النبي الأمي

النبي الأمي0%

النبي الأمي مؤلف:
تصنيف: النبوة
الصفحات: 64

النبي الأمي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: للعلامة الشهيد مرتضى المطهري
تصنيف: الصفحات: 64
المشاهدات: 18498
تحميل: 4603

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 64 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18498 / تحميل: 4603
الحجم الحجم الحجم
النبي الأمي

النبي الأمي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( قال محمّد بن إسحاق: كان بمدينة الحديثة رجلٌ يقال له: محمّد بن الحسين، ويعرف بابن أبي بعرة، جمّاعةٌ للكتب، له خزانة لم أرَ لأحدٍ مثلها كثرةً، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة... فرأيت عجباً، إلاّ أنّ الزمان قد أخلَقَها وعمل فيها عملاً أدرسها وأحرفها، وكان على كلّ جزءٍ أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحداً إثر واحد، فذكر فيه خطّ من هو، وتحت كلّ توقيع توقيع آخر خمسة أو ستة من شهادات العلماء على خطوط بعضٍ لبعض، ورأيت في جملتها مصحفاً بخط خالد بن أبي الهياج صاحب عليّ (رَضي الله عنه)... ورأيت فيها بخطوط الإمامين الحسن والحسين، ورأيت عنده أمانات وعهوداً بخط أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وبخطّ غيره من كتّاب النبيّ (ص) ).

هكذا كانوا يحتفظون بهذه الآثار المباركة والى هذا الحدّ، فكيف يمكن أن يكون للرسول (ص) قد كتب سطراً واحداً على الأقل ولكنّه لم يبقَ مع عناية المسلمين العجيبة بحفظ الآثار المباركة؟! فمسألة كتابته (ص) حتى في عصر الرسالة منتفية طبق القرائن والإمارات القطعية، أمّا مسألة قراءته في عصر البعثة فلا يمكن نفيها جزماً، وإن كنّا لا نملك دليلاً قطعياً على قراءته فيه، بل تخالف ذلك أكثرُ القرائن...

٢١

صلح الحديبية:

هناك حوادث وقعت في حياته (ص)، وهي توضح أنّه لم يكن يكتب أو يقرأ حتى في المدينة المنورة، ومنها حادثة الحديبية المشهورة التي امتلكت أهمّيتها وشهرتها من نتاجها التأريخية.

ورغم أنّ النقول التأريخية والحديثة مختلفة مع بعضها فإنّها تساعد إلى حدّ كبير على توضيح الأمر. ففي شهر ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية غادر النبيّ المدينة قاصداً مكّة للعَمرة والحجّ، وأمر باصطحاب إبل الأضاحي. ولكن ما أن وصل إلى الحديبية ( وهي تبعد ما يقارب فرسخين عن مكّة )، حتى وجد قريشاً وقد شكلّت حاجزاً قوياً من دخول المسلمين مكّة، رغم أنّ الشهر من الأشهر الحرم، ولم يكن حسب أعراف الجاهلية لقريش الحقّ في منعه، خصوصاً وأنّ النبيّ (ص) كان قد أوضح أنّه لم يكن يقصد سوى زيارة الكعبة والرجوع بعد أداء المناسك، إلاّ أنّ قريشاً منعته ولم توافق على ذلك، في حين أصرّ المسلمون على دخول مكّة ولو بالقوّة، ولكنّه (ص) لم يرضَ بذلك ولم يوافق على أن تهتك حرمة الكعبة.

فتمّ الصلح بين قريش والمسلمين حول الموضوع، وكان نصّ الصلح بإملاء منه (ص) وكتابة من عليّ (ع). فقد طلب من على أن يكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم )، فاعترض سهيل بن عمرو مندوب قريش: بأنّ هذا هو شعار المسلمين وهم أي المشركون لا يعرفونه، فليكتب إذن: باسمك اللّهم.

