سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11026
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11026 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

عن ذر بن حبيش عن علي قال : عهد إلى النبي صلّى الله عليه واله :(( لا يحبك إلا مؤمن ، ولا يبغضك إلا منافق))(١) .

وعن مساور الحميري عن أمه قالت : دخلت على أم سلمة فسمعتها تقول : قال رسول الله صلّى الله عليه واله لعلي :(( لا يبغضك مؤمن ، ولا يحبك منافق ))( ٢ ) .

وروى أحمد في الفضائل بسنده عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : بعثني النبي صلى الله عليه واله ، إلى علي بن أبي طالب فقال : ((أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، من أحبك فقد أحبني ، وحبيبك حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله ، الويل لمن أبغضك بعدي))( ٣ ) .

وعن أبي سعيد الخدري قال :(( إنما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم عليا))( ٤ ) .

وروى احمد بن حنبل في الفضائل بسنده عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أبيه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه واله ، يوم الجمعة فقال : ((يا أيها الناس ، قدموا قريشا ولا تقدموها ، وتعلموا منها ولا تعلموها ، قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم ، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم ، يا أيها الناس أوصيكم بحب ذي أقربها ، أخي وابن عمي ، علي بن أبي طالب ، فإنه لا يحبه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق ، ومن أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني عذبه الله عز وجل ))( ٥ ) .

وماتقدّم من وجود منافقين غير مشهورين بين الصحابة او من الصحابة فلا يصح شمولهم فردا فردا بالعدالة ، الا من خلال اعمالهم ومواقفهم وممارساتهم ، وكذلك معرفتهم من خلال بغضهم للامام علي عليه السلام وهو ناجم من بغضهم لمواقفه ودوره في انتصار الاسلام على الشرك والجاهلية ،فو بغض للدين وللنبوة لم يصرحوا به فتجسد ببغضهم لعلي عليه السلام.

ولو تنزلنا وتبنينا عدالة جميع الصحابة فنستثني منهم من يبغض الامام عليا عليه السلام ، وبما ان التاريخ يشهد بوجود صحابة يبغضون عليا عليه السلام ،فلا تشملهم العدالة فتكون العدالة مختصة بمن لايبغضه.

فمن يبغض عليا عليه السلام يكون ساقط العدالة سواء كان منافقا مشهورااو ليس بمنافق.

روايات اتّباع سنن السابقين

________________

( ١ ) فضائل الصحابة ٢ : ٦٥٠

( ٢ ) فضائل الصحابة ٢ : ٥٧٩

( ٣ ) فضائل الصحابة ٢ : ٦٤٢

( ٤ ) فضائل الصحابة ٢ : ٥٧٩

( ٥ ) شرح نهج البلاغة ٩ : ١٧٢

١٤١

عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلّى الله عليه واله :((لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم ؛ شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر ضبّ لأتبعتموهم)).

قلنا : يارسول الله اليهود والنصارى ؟

قال ((فمن؟))(١) .

وفي رواية قال رسول الله ‏صلّى الله عليه واله: ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ أمتي ما أخذ الأمم والقرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع)).

قالوا : يا رسول الله كما فعلت ‏ ‏فارس ‏ ‏والروم ‏ ‏قال : ((وهل الناس إلاّ أولئك))( ٢ ) .

السنّة هي الطريقة والمنهاج والسيرة والسبيل وتشمل العادات والتقاليد ، بمعنى ان الامة الاسلامية أو المسلمين سيتبعون طرق ومناهج وسيرة من قبلهم من اليهود والنصارى أو الفرس والروم وابرز السنن هي تحريف السنة النبوية في مقابل تحريف التوراة والانجيل والتخلي عن عنوان الاسلام الجامع لجميع الديانات،

وقد أخرج القرآن الكريم الديانات المحرّفة من هذا العنوان، فأصبحت اليهودية عنواناً لمن حرّف التوراة التي انزلت على موسى(عليه السلام)، وأصبحت النصرانية عنواناً لمن حرّف الانجيل الذي نزل على عيسى(عليه السلام)، وكذا الحال في بقية الديانات المحرّفة، واختص عنوان الاسلام بمجموعة المفاهيم والشرائع التي جاء بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والتي هي المرحلة الأخيرة من مراحل مسيرة الانبياء (عليهم السلام)، وقد اكدّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه الحقيقة في حواره مع اليهود.

قالو له: يا محمد، الست تزعم انّك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنّها من الله حق؟.

فأجابهم: ((بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها، وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبينوه للناس، فبرئتُ من احداثكم))(١) .

فقد حرفوا التوراة التي تدعو الى السلام والسماحة والرحمة واضافوا نصوصا تنسجم مع طبيعتهم الاجرامية وكذلك فعل بعض حكام المسلمين وخصوصا معاوية بن ابي سفيان وابنه يزيد بقتل كل من خالفهم

والنص الآتي يبيّن حقيقة الإسرائيليين، حيث يشير إلى أنّهم هاجموا قوماً مطمئنين مسالمين من أجل السيطرة على أراضيهم، كما ورد في كتاب القضاة ١٨ ص٣٣٧: ((شرع أبناء دان يبحثون عن مكان يستوطنون فيه؛ لأنّهم لم يكونوا قد ورثوا نصيبهم من الأرض... فأرسل الدانيون خمسة رجال من سبطهم... لتجسس الأرض واستكشافها... فعاد الرجال الخمسة إلى قومهم... فأجابوهم: هيا بنا نهجم على أهل لايش فأرضهم خصيبة... فأنتم عندما تقدّمون عليها ستجدون قوماً مطمئنين في أرض شاسعة، إنّ الربّ قد وهبها لكم وهي أرض خصيبة لا تفتقر إلى شيء.

فوجدوا شعبها آمناً مطمئناً مسالماً فهاجموها وقتلوا أهلها بحدّ السيف وأحرقوها )).

