سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11034
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11034 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

وفي رواية، قال ابن عباس: ((وأمّا قولك: فإن قريشاً اختارت، فإنّ الله تعالى يقول: (وربُّكَ يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ ما كان لهم الخيرة)(١) ، وقد علمتَ ياأمير المؤمنين أنّ الله اختار مِن خلقه لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوُفِّقت وأصابت))( ٢ ) .

وفي هذا الحوار يصرّح عبد الله بن عباس بأن الله تعالى اختار رجلا من بني هاشم للخلافة ، وأنه لا حقَّ لقريش أن تختار غير ما اختاره الله تعالى لهم.

وفي حوار آخر بينهما سأل عمر عن علي (عليه السلام) فقال: ياعبد الله، عليك دماءُ البُدن إن كتمتنيها! هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قال ابن عباس: نعم، قال عمر: ((أيزعم أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصَّ عليه؟)) قال: ((نعم، وأزيدك، سألت أبي فقال: صدق، فقال عمر: ((لقد كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره ذروٌ من قول ولقد كان يربَع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام، لا وربِّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً! ولو وليها لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله)أني علمت ما في نفسه، فأمسك، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم))( ٣ ) .

ففي هذا الحوار يتضح أنّ ثلاثة من الصحابة أكّدوا وجود نصٍّ، وهم علي والعباس وابنه عبد الله، واعترف عمر اعترافاً ضمنيّاً بالنصّ وادعى أنّه منع الرسولَ (صلى الله عليه وآله) من التصريح باسم علي.

وفي حوار آخر قال عثمان بن عفّان لعبدالله بن عبّاس: ((ولقد علمت أن الأمر لكم، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟))، فقال ابن عباس: ((... فإما صرف قومنا عنّا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله بيننا وبين قومنا))( ٤ ) .

________________

( ١ ) سورة القصص آية: ٦٨.

( ٢ ) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٥٣.

( ٣ ) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٢٠، ٢١.

( ٤ ) الأخبار الموفقيات ٦٠٦.

١٦١

واعترفت أم سلمة وعائشة بالنصِّ في حوار دار بينهنَّ، قالت أم سلمة لعائشة: ((وأذكّركِ أيضاً قلتِ له، وكنتِ أجرأ عليه مِنّا: مَن كنتَ يارسول الله مستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نر أحداً إلاّ علياً، فقلتِ: يارسول الله، ما أرى إلاّ علياً، فقال: هو ذاك))، فقالت عائشة: ((نعم أذكر ذلك))(١) .

وهنالك مؤيدات لتلك الأدلة يظهر من إيرادها الاعتراف بالنصّ كما في احتجاجات بعض الصحابة بعد السقيفة، نورد بعض تلك الاحتجاجات هنا; قال خالد بن سعيد بن العاص: ((إتقِّ الله ياأبا بكر، فقد علمتَ أنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يامعشر المهاجرين والأنصار، إنّي موصيكم بوصية فاحفظوها، وإنّي مودعكم أمراً فاحفظوه، ألا أنّ علي بن أبي طالب أميركم بعدي وخليفتي فيكم، بذلك أوصاني ربِّي))( ٢ ) .

وقال بريدة الأسلمي: ((ياأبا بكر أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من تسمية علي بإمرة المؤمنين))( ٣ ) .

وفي احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) قالت: ((... كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء))( ٤ ) .

وجميع ما تقدم من اعترافات واحتجاجات، إضافة إلى ما ذكرناه في البحوث المتقدمة، يدلنا على أنّ النصَّ على علي (عليه السلام) حقيقة قائمة، بقي علي وأهل البيت (عليهم السلام)يحتجّون بها حتى نُسب إليهم القول بالنصِّ في كتب الكلام للفريقين.

تقييم أحداث ونتائج شورى السقيفة

في هذا المبحث تدرس الشورى التي حدثت في السقيفة من جميع جوانبها النظرية والتطبيقية; دراسة موضوعية ابتداءً من اللقاء الأول، وبعد إعلان نتائجه، ومدى انطباق العنوان على المعنون، ومصير النظرية من الناحية التطبيقية عند من تبنّاها ووضع أُسسها وقواعدها، والبحث في ذلك يقع في نقاط:

________________

( ١ ) المعيار والموازنة ٢٩; شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١٨; الإختصاص ١١٩.

