سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11005
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11005 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

نقضه ومنازعته ولا أحداً ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجّهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار... لتصفوا قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئاً ممّا أكرهه، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيّته من بعده))(١)

ورحل رسول الله صلى الله عليه واله الى الرفيق الأعلى وكان آخر الناس عهداً به هو الامام علي عليه السلام وهو الذي قام بدفنه، ولم يشارك في سقيفة بني ساعدة لانشغاله بدفن رسول الله صلى الله عليه واله.

روايات المدح والاطراء الجميل

وردت روايات عديدة ومتواترة في مدح الأصحاب عامةً أو المهاجرين والأنصار او المهاجرين لوحدهم أو الأنصار لوحدهم أو مدح افراد من الصحابة،وكل مدح لم ينشأ من فراغ وانما من مؤهلات ومقومات وعوامل ايجابية تؤهلهم للمدح والثناء فهو مدح وثناء للمواقف والممارسات الصالحة.

روي عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال:((اللّهمَّ امضِ لأصحابي هجرتهم ، ولا تردّهم على أعقابهم))(٢١) .

مدح رسول الله صلى الله عليه واله المهاجرين الذين اسلموا وامنوا واخلصوا والتزموا بمفاهيم وقيم الاسلام واتبعوا وأطاعوا الله تعالى و رسول الله صلى الله عليه واله وجاهدوا وضحوا ولم يغيّروا او يبدّلوا، ثم استدرك وقال:(( ولا تردّهم على أعقابهم))بمعنى ان بعضهم سيرتد اما عقائديا او سلوكيا فالمدح والثناء مستمر باستمرار الالتزام والاخلاص في حياته وبعد رحيله.

والمدح هنا مدح للمهاجرين كمجموع وليس كأفراد فردا فردا، وهو متوقف على حسن العاقبة،

ولايشمل المدح من في قلبه مرض أو اسلم لغاية معينة ولم يدخل الاسلام والايمان الى قلبه.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال: ((الأنصار كرشي وعيبتي))(٣) .

((في كلِّ دُور الأنصار خير))(٤) .

________________

(١) الخصال: ٣٧١، ٣٧٢، باب السبعة.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٨٧ ـ ٨٨

(٣) السيرة النبوية ، لابن كثير ٢ : ٢٨٢

(٤) صحيح مسلم ٤ : ١٧٨٥

١٠١

وهو مدح لمجموع الانصار وليس للانصار فردا فردا أو هو مدح للانصار الذين نصروه قبل الهجرة اليهم او في بدايتها،ولايشمل المدح من في قلبه مرض او من كان منافقا علنا أو سرا.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه واله انه قال:((المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة))(١)

((اللّهمَّ لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، فاغفر للمهاجرين والأنصار))(٢) .

وهذا المدح كان مورده مدح المهاجرين والانصار الذين شاركوا في حفر الخندق ،وهو ايضا لايشمل المنافقين ولا من في قلوبهم مرض.

وقبل بدء القتال في غزوة بدر قال رسول الله صلى الله عليه واله:((اللّهمَّ إن تَهْلِكَ هذه العصابة اليوم لا تُعبد))(٣) .

وهو مدح لكل من شارك في غزوة بدر ولايشمل من أسلم لاحقا باختياره أو باستسلامه للأمر الواقع كالطلقاء، وهو ايضا لايشمل المنافقين ولا من في قلوبهم مرض.

ووضع صلى الله عليه واله ضابطة وميزانا لتمييز الاخيار من الاشرار فقال: ((يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه واله : بالثناء الحسن والثناء السيء ، أنتم شهداء الله في الأرض))(٤)

هنا اثنى على الصحابة كمجموع بما هم مجموع وليس كأفراد فردا فردا، حيث ذكر الاشرار وهم ضمن الصحابة.والشر ينفي العدالة عن بعضهم ماداموا أشرارا

ووردت روايات عديدة مادحة مختصة بمن امنوا من الصحابة ولاتشمل المنافقين ومتزعزعي الايمان :((طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ـ يقولها سبع مرات ـ لمن لم يرني وآمن بي))(٥) .

________________

(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١١ ، عن أمالي ابن الشيخ : ١٦٨

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٣٧ .وتفسير القمي ١ : ١٧٧

(٣) السيرة النبوية ، لابن هشام ٢ : ٢٧٩

(٤) تفسير القرآن العظيم ١ : ١٩٧

(٥) الخصال ٢ : ٣٤٢

١٠٢

((لا زال هذا الدين ظاهراً على الأديان كلها ما دام فيكم من رآني))(١)

و قال له رجلان: يارسول الله ،أرأيت من رآك فآمن بك وصدّقك واتبعك،ماذا له ؟ قال صلى الله عليه واله : ‎ ((طوبى له))(٢) .

وهنا مدح مختص بمن آمن وصدّق واتبع ولايسري الى من لايتصف بهذه المواصفات.

وكان بين خالد بن الوليد وبين أحد المهاجرين الأوائل كلام ، فقال خالد له : ((تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها))، فسمع رسول الله صلى الله عليه واله بذلك فقال : ‎ ((دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ـ أو مثل الجبال ـ ذهباً ما بلغتم أعمالهم))(٣) .

