سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء ٢

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)0%

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
ISBN: 964-493-173-4
الصفحات: 352

  • البداية
  • السابق
  • 352 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 3258 / تحميل: 1072
الحجم الحجم الحجم
سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)

سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
ISBN: 964-493-173-4
العربية

وحييّ بن أخطب وكنانة بن الربيع ، حين ذهبوا إلى مكة ليحرضوا الأحزاب على حرب المسلمين ، قالت لهم قريش :

«يا معشر اليهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ؛ أفديننا خير أم دينه؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه.

فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ، ونشطوا لما دعوهم إليه الخ ..»(١) .

ونحن وإن كنا نعلم أن زعماء قريش كانوا يعلمون الحق ، ولكنهم كانوا يكتمونه عنادا واستكبارا لقوله تعالى :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (٢) .

ولكن الذي يلفت نظرنا : هو هذا الاستغلال لنفوذ اليهود ، وهيمنتهم العلمية ، واعتبارهم مصدرا للمعارف الدينية.

وبالمناسبة فإن التاريخ يعيد نفسه ، فإن نظرة المسلمين إلى الأوروبيين الآن تشبه تماما ما كانت عليه في الجاهلية.

وأخيرا ، فقد قال الحلبي وابن هشام : «لا يخفى : أن كفار قريش بعثوا النضر بن الحرث ، وعقبة بن أبي معيط ، إلى أحبار اليهود بالمدينة ، وقالوا لهما :

إسألاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول»(٣) ثم ذكر ما جرى بينهم وبين اليهود ، ثم ما جرى لهم مع

__________________

(١) سيرة ابن هشام ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦. وستأتي بقية المصادر في غزوة الخندق.

(٢) الآية ١٤ من سورة النمل.

(٣) السيرة الحلبية ج ١ ص ٣١٠ ، وسيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٢١.

١٢١

النبي «صلى الله عليه وآله» في مكة.

والخلاصة : أن إخبارات أهل الكتاب تلك قد غرست في ذهن العربي أن نبيا سوف يخرج من منطقته ، مما سهل عليه قبول دعوته «صلى الله عليه وآله» ، والإذعان للحق الذي جاء به ؛ لأن الناس ـ باستثناء أصحاب المطامح والأهواء ، والطواغيت منهم ـ لصفاء وسلامة طباعهم ، وكونهم أقرب إلى الفطرة ، وعدم تلوث فكرهم بالشبهات والفلسفات المعقدة كانوا يتقبلون الحق ، ويذعنون له ، وقبليتهم وعاداتهم إنما كانت تمنع فقط من انقياد بعضهم لبعض ، بسبب غلظتهم ، وانفتهم ، وبعد هممهم ، ولكن لم يكن ذلك يمنعهم من قبول الحق ، والإذعان لإرادة السماء(١) .

٦ ـ الفراغ العقائدي والسياسي :

أ ـ الفراغ العقائدي :

لقد كان العرب يعانون من فراغ عقائدي هائل ، عبّر عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» بقوله المتقدم : «بعثه ، والناس ضلال في حيرة ، وحاطبون في فتنة ، حيارى في زلزال من الأمر ، وبلاء من الجهل».

ويكفي أن نذكر : أنهم حتى عبادتهم للأصنام قد كانت ملونة باللون القبلي ، فلكل قبيلة بل لكل بيت وثن ، وطريقة.

وكثيرا ما كانت دوافعهم إلى عبادة تلك الأصنام عاطفية ، بعيدة عن أساليب التبرير العقلي ، والمنطقي ، فارتباط العربي بهذا الصنم إنما هو لأن هذا الصنم مرتبط بتاريخ أبيه أو جده ، فالعربي يعتز بنسبه بحسب طبعه ،

__________________

(١) راجع : البيان والتبيين للجاحظ ج ٣ ص ١٢٧.

١٢٢

وبما ينسب إليه ، قال تعالى حكاية لذلك عنهم :( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) (١) .