( ٢ ) الاحتجاج ١ : ١٩٠.

( ٣ ) الاحتجاج ١ : ١٩٥.

( ٤ ) الاحتجاج ١ : ٢٠٣.

١٦٢

أولا: غياب الصحابة وبني هاشم.

إنّ من العقل والحصافة أن يشارك أهل الرأي والمشورة في الوقائع المهمة والخطيرة، وخصوصاً ما يتعلق بمصير الإسلام ومصير الاُمّة الاسلامية، وأن يُقدَّم الأفضل فالأفضل في إبداء وجهات النظر، وأن لا يكون عدد المشاركين محدوداً ببعض الأشخاص، ومن البديهيات في المنهج الإسلامي أن مسألة الخلافة هي أهم المسائل وأخطرها في حركة الإسلام والاُمة الإسلامية، ولو تتبعنا واقعة السقيفة نجد أنها قد حُدِّدت بأشخاص قلائل، فمن رؤوس الأنصار شارك سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، وبشير بن سعد، أمّا من المهاجرين فلم يشارك إلاّ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح، وغاب عنها جميع الصحابة كسلمان وعمّار والمقداد وأبو ذر الغفاري، وجابر بن عبد الله، والبراء بن عازب وغاب عنها بنو هاشم جميعاً وعلى رأسهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) والعباس بن عبدالمطلب، فلم يكتمل النصاب في الكمِّ والنوع، فلو تنزّلنا وقلنا بعدم وجود نص من الله ورسوله، فالشورى بنفسها لم تكتمل شروطها المتعارف عليها عند الأمم بل عند القبائل، وفي ذلك الأمر قال علي(عليه السلام) ـ محتجاً على من تبنّى الشورى ـ :

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم***فكيف بهذا والمشيرون غيّب(١) .

فالشورى لم تتحقق شروطها من حيث عدد المتشاورين ومؤهلاتهم الذاتية.

ثانياً: الصراع القبلي وليس التشاور المنطقي

لم تتحقق أجواء الشورى وتبادل الآراء في السقيفة، فكان المشاركون مندفعين بدوافع ذاتية ونفعية غلب عليها طابع المغالبة فكانت صراعاً واضح المعالم تخلّلته جميع عوامل الصراع المتعارف من منافسة ذاتية، وحسد، وروح قبلية صرفة، واستخدام المناورة للوصول إلى السلطة.

واحداث السقيفة كما وردت : أن النبي صلى الله عليه وآله لما قبض، اجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض، فقال سعد بن عبادة لابنه قيس - أو لبعض بنيه: إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضى، ولكن تلق منى قولي فأسمعهم. فكان سعد يتكلم، ويستمع ابنه ويرفع به صوته ليسمع قومه، فكان من قوله، بعد حمد الله والثناء عليه أن قال: إن لكم سابقة إلى الدين، وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث في قومه بضع

________________

( ١ ) نهج البلاغة ٣ ـ ٥.

١٦٣

عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله، ولا يعزوا دينه، ولا يدفعوا عنه عداه، حتى أراد الله بكم خير الفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصكم بدينه، ورزقكم الايمان به وبرسوله، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقاموا لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داحضا، حتى أنجز الله لنبيكم الوعد، ودانت لأسيافكم العرب ثم توفاه الله تعالى، وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، فشدوا يديكم بهذا الامر، فإنكم أحق الناس وأولاهم به. فأجابوا جميعا: أن وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما أمرت، نوليك هذا الامر، فأنت لنا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا. ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم

فقالوا: إن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الامر من بعده؟ فقالت طائفة منهم: إذا نقول: منا أمير، ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبدا، لنا في الايواء والنصرة ما لهم في الهجرة، ولنا في كتاب الله ما لهم، فليسوا يعدون شيئا إلا ونعد مثله، وليس من رأينا الاستئثار عليهم فمنا أمير ومنهم أمير. فقال سعد بن عبادة: هذا أول الوهن. وأتى الخبر عمر، فأتى منزل رسول الله صلى الله عليه وآله، فوجد أبا بكر في الدار وعليا في جهاز رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي، فأخذ بيد عمر وقال: قم.