________________

( ١ ) مختصر صحيح البخاري : ٣٦٤ ، حديث ٣٤٥٦

( ٢ ) مسند احمد بن حنبل : الحديث ٧٩٥٧

١٤٢

وقد بلغت روح العدوان أقصاها حينما ربطت النصوص المحرّفة حرمان القوم من مدنهم من قبل الله تعالى الذي استجاب لنذر بني إسرائيل، كما ورد في كتاب العدد ٢١ ص٢٠٣.

((نذر الإسرائيليون للربّ نذراً قائلين: إن أظفرتنا بهؤلاء القوم؛ لنحرمنّ مدنهم، فاستجاب الربّ لهم، وأظفرهم بالكنعانيين فحرموه ومدنهم، فدعي اسم المكان((حرمة)).

وتمثّل اتّباع سنن السابقين بممارسات سلبية ومن أبرزها:

١ - عصيان أوامر رسول الله صلى الله عليه واله في حياته أوغيابه او رحيله كما عصى بنو اسرائيل نبي الله موسى عليه السلام، وعدم طاعة من نصّبه من الله تعالى عليهم اماما وخليفة وأميرا.

٢- قتل الأئمة والاولياء كما قتل من قبلهم الأنبياء.

٣-الاختلاف والفرقة

٤- التنافس على السلطة.

٥ - سفك دماء المخالفين

٦-الاقتتال الداخلي.

وفي هذا الموضوع نركّز على مخالفة وعصيان أوامر وارشادات رسول الله صلى الله عليه واله في حياته وبعد رحيله في قضايا اساسية ومصيرية ،وأهمها عصيانه في اقصاء الامام علي عليه السلام من منصبه خليفة على المسلمين

مخالفة رسول الله صلى الله عليه واله في حياته

خالف بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه واله في مواقف له وهم في طور التربية والتعلم وقد راعى فيها عقولهم ومستويات فهمهم وادراكهم لكي يطيب خواطرهم ، واذا صح التعبير نعبر عنها بالمخالفة المباحة المتوقفة على رضاه صلى الله عليه واله ، وهناك مخالفة غير مشروعة تنطلق من موقف متعمد ولغايات لاتخدم الرسالة الاسلامية ولا المجتمع الاسلامي

المخالفة المباحة برضاه

من صفات القائدأو الحاكم أو الزعيم الإسلامي نبيا كان أم وصي نبي أم فقيها عادلا ام مؤمنا عادلا التمتع بالعلم، والوعي، وإدراك الحقائق والأحداث والمواقف، والكفاءة في التخطيط واتخاذ القرار، والكفاءة في إدارة أُمور الناس، وهو الأعرف باتخاذ الرأي الأصوب والموقف الصحيح، ولكنّه مكلّف باحترام آراء الآخرين من أجل تطييب خاطرهم ليشعروا بأنّ القائد لا يريد الاستعلاء عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه واله يحترم آراء الآخرين لتطييب خواطرهم ولأشراكهم في اتخاذ القرار،فيسمح لهم بابداء الرأي أو الاقتراح او الاعتراض الاستفهامي.

١٤٣

فقد روي أنّ رسول الله صلى الله عليه واله توجه إلى بدر، ثم نزل في أحد المواقع، فقال له الحباب بن المنذر: ((يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ )).

قال صلى الله عليه واله: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة )).

فقال:((يا رسول الله، فإنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله... ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون )).

فقال رسول الله صلى الله عليه واله: ((لقد أشرت بالرأي ))(١) .

فقد راعى رسول الله صلى الله عليه واله الرأي المخالف لرأيه، وراعى تصورات الحباب بن المنذر الذي لم يدرك رأي رسول الله صلى الله عليه واله النابع من الوحي أو النابع من ذاته، فكلاهما وحيّ، وتسديد إلهي، كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}( ٢ ) .

وقبل غزوة الخندق بعث رسول الله صلى الله عليه واله الى قائدي غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن لا يشاركا قريش في حربه، ولكن لم تقع شهادة على ذلك ولا عزيمة صلح، فلما أراد صلى الله عليه والهأن يمضي ذلك بعث الى اثنين من قادة الأنصار واستثمارهما في ذلك، مراعاة منه لظروف الأنصار الخاصة بهم وبانتمائهم المحدود، فقال له سعد بن معاذ: (يا رسول الله، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك... وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرةً إلا قِرىً أو بيعاً، أح أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا... والله لا نعطيهم إلا السيف)، قال(ص): فأنت وذاك، فتناول الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب( ٣ ) .

فقد راعى صلى الله عليه واله خصوصية الموقف وأقرّ ما جاء في قول سعد لأنّ الثمار بالأصل هي ثمارهم وإن كان رسول الله صلى الله عليه واله هو القيّم عليهم، إلا أنّه استجاب لما أراده سعد باعتباره أحد رؤساء الأنصار وان الثمار تابعة لهم.

________________

( ١ ) السيرة النبوية ٢: ١٩٢.

( ٢ ) سورة النجم: ٣ ـ ٤.

( ٣ ) السيرة النبوية ٣: ٢٣٤.

١٤٤

فقد تقبّل الاعتراض و تنازل عن رأيه وموقفه لصالح رأي احد أصحابه ، ولكن التنازل عن الرأي له حدود وقيود، فليس دائماً يكون التنازل نافعاً، وخصوصاً إذا حدث تبدّل وتغيّر في الرأي الآخر، بحيث يؤثر على الانجازات المتوخاة منه.

فقبل معركة أحد، كان رأي رسول الله صلى الله عليه واله أن لا يخرج من المدينة، فأشارت عليه الأنصار بالخروج، فأخذ برأيهم، فلما لبس لباس الحرب، ردّت إليه الأنصار الأمر، وقالوا: (يا رسول الله صلى الله عليه واله استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلّى الله عليك).

فقال رسول الله صلى الله عليه واله: ((ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامَتِه أن يضعها حتّى يقاتل )) فخرج رسول الله صلى الله عليه واله في ألفٍ من أصحابه ))(١) .

فلم يتراجع رسول الله صلى الله عليه واله عن رأيه وموقفه؛ لأنّه يعرقل الحركة، ويميّع الخطة، ويعثّر من اتخاذ القرار الحاسم في الظرف المناسب، ويفسح المجال للتردّد والتشكيك بل حتى الخلاف، فقد احترم رسول الله صلى الله عليه واله إصرار الأنصار على عدم البقاء في المدينة أوّلاً، ولكنّه لم يتنازل عن رأيه بعد اتخاذ القرار.

