ تأثير الإنسان على البيئة لا يظهر على شكل ردود فعل جبريّة قهريّة، فالإنسان - باعتباره موجوداً واعياً حرّاً مريداً قادراً

٤٦

على الانتخاب، ومجهّزاً بخصائص فطريّة سامية - يُبدي أحياناً ردود فعل تختلف عمّا يُبديه حيوان مُسّير فاقد للوعي من ردود فعل ‎ .

الخصلة الرئيسيّة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات: هي قوّة سيطرة الإنسان على نفسه والثورة على انحرافاته.

وكلّ النقاط المضيئة في تاريخ البشريّة نابعة من هذه الخصلة.

وهذا الجانب المتسامي من الإنسان منسيٌ تماماً في الاتّجاه الآلي لتفسير التاريخ.

التفسير القرآني

التفسير القرآني للتاريخ ينطلق دون شك من النظرة الثانية.

القرآن يسرد وقائع التاريخ البشري منذ بداية الخليقة على أنّها صراع مستمر بين قوى الحق وقوى الباطل، بين مجموعة من أمثال: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (عليهم الصلاة والسلام)، وأتباعهم المؤمنين، ومجموعة أخرى من أمثال: نمرود، وفرعون، وجبابرة اليهود، وأبي سفيان، وأمثالهم.

٤٧

فلكلّ فرعون موسى...

وفي خضمّ هذا الصراع المستمرّ، ينتصر الحق حيناً والباطل حيناً آخر.

وانتصار أحد الفريقين أو فشله، يرتبط طبعاً بمجموعة من العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة.

تأكيد القرآن الكريم على تأثير العوامل الأخلاقيّة في مسيرة التاريخ صيّر من التاريخ مصدر تعليم مثمر معطاء، لو نظرنا إلى التاريخ مصدر تعليم مثمر معطاء، ولو نظرنا إلى التاريخ على أنّه مجموعة صِدف واتفاقات ليس لها علّة ولا موازين أو ضوابط، لتبدّلت أحداث التاريخ إلى أساطير لا تصلح إلاّ للتسلية والسمر وتربية الخيال، دون أن يكون فيها أي عطاء تعليمي.

ولو آمنّا بوجود قواعد وموازين للتاريخ دون أن يكون للإنسان دور فيه؛ لأضحى العطاء التعليمي للتاريخ نظريّاً فقط لا عمليّاً.

وسوف نتعلّم - في هذه الحالة - من التاريخ، نظير ما نتعلّمه من حركات الكواكب والمجرّات.

وكما أنّ معلوماتنا عن الكواكب والنجوم لا تساعدنا في تغيير مسيرها، كذلك معلوماتنا عن التاريخ لا تمنحنا

٤٨

أي دور في تعيين مسير حركة التاريخ.

أمّا حينما نؤمن بضوابط التاريخ وموازينه وقواعده، وبدور إرادة الإنسان في تعيين مسير حركة التاريخ وبالدور الأصيل والحاسم للقيَم الأخلاقيّة والإنسانيّة، يصبح التاريخ حينئذٍ ذا عطاء تعليمي مفيد، والقرآن الكريم ينظر إلى التاريخ من هذه النافذة.

القرآن الكريم يتحدّث مراراً عن الدور الرجعي الذي يلعبه (الملأ، والمترفون، والمستكبرون) على مسرح التاريخ، كما يتحدّث عن دور (المستضعفين)..

ويؤكّد القرآن الكريم في الوقت ذاته، على أنّ الصراع المستمر بين الفريقين - منذ فجر التاريخ - ذو هويّة معنويّة إنسانيّة لا ماديّة طبقيّة.

مسألة نهضة المهدي (عليه السلام) قضيّة اجتماعيّة فلسفيّة كبرى.

هذه المسألة لها أركانها وعناصرها المختلفة، بعض هذه الأركان والعناصر فلسفي عالَمي يشكّل جزءاً من

٤٩

التصوّر الإسلامي، وبعضها ثقافي تربوي، وبعضها سياسي، وبعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي، وبعضها إنساني أو طبيعي (أُلقيت ثماني محاضرات في هذا الموضوع عام 1974، أرجو أن أوفّق لنشرها بعد إعادة النظر فيها).