فقال عمر: إني عنك مشغول، فقال: إنه لا بد من قيام، فقام معه، فقال له: إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بنى ساعدة، معهم سعد بن عبادة، يدورون حوله، ويقولون: أنت المرجى، ونجلك المرجى وثم أناس من أشرافهم، وقد خشيت الفتنة، فانظر يا عمر ماذا ترى! واذكر لإخوتك من المهاجرين، واختاروا لأنفسكم، فإني أنظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله. ففزع عمر أشد الفزع، حتى أتى أبا بكر، فأخذ بيده، فقال: قم، فقال أبو بكر: أين نبرح حتى نواري رسول الله! إني عنك مشغول.

فقال عمر: لابد من قيام، وسنرجع إن شاء الله. فقام أبو بكر مع عمر، فحدثه الحديث، ففزع أبو بكر أشد الفزع، وخرجا مسرعين إلى سقيفة بنى ساعدة، وفيها رجال من أشراف الأنصار، ومعهم سعد بن عبادة وهو مريض بين أظهرهم، فأراد عمر أن يتكلم ويمهد لأبي بكر، وقال خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام، فلما نبس عمر، كفه أبو بكر وقال: على رسلك، فتلق الكلام ثم تكلم بعد كلامي بما بدا لك. فتشهد أبو بكر، ثم قال: إن الله جل ثناؤه بعث محمدا بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الاسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، وكنا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس إسلاما، والناس لنا في ذلك تبع، ونحن عشيرة

١٦٤

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب أنسابا، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوسط العرب أنسابا، ليس من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة، وأنتم أنصار الله، وأنتم نصرتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنتم وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين، وفيما كنا فيه من خير، فأنتم أحب الناس إلينا، وأكرمهم علينا، وأحق الناس بالرضا بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق الناس ألا يكون انتفاض هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبى عبيدة وعمر، فكلاهما قد رضيت لهذا الامر، وكلاهما أراه له أهلا.

فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار، ثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق الناس بهذا الامر. فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، ولا أحد أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم. ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم، ونحذر أن يغلب على هذا الامر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم، رجلا منكم بايعنا ورضينا، على أنه إذا هلك اخترنا واحدا من الأنصار، فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي، ويشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري. فقام أبو بكر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخالفوه وشاقوه، وخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والايمان به، والمواساة له، والصبر معه على شدة أذى قومه، ولم يستوحشوا لكثرة عدوهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وهم أول من آمن برسول الله، وهم أولياؤه وعترته، وأحق الناس بالامر بعده، لا ينازعهم فيه إلا ظالم. وليس أحد بعد المهاجرين فضلا وقدما في الاسلام مثلكم. فنحن الامراء وأنتم الوزراء، لا نمتاز دونكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور. فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أيديكم، إنما الناس في فيئكم وظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولا يصدر الناس إلا عن أمركم، أنتم أهل الايواء والنصرة، وإليكم كانت الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والايمان، والله ما عبد الله علانية إلا عندكم وفى بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم، ولا عرف الايمان إلا من أسيافكم، فاملكوا عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء فمنا أمير ومنهم أمير.

١٦٥

فقال عمر: هيهات! لا يجتمع سيفان في غمد، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم، وليس تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم، وأو لوا الامر منهم، لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في في سلطان محمد وميراثه، ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة

فقام الحباب، وقال: يا معشر الأنصار، لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من الامر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فأجلوهم عن بلادكم، وتولوا هذا الامر عليهم، فأنتم أولى الناس بهذا الامر، إنه دان لهذا الامر بأسيافكم من لم يكن يدين له، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، إن شئتم لنعيدنها جذعة ، والله لا يرد أحد على ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف.

فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة - وكان حاسدا له، وكان من سادة الخزرج - قام فقال: أيها الأنصار، إنا وإن كنا ذوي سابقة، فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به عوضا من الدنيا، إن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الامر، فاتقوا الله ولا تنازعوهم، ولا تخالفوهم. فقام أبو بكر، وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيهما شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا الامر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة، والصلاة أفضل الدين. ابسط يدك نبايعك. فلما بسط يده، وذهبا يبايعانه، سبقهما بشير بن سعد، فبايعه.

فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عقك عقاق، والله ما اضطرك إلى هذا الامر إلا الحسد لابن عمك. ولما رأت الأوس أن رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير - وهو رئيس الأوس - فبايع حسدا لسعد أيضا ومنافسة له أن يلي الامر، فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد وحمل سعد بن عبادة وهو مريض، فأدخل إلى منزله، فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده. وأراد عمر أن يكرهه عليها، فأشير عليه ألا يفعل، وأنه لا يبايع حتى يقتل وأنه لا يقتل حتى يقتل أهله، ولا يقتل أهله، حتى يقتل الخزرج وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها. وفسد الامر فتركوه، فكان لا يصلى بصلاتهم ولا يجمع بجماعتهم، ولا يقضى بقضائهم، ولو وجد أعوانا لضاربهم، فلم يزل كذلك حتى مات أبو بكر، ثم لقى عمر في خلافته، وهو على فرس، وعمر على بعير.

فقال له عمر: هيهات يا سعد! فقال سعد: هيهات يا عمر! فقال: أنت صاحب من أنت صاحبه؟ قال: نعم أنا ذاك، ثم قال لعمر: والله ما جاورني أحد هو أبغض إلى جوار منك، قال عمر: فإنه من كره جوار رجل انتقل عنه، فقال سعد: إني لأرجو أن أخليها

١٦٦

لك عاجلا إلى جوار من هو أحب إلى جوارا منك ومن أصحابك فلم يلبث سعد بعد ذلك إلا قليلا حتى خرج إلى الشام فمات بحوران ولم يبايع لأحد لا لأبي بكر ولا لعمر ولا لغيرهما

وكثر الناس على أبى بكر، فبايعه معظم ألمسلمين في ذلك اليوم، واجتمعت بنو هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير، وكان يعد نفسه رجلا من بني هاشم ، كان على يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت، حتى نشأ بنوه، فصرفوه عنا. واجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن، فأقبل عمر إليهم وأبو عبيدة، فقال: ما لي أراكم ملتاثين؟ قوموا فبايعوا أبا بكر، فقد بايع له الناس، وبايعه الأنصار. فقام عثمان ومن معه، وقام سعد وعبد الرحمن ومن معهما، فبايعوا أبا بكر. وذهب عمر ومعه عصابة إلى بيت فاطمة، منهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم، فقال لهم: انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه، وخرج إليهم الزبير بسيفه، فقال عمر: عليكم الكلب، فوثب عليه سلمة بن أسلم، فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، ثم انطلقوا به وبعلي ومعها بنو هاشم، وعلى يقول: أنا عبد الله وأخو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى انتهوا به إلى أبى بكر فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الامر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الامر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله، فأعطوكم المقادة، وسلموا إليكم الامارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا من الامر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع فقال له على: احلب يا عمر حلبا لك شطره! اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا! ألا والله لا أقبل قولك ولا أبايعه.

فقال له أبو بكر :فإن لم تبايعني لم أكرهك، فقال له أبو عبيدة: يا أبا الحسن، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قريش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الامر منك، وأشد احتمالا له، واضطلاعا به، فسلم له هذا الامر وارض به، فإنك إن تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الامر خليق وبه حقيق، في فضلك وقرابتك، وسابقتك وجهادك. فقال على: يا معشر المهاجرين، الله الله! لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الامر منكم. أما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية! والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى، فتزدادوا من الحق بعدا. فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك

١٦٧

الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا. وانصرف على إلى منزله، ولم يبايع، ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع.

وذكر المدائني والواقدي أن معن بن عدي اتفق هو وعويم بن ساعدة على تحريض أبى بكر وعمر على طلب الامر وصرفه عن الأنصار.

قالا: وكان معن بن عدي يشخصهما إشخاصا ويسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة، مبادرة إلى الامر قبل فواته.

قال الزبير بن بكار: فلما بويع أبو بكر، أقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان آخر النهار، افترقوا إلى منازلهم، فاجتمع قوم من الأنصار، وقوم من المهاجرين، فتعاتبوا فيما بينهم.