المخالفة المحرّمة

المخالفة المحرّمة هي المخالفة العمدية الصادرة من روح التمرد والعصيان والتي تخلق اجواءا سلبية لامصلحة فيها للاسلام والمسلمين ولم تصدر عن حسن نيّة أو حرص على الاسلام والمسلمين فقد خالف كبار الصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حياته في كثير من المواقف، ففي صلح الحديبية واجهوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) مواجهة شديدة اللهجة واعترضوا على الصلح، بل رفضوا الانصياع لأوامره حينما أمرهم بالحلق والنحر لأنّه أوعدهم بدخول مكة فلم يتحقق الوعد، وصالح المشركين( ٢ ) .

وحينما أمَّر (صلى الله عليه وآله) أسامة بن زيد على كبار الصحابة طعنوا في إمارته فقال (صلى الله عليه وآله): ((إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة))( ٣ ) .

________________

( ١ ) السيرة النبوية ٣: ٢٣٤.

( ٢ ) السيرة النبوية لإبن هشام ٣ : ٣٣١، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٥، تاريخ الطبري ٢ : ٦٣٤ صحيح البخاري ٣ : ٢٥٧، الدر المنثور ٧ : ٥٣٠.

( ٣ ) صحيح البخاري ٥ : ١٧٩، آفة أصحاب الحديث ١٢، الكامل في التاريخ ٢ : ٣١٧.

١٤٥

فقد سبق وان طعنوا بتأمير ابيه زيد بن حارثة عليهم ، وتكرر الطعن في تأمير اسامة.

وتثاقل كثير من الصحابة عن الالتحاق به، وعصوا أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى غضب وقال: ((جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلّف عنه))(١) .

وفي رواية: ((جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة، ارسلوا بعث أسامة لعن الله من تخلّف عنه))( ٢ ) .

فلم يطيعوا أوامر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التوجه إلى الروم ومكثوا في المدينة، لأنهم كانوا ينتظرون مصيره (صلى الله عليه وآله) ولم يتوجهوا إلاّ في عهد أبي بكر( ٣ ) .

فقد اعترضوا عليه (صلى الله عليه وآله) لتأميره أسامة وتثاقلوا في الالتحاق به حتى وصل الأمر إلى أن لعن (صلى الله عليه وآله) المتخلفين، وكل ذلك في حياته، وانسحب أبو بكر وعمر وغيرهم من جيش أسامة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ...وقد طلب الصحابة من أبي بكر عزل أسامة، وبعثوا لهذه المهمة عمر بن الخطاب حيث قال له: ((فإنّ الأنصار تطلب رجلا أقدم سنّاً من أُسامة))( ٤ ) .

وفي تخلفهم عن جيش اسامة عصوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عصيانا مباشرا ، ولم يكتفوا بالعصيان بل طالبوا بعزل اسامة ليوحوا بأنهم اعرف منه ، وهذه النظرة متأصلة عند الكثير من كبار الصحابة وهي نظرة منطلقة من فساد العقيدة وعدم الانقياد للنبوة.

وفي مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحينما اشتدَّ به الوجع قال: ((إئتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً))،فتنازعوا، وقالوا: ((هجر رسول الله))، فقال: ((دعوني فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه))( ٥ ) .

________________

( ١ ) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٩; شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٢.

( ٢ ) آفة أصحاب الحديث ١٢.

( ٣ ) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٤.

( ٤ ) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٥.

( ٥ ) صحيح البخاري ٤ : ٨٥; صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٨; تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣; الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٠; تاريخ ابن الوردي ١ : ١٢٩.

١٤٦

وفي رواية: ((قالوا: ما شأنه؟ أهجر! استفهموه))، فذهبوا (يعيدون عليه) القول(١) .

وما تقدم ينصّ على أنّ بعض المجتمعين عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) اتهموه بالهجر، ولم يذكر المحدثون اسم عمر بن الخطّاب، أمّا حينما يُذكر فإنَّ كلمة (يهجر) تحذف ويعوّض عنها بكلمة (غلبه الوجع) وفيما يلي نصّ الرواية: ((لما اشتدَّ بالنبي (صلى الله عليه وآله)وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده، قال عمر: إن النبيّ (صلى الله عليه وآله)غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط)(٢) .

وفي رواية أكثر وضوحاً (... فقال عمر كلمة معناها أنَّ الوَجَعَ قد غلب على رسول الله، ثم قال: عندنا القرآن حسبُنا كتاب الله; فاختلف مَنْ في البيت واختصموا، فمِن قائل يقول: القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومِنْ قائل يقول: القول ما قال عمر، فلما أكثروا اللّغط واللغو والاختلاف، غضب رسول الله، فقال: قوموا; إنه لا ينبغي لنبيّ أن يختلف عنده هكذا)(٣) .

ويرى ابن أبي الحديد أنّ الحديث المذكور (اتفق المحدّثون كافة على روايته)(٤) .

وفي ذكر هذا الحديث لا نريد إثبات أن كلمة (الهجر) قالها عمر بن الخطّاب، بل نريد إثبات مخالفة النصّ في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والذي خالف النصّ في هذه الواقعة عمر بن الخطّاب ومعه جماعة من كبار الصحابة، حتّى انقسم الحاضرون إلى قسمين وتنازعوا، ومخالفة النصّ هنا لم تكن في قضية هامشية أو سطحية وإنّما كانت من القضايا الأساسية في حركة المسلمين التاريخية لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرن بين كتابة الكتاب وبين عدم الضلال; بمعنى أنه (صلى الله عليه وآله) أراد هدايتهم وإيصالهم إلى التكامل والسمو في هذه الوصية، ومع ذلك أحدثوا ما يؤدي إلى تخلّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن كتابة الكتاب لئلا يُساء إليه بعد وفاته بتهمة الهجر التي قد تؤدي إلى التشكيك في قضايا أساسية أخرى تمسّ العقيدة والشريعة، فمن يخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمر هام وهو الهداية وفي حياته ووجهاً لوجه، فمن الأولى أن يخالفه بعد وفاته في مسألة الخلافة من بعده، وخصوصاً إذا كان الواقع يشجّع على تلك المخالفة

________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣; تاريخ ابن الوردي ١ : ١٢٩; الكامل في التاريخ ٣ : ٣٢٠.

( ٢ ) صحيح البخاري ١ : ٣٩، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٩.