لا يسعنا هنا أن ندرس هذه المسألة على ضوء القرآن الكريم والسُنّة، كذلك نكتفي بذكر خلاصة لخصائص هذه البشرى الكبرى للكشف عن ماهيّة (الانتظار الكبير):

أ - التفاؤل بمستقبل البشريّة: فحولَ مستقبل المسيرة البشريّة اختلفت الآراء والنظرات.

اعتقدَ بعض المفكّرين أنّ الشرّ والفساد والتعاسة صفات لا تفارق الحياة البشريّة، وذهبوا إلى أنّ الحياة لا قيمة لها على الإطلاق، وأفضل ما يستطيع أن يقوم به الإنسان هو أن يضع نهاية لهذه الحياة.

وبعض آخر ذهبَ إلى أنّ الحياة البشريّة بتراء، وقال: إنّ البشرية تحفر قبرها بيدها بفعل تطوّرها التكنولوجي وتقدّمها في صنع وسائل التخريب والدمار،

٥٠

وهي على شفا السقوط والانهيار.

يقول رسل في (الآمال الجديدة):.. ثمّة أفراد - منهم أنشتاين - يزعمون أنّه من المحتمل جدّاً أن يكون الإنسان قد طوى دورة حياته، وسيستطيع خلال السنوات القليلة القادمة أن يبيد نفسه بما يتمتّع به من خلال مهارة علميّة فائقة.

واستناداً إلى هذه النظريّة، تواجه البشريّة الفناء الآن وهي في ربيع عمرها، وعلى أبواب نضجها الثقافي.

وإذا اكتفينا بالشواهد الظاهريّة؛ فإنّنا لا نستطيع طبعاً أن ننفي هذا الاحتمال.

أمّا النظريّة الثالثة، فترفض المقولتين السابقتين، فلا الشرّ والفساد والتعاسة صفات تلازم البشريّة، ولا التطوّر المَدني المادّي بقادر على إبادة البشريّة، بل إنّ البشريّة تتّجه نحو مستقبل مشرق سعيد تنقلع فيه جذور الظلم والفساد.

هذه النظريّة يبشِّر بها الدِين، ونهضة المهدي ترتبط بهذه البشرى.

ب - انتصار الحق والتقوى والسلام والعدل والحريّة على الظلم والدجل والاستكبار والاستعباد.

٥١

ج - قيام حكومة عالَميّة واحدة.

د - عمران الأرض بحيث لا تبقى بقعة خربة غير عامرة.

هـ - بلوغ البشريّة حدّ النضج والتكامل يلتزم فيه الإنسان طريق العقل والعقيدة، ويتحرّر من أغلال الظروف الطبيعيّة والاجتماعيّة والغرائز الحيوانيّة.

و - استثمار ذخائر الأرض إلى أقصى حدٍ ممكن.

ز - إحلال المساواة التامّة بين البشر في حقل الثروة.

ح - اقتلاع جذور الفساد: كالزنا، والربا، والخيانة، والسرقة، والقتل، وشرب الخمر، وخلوّ النفوس من العُقد والأحقاد.

ط - زوال شبح الحروب وسيادة السلام والحب والتعاون والصفاء.

ي - المواءمة بين الإنسان والطبيعة.

هذه الأهداف تلقي الضوء على ماهيّة مسألة المهدي، وكلّ واحدة منها تحتاج إلى استدلال وتحليل ودراسة لا

٥٢

يسعها بحثنا هذا، فنتركها إلى فرصة أخرى.

الانتظار الكبير

المستقبل الذي ينبغي أن تُعقد عليه الآمال، والذي شاءت الإرادة الإلهيّة أن يسير نظام العالَم تجاهه، هو هذا الذي ذكرناه.

والآن ينبغي أن نعود إلى موضوع انتظار الفرج الذي قسّمناه في بداية هذا الحديث إلى قسمين:

انتظار بنّاء حركي ملتزم عبادي، بل من أفضل العبادات، وانتظار مخرِّب معوِّق يبعث على الخمود والخمول والكسل والتقاعس، ويُعتبر نوعاً من الإباحيّة.