فوافق الرسول

٢٢

الأكرم وأمر علياً أن يكتبها كما قال عمرو، ثمّ قال رسول الله: أكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: لو شهدت أنّك رسول الله لم أقاتلك، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله (ص)، أكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو...

وهنا وقع الخلاف وبعض الاعتراض واختلف النقول التأريخية في نقل ما جرى، وما يظهر من سيرة ابن هشام وصحيح البخاري ( باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ): أنّ اعتراض قريش كان قبل كتابة كلمة ( رسول الله ) فوافق الرسول على كتابة ( محمّد بن عبد الله ) بدل ( محمّد رسول الله )، ولكنّ أكثر النقول تصرّ على أنّ الاعتراض وقع بعد كتابة كلمة ( محمّد رسول الله ) فطلب رسول الله (ص) من عليّ أن يمحو كلمة ( رسول الله ) فاعتذر علي (ع) أن يمحو بيده تلك الكلمة المباركة، وهنا أيضاً تختلف النقول، فروايات الشيعة متّفقة على أنّ النبيّ (ص) محا هذه الكلمة بيده بعد امتناع عليّ من محوها، ثمّ كتب عليّ ( محمّد بن عبد الله ) وإن كانت بعض الروايات الشيعية، وكذلك بعض الروايات السنية، تصرّح بأنّ النبيّ (ص) طلب من عليّ أن يريه الكلمة وأن يضع يده عليها ليمحوها، ففعل عليّ، فمحا رسول الله بيده كلمة ( رسول الله ) وكتب عليّ بدلها ( ابن عبد الله )، فالكاتب هو عليّ لا النبيّ (ص)، بل إنّه طبقاً لهذه النصوص لم يكن النبي ليقرأ أو يكتب مطلقاً.

٢٣

وينقل كتّاب (قصص القرآنلأبي بكر عتيق النيشابوري السعد آبادي، المأخوذ من تفسيره للقرآن المؤلّف في القرن الخامس وباللغة الفارسية، ينقل هذه الحادثة حتى يصل إلى المحلّ الذي يعترض فيه مندوب قريش سهيل بن عمرو على كتابة كلمة رسول الله، فيقول ما ترجمته:

( قال سهيل بن عمرو أكتب هكذا: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو، فأمر رسول الله (ص) علياً أن يمحو كلمة: ( رسول الله )، وتكرّر الطلب والامتناع، فقال رسول الله (ص): ضع إصبعي عليها حتى أمحوها. لأنّ رسول الله (ص) كان أُمّياً لا يعرف الكتابة، فوضع عليّ أصبع رسول الله (ص) على الموضع، ومحاها رسول الله (ص) ليكتب كما يريد سهيل ).

ويقولاليعقوبي في تأريخه(1) :

( وأمر علياً فكتب: باسمك اللّهم، من محمّد بن عبد الله ).

وصحيح مسلم بعد ذكر امتناع عليّ من المحوّ يؤكّد أنّ النبي قال لعلي: ( فأرني مكانها ). فأراه مكانها فمحاها، وكتب: ( ابن عبد الله ).

والملاحظ في هذه الرواية أنّها تذكر تارّة: أنّ النبي استعان بعليّ (ع) في معرفة محل الكلمة. وتذكر تارّة أخرى: أنّ النبي محاها وكتب. ممّا يظهر منه ابتداءً أنّ النبيّ هو الكاتب، ولكنّ المسلّم به أنّ ناقل الحديث كان يقصد أنّ علياً هو الذي كتب

____________________

(1) الجزء الأوّل، ص 54.

٢٤

بعد أن ذكر استعانة النبيّ به.

وما يبدو وبصراحة تقريباً من كلّ من تاريخ الطبري والكامل لابن الأثير، وروايات أخرى للبخاري في باب الشروط، أنّ الكلمة الأخرى كتبها رسول الله بخطّه، إذ جاء: ( فأخذه رسول الله، وكتب ).