( ٣ ) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥١.

( ٤ ) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥١.

١٤٧

وكان عمر بن الخطاب يعرف نية رسول الله صلى الله عليه واله في التأكيد على خلافة علي عليه السلام ،وهذا امر واضح وقد اعترف به في حوار بينه وبين عبدالله بن عباس ، حينما سأله عمر عن علي (عليه السلام).

فقال: ياعبد الله، عليك دماءُ البُدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟.

قال ابن عباس: نعم.

قال عمر: ((أيزعم أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصَّ عليه؟)).

قال: ((نعم، وأزيدك، سألت أبي فقال: صدق.

فقال عمر: ((لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذروٌ من قول ولقد كان يربَع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربِّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً! ولو وليها لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله)أني علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم))(١) .

وفي هذا الحوار جملة من الحقائق :

الاولى: ان رسول الله صلى الله عليه واله اراد ان يكتب كتابا يؤكد فيه على خلافة علي عليه السلام.

الثانية: هناك نص بل نصوص سابقة على خلافة علي عليه السلام.

الثالثة : انّ عمر منع من كتابة الكتاب بقوله المشهور: (( حسبنا كتاب الله ))، او انه غلبه الوجع أو انه ليهجر.

الرابعة : انّ عمر يرى أنه اكثر اشفاقا او حيطة على الاسلام، وهذا انحراف عقائدي خطير وعظيم؛ لأنه انتقاص لرسول الله صلّى الله عليه واله.

الخامسة : الادعاء بأن الله تعالى أراد مااراده عمر وليس مااراده رسول الله صلّى الله عليه واله ؛هو انحراف عقائدي خطير وعظيم

السادسة : لو ان عليا عليه السلام اصبح خليفة لانتفض عليه العرب ، لادليل عليه لأن الذين انتفضوا عليه وهم عائشة وطلحة والزبير ومعاوية انما انتفضوا تحت ذريعة الطلب بدم عثمان ، وان معاوية تمرد لامتلاكه جيشا بعد تعيينه واليا عشرين عاما ، وان اغلب الانصار كانوا مع علي عليه السلام.

ولو كان الإمام هو الخليفة الأول لما تجرأ المرتدون ولما أرتد البعض، ولما منع الزكاة من منع فحاربهم أبو بكر، لأن الناس سيكونون تبعاً للسلطة وهي سلطة الامام علي عليه السلام ، فقد تبعوا أبا بكر ومن ثم عمر بن الخطاب وبعدهما عثمان لأنهم على هرم السلطة، كما تبعوا علياً في خلافته لأنه أعلى سلطة في حينها، فقد ازدادت شعبية الامام عليه السلام بعد استلام السلطة فقد وقف معه ٧٠٠ صحابي من الأنصار، في حين لم يقف معه في أيام أبي بكر وعمر سوى العشرات.

ولو ان الإمام علياً عليه السلام قد استلم زمام الأمور بعد رسول الله صلى مباشرة لأصبح الدين والخير والصلاح والعدل حاكماً على الأفكار والعواطف والممارسات، ولدخل الناس في دين الله أفواجاً بعد ان يشملهم عدل الإمام عليه السلام وبعد ان يروا فيه الحاكم والخليفة العادل والصالح، نعم قد يخرج من دين الله تعالى المستكبرون والظالمون والمنحرفون وذوو النفوس والقلوب المريضة الذين لا

________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٢٠، ٢١.

١٤٨

يريدون الصلاح والخير والاستقامة والعدل، فهؤلاء جميعاً لا يقارن عددهم بالغالبية المستضعفة والمحرومة والتي بحاجة إلى العدل وبحاجة إلى القدوة الصالحة، وبحاجة إلى من يرشدها إلى الاستقامة والصلاح.

فجميع اراء عمر ليست واقعية وجميعها مخالفة صريحة لرسول الله صلى الله عليه واله في اهم القضايا بعد النبوة وهي الامامة والخلافة

ولتعميم الفائدة للقارئ الكريم ولأثبات عدم صحة عدالة جميع الصحابة فردا فردا نتطرق الى الأدلة والشواهد والقرائن الدالة على تنصيب الامام علي عليه السلام خليفة على المسلمين ،وتعمد اقصائه ومواجهته

واقعة وحديث الغدير

من الأحاديث المتواترة التي يمكن الاستدلال بها على أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله نصَّبَ علياً(عليه السلام) للولاية و للخلافة من بعده; هو حديث الغدير، وخلاصته: عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا: ((أمر الله تعالى محمداً أن ينصب عليّاً للناس ليخبرهم بولايته، فتخوّف رسول الله أن يقولوا: حابى ابن عمِّه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه: ((يا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ...))(١) فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم))(١) .

وقد ذكر عدد كبير من المفسرين والمؤرخين أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، ولايمكننا هنا ذكر جميع المصادر فاكتفينا بعدد منها، وخصوصاً من المصادر السنيّة(١) لأنّ الشيعة مجمعون على أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام

وقد ذكرت هذه المصادر الطرق المختلفة للمفسرين، ومنهم: عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، والخدري، وعبد الله بن أبي أوفى وغيرهم. ولمزيد الاطّلاع على مصادر التفسير وطرقه يُراجع كتاب (الغدير) للأميني.

نص الحديث والواقعة

عن زيد بن أرقم أنّه قال: ((نزلنا مع رسول الله صلّى الله عليه واله بوادي يقال له: خُم فأمر بالصلاة، فصلاّها بهجير، فخطب، وضلّل على رسول الله صلّى الله عليه واله على شجرة من الشمس، فقال: ألستم تعلمون أو ألستم تشهدون أنيّ أولى بكل مؤمن من نفسه؟، قالوا: بلى: قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه))(١) .