:((أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّاً لأهل بيتي ولأصحابي))(٤)

والظاهر أنّ الروايتين الأخيرتين ليست عامّة في جميع الصحابة السابقين والمتأخرين في الإيمان والجهاد ، وإنّما هي مختصة في بعض منهم

فقد جمع رسول الله صلى الله عليه واله بين حبّ أهل بيته عليهم السلام وأصحابه ، فلو كان قصده جميع الصحابة لحدث تناقض لأنّ بعض الصحابة آذى بضعته من بعده ، وبعضهم كان مبغضاً لأهل بيته ، وقد وصل حد البغض إلى قتالهم واستباحة دمائهم ، فقد حارب معاوية وعمرو بن العاص وبسر بن أرطأة وآخرون الإمام عليّاً عليه السلام ومن بعده الإمام الحسن عليه السلام ، فكيف يجتمع حب الإمام عليّ عليه السلام وحبّ معاوية وأتباعه في قلب واحد ، والكلام موجّه إلى الصحابة ، فكيف يوجّه الصحابة إلى حبّ الصحابة ؟

ورواية ((دعوا لي أصحابي)) مختصة أيضاً ببعض الصحابة ؛ لأنّ الأمر موجّه إلى خالد بن الوليد وهو من الصحابة ، يأمره بالكّف عن صحابي آخر، ويقارن بين أعمال المتقدمين في الإيمان والهجرة والنصرة وأعمال المتأخرين، فالرواية واضحة الدلالة باختصاصها ببعض الصحابة

________________

(١) نوادر الراوندي : ١٥

(٢) بحار الأنوار ٢٢ : ٣٠٦ ، عن أمالي ابن الشيخ : ٣٣٢

(٣) مجمع الزوائد ١٠ : ١٥

(٤) نوادر الراوندي : ٢٣

١٠٣

وما تقدّم من ثناء مشروط بشروط،منها : الإيمان الحقيقي ، فلا يكون من في قلبه مرض مراداً قطعاً ، والاستقامة على المنهج الإسلامي وحسن العاقبة ؛ لأنَّ بعض الصحابة ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام، وبعضهم منافقون اسرّوا نفاقهم،ولكنّه ظهر من خلال أعمالهم ومواقفهم كما سيأتي بيانه

وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه واله على بعض الصحابة بأسمائهم، ووجّه الأنظار إلى عدد محدود منهم، فكرّر مدحهم والثناء عليهم وجعلهم الصفوة من بين آلاف الصحابة، ولم يساو بين السابقين في الهجرة والإيمان وبين المتأخرين الذين أسلموا خوفاً أو طمعاً

وفي مقابل الثناء على بعض الصحابة، وردت أحاديث مفتعلة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه واله بحق آخرين من الصحابة.

وقد كثر تزوير الأحاديث في عهد بني أُمية، قال ابن عرفة، المعروف بنفطويه: ((إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية، تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم))(١)

وقال أبو الحسن المدائني: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله((أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته)).

ثم كتب: ((ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنَّ هذا أحب إليَّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله)).

فرويت((أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة... حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها ، وهم يظنون أنّها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها(٢) .

وماقام به معاوية من تزوير للأحاديث هو انحراف واضح وملموس يسلب العدالة منه ولايشمله أي مدح ورد في حق الصحابة،ولايشمل من عاونوه وأيدوه ؛فقد ارتكب موبقات عديدة عن عمد وعلم وسبق اصرار،والتي تتمثل بعدة نقاط:

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٦

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٤ ـ ٤٦

١٠٤

الأولى:معاقبة من ينشر روايات رسول الله صلى الله عليه واله بحقّ الامام علي واهل بيته عليهم السلام، وهذا معناه التعتيم عليها والانكى من التعتيم معاقبة من ينشرها.

الثانية : الكذب على رسول الله صلى الله عليه واله بنسب مدح للصحابة ليس صادرا عنه.

الثالثة : مدح من لايستحق المدح أو المبالغة في مدحه.

الرابعة:اعلان العداوة لأول الناس اسلاما وايمانا

الخامسة: مخالفة القران الكريم الذي أكدّ على المودة في القربى، ومخالفة رسول الله صلى الله عليه واله في التأكيد على حب الامام علي عليه السلام.

السادسة: تضليل الكثير من المسلمين وتشجيعهم على نقل روايات كاذبة.

وبهذه الممارسات المتعمدة والمنحرفة تسقط عدالة معاوية ومن معه ،وسقوطها عن بعض الصحابة يعني انخرام الرأي بتبني عدالة جميع الصحابة فردا فردا.

روايات الذم والنقد

شخصية الصحابي كغيره من الناس تتحكم فيها عوامل ثلاثة: الفكر، والعاطفة، والإرادة ، وهي التي تحدّد موقف الصحابي وسلوكه في الحياة، فالإيمان بعقيدة معينة وفكرة معينة يجعل الشعور الباطني حركة سلوكية في الواقع، ويحوّل هذه الحركة إلى عادة ثابتة متفاعلة مع ما يحدّد لها من تعاليم ومفاهيم وقيم، إن تطابقت الإرادة مع أُسس الإيمان وقواعده، والإرادة هي الحد الفاصل بين مرحلة الشعور ومرحلة الواقع، وبها تتميز شخصية الصحابي أوالإنسان عموما في الخارج في قرارها النهائي، وكل هذه العوامل مرتبطة في ظواهرها مع عوامل اُخرى كالوراثة والمحيط الاجتماعي التي تؤثر على تلك العوامل تأثيراً إيجابياً أو سلبياً، وبالتالي تؤثر على تحديد شخصية الإنسان، ولذا نرى الصحابة متفاوتين في شخصياتهم، فمنهم من هو في قمة التكامل والسمو، ومنهم من هو في مراتب أدون فأدون، تبعاً

١٠٥

لتفاوت درجات الإيمان ودرجات الاُنس بالعقيدة والفكر، ودرجات الارتباط بالقدوة الصالحة المجسدة للعقيدة والشريعة في واقعها السلوكي، والتفاعل مع المغريات والمثيرات الخارجية إندفاعاً وإنكماشاً وخصوصا الرئاسة والسلطة والامارة، فبعض الصحابة الذين بقي إيمانهم متزعزاً قد نكصوا على أعقابهم وارتدّوا عن الإسلام، وبعضهم عاد إلى الإيمان بعد ردته خوفاً أو طمعاً أو استسلاماً للأمر الواقع أو قناعة بصحة الرسالة، وبعضهم لم يقاوم جبهة التصدّع في شخصيته، فاستسلم للأهواء واستجاب للمغريات الخارجية كحب الرئاسة وحب المال، فانحرف عن الاستقامة في موقفه وسلوكه العملي،وبعضهم لم يؤمن حقيقة فظهرت موبقاته وانحرافاته، ولذا جاءت الروايات في مقام التحذير من الانحراف والنكوص والتردّد، وجاء بعضها في مقام الذم والتقريع لمواقف سلوكية اتّخذها بعض الصحابة في مراحل حياتهم.