فقال عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنكم وإن كنتم أولى فضل ونصر وسابقة، ولكن ليس فيكم مثل أبى بكر ولا عمر ولا على ولا أبى عبيدة

فقال زيد بن أرقم: إنا لا ننكر فضل من ذكرت يا عبد الرحمن، وإن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة، ومن أمر الله رسوله أن يقرئه السلام وأن يأخذ عنه القرآن أبى ابن كعب، ومن يجئ يوم القيامة إمام العلماء معاذ بن جبل، ومن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، وإنا لنعلم أن ممن سميت من قريش من لو طلب هذا الامر لم ينازعه فيه أحد: علي بن أبي طالب.

قال الزبير: فلما كان من الغد، قام أبو بكر فخطب الناس، وقال: أيها الناس، إني وليت أمركم ولست بخيركم فإذا أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أن لي شيطانا يعتريني، فإياكم وإياي إذا غضبت، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف منكم قوى حتى أرد إليه حقه والقوى ضعيف حتى آخذ الحق منه. إنه لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع في قوم الفاحشة إلا عمهم البلاء، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، قال: غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبى بكر بغير مشورة، وغضب على والزبير، فدخلا بيت

١٦٨

فاطمة، معهما السلاح، فجاء عمر في عصابة، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن قريش، وهما من بنى عبد الأشهل، فاقتحما الدار، فصاحت فاطمة وناشدتهما الله، فأخذوا سيفيهما، فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما، فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا

وذكر ابن شهاب بن ثابت أن قيس بن شماس أخا بنى الحارث من الخزرج، كان مع الجماعة الذين دخلوا بيت فاطمة.

قال: وروى سعد بن إبراهيم أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ذلك اليوم، وأن محمد بن مسلمة كان معهم، وأنه هو الذي كسر سيف الزبير.

قال أبو بكر: وحدثني أبو زيد عمر بن شبة، عن رجاله، قال: جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين، فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم. فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر، فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسر، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا، حتى بايعوا أبا بكر

وروي عن ابي بكر الباهلي، عن إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي، قال: قال أبو بكر: يا عمر، أين خالد بن الوليد؟ قال: هو هذا، فقال: انطلقا إليهما - يعنى عليا والزبير - فأتياني بهما، فانطلقا، فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ قال: أعددته لأبايع عليا، قال: وكان في البيت ناس كثير، منهم المقداد بن الأسود وجمهور الهاشميين، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره، ثم أخذ بيد الزبير، فأقامه ثم دفعه فأخرجه، وقال: يا خالد، دونك هذا، فأمسكه خالد - وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس، أرسلهم أبو بكر ردءا لهما

واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال، ورأت فاطمة ما صنع عمر، فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت إلى باب حجرتها ونادت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله! والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله(١) .

واستعان أبو بكر وعمر بقبيلة أسلم لتثبيت السلطة وكان عمر يقول: ((ما هو إلاّ أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر))(٢) .

________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة ٦ : ٥ – ٦٦.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٢٢، ونحوه في: الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣١.

١٦٩

وقال عمر ـ واصفاً للأحداث ـ : ((إن عليّاً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلّفت عنّا الأنصار بأسرها))(١) .

ولامَ الأنصار بعضهم بعضاً ((وذكروا عليّاً وهتفوا باسمه))(٢) .

وهدّد عمر المتخلفين والرافضين لبيعة أبي بكر وهم في بيت فاطمة بأن يحرق البيت عليهم(٣) .

فالشورى المدّعاة لم تكن تامة لما جرى فيها من أحداث ومواقف صاخبة وتهديد بالقتل، وإن استندت الشورى إلى رأي أهل الحل والعقد فإن ((عامة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أنّ علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)))(٤) .

اعتراف أبي بكر وعمر بفقدان الشورى

الشورى لم تتحقق في الواقع، وقد اعترف المشاركون في واقعة السقيفة بذلك، فقد خاطب أبو بكر الرافضين لبيعته بالقول: ((إنَّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرّها))(٥) .