________________

( ١ ) سورة المائدة آية: ٦٧.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ١٩٢.

(٣) أسباب نزول القرآن ٢٠٤; التفسير الكبير ٦ : ٥٣; تفسير غرائب القرآن ٢ : ٦١٦; الدر المنثور ٣ : ١١٧، عمدة القاري ١٨ : ٢٠٦; روح المعاني ٦ : ١٩٧.

١٤٩

وعن البراء بن عازب عن رسول الله صلّى الله عليه واله انّه قال: ((... ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه، قالوا: بلى، فأخذ بيد عليّ، فقال: اللهمَّ من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه...))(٢) .

وفي رواية عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال: ((أما والله، إنّي لأعرف عليّاً وما قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أشهد لقال لعليّ يوم غدير خم فأخذ بضبعه ثم قام به، ثم قال: أيّها الناس، من مولاكم؟ قالوا: الله ورسوله، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه...))(٣) .

وفي رواية الحارث بن مالك أنّه قال: ((قام رسول الله صلّى الله عليه واله فأبلغ، ثمّ قال: أيها الناس: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ثلاث مرّات، قالوا: بلى، قال: ادن يا عليّ، فرفع يده ورفع رسول الله صلّى الله عليه واله يده حتى نظرت إلى بياض إبطيه، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، حتى قالها ثلاث مرّات))(٤) .

وبعد أن تم تنصيب عليّ(عليه السلام) أمر رسول الله صلّى الله عليه واله علياً (أن يجلس بخيمة بإزاء خيمته، ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً يسلّمون عليه بِأمرة المؤمنين ثم أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يسلمنّ عليه بِأمرة المؤمنين))(٥) .

وكان من المهنئين له عمر بن الخطّاب حيث قال له: ((هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة))(٦) .

وفي رواية قال له: ((بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم...))(٧) .

________________

( ١ ) مجمع الزوائد ٩ : ١٠٤.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٥٥; الكتاب المصنّف ١٢ : ٧٩، مع تغيير يسير في: السيرة النبوية لابن كثير ٤ : ٤١٧.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٣٣٢.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٣٣٤.

(٥) إعلام الورى بأَعلام الهدى ١٣٩.

(٦) الكتاب المصنّف ١٢ : ٧٩; مسند أحمد بن حنبل ٥ : ٣٥٥; المناقب للخوارزمي ٩٤.

(٧) أسد الغاية ٣ : ٦٠٦; البداية والنهاية ٧ : ٣٥٠; تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠.

١٥٠

وفي رواية (بخ بخ لك يا عليّ بن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن)(١) .وفي رواية أنّ أبابكر وعمر قالا له: ((أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة))( ٢ ) .

وفي ذلك اليوم أنشد حسان شعراً بحقّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام):

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخم فأسمع بالرسول منادياً

وقال فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ومالك منّا في الولاية عاصيا

فقال له قم يا عليّ فانني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا( ٣ )

وبعد أن تمّ الإبلاغ بولاية علي(عليه السلام) نزلت الآية الكريمة: ((... اليَومَ يئسَ الّذين كفرُوا مِن دِينِكُمْ فلا تَخشوهُمْ واخشَونِ اليومَ أكملتُ لكُمْ دينَكُمْ وأتمَمْتُ عليكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لكم الإسلامَ دِيناً))( ٤ ) .

وقد روى نزولها بعد واقعة الغدير كثير من المفسرين والمؤرخين ذكرنا بعضاً منهم فمن مؤلفاتهم( ٥ ) وقد أجمع الشيعة على ذلك.

وبعد نزول هذه الآية قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ((الله اكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي والولاية لعليّ))( ٦ ) .

________________

( ١ ) شواهد التنزيل ١ : ١٥٨; مناقب عليّ بن أبي طالب لابن المغازلي ١٩.

(٢) الصواعق المحرقة ٦٧.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٣٣٢.

(٤) سورة المائدة الآية: ٣.

(٥) شواهد التنزيل ١ : ١٥٨; تاريخ بغداد ٨ : ٢٩٠; المناقب ٨٠; مختصر تاريخ دمشق ١٧ : ٣٥٨; فرائد السمطين ١ : ٣١٥; البداية والنهاية ٥ : ٢١٤; الدر المنثور ٣ : ١٩; روح المعاني ٦ : ١٩٧.

(٦) شواهد التنزيل ١ : ١٥٧، ١٥٨.

١٥١

وفي رواية: ((...وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي)).( ١ )

وحديث الغدير من الأحاديث المتواترة، وقد ورد في أغلب كتب المؤلفين حتى اعترف بذلك ابن حجر الهيثمي بالقول: ((إنّه حديث صحيح لامرية فيه، وقد أخرجه جماعة كالترمذي، والنسائي، وأحمد. وطرقه كثيرة جداً، ومن ثم رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد... ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعليّ لما نوزع أيام خلافته))(١) .

وقال ابن حجر العسقلاني: ((وأمّا حديث من كنت مولاه فعليّ مولاه، فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان...))( ٢ ) .

الاستدلال بالحديث على النصّ بالخلافة

إن لفظة (مولى) لا تستعمل إلاّ بمعنى الأَولى، وإنما تفيد في شيء مخصوص بحسب ما يضاف إليه، فابن العم إنما سميّ مولى لأنه يعقل عن بني عمّه ويحوز ميراثهم ويكون بذلك أولى من غيره، وكذلك الحليف والمعتق وجميع معاني المولى; يكون فيها معنى (الأَولى) موجوداً، ولا يصحّ أن يكون المراد به الحليف لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لم يكن حليفاً لأحد، ولا ابن العم; لأنه تحصيل للحاصل، ولا الناصر والمحب، لأنّ ذلك معلوم لجميع المؤمنين( ٣ ) .