وفي عهد رسول الله صلّى الله عليه واله كان الصحابة في بداية اسلامهم وهم في طور الارشاد والتوجيه والتربية فاستطاعوا تجاوز السلبيات والازمات التي تحدث بين الحين والآخر والتي تؤدي الى التناحر والتباغض والمواقف المتشنجة الناجمة من رواسب الجاهلية وقرب العهد من الاسلام، ومن الأنا والهوى والتعصب، ومن وجود المندسين والمنافقين الذين يستثمرون الثغرات لخلق البلبلة والاضطراب داخل الوجود الاسلامي، أو الناجمة من قلة الوعي وضعف الادراك ومن التسرع في إتخاذ الموقف والقرار، فكان رسول الله صلّى الله عليه واله يتجاوز هذه الأزمات بحكمة ووعي ثاقب ويحجمها أو يتجاوزها وهي في مهدها قبل أن تستشري وتتأصل في النفوس ثم في أرض الواقع، فكانت تتلاشى في حينها ويتجاوزها المسلمون إستجابة لتوجيهات رسول صلّى الله عليه واله ويتناسوها وكأن شيئاً لم يكن، ويعودون الى الأصل وهو الوحدة والاتحاد والإخاء.

وكان صلّى الله عليه واله يتجاوز جميع المواقف التي تؤدي الى التناحر والتباغض والتنافس غير المشروع، سواء كانت مقصودة أم غير مقصودة، للوقاية من الاضطراب والخلاف، ومن هذه المواقف.

في غزوة بني المصطلق ازدحم جهجاه بن مسعود وسنان بن وبر الجهني على الماء فتصارعا، فصرخ الجهني: ((يا معشر الأنصار))، وصرخ جهجاه: ((يا معشر المهاجرين)).

فغضب المنافق عبدالله بن أبيّ بن سلول، وعنده رهط من قومه، فقال: ((أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأوّل: سمّن كلبك يأكلك! أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل)).

١٠٦

ثم اقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: ((هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتوّلوا الى غير داركم)).

فسمع ذلك زيد بن أرقم، فمشى الى رسول الله(ص) فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: ((مر به عبّاد بن بشر فليقتله)).

فقال له رسول الله(ص): ((فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه! لا ولكن أذن بالرحيل))، وذلك في ساعة لم يكن رسول لله(ص) يرتحل فيها، فارتحل الناس.

ثم مشى رسول الله(ص) بالناس يومهم ذلك حتى امسى، وليلتهم حتى اصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً، وانما فعل ذلك رسول الله(ص) ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي(١)

وهذه الأزمة ناجمة عن التعصّب من جهة وعن دور المنافقين في إثارة الفتنة من جهة أخرى، وقد بدأت الأزمة بصراع بين مهاجر وأنصاري، وهذا الصراع هو بين فردين لا يمثلان إلا نفسيهما، ولا علاقة للمهاجرين والأنصار بهذا الصراع، ولكن الاوضاع النفسية والرواسب الجاهلية ودور المنافقين قد تحوّل الصراع الى صراع بين إنتمائين خلافاً للمفاهيم والقيم النبوية، وقد تعامل رسول الله صلى الله عليه واله مع هذه الأزمة تعاملاً حكيماً، فلم يلتجأ الى التحقيق في المسألة، أو إرسال لجنة لتقصي الحقائق، ولم يلتجأ الى جمع المهاجرين والأنصار لالقاء خطبة توجيهية اليهم، لأنّ الأزمنة بحاجة الى قرار حاسم يمنع من القيل والقال وبث الاشاعات وتضخيم الأحداث وتبادل الاتهامات، بل اسرع لإشغال المسلمين بالرحيل، وفعلاً تناسى المسلمون الأزمة.

وقد عبّر رسول الله صلى الله عليه واله عن موقفه بعد إنتهاء الأزمة، وخصوصاً بعد أن وعى الأنصار للمخاطر المحدقة بهم، وأصبحوا إذا أحدث عبدالله بن أبي حدثاً كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنّفونه، وحينها قال صلّى الله عليه واله لعمر بن الخطاب: ((كيف ترى يا عمر; أما والله لو قتلته يوم قلت لي: إقتله، لأرعدت له آنُفُ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته))(٢)

________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٣: ٣٠٣، ٣٠٤.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ٣: ٣٠٥.

١٠٧

وكانت بين الأوس والخزرج العديد من المعارك والحروب يقتتلون فيها قتالاً شديداً الى أن هدى الله تعالى قلوب بعضهم للاسلام، فأسلموا، وسألوا رسول الله صلى الله عليه واله أن يخرج معهم الى المدينة وقالوا: ((إنّه لم يصبح قوم في مثل ما نحن فيه من الشرّ، ولعلّ الله أن يجمعنا بك، ويجمع ذات بيننا، فلا يكون أحد أعز منها))، فقال لهم رسول الله قولاً جميلاً، ثم انصرفوا الى قومهم فدعوهم الى الاسلام، فكثر حتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكر حسن من ذكر رسول الله، وسألوه الخروج معهم وعاهدوه أن ينصروه على القريب والبعيد والأسود والأحمر(١)

وحينما هاجر رسول الله(ص) الى المدينة أصبح الأوس والخزرج القاعدة الصلبة للاسلام ولرسول الله صلى الله عليه واله فتوحدوا تحت رايته، وانتهى الصراع الدائر بينهم، وتوجهوا جميعاً لمواجهة المشركين وأعداء الدين.