وجاءت في عبارة الطبري، وابن الأثير جملة أخرى هي: ( فأخذه رسول الله وليس يحسن أن يكتب، فكتب ).

وهذا يؤيدّ أنّ الكتابة كانت بشكل استثنائي، وهو ما يمكن أن يؤيّد نظر أولئك القائلين بأنّ النبيّ (ص) كان يمكنه أن يكتب لو كان يريد وذلك بتعليم الله، ولكنّه لم يكتب تماماً؛ كموقفه من الشعر، فلم يكن (ص) ينظم شعراً أو يقرأ حتى شعر غيره، وحينما يريد ذكر شعر غيره يَحلّ البيت، فيقدّم الكلمات ويؤخّرها أو يضيف إليها ويحذف؛ لأنّ الله جعل مقامه فوق مقام الشعر، فيقول تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) [ يس: 69 ].

وهكذا نلاحظ اختلاف النقول في هذه الحادثة، ورغم أنّ البعض منها يؤكّد أنّه كتب بيده كلمة:( ابن عبد الله ) التي كانت بمنزلة توقيعه، ولكنّها نفسها تعتبرها ظاهرة استثنائية.

هذا وقد جاءت في أُسد الغابة في ذيل أحوال تميم بن جراشة الثقفي، قصّة توضح بصراحة أنّ النبي الأكرم (ص) لم يكن يقرأ أو يكتب حتى في عصر البعثة، فيقول(1) :

قدمت على النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وفد ثقيف، فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروط، فقال: اكتبوا ما

____________________

(1) أُسد الغابة: ص 216.

٢٥

بدا لكم، ثمّ إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يُحلّ لنا الرِّبا والزنا، فأبى عليّ (رضي الله عنه) أن يكتب لنا، فسألناه خالد بن سعيد بن العاص، فقال له عليّ: تدري ما تكتب؟! قال اكتب ما قالوا، ورسول الله (ص) أولى بأمره. فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله (ص) فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا... ) الآية، ثمّ محاها وألقيت علينا السكينة، فما راجعناه، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها وقال:( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً... ) الآية، ثمّ محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا.

٢٦

الإدعاء الغريب:

نشرت بعض المجلات الإيرانية(1) قبل أربع سنوات(2) مقتطفات من محاضرة ألقيت في أحد المؤتمرات الإسلامية في الهند حول الموضوع من قبل الدكتور سيد عبد اللطيف الحيدرآبادي، رئيس معهد الدراسات الثقافية حول الهند والشرق الأدنى، ورئيس أكاديمية الدراسات الإسلامية في حيدر آباد، حيث نُشرت بعد ذلك باللغة الإنجليزية، وقد ادّعى الدكتور المذكور أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ ويكتب حتى قبل عصر الرسالة!!

وكان نشر هذه المقتطفات سبباً لهياج خاص بين القرّاء الإيرانيين، فكثرت التساؤلات والمراجعات حولها آنذاك، فتحدّثت باختصار يومئذٍ، وها أنا أتعرّض بالتفصيل لما ذكره؛ إشباعاً للتوق والتطلّع نحو الحقيقة من جهة، واهتماماً بالأمر - خصوصاً وهو يصدر من أمثال الدكتور سيد عبد اللطيف، ويحوي نقاطاً يبعد صدورها من محقّقٍ فذٍّ - من جهة أخرى.

____________________

(1) مجلة روشنفكر، العدد 8 و15، من سنة 1964م، وغيرها.

(2) طبعاً من تأليف الكتاب.

٢٧

إنّه يدّعي:

1 - أنّ علّة القول بأنّه (ص) لم يكن يقرأ ولا يكتب ناشئة من خطأ المفسّرين في تفسير كلمة( أُمّي ) التي جاءت في سورة الأعراف الآية: (156) و(157)، حيث يقول تعالى:

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ... ) [ 157 ].

( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ... ) [ 158 ].