ذكرنا أنّ هذين اللونين من الانتظار، ينطلقان من نوعين من التصوّر حول الحدث التاريخي العظيم المتمثل بظهور المهدي الموعود.

وهذان التصوّران يُنتجان بدورهما نوعين من التصوّر بشأن تطوّر التاريخ.

نشرح فيما يلي هذين النوعين من الانتظار نبدأ بالانتظار المخرِّب:

٥٣

الانتظار المخرِّب

بعض المؤمنين بظهور المهدي يتصوّرون أنّ نهضة هذا المُنجي ذات طابع انفجاري محض، وناتجة فقط عن انتشار الظلم والجوع والفساد والطغيان، أي أنّ مسألة الظهور نوع من الإصلاح ناتج عن تصاعد الفساد.

هؤلاء يتصوّرون أنّ مسيرة البشريّة تتّجه إلى انعدام العدل والقسط، وإلى زوال أنصار الحق والحقيقة، وإلى استفحال الباطل.

وحينما يصل هذا الانحدار إلى نقطة الصفر يحدث الانفجار المرتقب، وتمتد يد الغيب لإنقاذ الحقيقة - لا أنصار الحقيقة - إذ لن يبقى للحقيقة أنصار آنذاك.

هذا التصور يُدين كلّ إصلاح؛ لأنّ الإصلاح يشكّل نقطة مضيئة على ساحة المجتمع العالَمي، ويؤخِّر الإمداد الغيبي كما يَعتبر هذا التصوّر كلّ ذنب وتمييز وإجحاف مباحاً؛ لأنّ مثل هذه الظواهر تمهِّد للإصلاح العام وتقرِّب موعد الانفجار.

هذا التصوّر يميل إلى مذهب الذرائع الذي يذهب إلى أنّ الغاية تبرِّر الوسيلة.

٥٤

فإشاعة الفساد - بناءاً على هذا التصوّر - أفضل عامل على تسريع ظهور المهدي، وأحسن شكل لانتظار فرج ظهوره.

أصحاب هذا التصوّر ينظرون إلى الذنوب نظرة تفاؤل واستبشار، ويعتبرونها عاملاً مساعداً على انطلاق الثورة المقدّسة الشاملة.

هؤلاء ينظرون إلى المصلحين والمجاهدين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعين الحقد والعداء..؛ لأنّهم يعملون على تأخير ظهور المهدي.

أصحاب هذا التصوّر - إن لم يكونوا هم من زمرة العاصين - ينظرون إلى أصحاب المعاصي بعين الارتياح والرضا؛ لأنّهم يمهِّدون لظهور القائم المنتظر.

تصوّر شبه ديالكتيكي

الاتّجاه المخرِّب في فهم قضيّة ظهور المهدي، يشترك مع الاتّجاه الديالكتيكي في معارضته للإصلاحات، وفي تأييده لأنواع الظلم والفساد باعتبارها مقدّمة لانفجار مقدّس،

٥٥

مع فارقٍ بين الاتّجاهين هو: أنّ الاتّجاه الديالكتيكي يُعارض الإصلاحات ويؤكّد على ضرورة تشديد الفوضى والاضطرابات، انطلاقاً من هدف مشخّص يتمثّل في تعميق الفجوات والتناقضات لتصعيد النضال.

لكنّ هذا التفكير المبتذَل في مسألة ظهور المهدي يفتقد هذه النظرة، ويرتأي زيادة الظلم والفساد من أجل الوصول إلى النتيجة المطلوبة تلقائيّاً.

هذا اللون من الفهم لمسألة ظهور المهدي، وهذا النوع من الانتظار للفرج، لا يرتبط على الإطلاق بالموازين الإسلاميّة والقرآنيّة، إذ إنّه يؤدّي إلى التعمّد في تعطيل الحدود والأحكام الإسلاميّة بل إلى نوع من الإباحيّة.

الانتظار البنّاء

الآيات الكريمة التي تشكّل أرضيّة التفكير حول ظهور المهدي المنتظر تتّجه إلى جهة معاكسة للنظرة السابقة.