وقد استدل الكراجكي بالقول: ((وقد أجمع المفسرّون على أن المراد بقوله سبحانه: (النبيّ أَولى بالمؤمنين من أنفسهم)( ٤ ) أنه أولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم، من حيث وجبت طاعته عليهم)، وقال أيضاً بعد ذكره لحديث الغدير: ((إن أراد الأول فهو ماذهبنا إليه واعتمدنا عليه، وإن أراد وجهاً غيره من أحد محتملات (مولى)، فقد خاطب الناس بخطاب يحتمل خلاف مراده، ولم يكشف لهم فيه عن قصده، ولا في العقل دليل عليه يعني عن التصريح بمعنى ما نحال إليه، وهذا لا يجيزه على رسول الله صلّى الله عليه واله إلاّ جاهل لاعقل له))( ٥ ) .

________________

( ١ ) الصواعق المحرقة ٦٤.

(٢) فتح الباري بشرح البخاري ٧ : ٦١.

(٣) الرسائل العشرة ١٣٥، ١٣٧ بتصرّف.

(٤) سورة الأحزاب آية ٦.

(٥) كنز الفوائد ٩٣.

١٥٢

وإضافة الى ذلك، فإن نزول آية البلاغ وإكمال الدين بيأس الكفّار من الكيد للإسلام يستدعي أهمية الموضوع، ولا معنى لنزول ذلك بخصوص الإخبار أوالأمر بمحبة ونصرة عليّ(عليه السلام)، فالموضوع أهم وأشمل من ذلك، وخصوصاً إنّ رسول الله صلّى الله عليه واله جمع المسلمين بالهجير وهو شدة حرّ الظهيرة، فالأمر أهم من ذلك وهو يعادل تبليغ الرسالة بأجمعها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً.

وقد وضّح أهل البيت(عليهم السلام) المراد من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): ((من كنت مولاه فعليّ مولاه)) بإجابتهم للسائلين، فقال الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام) مجيباً ابن إسحاق: ((أخبرهم أنّه الإمام بعده))(١) .

وأجاب الإمام محمد بن علي الباقر(عليه السلام) أبان بن تغلب قائلا: ((علّمهم أنّه يقوم فيهم مقامه))( ٢ ) .

ويؤيد ذلك ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه واله في فضل يوم الغدير أنّه قال: ((أفضل أعياد أُمّتي، وهو اليوم الذي أمرني الله ـ تعالى ذكره ـ بنصب أخي عليّ بن أبي طالب علماً لأُمتي يهتدون به من بعدي...))( ٣ ) .

ويؤيد ذلك ما ورد في احتجاج فاطمة الزهراء(عليها السلام) على من لا يرى إمامة وخلافة عليّ(عليه السلام) حين قالت: ((...كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء...))( ٤ ) .

وإذا جمعنا بين الأدلة والمؤيدات والشواهد وجدنا أنّ بعضها يعضد بعضاً من إنّ تنصيب عليّ(عليه السلام) للولاية في يوم غدير خم هو تنصيب للإمامة والخلافة ، وبهذا التنصيب اكتمل الإسلام ويئس الكفّار منه.

الإثبات الواقعي للنصِّ

نستعرض الأدلة والشواهد التي تنهض لإثبات النصِّ من الناحية الواقعية، بقسميه الجليّ والخفيّ.

المرتكزات الذهنية للصحابة

________________

( ١ ) الصواعق المحرقة ٦٤.

(٢) فتح الباري بشرح البخاري ٧ : ٦١.

(٣) الرسائل العشرة ١٣٥، ١٣٧ بتصرّف.

(٤) سورة الأحزاب آية ٦.

١٥٣

كان الارتكاز الثابت في أذهان كثير من الصحابة أنّ عليّاً (عليه السلام) هو القائم بالأمر بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا الارتكاز لم يكن نابعاً من الأعراف والتقاليد القبلية المتعلقة باختيار القائد أو الزعيم; فالمتعارف عليه هو اختيار القائد الأقرب نسباً والأكبر سنّاً، وهو في خصوص هذا المورد يكون منصبّاً على العباس بن عبدالمطلب عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو على عقيل بن أبي طالب ابن عمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)الذي يكبر علياً بعشر سنين، ولكن أنظار الصحابة لم تتوجه إليهما، وإنّما توجهت إلى علي (عليه السلام) وهو الأصغر سنّاً من بني هاشم، فإن دلّ ذلك على شيء إنّما يدل على أنّ الارتكاز الذهني كان نابعاً من اعتقاد راسخ على وجود نصٍّ على علي (عليه السلام) في خصوص إمامته وقيادته.

فبعد اجتماع السقيفة أخبر البراء بن عازب بني هاشم بنتائج الاجتماع فقال العباس بن عبدالمطِّلب: ((فعلوها، وربّ الكعبة))(١) .

وكان (المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي)( ٢ ) .

وفي رواية (فقالت الأنصار، أو بعض الأنصار لا نبايع إلاّ عليّاً)( ٣ ) .

وفي رواية محمد بن إسحاق قال: ((وكان عامة المهاجرين، وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)))( ٤ ) .

وعن عمر بن الخطّاب في وصفه لما جرى من أحداث قال: ((... وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها))( ٥ ) .

ولما بويع أبو بكر واستقرّ أمره (ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب وهتفوا باسمه))( ٦ ) .

________________

( ١ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

(٣) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١.

( ٥ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٠٢.

( ٦ ) الأخبار الموفقيات ٥٨٣.

١٥٤

وفي حوار بشير بن سعد الأنصاري ـ مبرراً بيعته لأبي بكر ـ قال لعلي (عليه السلام): ((... إنّك جلست في منزلك ولم تشهد هذا الأمر، فظنَّ الناسَ أن لا حاجة لك فيه، والآن قد سبقت البيعة لهذا الشيخ وأنت على رأس أمرك))(١) .

فبرّر بشير بن سعد انصراف الناس عن علي (عليه السلام) هو جلوسه في بيته، فالمرتكز الذهني كان موجوداً حتّى عند الذين تنافسوا في الخلافة كسيد الأنصار سعد بن عبادة حيث ذكر بعد السقيفة ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خلافة علي (عليه السلام) فقال له ابنه قيس: ((أنت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب، ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك: منّا أمير ومنكم أمير! لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً))( ٢ ) .