فيرى أنّ المفسّرين فسّروا الكلمة بـ ( الذي لا يقرأ ولا يكتب ) مع أنّها لا تعني ذلك.

2 - أنّه توجد في القرآن الكريم آيات أخرى يفهم منها - بصراحة - أنّ رسول الله كان يتقن القراءة والكتابة.

3 - وأنّ بعض الأحاديث المعتبرة والمنقولات التأريخيّة أثبتت بصراحة أنّه يحسنهما.

هذه خلاصة المدّعيات المشار إليها، وسنتعرّض لها فيما يلي بالنقد والتمحيص.

٢٨

القسم الأوّل

٢٩

هل نشأ الاعتقاد بعدم تعلّم النبيّ لهما من تفسير كلمة: ( أُمّي )؟

الواقع أنّ الدكتور المذكور على خطأ في هذا التصوّر؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّ تاريخ العرب ومكّة حال ظهور الإسلام يشهد على عدم تعلّم النبيّ لهما قطعاً. فقد أوضحنا فيما سبق الوضع الذي كانت عليه الكتابة والقراءة في البيئة الحجازية آنذاك؛ حيث كانتا محدودتين لا تشملان إلاّ بعض الأفراد الذين حفظ التاريخ أسماءهم لندرتهم ومعروفيتهم في حين لم يذكر النبيّ فيهم. وعليه فإنّ المسلمين كانوا سيقولون بأمّية محمّد النبيّ (ص) حتى لو لم يخبرهم القرآن بذلك.

وثانياً: فلأنّه توجد في القرآن آية أخرى لا تقلّ صراحة عن الآيتين السالفتين ( المذكورة فيهما كلمة: أُمّي ) بحيث أنّ المفسرين الذين اختلفوا في مفهوم كلمة: ( أُمّي ) لم يختلفوا في أنّ هذه الآية تدلّ على عدم تعلّم النبيّ للقراءة والكتابة وهي:

( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [ العنكبوت: 48 ].

فهي صريحة في أنّ الرسول (ص) لم يكن قبل عصر الرسالة يقرأ أو يكتب، وهذا ما فهمه عموم المفسّرين المسلمين

٣٠

وهنا يقول الدكتور المذكور أنّ المفسّرين اشتبهوا أيضاً في تفسير الآية، فإنّ الكتاب هنا هو ( الكتب المقدّسة ) كالتوراة والإنجيل، فيكون مضمون الآية:إنّك قبل نزول القرآن لم تكن تعرف أيّ كتاب مقدّس لأنّ الكتاب المقدّس لم يكن باللغة العربية، ولو كنت قرأت هذه الكتب لعدّت موضعاً لشكّ المرتابين وتهمتهم.

ولكن هذا الإدعاء مجانب للواقع؛ إذ الكتاب في اللغة العربية(1) يعني مطلق ما هو مكتوب، سواء كان رسالة أو دفتراً مقدّساً سماوياً أو غير سماوي. وقد تكرّر استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم في مختلف الكتابات.

فتارّة تستعمل في مورد رسالة بين شخصين، كما جاء في قصّة ملكة سبأ:( قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . وأخرى في مورد الوثيقة التي يكتبها طرفان متعاملان، مثل:( َيبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ ) . وثالثة في مورد الألواح الغيبية والحقائق الملكوتية التي لها نحو تعبير عن الحوادث في هذا العالم، مثل:( وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) .

____________________

(1) خلافاً لِما يفهم من هذه اللفظة في الفارسية اليوم.

٣١

نعم إذا أضيفت كلمة ( أهل ) إلى ( الكتاب )، فإنّهما تشكّلان اصطلاحاً قرآنياً خاصاً في أنّ المراد هم أتباع الكتب السماوية، فتقول الآية القرآنية (153) من سورة النساء:

( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ ) .

وقد تكرّرت كلمة: (الكتاب ) فيها مرّتين، الأولى منهما يراد منها ( الكتاب السماوي ) بعد إضافة (أهل ) إليها، والثانية يقصد فيها كتابة عادية.