ولم يرق لليهود إتحاد الأوس والخزرج فبدأوا يتآمرون على زرع الفتنة الى أن نجحوا في اثارتها، فقام أحدهم بتذكير القبيلتين بقتلاهم في الجاهلية، وذكّرهم بالاشعار التي قيلت في حينها، فتنازع الفريقان وحملوا السلاح وخرجوا للقتال، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه واله بالأمر; خرج اليهم فيمن معه من المهاجرين فقال: ((يا معشر المسلمين! الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للاسلام... وألّف بين قلوبكم؟))، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً(٢)

فقد أسرع رسول الله صلى الله عليه واله لعلاج الأزمة وإنهاء الفتنة، ولولا حكمته وتدخله المباشر لحدث القتال، ولبقيت آثاره قائمة بتغلب التعصب والثأر على المفاهيم والقيم الاسلامية، ولأستمر القتال بينهم وخصوصاً إذا استمر اليهود والمنافقون في تأجيج نار الفتنة التي سرعان ما تتأصل وتتجذر لتأكل الأخضر واليابس، وتفتت وحدة المسلمين.

بعد فتح مكة بعث رسول الله صلى الله عليه واله خالد بن الوليد داعياً، ولم يبعثه مقاتلاً، فلما وصل الى بني جذيمة أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فقال لهم رجل يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنّه خالد والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار،

________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٣٧، ٣٨.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ٢: ٢٠٥.

١٠٨

وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً، فأخذوه رجال من قومه ونزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكُتّفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل جماعة منهم(١) .

وفي رواية قال بنو جذيمة: انّا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، فانظر ما بعثك رسول الله له، فان كان بعثك مصدّقاً فهذه إبلنا وغنمنا فاعد عليها.

قال خالد: ضعوا السلاح.

قالوا: إنّ نخاف أن تأخذنا بإحْنَة الجاهلية.

فانصرف عنهم وأذّن القوم وصلّوا، فلمّا كان في السحر شنّ عليهم الخيل فقتل المقاتلة وسبى الذريّة(٢) .

وقد كثرت الأشعار المعارضة والمؤيدة لعمل خالد بن الوليد.

ولما انتهى الخبر الى رسول الله صلى الله عليه واله رفع يديه الى السماء، ثم قال: ((اللهم إني ابرأ اليك ممّا صنع خالد بن الوليد)).

ثم دعا ـ الامام ـ عليّ بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ فقال: ((يا علي، أخرج الى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك)).

خرج ـ الامام ـ علي عليه السلام حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله(ص)، فودّى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال حتى إنّه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى لم يبق شيء من دم ولا مال إلا ودّاه، وبقيت معه بقية من المال، فقال لهم رضوان الله عليه: ((فاني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، إحتياطاً لرسول الله(ص) مما لا يعلم ولا تعلمون)).

ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه واله فأخبره الخبر، فقال: ((أصبت وأحسنت)).

ثم قام رسول الله صلى الله عليه واله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى انّه ليُرى ما تحت منكبيه يقول: ((اللهم انّي ابرأ اليك ممّا صنع خالد بن الوليد)) ثلاث مرات(٣)

________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٤: ٧١، ٧٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٦١.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ٤: ٧٣، ونحو في المغازي للذهبي: ٥٦٨.

١٠٩

فأمام هذه الممارسة السيئة والجريمة الشنعاء اتخذ رسول الله صلى الله عليه واله موقفين: الأوّل: البراءة من عمل خالد لكي لا يحمّل بنو جذيمة المسؤولية على رسول الله(ص) أو على الكيان والوجود الاسلامي، والثاني: ارسال أقرب واعزّ الناس اليه أمينه ووزيره بل نفسه وهو الامام علي عليه السلام، ثم تعويضهم عن خسارتهم في الأرواح والأموال.

وبهذه الحمة استطاع إخماد فتنة عمياء قد تتطور وتتوسع وبالتالي تكون النتيجة هي خلخلة الوجود الاسلامي في بداية انتصاره على معاقل الكفر والشرك.

وقسّم رسول الله صلى الله عليه واله غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم وكانوا من رؤساء القبائل التي أسلمت مؤخراً، ولم يعط للانصار أي شيء منها، وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت القالة(١) ، حتى قال قائلهم: ((لقي والله رسول لله قومه))، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: ((يا رسول الله إنّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسّمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحيّ من الأنصار شيء)).

قال رسول الله صلى الله عليه واله :((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)).

قال: ((يا رسول الله، ما أنا إلاّ من قومي)).

قال:((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)).

فأتاهم رسول الله صلى الله عليه واله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار: ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ الم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم!)).

قالوا: ((بلى، الله ورسوله أمنُّ وأفضل)).

ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟)).

قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل)).

________________

(١) القالة: الكلام الرديء.

١١٠

قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذِّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فأويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة(١) من الدنيا تألّفت بها قوماً ليُسلموا، ووكلتكم الى اسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله الى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.

فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: ((رضينا برسول الله قسماً وحظاً))(٢)

وبعد قول رسول الله صلى الله عليه واله تفرّق الأنصار، وانتهى القيل والقال، وخرجوا من عنده وهم مستسلمون لموقفه، ومطيعون لقراره عن قناعه ورضىً لاعن جزع واضطراب، فاستطاع بحكمته أن يتجاوز الأزمة، ولم يدخل معهم في حوار يبيّن لهم صلاحيته كنبي وكحاكم في توزيع الأموال، ولم يحاسب المعترضين أو يحذّر منهم، أو يحكم عليهم بمعارضته وتمرّدهم على أوامره، ولم ينبزهم بالكفر أو الفسق لعدم الانصياع الى أوامره، وانما خاطبهم برفق وبيّن لهم دورهم في حركة الجهاد، وبيّن لهم المصلحة العليا من جرّاء توزيعه الغنائم، ووجههم نحو المفاهيم والقيم المعنوية، وربّاهم على التعالي على أثقال الدنيا وزينتها ومغرياتها، فانتهت الأزمة بقناعة الأنصار بانّه لم يقدّم هؤلاء بالعطاء بعنوان إنتمائه اليهم، وانما بعنوان تأليف قلوبهم للاسلام.