وحول ذلك أشار علي (عليه السلام) بالقول: ((أولّ من جرّأ الناس علينا سعد بن عبادة; فتح باباً ولَجهُ غيره، وأضرم ناراً كان لهبُها عليه، وضوؤها لأعدائه))( ٣ ) .

والمرتكز الذهني الدالّ على إمامة وخلافة علي (عليه السلام) ناجم من قناعة بوجود نصٍّ عليه، وليس مجرد الأحقية بالأسبقية والأعلمية وغيرها، وإن كانت هذه الأحقية واردة في أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وبعد أن استقرّ الأمر لصالح أبي بكر بقي خيرة الصحابة على تخلفهم عن بيعته، ومنهم جميع بني هاشم، وخالد بن سعيد بن العاص، والمقداد، وسلمان، وأبو ذر، وعمّار، والبراء بن عازب، وأُبيّ بن كعب( ٤ ) .

ولا يمكن تفسير هذا التخلّف مع حرصهم على مصلحة الإسلام والمسلمين، وعلى وحدة المسلمين إلاّ بقطعهم على وجود نص على خلافة علي (عليه السلام) وخلافته; يبرّر لهم تخلفهم عن بيعة أبي بكر والدعوة إلى علي (عليه السلام) حيث كان على رأس المعارضين لبيعة أبي بكر.

ولو لم يوجد نص لاكتفى علي (عليه السلام) بالمعارضة السلمية، ولكنّه كان يفكر بالمعارضة المسلحة لكنّ الظروف لم تشجعه على ذلك فكان يقول: ((... وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه))( ٥ ) .

________________

( ١ ) الفتوح ١ : ١٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ : ٣٠٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

( ٥ ) شرح نهج البلاغة ١ : ٣٠٧.

١٥٥

وفي رواية أخرى كان يقول: ((... فرأيت أنّ الصّبر على ذلك أفضلُ من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم; والنّاس حديثو عهد بالاسلام، والدين يُمْخَضُ مَخْضَ الوطب، يُفسِده أدْنى وَهن، ويعكسه أقلّ خُلْف))(١) .

وكان بعض الصحابة يؤيد المعارضة المسلحة واستخدام القوة لإعادة الخلافة إلى علي (عليه السلام)، فالموقف لا يستوجب حمل السلاح لمجرد أفضلية علي (عليه السلام) ولكنّ هنالك أمراً أعظم من الأفضلية ألا وهو النصّ، وهو وحده المبرِّر الشرعي لحمل السلاح.

اعتراف الصحابة بأحقيّة علي عليه السلام

لو تتبعنا آراء كثير من كبار الصحابة في علي (عليه السلام)، وتقييمهم لمؤهلاته ومواقفه نجدهم يعترفون بأحقيته في الخلافة، وعلى رأس الصحابة عمر بن الخطّاب، حيث كان يعترف بين الحين والآخر بهذه الأحقيّة; ومن ذلك قوله لعبدالله بن عباس: ((ما أظنّ صاحبك إلاّ مظلوماً ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلاّ أنهم استصغروه))( ٢ ) .

وقوله له أيضاً: ((أما والله إنّ صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلاّ إنّا خفناه على اثنتين خفناه على حداثة سنِّه، وحبّه بني عبدالمطَّلب))( ٣ ) .

وقال في موضع آخر: ((... والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الاُمة وذو سابقتها وذو شرفها، فقيل له: فما منعكم ياأمير المؤمنين عنه؟ فقال: ((كرهناه على حداثة السن وحبّه بني عبدالمطَّلب))( ٤ ) .

________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة ١ : ٣٠٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٨٢.

١٥٦

ويؤيد هذا الحق ما روي أنَّ الحسن بن علي (عليهما السلام) جاء إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ((انزل عن مجلس أبي))، فقال أبو بكر: ((صدقت إنّه مجلس أبيك))، وأجلسه في حجره، وبكى، فقال علي (عليه السلام): ((والله ما هذا عن أمري))(١) .

وفي أحد اللقاءات قال علي لعمر: ((أنشدك الله، هل استخلفك رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟))، فقال: ((لا))، قال: ((فكيف تصنع أنت وصاحبك؟))، قال عمر: ((أمّا صاحبي فقد مضى لسبيله، وأمّا أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك))، فقال علي: ((جدع الله أنف من ينقذك منها! لا ولكن جعلني الله علماً، فإذا قمت فمن خالفني ضلَّ))( ٢ ) .

وتظهر أحقيّة علي (عليه السلام) بالخلافة من خلال محاججة أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب لمعاوية حيث جاء فيها: ((لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمِّك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقِّك، وكنّا أهل البيت أعظم الناس في هذا البلاء، حتى قبض الله نبيّه مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، فوثبت علينا بعده تيم وعدي وأميّة، فابتزونا حقَّنا، ووليتم علينا، فكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبيِّنا، بمنزلة هارون من موسى))( ٣ ) .

ومن مصاديق اعتراف الصحابة بأحقيّة علي (عليه السلام) ما ورد في رسالة معاوية لمحمد بن أبي بكر حيث ذكر حقَّ علي(عليه السلام) في رأيه ورأي أبي بكر وعمر ومن ابتزَّ هذا الحق( ٤ ) .

وتحقيق القول في حقِّ علي (عليه السلام) الوارد في أقوال الصحابة إمّا أن يكون بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو حقه لورود نصٍّ عليه، أو يكون بالأفضلية لما يتمتع به من مؤهلات قيادية انفرد بها من بين سائر الصحابة.

وحق علي بسبب القرابة غير مراد من ذلك، لأن عمر يقول: ((كرهناه على حداثة السن وحبّه بني عبدالمطِّلب))، فبنو عبدالمطلب لهم الحق بسبب القربى، فلا معنى لقول عمر، وإضافة إلى ذلك فإنَّ العباس أقرب لرسول الله (صلى الله عليه وآله)من علي، فلم يذكره أحد في مقام الأحقيّة.