هذا بالإضافة إلى وجود جملة:( وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) التي تشكّل قرينة على أنّ المراد هو أنّك لم تكن تقرأ أو تكتب، و لو كنت تحسنهما لاتهموك باستقاء المعلومات من مكان آخر، ولكنّهم لم يجدوا مجالاً لهذا الاتهام.

أما لو كان المراد بـ (الكتاب ) الكتب المقدّسة المكتوبة باللغات الأخرى، فإنّ معنى الآية سوف يكون:( وما كنت تقرأ باللغات الأخرى أو تكتب بها ) ومن الطبيعي بطلانه؛ لأنّ مجرّد قراءة تلك الكتب بتلك اللغات كانت كافية لإثبات التهمة، فيكفي أن يكون (ص) قادراً على قراءتها بتلك اللغات وكتابتها من جديد بلغته العربية.

نعم، توجد نكته في البين يمكنها أن تؤيّد تفسير الدكتور المذكور، وإن لم يلتفت إليها! لا هو ولا سائر المفسّرين، وهي وجود كلمة:( تَتْلُو ) المأخوذة من مادّة التلاوة، وهي - كما يقول الراغب - تختص بقراءة الآيات المقدّسة بخلاف كلمة: (تقرأ )

٣٢

الأعمّ منها. وعليه فإنّ المراد من الكتاب هنا هو (الكتاب المقدّس )؛ لاقترانه بكلمة (تتلو ).

إلاّ أنّ الظاهر هو أنّ علّة الإتيان بكلمة (تتلو ) ناشئة من كون مورد البحث هنا (القرآن )، فجئ بهذه الكلمة تحقيقاً للمشاكلة وهي من الصناعات البديعية، فيمكنك أن تقول:( أنت تتلو القرآن فعلاً ولم تكن تتلو قبله أيّ كتابة أخرى ).

آية أخرى:

وتوجد آية أخرى تشعر بعدم تعلّم الرسول الأكرم (ص) وهي الآية (52) من سورة الشورى:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ) .

فهي تؤكّد على أنّه (ص) لم يكن يعرف الكتابة قبل نزول الوحي، ولم يذكر الدكتور هذه الآية ولعلّه لو كان التفت إليها لعلّق عليها: بأنّ المراد هو الكتاب المقدّس المكتوب باللغات غير العربية، ولكنّا نجيبه بنفس الجواب السابق.

هذا وقد ذكر المفسّرون هنا - لعلّة نجهلها - أنّ المقصود بالكتاب هنا هو القرآن - وعلى هذا التفسير - تخرج هذه الآية عن مورد الاستدلال.

وثالثاً: فإنّه لم تكن للمفسّرين المسلمين وجهة نظر واحدة في تفسير كلمة (أُمّي ) رغم أنّهم اتّفقوا على أنّه (ص) لم يكن يحسن القراءة والكتابة قبل عصر الرسالة، لا بل أجمع عليه

٣٣

علماء الإسلام وهو بنفسه دليل قاطع على أنّ منشأ اعتقاد المسلمين بعدم إتقانه لهما ليس هو تفسير كلمة (أُمّي ). وعلى أيّ حال فما هو مفهوم كلمة ( أُمّي )؟

مفهوم كلمة أُمّي:

للمفسّرين في كلمة (أُمّي ) ثلاثة تفسيرات:

التفسير الأوّل: غير المتعلّم وغير العارف بالخط والكتابة. وتؤيّد الأكثرية هذا الرأي أو ترجّحه على الأقل، ويقول المؤيّدون: إنّ الكلمة منسوبة إلى (الأُمّ ). فالأُمّي هو الذي بقي من حيث الإطلاع على الكتابات والمعلومات الإنسانية على الحال الذي ولدته أُّمّه فيه. أو هي منسوبة إلى (الأُمّة)، فالأُمّي من كان على شاكلة أكثرية الناس، وهي لا تعرف القراءة والكتابة، في حين أن الذين يعرفونها قليلون. وهكذا يقال عن ( العامّي ) الذي هو على شاكلة عامّة الناس(1) .