ونهى صلى الله عليه واله عن التعصّب وهو من أخطر الظواهر التي تصيب الأمة، وهومنشأ لكثير من الممارسات السلبية التي تنخر في جسد الأمة، وتؤدي الى التفكك والاضمحلال والتدهور والنكوص الحضاري، وقد نهى عن التعصّب في جميع ألوانه ومظاهره، وعدّ المتعصب خارجاً عن الوجود والكيان الاسلامي، فقال: ((ليس منّا من دعا الى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبية، وليس منّا من مات على عصبية))(٣)

________________

(١) اللعاعة: بقلة خضراء ناعمة، شبّه بها زهرة الدنيا ونعيمها.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ٤: ١٤١، ١٤٢.

(٣) سنن ابي داود: ٩٥٦، حديث ٥١٢١.

١١١

والعصبية هي إعانة المتعصب لقومه وطائفته على الظلم، فعن واثلة بن الأسقع قال: ((قلت يا رسول الله ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم))(١)

وعن سراقة بن مالك المدلجي قال: ((خطبنا رسول الله(ص) فقال: خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم))(٢)

وقد نهى رسول الله(ص) عن جميع ألوان ومظاهر التعصب للانتماء ، ونهى عن جميع الممارسات الواقعة في طريقه كالتفاضل الجاهلي الذي لا يقوم على سند مشروع، قال صلى الله عليه واله :((يا أيها الناس ألا أنّ ربّكم واحد، ألا أنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم))(٣)

ووجّه رسول الله صلى الله عليه واله أنظار ومشاعر الصحابة الى تقديم الانتماء للاسلام على غيره من الانتماءات، وتقديم الانتماء الثانوي المشروع في القرآن والسنة على الانتماءات غير القائمة على أسس مشروعة،ولهذا نراه يمنع الافتخار بالانتماءات التي لا علاقة لها بالانتماء المقرر من قبل القرآن والسنة، عن أبي عقبة قال: ((شهدت مع رسول الله(ص) أُحداً، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها منّي وأنا الغلام الفارسي، فالتفت اليّ رسول الله(ص) فقال: فهلاّ قلت: خذها منّي وأنا الغلام الأنصاري))(٤)

والنهي عن التعصّب يحصّن المسلم من التفرّق والتشتت; لأنه في حال الخصومة والخلافات سيرجع الى الميزان الثابت وهو القرآن والسنة لتقويم الأشخاص والوجودات والأعمال والأحداث بعيداً عن الدوافع الناجمة عن الأهواء والأمزجة والمصالح والمنافع الضيقة، فلا يحابي جماعته ولا قومه ولا فئته مادام يزنها بالميزان الثابت، وبالتالي يستطيع تشخيص الموقف الحق فيقف الى جانبه، ويتخلى عن الموقف الباطل وان كان صادراً من انتمائه الثانوي الذي ينتمي اليه.

وقد راعى رسول الله صلى الله عليه واله المواقف والآراء المخالفة والمعارضة له، واستوعب متبنّيها من أجل هدايتهم وتربيتهم وإصلاح آرائهم ومواقفهم ما دامت منطلقة من قلة الوعي وعدم إدراك الحقائق، أو منطلقة من رواسب الجاهلية، أو من حالة ضعف طارئة أو متجذرة.

________________

(١) سنن أبي داود: ٩٥٦، حديث ٥١١٩.

(٢) سنن أبي داود: ٩٥٦، حديث ٥١٢٠.

(٣) الدر المنثور ٧: ٥٧٩.

(٤) سنن أبي داود: ٩٥٦، حديث ٥١٢٣.

١١٢

ففي معركة بدر قال رسول الله(ص):((إني قد عرفت أنّ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً ولا حجة لهم بقتالنا، فمن لقي منم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله; فانّه خرج مستكرهاً)).

فقال أبو حذيفة: ((أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته للألحمنّه بالسيف)).

فاستقبل رسول الله صلى الله عليه واله هذا القول والاعتراض الشديد برحابة صدر ولم يرتّب أي أثر أو ردّ فعل سلبي، وحينها تراجع أبو حذيفة عن مقالته وقال: ((ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، لا أزل منها خائفاً إلا أن تكفّرها عني الشهادة)) فقتل يوم اليمامة شهيداً(١)

فقد راعى رسول الله صلى الله عليه واله لحظة الضعف البشري التي إنتابت أبا حذيفة، والناجمة عن رواسب الجاهلية أو الناجمة عن عاطفته نحو والده الذي لم يسلم أو الذي قتل أو سيقتل في المعركة.

وبعد معركة حنين جاء ذو الخويصرة الى رسول الله صلى الله عليه واله فقال: ((اعدل، فانّ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله)).

فقال رسول الله صلى الله عليه واله:((ويحك فمن يعدل ان لم أعدل، خبت وخسرت ان لم أعدل)).

ونهى من أراد من أصحابه قتله(٢)

وكان يوزّع الغنائم في أحد المعارك، فقام اليه رجل فقال: ((اعدل)) فقال رسول الله(ص): لقد شقيت إذا لم أعدل)).

وقال آخر: ما اُريد بهذه القسمة وجه الله)).

فقال رسول الله(ص): ((رحم الله موسى! قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر))(٣) .