وأحقيّة علي إذا كانت مرادة لورود نصٍّ عليه فهذا ما يؤيد ما أردنا أن نثبته، وإذا كانت الأحقية بالأفضلية، فهذه الأفضلية قد نصَّ عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أكثر من موقف مقرونة بشروط الخلافة ، فالأحقية إذن منبعها ورود نصٍّ من رسول الله(صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام).

________________

( ١ ) تاريخ الخلفاء، للسيوطي ٦١; ونحوه في: شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ : ٥٨، عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ : ٢٦٢; تاريخ إبن الوردي ١ : ١٦٢.

(٤) وقعة صفِّين ١٢٠.

١٥٧

مطالبة الامام علي عليه السلام بحقِّه

استمرَّ الامام علي (عليه السلام) يطالب بحقِّه بالخلافة في جانبها العملي في أكثر من مشهد وموقف، وكان يعبِّر عن ذلك الحقّ بصيغ مختلفة، فقد رفض في البداية بيعة أبي بكر واستمر يدعو لنفسه،وكان يقول: ((اللهمّ إنِّي أستعينك على قريش فإنّهم قطعوا رحمي واجتمعوا على منازعتي حقّاً كنت أولى به منهم فسلبونيه))(١) .

وقال: ((إنَّ الله لما قبض نبيّه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقٍّ نحن أحقّ به من الناس كافة))( ٢ ) .

وقال (عليه السلام) ـ في ردِّه على قول القائلين: إنك على هذا الأمر لحريص ـ : ((أنتم أحرص منِّي وأبعد; أينا أحرص; أنا الذي طلبت ميراثي وحقِّي الذي جعلني الله ورسوله أولى به، وتحولون بيني وبينه ...))( ٣ ) .

وكان يقول: ((بايع الناس لأبي بكر وأنا والله أولى بالأمر منه ثم بايع النّاس عمر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق منه، فسمعت مخافة أن يرجع الناس كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف))( ٤ ) .

وعبَّر عن إقصائه عن الخلافة بالتظاهر فقال لعبدالرحمن بن عوف حينما عقد الخلافة لعثمان بن عفّان: ((ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا))( ٥ ) .

وحينما وصل إلى الخلافة كان يردّد القول بحقِّه ومن جملة ذلك قوله: ((... فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقِّي، مستأثراً عليَّ منذ قبض الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) حتّى يوم الناس هذا))( ٦ ) .

ومن جملة إظهاره لحقِّه خطبته المعروفة بالشقشقية. ((أمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابن أبي قحافه وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ

________________

( ١ ) الإمامة والسياسة ١ : ١٥٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ : ٣٠٨.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ : ٦٩.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ١٨ : ٣٩.

( ٥ ) الكامل في التاريخ ٣ : ٧١.

( ٦ ) نهج البلاغة ٥٣، الخطبة٦.

١٥٨

أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى ابن الخطاب بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَى شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنمَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ النَّاسُ

لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْة حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْاَسفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ

فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ قَسَطَ آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ تِلْكَ الدَّارُالْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَاأَخَذَ اللَّهُ عَلى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ)).

وقد ناشد الصحابة في أيام خلافته على من سمع حديث الولاية في يوم الغدير فقام جماعة فشهدوا له بذلك إلاّ ثلاثة فدعا عليهم فإستجاب الله دعوته عليهم(١) .

________________

( ١ ) مسند أحمد بن حنبل ١ : ١٩٢; السيرة النبوية لابن كثير ٤ : ٤٢٠.

١٥٩

وأوضح ما أخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقول: ((أما وربّ السماء والأرض; إنّه لعهد النبيّ الأمِّي إليّ: لتغدرنَّ بك الأمّة من بعدي))(١) .

والغدر لا يتحقق بمجرد اختيار غيره للخلافة إذا كان الأمر لا نصَّ فيه، وإنما هو إشارة إلى إنَّ الحقَّ حقّه وأنّ الأمة عالمة بذلك، وقد بايعته على الولاية والخلافة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم غدرت بالبيعة لغيره، فلا يستقيم الحديث إلاّ بهذا التفسير حتى يكون الغدر مستعملا في معناه الحقيقي.

وهكذا يتضح أن الحقّ الذي أشار إليه علي (عليه السلام) هو الحقّ المنصوص عليه، وإلاّ لما عبّر عنه بالحق المسلوب والحق المدفوع.

اعتراف الصحابة بالنصّ

النصّ على إمامة و خلافة علي (عليه السلام) لم يكن دعوة اقتصرت على أهل البيت (عليهم السلام)أو أتباعهم، وإنّما حقيقة قائمة اعترف بها كبار الصحابة اعترافاً جلياً أو خفيّاً، وقد ظهر ذلك الاعتراف في بعض المحاورات والاحتجاجات التي حدثت بعد السقيفة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وفي بداية خلافة علي (عليه السلام).

ففي حوار بين عمر وعبد الله بن عباس، قال عمر: ((أتدري ما منع قومكم منهم أي بني هاشم بعد محمد (صلى الله عليه وآله)؟... كَرِهوا أن يجمعوا لكم النبوّةَ والخلافة فَتَبجحَوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفّقت)).

قال ابن عباس: ((أمّا قولك اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفّقتْ، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأمّا قولك: إنّهم أبوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة، فإنَّ الله عزّوجلّ، وصف قوماً بالكراهة فقال: (ذلِك بأنَّهُمْ كَرِهُوا ما أنزَلَ اللهُ فأَحْبَطَ أعْمالَهُمْ)( ٢ ) .

فقال عمر: ((بلغني أنّك تقول: إنّما صرفوها حسداً وبغياً وظلماً)).

فقال ابن عباس: ((وأمّا قولك: ظلماً، فلقد تبيّن للجاهل والحليم، وأمّا قولك: حسداً، فإن آدم حُسِدَ ونحن ولده المحسودون))( ٣ ) .

________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٥.

( ٢ ) سورة محمد آية: ٩.

( ٣ ) الكامل في التاريخ ٣ : ٦٣، ٦٤.

١٦٠