 وقال البعض أنّ أحد معاني الأُمّة هي (الخَلْق )، فالأُمّي هو الذي بقى على الخِلقة والحالة الأولى، من عدم المعرفة والاطلاع، وقد استند هذا البعض إلى بيت للأعشى يوضح هذا المعنى.

وعلى أيٍّ، فسواء كانت مشتقّة من (أُمّ ) أو (أُمّة )، وأيّاً كان معنى (الأُمّة )، فإنّها تعني: غير الكاتب والقارئ.

____________________

(1) المفردات في ذيل كلمة ( أُمّ ) ومجمع البيان ذيل الآية 78، البقرة.

٣٤

التفسير الثاني: من أهل أُمّ القرى.

ومؤيّدو هذا التفسير ينسبون (أُمّي ) إلى (أُمّ القُرى ) وهي مكّة، فقد جاء في سورة الأنعام الآية (92) قوله تعالى:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) . وقد ذكرت الكتب القديمة هذا الاحتمال وأيّدته بعض أحادث الشيعة، وإن لم تكن معتبرة. كما يقال: أنّ للكلمة جذراً إسرائيلياً. وقد ورد هذا الاحتمال بأدلّة:

الأوّل: أنّ كلمة (أُمّ القرى ) ليست عِلماً خاصاً بمكّة وإن شملت مكّة باعتبارها مركزاً لقرى حولها، إذ أنّ أمّ القرى يعني مركز القرى، فكلّ نقطة تشكّل محوراً لنواحي مختلفة يقال لها: أمّ القرى. ويفهم من استعمال آخر لها في القرآن الكريم أنّها مجرّد عنوان وصفي لا عَلَمِي، فقد جاء في سورة القصص ( الآية 59) قولة تعالى:

( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) . فيعلم منه أنّ كلّ مركز ومجمع يسمّى بـ (أُمّ القرى ) في لغة القرآن. وحينئذٍ فلا معنى للنسبة لعنوان وصفي.

الثاني: أنّ الكلمة أطلقت في القرآن على أناسٍ لم يكونوا مكّيّين كما في سورة آل عمران ( الآية: 20 )، إذ يقول تعالى:( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ) .

ومنه يعلم أنّ الكلمة في عرف ذلك اليوم وعصر القرآن كانت تطلق على العرب غير التابعين لكتاب سماوي.

٣٥

وعلاوة على ما سبق؛ فإنّ هذه الكلمة أطلقت على عوام اليهود الذين لم يكونوا يعرفون شيئاً رغم أنّهم يعدّون من أهل الكتاب كما جاء في سورة البقرة الآية (78):( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ) . ومن الواضح أنّ اليهود الذين أسماهم القرآن بـ (الأميين ) لم يكونوا من أهل مكّة، بل كان غالبهم يسكن المدينة وأطرافها.

الثالث: أنّ القواعد الأدبية كانت تقتضي أن يقال: (قروي ). لا: (أُمّي )؛ لو كانت الكلمة مشتقّة من (أُمّ القرى ) حسب قاعدة النسبة في علم الصرف، وهي تقرّر أنّه عند النسبة للمضاف والمضاف إليه، وخصوصاً عندما يكون المضاف هو الأب أو الأم أو البنت، هذه النسبة تكون للمضاف إليه لا للمضاف، فنقول في النسبة إلى (أبي طالب ): طالبي. و(أبي حنيفة ): حنفي. و (بني تميم ): تميمي.