وحذّر رسول الله صلى الله عليه واله في حياته من جملة من الممارسات السلبية لكي لايرتكبها بعض الصحابة في حياته وبعدها ، وبيّن ماسيقوم به البعض منهم من مخالفات وسلبيات وهذا مانبحثه في هذا الموضوع:

روايات الكذب على رسول الله صلى الله عليه واله

________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٢: ١٩٧.

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١: ٢٢٢.

(٣) السيرة النبوية لابن كثير ٣: ٧٨٦.

١١٣

قال رسول الله صلّى الله عليه واله(( ‎ لا تكذبوا عليَّ فإنَّهُ من كَذَبَ عليَّ فليلج النّار))(١)

(( ‎ من كذَّب عليَّ فليتبوأ مقعده من النّار))(٢)

((من تعمّدَّ عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النّار))(٣)

((من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النّار))(٤) .

كثر الكذب على رسول الله صلى الله عليه واله في حياته سواء كان كذبا في مسألة عقائدية أو تشريعية او فضائل او مثالب، وقد حذّر صلى الله عليه واله الصحابة من الكذب عليه في الحديث والرواية.

ولتفشي الكذب مطلقاً سواءً على رسول الله صلى الله عليه واله أو في الشؤون الاجتماعيةالاُخرى وتتابعه، كان صلى الله عليه واله يحذّر من الكذب قبل وقوعه وينهى عن ممارسته بعد وقوعه ، وكان يكرّر هذا التحذير في أوقات ومناسبات عديدة ليرتدع الكذّابون عن الكذب ويعودوا الى الاستقامة في مرحلة التربية والتوجيه والارشاد، فقد قام صلى الله عليه واله خطيباً وقال :((ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب، كما يتتابع الفراش في النّار! كلّ الكذب يكتب على ابن آدم إلاّ رجل كذب في خديعة حرب، أو إصلاح بين اثنين، أو رجل يحدّث امرأته فيرضيها))(٥) .

والكذب مطلقا حرام قليله وكثيره وانواعه وتزداد حرمته حينما يكون كذبا على رسول الله صلّى الله عليه واله، لما يترتب عليه من آثارعملية على جميع المستويات.

والكذب ذنب عظيم مسقط للعدالة فاذا ثبت كذب الصحابي فانه يخرج عن العدالة وهذه حقيقة لاتقبل النقاش والتبرير، واذا كان رسول الله صلّى الله عليه واله والصحابة الصالحون يتابعون الامور ويردعون الكاذب وينصحونه بالتخلي عن الكذب الا أنهم

________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٨ وصحيح مسلم ١ : ٩

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٨ وسنن ابن ماجة ١ : ١٣

(٣) صحيح البخاري ١ : ٣٨ وصحيح مسلم ١ : ١٠

(٤) صحيح البخاري ١ : ٣٨ وبنحوه في المستدرك على الصحيحين ١ : ١٠٢

(٥) الدر المنثور ٤ : ٣١٧

١١٤

لايستطيعون متابعة الجميع بعد الصدر الاول للاسلام وانتشار الصحابة في البلدان ووصول بعضهم للحكم كمعاوية الذي استخدم المال والسلطة لتزوير الاحاديث وتزييفها.

واعتمد على جماعة من الصحابةالوضّاعون وكان اشهرهم:ابوهريرة وعمروبن العاص وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة.

وروي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب: (مائة ألف درهم حتى يروي أنّ هذه الآية نزلت في حق علي (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام)(١) فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف درهم فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل، وروى ذلك).

ومن الروايات المكذوبة التي فيها تشويه وتزييف ومخالفة للحقيقة ماوردفي صحيح البخاري الحديث ١١٢٧ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ،قال: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبَرَهُ‏:‏

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تُصَلِّيَان؟

فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا‏.‏ فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جدلاً‏.‏

ووقع في رواية حكيم بن حكيم المذكورة ‏: ودخل النبي علي وعلى فاطمة من الليل فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هوياً من الليل فلم يسمع لنا حساً، فرجع إلينا فأيقظنا ‏

قال الطبري‏:‏ لولا ما علم النبي صلى الله عليه واله من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان يزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلقه سكناً، لكنه اختار لهما إحراز تلك الفضيلة على الدعة والسكون امتثالا لقوله تعالى ‏((وامر اهلك بالصلاة))‏

ووقع في رواية حكيم المذكورة ‏ قال علي‏:‏ فجلست وأنا أعرك عيني وأنا أقول‏:‏ والله ما نصلي إلا ما كتب الله لنا، إنما أنفسنا بيد الله ‏"‏ وفيه إثبات المشيئة لله، وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله‏.‏

وهذه الرواية معلومة البطلان ومخالفة لسيرة الامام علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام في ارتباطهما بالله تعالى وعبادتهما.

عن عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء: قال: ((شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار، وقد اعتزل عن مواليه، واختفى ممن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته، وبعد عن مكانه، فقلت الحق بمنزله فإذا أنا بصوت حزين ونغم شجي، وهو يقول: ((إلهي كم من موبقة حملت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.

________________

(١) سورة البقرة ٢: ٢٠٤ وما بعدها

١١٥

إلهي إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك)).

فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغامر، ثم فرغ إلى الدعاء والبكاء، والبث والشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال: ((إلهي أفكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي)).

ثم قال :((آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لاتنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته ولا يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء)).

ثم قال :((آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى)).

قال أبو الدرداء: ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حسا، ولا حركة. فقلت:غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته، فلم يتحرك، وزويته فلم ينزو.

فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصته؟

فأخبرتها الخبر.

فقالت: ((هي والله – يا أبا الدرداء – الغشية التي تأخذه من خشية الله))

ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق، ونظر إلي وأنا أبكي فقال: مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟

فقلت: مما أراه تنزله بنفسك.

فقال: ((يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني، ودعى بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورفضني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية)).

فقال أبو الدرداء: ((فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله)).