ومما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عن تعقل وقناعة : هو أن الذين كانوا يرجعون إلى فطرتهم ، وإلى عقولهم سرعان ما يدركون منافرتها للفطرة ، ولأحكام العقل السليم ، ويرغبون بالخروج من هذا الجو ، ولذلك نجد المؤرخين يذكرون :

أن عبد المطلب قد رفض عبادة الأوثان.

كما ويذكرون : أن ورقة بن نوفل ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وعبيد الله بن جحش قد تبرموا من عبادة الأوثان ، وعبروا عن ضعف ثقتهم فيها ، فاجتمعوا وتشاوروا فتنصر الأولان ، وبقي الآخران في حيرتهما وشكهما(٢) .

ب ـ الفراغ السياسي :

إن أرض العرب القاحلة ، والجو الحار الذي تتميز به ، وحياتهم المتنقلة من مكان إلى مكان ، وقدرتهم على تحمل المشاق ، قد جعل السيطرة عليهم شبه مستحيلة حسبما قدمنا ، بل جعلهم بحسب طبيعة ظروفهم الحياتية قادرين على توجيه الضربات القاصمة لكلّ دخيل ، وجعله في رعب دائم ، وخوف مستمر ، الأمر الذي أسهم بشكل فعال في إبعاد أطماع المستعمرين عن منطقتهم ، مع قناعة المستعمر بأنه سوف لا يجني الكثير من النفع في

__________________

(١) الآية ٢٢ من سورة الزخرف.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨ وحياة محمد لهيكل ص ٨٩ ، وغير ذلك.

١٢٣

مقابل الكثير من الضرر الذي سوف يتعرض له ، ولا سيما مع علمه بأن حب الانطلاق في البادية بلا رقيب ولا حسيب مغروس في دم العربي ، وفي روحه ، وفي أعماق أعماقه ، ولا يتنازل عن ذلك بأي ثمن كان.

فكل ذلك قد جعل المنطقة في فراغ سياسي محسوس ، بل إن شمالي الجزيرة العربية لم يتعرض لأي حكم أجنبي أصلا

نعم ، قد تعرض جنوبها وهو اليمن لسلطة الأحباش لفترة قصيرة(١) .

وهذا الفراغ السياسي قد جعلها بعيدة عن نفوذ الأديان الكبرى بشكل فعال ، ولو بفرض من السلطة الحاكمة ، كالنصرانية والزرادشتية ، وحتى عن التأثر باليهودية التي كانت تعيش بينهم ومعهم ، فبقيت المنطقة بعيدة عن الشبهات والأفكار الغريبة والدخيلة ، وإن كان قد تسرب إليها بعض اليهود فرارا من الرومان ، ولكن لم يكن لهم أي نشاط ديني ، أو لعله كان ، ولكنه لم يثمر ، إذ لم يكن ثمة سلطة تدعمه سياسيا وإعلاميا ، ولذلك فقد أشرنا إلى أنهم يذكرون أن نصارى تغلب ما كانوا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر(٢) بل إن جميع نصارى العرب كانوا كذلك(٣) .

وما ذلك إلا لأن النصرانية بعيدة عن عقل وفطرة الإنسان ، ولا تستطيع أن تتصل بروحه ووجدانه لتفرض هيمنتها على أفعاله ، وسلوكه.

__________________

(١) راجع : مختصر تاريخ العرب ، للسيد أمير علي ص ٨.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٨٤.

(٣) المصنف للصنعاني ج ٦ ص ٧٢ و ٧٣ وج ٧ ص ١٨٦ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢١٧.

١٢٤

أما الإسلام ، دين الفطرة ، الذي استطاع بفترة وجيزة أن يصنع أمثال أبي ذر ، وعمار ، وسلمان ، فإنه يتصل أولا بعقل الإنسان ، ثم بروحه ووجدانه ، حتى يحوله إلى إنسان إلهي بكل ما لهذه الكلمة من معنى ، وقد استطاع أن يجعل من هؤلاء المتوحشين إلى الأمس القريب ، والذين لا يلتزمون بنظام ، ولا يحكمهم قانون أكثر الأمم اتباعا للنظم ، وأشدها إيمانا وإخلاصا للقانون الإلهي.