التفسير الثالث: المشركون العرب الذين لم يكونوا يتبعون كتاباً سماوياً. وقد وجدت هذه النظرية قديماً لدى المفسّرين، إذ جاء في مجمع البيان في ذيل الآية (20) من (سورة آل عمران) التي تجعل الأمّيين في قِبال أهل الكتاب، وهي قوله تعالى:( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ) ، جاء فيه نسبة هذا الرأي للصحابي الكبير المفسّر عبد الله بن عبّاس. كما نسب هذا الرأي إلى أبي عبيدة في ذيل الآية (78) من سورة البقرة. وقد اختار المرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان هذا الرأي

٣٦

كما نراه في ذيل الآية (75) من آل عمران، وكذا نجد عند الزمخشري في كشّافة عند الحديث عن هذه الآية والآية (75) من سورة آل عمران، كما أنّ الرازي ينقل هذا الاحتمال في ذيل الآية (78) البقرة، والآية (120) آل عمران من تفسيره الكبير.

والواقع أنّ هذا المعنى لا يشكّل معنى مستقلاً ثالثاً، بمعنى أنّه لا يسمّى كلّ أناس لا يتبعون كتاباً سماوياً بـ (الأُمّيين ) حتى ولو كانوا عارفين عالمين. وإنّما أطلقت على المشركين العرب لجهلهم، فمناط الاستعمال فيهم هو جهلهم بالقراءة والكتابة، لا عدم اتباعهم لكتاب من الكتب السماوية.

ولهذا نجد أنّ هذه الكلمة عندما تأتي بصيغة الجمع وتطلق على مشركي العرب يأتي فيها هذا الاحتمال، أمّا عندما تستعمل بنحو المفرد وتطلق على النبيّ (ص) مثلاً فإنّه لا يحتمل أيّ مفسّر أنّ المقصود هو بيان عدم اتباعه لأحد الكتب السماوية. وإنّما ترددوا بين احتمالين:

- عدم اطلاعه (ص) على الخط.

- وكونه من أهل مكّة.

ولمّا بطل الاحتمال الأخير، فإنّ إطلاق لفظ الأُمّي عليه ليس إلاّ لعدم تعلّمه ومعرفته بالخطّ والكتابة.

هذا ويوجد هنا احتمال رابع في مفهوم هذه الكلمة، وهو أنّها تستعمل لتبين عدم الاطلاع على متون الكتاب المقدّس وهو الاحتمال الذي اخترعه الدكتور سيد عبد اللطيف من عنده، وخلط بينه وبين المعنى الثالث الذي ذكرناه، وقلنا أنّه كان معروفاً

٣٧

لدى قدماء المفسّرين، فهو يقول: ( جاءت كلمة (أُمّي ) و (أُمّيّون ) في مواضع مختلفة من القرآن، ولكنّها كانت تفسّر دائماً وفي أيّ موضع بتفسير واحد. فكلمة (أُمّي ) في اللغة أصلاً بمعنى الطفل الوليد، وإشارة لهذه الحالة الحياتية عبر بهذه الكلمة - بمعناها الضمني - عن الشخص الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

وكلمة (أُمّي ) كذلك تأتي بمعنى من كان يعيش في أُمّ القرى أيّ أُمّ المدن أو المدينة الرئيسية المركزية. وهي صفة أطلقها أعراب زمن النبيّ على مكّة، فمن هو من أهل مكّة يدعي بـ (الأُمّي ).

والمورد الآخر لاستعمال كلمة (أُمّي ) هو الشخص الذي لم يتعرّف على المتون السامية القديمة، وليس من أتباع الديانة اليهودية أو المسيحية، وهم من أُسموا في القرآن باسم (أهل الكتاب )، وقد أُطلقت كلمة (الأُمّيين ) في القرآن على العرب قبل الإسلام باعتبار أنّهم لم يتعرّفوا على كتاب مقدّس، ولم يكونوا في زمرة اتباع التوراة والإنجيل، فكانوا في قِبال (أهل الكتاب ).