١١٦

و عن نوف البكالى قال: بت ليلة عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يصلي الليل كله، ويخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، ويتلو القرآن، فمر بي بعد هدوء من الليل فقال: يا نوف أراقد أنت أم رامق؟

قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

قال: ((يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقرضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم )).

وعنه (عليه السلام) قال: ((ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الليل نور..))

فقال ابن الكواء: ولا ليلة الهرير!؟

قال (عليه السلام): ولا ليلة الهرير(١) .

وروى الامام الصادق عليه السلام بسنده الى الامام الحسن بن علي عليه السلام انه قال: ((رأيت أمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعة فلم تزل راكعة وساجدة حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولاتدعوا لنفسها بشيء فقلت لها: يا أماه لم لاتدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت يابني الجار ثم الدار))(١) .

وعن الحسن البصري: ((ما كان في هذه الامة أعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تورّم قدماها))(١) .

ونقل ابن بطال، عن المهلب، قال‏:‏ فيه أنه ليس للإمام أن يشدد في النوافل حيث قنع بقول علي رضي الله عنه‏:‏ ‏(( أنفسنا بيد الله ‏)) لأنه كلام صحيح في العذر عن التنفل، ولو كان فرضا ما عذره‏

وجاء في البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب الاذان بعد ذهاب الوقت عن عبد الله بن أبي قتادة قال سرنا مع النبي صلى الله عليه واله ليلة، فقال بعض القوم: لو عرَّست بنا يا رسول الله!، قال: (أخاف أن تناموا عن الصلاة)، قال: بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه واله ليلة وقد طلع حاجب الشمس، فقال:

________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٨٩.

(٢) كشف الغمة ٢ : ٤٦٨

(٣) بحار الانوار ٤٣ : ٨٤

١١٧

(يا بلال! أين ما قلت؟) قال: ما ألقيت علي نومة مثلها قط. قال: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء, يا بلال قم فأذن بالناس بالصلاة), فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابياضت قام فصلى وجاء في البخاري في كتاب التهجد :ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه واله رَجُلٌ، نام ليلة حتى اصبح ،قال: ذاك رجل بالَ الشيطان في أُذنِيه ،او قال في أذنه

اختلفوا في معناه، فقيل: هو على حقيقته، قال القاضي عياض: ولا يبعد أنْ يكون على ظاهره، قال: وخص الأذن؛ لأنها حاسة الانتباه.

وقال القرطبي وغيره: ولا مانع من ذلك؛ إذْ لا إحالة فيه؛ لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح، فلا مانع من أن يبول..

وقيل: معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل، فحجب سمعه عن الذكر.

وقال ابن قتيبة: معناه: أفسده، يقال: بال في كذا، إذا أفسده.

وقال المهلب والطحاوي وآخرون: هو استعارة وإشارة إلى انقياده للشيطان، وتحكمه فيه، وعقده على قافية رأسه: عليك ليلٌ طويل، وإذلاله

وخص الأذن، وإنْ كانت العين أنسب بالنوم، إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامعَ هي مواردُ الانتباه. وخصّ البول؛ لأنه أسهلُ مدخلاً في التجاويف، وأسرع نفوذاً في العُروق، فيُورث الكسل في جميع الأعضاء

يقول صاحب المتواري:أقول: فهل بال الشيطان في اذني النبي الأكرم حتى تثاقل عن القيام لصلاة الصبح المفروضة(١) .

فالكذب على رسول الله صلى الله عليه واله قد كثر بعد رحيله وقد ذكرالإمام علي عليه السلام أصناف نقلة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله وقسمهم إلى أربعة :

الأول : المتعمد للكذب

الثاني : المتوهم في نقل الحديث ، إلاّ أنّه غير متعمد

الثالث : القليل العلم بالناسخ والمنسوخ في الأوامر والنواهي

الرابع : الصادق الواضع للحديث في موضعه

وقال في معرض هذا التقسيم :(( إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَبَاطِلًا وَصِدْقاً وَكَذِباً وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً وَعَامّاً وَخَاصّاً وَمُحْكَماً وَمُتَشَابِهاً وَحِفْظاً وَوَهْماً وَلَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ

رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ وَلَا يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَلَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ

________________

(١) المتواري في صحيح البخاري ١ : ٢٢٢

١١٨

قَوْلِهِ وَقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ .وَرَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ فَوَهِمَ فِيهِ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ وَيَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ وَيَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ .وَآخَرُ رَابِعٌ لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى رَسُولِهِ مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَلَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ فَجَاءَ بِهِ عَلَى مَا سَمِعَهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ وَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ وَعَرَفَ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ وَالْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) الْكَلَامُ لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَكَلَامٌ عَامٌّ فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ وَلَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ وَمَا قُصِدَ بِهِ وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي‏ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَالطَّارِئُ فَيَسْأَلَهُ (عليه السلام) حَتَّى يَسْمَعُوا وَكَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ .))(١) .وقد أشار الامام علي عليه السلام الى المستقبل القريب والظاهر هو زمان معاوية الذي كثر فيه الكذب على الله ورسوله وكثر فيه التحريف والتزييف فقال عليه السلام:((سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس في ذلك الزمان شئ أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه وليس في العباد ولا في البلاد شئ هو أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر وليس فيها فاحشة أنكر ولا عقوبة أنكى من الهدى عند الضلال في ذلك الزمان فقد نبذ الكتاب حملته، وتناساه حفظته حتى تمالت بهم الاهواء وتوارثوا ذلك من الآباء وعملوا بتحريف الكتاب كذبا وتكذيبا فباعوه بالبخس وكانوا فيه من الزاهدين، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان طريدان منفيان وصاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يأويهما مؤو، فحبذا ذانك الصاحبان واها لهما ولما يعملان له ، فالكتاب وأهل الكتاب في ذلك الزمان في الناس وليسوا فيهم ومعهم وليسوا معهم وذلك لان الضلالة لا توافق الهدى وان اجتمعا، وقد اجتمع القوم على الفرقة وافترقوا عن الجماعة، قد ولوا أمرهم وأمر دينهم من يعمل فيهم بالمكر والمنكر والرشا والقتل كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، لم يبق عندهم من الحق إلا اسمه ولم يعرفوا من الكتاب إلا خطه وزبره ، يدخل الداخل لما يسمع من حكم القرآن فلا يطمئن جالسا حتى يخرج من الدين ينتقل من دين ملك إلى دين ملك، ومن ولاية ملك إلى ولاية ملك، ومن طاعة ملك إلى طاعة ملك، ومن عهود ملك إلى عهود ملك، فاستدرجهم الله تعالى من حيث لا يعلمون وإن كيده متين بالامل والرجاء حتى توالدوا في المعصية ودانوا بالجور والكتاب لم يضرب عن شئ منه صفحا ضلالا تائهين، قد دانوا بغير دين الله عزوجل وأدانوا لغير الله.