كما ويلاحظ : أن من رباهم النبي «صلى الله عليه وآله» والأئمة «عليهم السلام» في فترات وجيزة جدا ، مع محدودية إمكاناتهم لم تستطع الحكومات الأخرى ، حتى التي تنسب نفسها إلى الإسلام أن تأتي بأمثالهم ، رغم توفر كل الإمكانات لها ، الأمر الذي يشير بوضوح إلى الدور الكبير الذي يضطلع به القائد والحاكم الحق في تربية المجتمع ، وفي تزكيته.

قال المعتزلي : «والغالب على أهل الحجاز الجفاء والعجرفية ، وخشونة الطبع. ومن سكن المدن منهم ، كأهل مكة ، والمدينة ، والطائف ؛ فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة.

ولم يكن فيهم من قبل حكيم ولا فيلسوف ، ولا صاحب نظر وجدل ، ولا موقع شبهة ، ولا مبتدع نحلة الخ ..»(١) .

وخلاصة الأمر :

أن صفاء نفوس عرب الحجاز وعدم تلوثها بالأفكار ، والانحرافات والشبهات الغريبة عن الفطرة ، بالإضافة إلى الفراغ العقائدي ، وعدم

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ٥١.

١٢٥

معقولية شركهم ، وعبادتهم للأوثان ، ثم الحالة الاجتماعية السيئة التي كانوا يعانون منها ، كل ذلك قد أسهم إسهاما كبيرا في نشر الدعوة الإسلامية وقبولها.

ولذلك ترى أن كثيرا منهم كانوا يسلمون بمجرد سماعهم كلامه «صلى الله عليه وآله» ، واطلاعهم على أصول دعوته وأهدافها ، أو بمجرد أن يتلو عليهم القرآن.

وإذا ما رأينا ساداتهم وكبراءهم ـ عموما ـ كانوا يجحدون بهذه الدعوة الحقة ، فليس ذلك لأنهم لم يجدوا فيها ما يقنعهم ، بل لأنهم وجدوها تضر بمصالحهم الدنيوية ، وتصدهم عن مطامعهم اللاإنسانية ؛ فهم مصداق لقوله تعالى :( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (١) .

ولذلك نلاحظ : أن الناس ما كانوا يتطلبون الاستدلال على التعاليم والأفكار الدينية كثيرا في أول الأمر ؛ لأن صفاء نفوسهم ، وسلامة فطرتهم ، وعدم إرباكها وإرهاقها بالأفكار ، والفلسفات ، والشبهات كان كافيا لإدراك حقانية الدعوة ، وسلامة أفكارها. وكانت الآيات إنما تحاول إرجاعهم إلى الفطرة وتدعوهم إلى التفكير ، والتعقل.

ولكن بعد أن دخلت الفلسفات والأفكار الغريبة ، والشبهات المغرضة ، إلى فكر وعقل هذا الإنسان ، وحجبت فطرته ، وأربكت تفكيره وأرهقت عقله ، صار الناس يحتاجون أكثر فأكثر إلى الأدلة ، ويتطلبونها من الأئمة «عليهم السلام» ، بحسب نسبة تلوث فطرتهم بالشبهات والأفكار الغريبة.

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة النمل.

١٢٦

٧ ـ الحياة الصعبة ، والتضحية بالنفس :

وكانت بدائية العرب ، وحياتهم الصعبة التي يعانون منها ، قد جعلتهم أكثر اقداما على التضحية في سبيل الدعوة التي يؤمنون بها عن قناعة وجدانية راسخة ، ويتفاعلون معها تفاعلا روحيا خالصا.