هذه الآيات تشير إلى أنّ ظهور المهدي حلقة من حلقات النضال بين أهل الحق وأهل الباطل، وإنّ هذا النضال سيسفر عن انتصار قوى الحق، وتتوقّف مساهمة

٥٦

الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العملي إلى فريق أهل الحق.

هذه الآيات التي تستند إليها الروايات في مسألة ظهور المهدي، تشير إلى أنّ المهدي تجسيد لآمال المؤمنين العاملين، ومَظهر لحتميّة انتصار فريق المؤمنين.

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ) (النور: 55).

ظهور المهدي الموعود تحقيق لمنّة الله على المستضعفين ووسيلة لاستخلافهم في الأرض ووراثتهم لها.

( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) (القصص5 -6).

ظهور المهدي الموعود تحقيق لمَا وعدَ الله به المؤمنين والصالحين والمتّقين في الكتب السماوية المقدّسة:

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (الأنبياء: 105).

٥٧

ثمّة حديث معروف في هذا المجال يذكر أنّ المهدي (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً) .

هذا الحديث شاهد على ما ذهبنا إليه في مسألة الظهور، لا على ادّعاء أرباب الانتظار المخرِّب.

هذا الحديث يركِّز على مسألة الظلم ويشير إلى وجود فئة ظالمة وفئة مظلومة، وإلى أنّ المهدي يظهر لنصرة الفئة المظلومة التي تستحقّ الحماية.

ولو كان الحديث يقول: (إنّ المهدي يملأ الله به الأرض وإيماناً وتوحيداً وصلاحاً، بعدما مُلئت كفراً وشركاً وفساداً)، لكان معنى ذلك أنّ نهضة المهدي الموعود تستهدف إنقاذ الحق المسحوق لا إنقاذ أنصار الحق، وإن كان هؤلاء الأنصار أقليّة.

يروي الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام):

(إنّ ظهور المهدي لا يتحقّق حتى يشقي مَن شُقي ويسعُد مَن سعد).

٥٨

الحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كلّ شقي وكلّ سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الأشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة.

وتتحدّث الروايات الإسلاميّة عن نخبة من المؤمنين يلتحقون بالإمام فور ظهوره.

ومن الطبيعي أنّ هذه النخبة لا تظهر معلّقة في الهواء، بل لا بدّ من وجود أرضيّة صالحة تربّي هذه النخبة على الرغم من انتشار الظلم والفساد، وهذا يعني أنّ الظهور لا يقترن بزوال الحق والحقيقة، بل أهل الحق - حتى ولو قلّوا فرضاً - يتمتّّعون بكيفيّة عالية تجعلهم في مصافي المؤمنين الأخيار، وفي مرتبة أنصار الحسين بن علي(عليه السلام).

الروايات الإسلاميّة أيضاً تتحدّث عن سلسلة من النهضات يقوم بها أنصار الحق قبل ظهور المهدي، منها: نهضة اليماني، مثل هذه النهضات لا يكن أن تبتدئ بساكن، ولا تظهر دون أرضيّة مسبقة.

بعض الروايات تتحدّث عن قيام دولة أهل الحق التي تستمر حتى ظهور المهدي،.. حتى أنّ بعض العلماء أحسنوا الظنّ بدولة بعض السلالات الحاكمة، فظنّوها أنّها

٥٩

الدولة التي ستحكم حتى ظهور المهدي.

هذا الظن - وإن كان ينطلق من سذاجة في فهم الوقائع السياسيّة والاجتماعيّة - يدلّ على استنباط هؤلاء العلماء من الروايات والأخبار المتعلّقة بظهور المهدي، ما يشير إلى أنّ الظهور لا يقترن بفناء الجناح العدل والتقوى والصلاح على جناح الظلم والتحلّل والفساد.

الآيات والروايات المرتبطة بظهور المهدي المنتظر، تدلّ على أنّ ظهوره يشلّ آخر حلقات الصراع الطويل بين أنصار الحق وأنصار الباطل منذ بدء الخليقة.

(المهدي المنتظر تجسيد لأهداف الأنبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق).

٦٠