مساجدهم في ذلك الزمان عامرة من الضلالة، خربة من الهدى قد بدل فيها من الهدى فقراؤها وعمارها أخائب خلق الله وخليقته، من عندهم جرت الضلالة وإليهم تعود، فحضور مساجدهم والمشي إليها كفر بالله العظيم إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم فصارت مساجدهم من فعالهم على ذلك النحو خربة من الهدى عامرة من الضلالة قد بدلت سنة الله وتعديت حدوده ولا يدعون إلى الهدى ولا يقسمون الفئ ولا يوفون بذمة، يدعون القتيل منهم على ذلك شهيدا قد أتوا الله بالافتراء و الجحود واستغنوا بالجهل عن العلم ومن

________________

(١) نهج البلاغة : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ الخطبة ٢١٠

١١٩

قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة وسموا صدقهم على الله فرية وجعلوا في الحسنة العقوبة السيئة وقد بعث الله عزوجل إليكم رسولا من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم صلى الله عليه وآله وأنزل عليه كتابا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قرآنا عربيا غير ذي عوج لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين فلا يلهينكم الامل ولا يطولن عليكم الاجل، فإنما أهلك من كان قبلكم أمد أملهم وتغطية الآجال عنهم حتى نزل بهم الموعود الذي ترد عنه المعذرة وترفع عنه التوبة وتحل معه القارعة والنقمة وقد أبلغ الله عزوجل إليكم بالوعد وفصل لكم القول و علمكم السنة وشرح لكم المناهج ليزيح العلة وحث على الذكر ودل على النجاة وإنه من انتصح لله واتخذ قوله دليلا هداه للتي هي أقوم ووفقه للرشاد وسدده ويسره للحسنى، فإن جار الله آمن محفوظ وعدوه خائف مغرور، فاحترسوا من الله عزوجل بكثرة الذكر واخشوا منه بالتقى وتقربوا إليه بالطاعة فإنه قريب مجيب قال الله عزوجل: (( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب اجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ))فاستجيبوا لله وآمنوابه وعظموا الله الذي لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظم فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمة الله أن يتواضعوا له وعز الذين يعلمون ما جلال الله أن يذلوا له وسلامة الذين يعلمون ما قدره الله أن يستسلموا له، فلا ينكرون أنفسهم بعد حد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى، فلا تنفروا من الحق نفار الصحيح من الاجرب والبارئ من ذي السقم.واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ولم تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهدى، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي تعدى، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله وعلى رسوله والتحريف لكتابه ورأيتم كيف هدى الله من هدى فلا يجهلنكم الذين لا يعلمون، إن علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله وبصربه عماه وسمع به صممه وأدرك به علم ما فات وحيي به بعد إذ مات وأثبت عند الله عز ذكره الحسنات ومحى به السيئات وأدرك به رضوانا من الله تبارك وتعالى فاطلبوا ذلك من عند أهله خاصة( فإنهم خاصة نور يستضاء به وأئمة يقتدى بهم وهو عيش العلم وموت الجهل هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه فهو بينهم شاهد صادق وصامت ناطق فهم من شأنهم شهداء بالحق ومخبر صادق لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، قد خلت لهم من الله السابقة ومضى فيهم من الله عزوجل حكم صادق وفي ذلك ذكرى للذاكرين فاعقلوا الحق إذا سمعتموه عقل رعاية ولا تعقلوه عقل رواية فإن رواة الكتاب كثير ورعاته قليل والله المستعان))(١) .في هذا النص الشريف وردت عدة حقائق مستنبطة من سيرة الحكام الذين سبقوا الامام عليه السلام وسيرة من جاء بعده وهو معاوية بن أبي سفيان ،ومن هذه الحقائق:

١- يؤكد الامام علي عليه السلام أنّ الكتاب حرف عن مواضعه وليس بالضرورة أن يكون التحريف بنقص او اضافة ايات او سور.

وفي معنى التحريف و رد عن الخليل الفراهيدي: ((والتحريف في القرآن: تغيير الكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه))(٢) .

وقال الزمخشري: ((يحرّفون الكلم عن مواضعه: أي يميلون عنها))(٣) .

وقال الشيخ الطوسي: (( يحرّفون الكلم عن مواضعه: يعني يغيّرونها عن تأويلها))(٤) .

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ : ١٠٤ .الخطبة رقم ١٧٤

(٢) ترتيب كتاب العين: ١٧٣، الخليل الفراهيدي، مؤسسة النشر الاسلامي، قم، ١٤١٤هـ

(٣) الكشاف ١ : ٥١٦، الزمخشري، مؤسسة أدب الحوزة، ١٤١٥هـ

(٤) التبيان ٣ : ٤٧٠.

١٢٠