وذلك لأنهم لم ينعموا بحياة النعيم والرفاهية ، التي لا تعب فيها ولا نصب ، ولا آلام ؛ ليصبح لهم تعلق شديد بالحياة ، وحب ، بل وعشق لها ، فإن من الملاحظ : أنه كلما كانت الحياة رخية ناعمة مرفهة ، كلما ازداد تعلق الإنسان بها ، وحبه لها ، وكلما كان العكس ، سهل عليه تركها ، والتخلي عنها.

كما أن الدعوة التي سوف يتعرض أفرادها لمختلف أنواع الضغوط النفسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية وأقساها ، بحاجة ماسة إلى جماعة قادرين على مواجهة تلك الضغوط ، وتحمل تلك الآلام ، والصبر على التعذيب ، والجوع والاضطهاد ، بمختلف أنواعه.

وقد كان العرب ـ عموما ـ كذلك ؛ لأنهم قد عانوا من مشاق الحياة والطبيعة ما عانوا ، وأصبحت الآلام والمتاعب والمصاعب هي الصفة المميزة لحياتهم بل هي خبزهم اليومي وغير ذلك هو الاستثناء ، فهم أقدر من غيرهم على تحمل ما ينتظر أتباع هذه الدعوة ؛ لأن المنعمين لا يستطيعون عادة تحمل المشاق ، ومواجهة الصعوبات فإن الشجرة البرية أصلب عودا ، وأبطأ خمودا ؛ ولذلك نجد :

أن بعض المسلمين كانوا يودون لو يجعلون امتيازا لأحدهم ، وهو ابن عمير لأنه كان منعما قبل أن يسلم ، وحينما أسلم تعرض للمشاق والآلام ، فذلك جعلهم يشعرون بأنه قد تحمل من المصاعب والآلام ما يوجب الرثاء

١٢٧

والرحمة له ؛ وما ذلك إلا انطلاقا من الناحية التي أشرنا إليها آنفا.

٨ ـ بقايا الحنيفية في العرب :

وبعد ، فإن مما ساعد على ذلك أيضا ، وجود بقايا الحنيفية ـ دين إبراهيم كالحج وآدابه ـ في الجزيرة العربية ، وفي مكة بالذات ؛ لأن العرب ، وهم أولاد إسماعيل ، قد توارثوا عنه الدين الحق وكانوا يعتزون بذلك ، وقد قال الله تعالى لهم :( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (١) .

ولكنهم على مر السنين بدؤوا يخلطون هذا الحق بكثير من الباطل ، شأن سائر الأمم ، عندما يغشاها الجهل ، وتستبد بها الأهواء ، والانحرافات.

ثم تسرب إليهم الشرك ، وعبادة الأوثان ، حسبما قدمنا ، ثم الكثير من الأمور الباطلة ، والأخلاق الذميمة ، والفواحش ، حتى أصبحوا في الجاهلية العمياء ، وحتى أدى بهم الأمر إلى الحالة التي وصفها لنا أمير المؤمنين «عليه السلام» فيما تقدم ، غير أن بقية منهم ـ وإن كانت قليلة جدا ـ قد بقيت متمسكة بعقيدة التوحيد ، وترفض عبادة الأوثان ، وتعبد الله على حسب ما تراه مناسبا ، وقريبا إلى تعاليم دين إبراهيم ، مع التزام بعضهم الآخر بدقة بدين الحنيفية ، ومن هؤلاء عبد المطلب ، وأضرابه ، من رجالات بني هاشم الأبرار.

وكان من بقايا الحنيفية تعظيم البيت ، والطواف به ، والوقوف بعرفة ، والتلبية(٢) وهدي البدن ، وإن كانوا يطبقون ذلك مشوها وممسوخا ، ويقحمون

__________________

(١) الآية ٧٨ من سورة الحج.

(٢) ذكر اليعقوبي في تاريخه (ط صادر) ج ١ ص ٢٥٤ ـ ٢٥٧ تلبيات كل قبيلة ، وأعطى نبذة عن شعائرهم في مكة ، فمن أراد فليراجع.