وإذ كانت لكلمة (أُمّي ) معانٍ مختلفة، فإننا نجهل السر الذي دفع المفسّرين والمترجمين للقرآن - مسلمين أو غير مسلمين - للتمسّك بالمعنى الابتدائي، أيّ الطفل الوليد الذي لا يعلم شيئاً، والتعبير بذلك عن الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وبالتالي عبّروا عن أهل مكّة قبل الإسلام بـ (الأُمّيين )

٣٨

أو المجموعة الجاهلة؟!(1)

نقد هذا الكلام:

أوّلاً: رأينا - أنّ المفسّرين الأوائل فسّروا كلمة (أُمّي ) و (أُمّيون ) بثلاثة تفسيرات، أو قالوا فيها بثلاثة احتمالات، ولم يتمسّكوا - خلافاً لمدعاة - بمعنى واحد.

ثانياً: لم يقل أحدّ أنّ كلمة (أُمّي ) هي بمعنى الطفل الوليد الذي لا يعلم شيئاً، ليكون معناه الضمني هو الذي لا يستطيع القراءة والكتابة.

والواقع أنّ هذه الكلمة لا تطلق أساساً على الوليد وإنّما على الكبار الذين بقوا على الحالة التي ولدتهم أمّهم فيها من هذا الجانب، فإطلاقها على الشخص هو من باب العدم والملكة كما يصطلح عليه علماء المنطق، فلا يسمّى (أُمّياً ) إلاّ من كان من شأنه التعلّم ولم يتعلّم، ولذا نجد المناطقة المسلمين يأتون بها في أمثلة ( الملكة وعدمها ) في كتب المنطق.

ثالثاً: إنّ قوله: ( والمورد الآخر لاستعمال كلمة (أُمّي ) هو الشخص الذي لم يتعرّف على المتون السامية القديمة...) غير صحيح؛ إذ الذي يستفاد من أقوال العلماء المفسّرين واللغويين هو أنّ هذه الكلمة عند (الجمع ) كانت تطلق على المشركين العرب في قبال أهل الكتاب؛ لأنّهم كانوا غالباً يجهلون

____________________

(1) نشرة ( كانن سرد فتران ) سنة 1964م.

٣٩

القراءة والكتابة، والظاهر أنّه كان عنواناً تحقيرياً أعطي لهم من قبل اليهود والنصارى. ولا يمكن أن نفهم أنّ أناساً يوسمون بـ (الأُمّيين ) لأنّهم يجهلون لغة كتاب خاص، رغم أنّهم يقرأون ويكتبون بلغتهم الخاصة مثلاً...

إنّ جذر هذه الكلمة ومصدرها على أيّ حال - بناء هذا التفسير - هو كلمة (أُمّ ) أو (أُمّة ) وهما تعطيان معنى البقاء على الحالة الأولى التي كان عليها حين الولادة.

أمّا سبب عدم إرجاع هذه الكلمة إلى (أُمّ القرى ) مع أنّهم يذكرون هذا كاحتمال؛ فإنّما هو للإشكاليات العديدة التي بيّناها.

وبعد هذا، فلا مجال لتعجّب هذا العالم الهندي.

وممّا يؤيد هذا المعنى ما نجده لها من استعمالات في الروايات وكتب المؤرّخين، بل لم تستعمل فيها إلاّ بهذا المعنى، أي ( غير المتعلّم ). ففي بحار الأنوار (ج16، ص 119 ) جاءت رواية عن النبيّ (ص) يقول فيها:

( نحن أُمّة أُمّية لا نقرأ ولا نكتب ).

ويكتب أبن خَلَّكَان في (ج4) من تأريخه، في ذيل أحوال محمّد بن عبد الملك المعروف بابن الزيّات وزير المعتصم والمتوكّل:

( وكان في أوّل مرة من جملة الكتّاب، وكان أحمد بن عمّار بن شاذي البصري وزير المعتصم، فورد على المعتصم كتاب من بعض العمّال، فقرأه الوزير عليه، وكان في ذلك الكتاب ذكر

٤٠