١٢٨

فيه ما ليس منه ، وكانت هذه المعالم تضعف رويدا رويدا مع الزمن ، حتى لم يبق منها إلا الأسماء ، والرسوم الشوهاء.

وقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» ما مفاده : إن العرب كانوا أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ؛ فإن العرب يغتسلون من الجنابة ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ، وهم أيضا يختتنون ، وهو من سنن الأنبياء ، كما أنهم يغسلون موتاهم ، ويكفنونهم ، ويوارونهم في القبور ، ويلحدونهم ، ويحرمون نكاح البنات والأخوات ، وكانوا يحجون إلى البيت ويعظمونه ، ويقولون : بيت ربنا ، ويقرون بالتوراة والإنجيل ، ويسألون أهل الكتب ، ويأخذون منهم ، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس(١) .

إذن ، فقد كان ثمة ذكريات بعيدة في ضمير ووجدان الإنسان العربي ، تربطه بالحنيفية السهلة السمحاء ، دين آبائه وأجداده ـ وهو الذي يعتز بالأنساب وصفائها ، بحكم ما يتعرض له من الغزو والسبي الموجب للتهمة أحيانا ـ وإذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد بعث ليتمها ؛ فمن الطبيعي أن يكون لهذه الذكريات أثر في نظرة كثير من الناس إليه ، وإلى ما جاء به بإيجابية وواقعية.

٩ ـ الخصائص والعادات العربية :

ولقد كان لبعض الخصائص ، والأخلاق ، والعادات العربية ، أثر كبير

__________________

(١) راجع : الاحتجاج ، للطبرسي ج ٢ ص ٩١ ـ ٩٢ والبحار ط مؤسسة الوفاء ج ٧٨ ص ٨.

١٢٩

في نشر دعوة الرسول «صلى الله عليه وآله» ، التي هي دعوة الحق والخير وشمولها ، وإن كان الإسلام الذي استفاد من تلك الخصائص والعادات والأخلاق قد حاول إلى جانب ذلك تركيزها من حيث المنطلقات والأهداف على أسس صحيحة ومقبولة ، وأما إن كانت مرفوضة إسلاميا ، فإنه ـ وإن كانت قد أفادته تلقائيا ، ومن دون أن يتطلب هو ذلك ـ كان يحاول القضاء عليها ، واستئصالها بالحكمة والموعظة الحسنة ، كلما سنحت له الفرصة ، وواتاه الظرف.

فمثلا : لقد استفاد الإسلام كثيرا من شجاعة العربي ، واستهانته بالصعاب ، في الدفاع عن الإسلام.

وأيضا ، فقد كان للتعصب القبلي بعض الفوائد الهامة ، حتى ليذكرون أنه بعد الهجرة إلى المدينة ؛ كان الأوس والخزرج : «يتصاولان مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» غناء إلا قالت الخزرج : والله ، لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الإسلام ؛ فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها ، قال : وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك»(١) .

وأما قبل الهجرة في مكة ، فقد كان للقبلية أثر كبير في منع قريش وغيرها مدة طويلة من المضايقات لكثير ممن اعتنقوا الإسلام ، ثم من محاولة

__________________

(١) تاريخ الطبري ط الاستقامة ج ٢ ص ١٨٤ د وراجع الكامل لابن الأثير ط صادر ج ٢ ص ١٤٦.

١٣٠

الاعتداء على حياته «صلى الله عليه وآله» ، أو على حياة أكثر المسلمين آنذاك ، وإن كانت تواجههم بالمضايقات أحيانا ، وأحيانا بالتعذيب القاسي ، إن لم يكن لهم عشيرة يرهب جانبها ، حتى أذن الله تعالى لهم بالهجرة إلى المدينة.

ولذلك نلاحظ : أن أبا طالب «رحمه الله» قد استفاد كثيرا من العامل القبلي ، حتى إن بني هاشم مسلمهم وكافرهم قد قبلوا بمحاصرة قريش لهم ، وكانوا معه في شعب أبي طالب كما سيأتي.

وتجد في شعر أبي طالب الكثير من التأكيد على عامل القرابة بين بني هاشم وطوائف من قريش ، الأمر الذي كان له أثر كبير في حفظ حياته «صلى الله عليه وآله» من كيد أعدائه كما قلنا.

بل إننا نجد المشركين حتى في عدائهم له «صلى الله عليه وآله» ، وحتى حينما تآمروا عليه ليقتلوه ـ وكان ذلك هو سبب هجرته «صلى الله عليه وآله» ـ قد أخذوا بعين الاعتبار العلاقات القبلية ، وردّات الفعل التي سوف تنجم عنها فاختاروا عشرة أشخاص ، من كل قبيلة رجلا ، ليضربوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بسيوفهم في آن واحد وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وفي المدينة أيضا كان ثمة أثر كبير لكرم ضيافة العربي ، ولوفائه بالعهد والذمار ، ولحسن الجوار ، ولحريته ، وحميته ، وأنفته وعزته ، واعتداده بنفسه ، وقوة إرادته ، وللشجاعة ، والإقدام ، وحتى لصفات القوة والغلظة ، التي ولدتها فيهم حياة الغزو والحرب ، وجعلتهم قادرين على التخلي عن العواطف في سبيل دينهم وعقيدتهم ، حتى لقد كانوا يقتلون أبناءهم ، وآباءهم ، وإخوانهم.

١٣١

١٠ ـ دور أبي طالب عليه السّلام :

يجب أن لا ننسى الدور الذي اضطلع به الرجل العظيم ، أبو طالب شيخ الأبطح «عليه السّلام» ، الذي وفر للنبي «صلى الله عليه وآله» حمايته المطلقة من كل أعدائه ومناوئيه.

١١ ـ أموال خديجة عليها السّلام :

ثم هنالك العامل الاقتصادي الذي وفرته له زوجته أم المؤمنين خديجة صلوات الله وسلامه عليها ، والتي كانت تمتلك ـ حسبما يرى البعض ـ عصب الاقتصاد في الجزيرة العربية كلها.

وقد أنفقت كل تلك الأموال على المسلمين ، في الظروف الحرجة التي واجهوها ، إبان اضطهاد قريش وحصارها الاقتصادي لهم.

ومما يدل على أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يتولى الإنفاق على المسلمين ، من أموال خديجة وأبي طالب(١) قول أسماء بنت عميس لعمر(٢) حين عيّرها بأنه سبقها بالهجرة ، وإنها حبشية حجرية ـ على ما نقل عن صحيح مسلم وغيره ـ قالت له :

«كنتم مع النبي «صلى الله عليه وآله» يطعم جائعكم ، ويعظ

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٦ وأموال خديجة أمرها أشهر من أن يذكر فراجع أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ٨١ ـ ٨٢ والبحار ج ١٩ ص ٦١ و ٦٢.

(٢) ستأتي مصادر ذلك في فصل : هجرة الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، حين الكلام حول ثروة أبي بكر.

١٣٢

جاهلكم»(١) .

١٢ ـ جهاد علي عليه السّلام :

وأخيرا ، فيجب أن لا ننسى دور وصي وأخي النبي «صلى الله عليه وآله» ، أمير المؤمنين «عليه السّلام» ، حسبما سيظهر إن شاء الله ـ ولو بنحو محدود ـ في مطاوي هذه السيرة العطرة.

نعم ، لقد كان لكل ذلك دور هام في حفظ الدعوة ، وانتصارها ، وانتشارها ، كما لا يخفى على الناقد البصير ، والمتتبع الخبير.

وثمة أسباب أخرى قد ساعدت على ظهور الإسلام ، وانتشاره ، وانتصاره ، يمكن استجلاء بعضها من مطاوي التاريخ الإسلامي.

ونحن نكتفي هنا بهذا القدر ؛ لنوفر الفرصة لعرض حياة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» بعد البعثة ، وبشكل موجز وواضح قدر الإمكان.

تنبيه هام وضروري :

إن كل ما ذكرناه آنفا لا يعني : أن ظهور الإسلام ، وانتشاره في الجزيرة العربية قد كان أمرا طبيعيا ، بحيث إنه لو توفرت هذه العوامل لأي دعوة أخرى ، فإنها تستطيع أن تحقق نفس النتائج التي حققها الإسلام ، بل الأمر على العكس من ذلك تماما ، فإن ظهور الإسلام ، وانتصاره في هذه المنطقة

__________________

(١) قاموس الرجال ج ١٠ ص ٣٨٠ وحياة الصحابة ج ١ ص ٣٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٥ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٧٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٧٢ وصحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ٣٥ وكنز العمال ج ٢٢ ص ٢٠٦ عن أبي نعيم ، والطيالسي ، ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٩٥ والأوائل ج ١ ص ٣١٤.

١٣٣

هو بذاته معجزة له ، ودليل على حقانية الإسلام ؛ وذلك لأن اليهودية قد كانت موجودة ، وكانت هذه الظروف أيضا موجودة ، ولكنها لم تستطع أن تؤثر أثرا يذكر في عقلية العربي ، ولا في سلوكه ، وتصرفاته(١) .

وكذلك الحال بالنسبة للنصرانية ، التي كانت تهتم في تنصير كل من تقدر على تنصيره ، ثم هناك الزرادشتية وغيرها من الأديان.

وهذا معناه : أن لنفس المبدأ ، والرسالة ، والقائد دورا هاما جدا ، بل والدور الأول والأساس في عملية التغيير وفي النجاح وفي استمراره ، وبدون ذلك ، فإن كل نجاح ـ لو كان ـ فلسوف يكون محدودا جدا ، ولظروف معينة ، ولسوف ينتهي بمجرد انتهاء تلك الظروف.

وقد رأينا الإسلام رغم ما عاناه من مصائب وبلايا حتى على أيدي أبنائه ، كان ولا يزال يزداد قوة وفعالية على مر الزمن ، وفي مختلف الظروف والأحوال ، ولم يؤثر فقدان تلك الظروف والعوامل ، ولا تحولها وتقلبها لا في الإسلام ، ولا في فعاليته ، إن لم نقل : إنه قد زاد في ذلك بشكل ظاهر.

والذي يفسر لنا هذه الظاهرة ، هو ما ذكرناه آنفا من أن الإسلام يستطيع أن يستوعب طاقات الإنسان ، ويحولها ويطورها في مصلحة الرسالة والحق ، كما إنه يستطيع أن يتلاءم مع الظروف المختلفة ، فهو يملك لكل داء دواء ، ولكل مشكلة حلا ، ولكل ظرف ما يناسبه ، على عكس غيره من الدعوات الجامدة ، والمحدودة.

ولذلك ، فإن الإسلام عندما نجح في الجزيرة العربية ، وإن كان قد

__________________

(١) وإن كان دين اليهود مقصورا عليهم ولا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

١٣٤

استفاد من بعض الظروف ، وحوّل وطوّر الأوضاع السائدة في صالحه ، إلا أنه كان في نفس الوقت لا يجد في المنطقة التي ظهر فيها الكثير من المميزات الهامة التي من شأنها أن تساعده في مهمته ، ولولاها فإن أي دعوة أخرى لا تستطيع أن تنجح ، ولكن فقدها لم يؤثر على الإسلام ، كما أن امتلاك أعدائه لها لم يؤثر عليه أيضا.

وهذا أحد أسرار عظمة الإسلام وسموّه.

وفقنا الله للعمل في سبيله ، والاهتداء بهديه ، إنه ولي قدير.

١٣٥
١٣٦

الباب الثاني

من الميلاد إلى البعثة

الفصل الأول : عهد الطفولة

الفصل الثاني : خديجة في بيت النبي صلّى الله عليه وآله

الفصل الثالث : البعثة

١٣٧
١٣٨

الفصل الأول :

عهد الطفولة

١٣٩
١٤٠