وقد كثر الكلام في التعبير عنها بالفلتة حتى قام عمر خطيباً في عهده وقال: ((فلا يغرّن امرؤ أن يقول: إنَّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلاّ أن الله قد وقى شرها))(٦) .

وأضاف في رواية أخرى :((فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايعَ رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرّة يجب أن يقتلا))(٧) .

فقد اعترف بفقدان الشورى وأمر بقتل كل من بايع دون مشورة، وقرن ذلك بالسقيفة، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، كما جاء في قوله.

________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٥.

(٢) الأخبار الموفقيات ٥٨٣.

(٣) الامامة والسياسة ١ : ١٢، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢.

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١.

(٥) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٧.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٩٠، السيرة النبوية لإبن هشام ٤ : ٣٠٨، ٣٠٩، تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٥، شرح نهج البلاغة ٢ : ٢٣.

(٧) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٣١، ونحوه في: شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٦.

١٧٠

وقال ابن أبي الحديد: ((وقد أكثر الناس في حديث الفلتة; وذكرها شيوخنا المتكلمون، فقال شيخنا أبو علي: الفلتة: ما وقع فجأة من غير رويَّة ولا مشاورة))(١) .

والاعتراف بفقدان الشورى يسدل الستار على النظرية من الأساس لأنّ الواقع الذي استوحت النظرية معالمها منه كان مضطرباً لاثبات له فلا يصح استنباط النظرية منه في مقابل ما تظافر من وجود نصٍّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله)على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلم تقع الشورى وإنّما كانت صراعاً صاخباً وتكالباً على الوصول إلى مقام الخلافة بأيِّ وسيلة كانت.

ثالثاً: عدم اختيار الأفضل

الخلافة من حقِّ الأفضل والأصلح، وهذه حقيقة يحكم بها الشرع والعقل السليم، وقد اعتاد العقلاء منذ القدم على اختيار أفضلهم وأصلحهم ليكون قائداً وزعيماً لهم، وفي تقييمنا لما حدث في السقيفة نقول: إنّ الاجتماع الذي حدث في السقيفة لم يراعِ الأفضلية في الاختيار، فاختير أبو بكر على أساس أنه (صاحب رسول الله، وثاني اثنين إذ هما في الغار)(٢) .

وفي رواية غير متواترة أنّه ((خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الصلاة))(٣) .

وتلك الاُمور الثلاثة لا تستوجب الأفضلية، فإذا كانت الصحبة دليلا على الأفضلية فإنّ عليّاً (عليه السلام) صحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) منذ صغره وقد تواترت الأحاديث النازلة في حقّه والتي ينصّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها على أعلمية علي وأفضليته في القضاء، والقدرة على الخلافة ، وأنه الأعدل والأقوى على دين الله، والصدِّيق الأكبر، والفاروق بين الحقِّ والباطل، ورافق علي رسول الله(صلى الله عليه وآله)في جميع المواقف والأحداث، وكان آخر المسلمين عهداً به حيث كان معه في مرضه. وقبل وفاته جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسارّه ويناجيه ثم قبض من يومه ذلك(٤) .

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٦.

(٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢١٠.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣٠.

(٤) الكتاب المصنّف ١٢ : ٥٨.

١٧١

والأفضلية المدّعاة لأبي بكر لم يدّعيها هو لنفسه واعترف بعدمها لا اعتراف تواضع، وإنما اعتراف حقيقة فقال: ((... فإني وليتكم ولست بخيركم ...))(١) ، وقد وردت بألفاظ مختلفة في مصادرها المذكورة

وقد احتجّ علي (عليه السلام)بملاكات الأفضلية الاُخرى; فقال: ((أنا أحقُّ بهذا الأمر منكم، لا أُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله) وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار))(٢) .

فاحتجّ بالقرابة لأنّها كانت مقياساً للتفاضل بين أبي بكر وعمر وبين الأنصار، واحتجّ أيضاً بالأفضلية في الصفات القيادية فقال: ((... فوالله يامعشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحقُّ بهذا الأمر منكم; ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعيّة، المدافع عنهم الاُمور السيئة، القاسم بينهم بالسويّة، والله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحقِّ بعداً))(٣) .

والأفضلية في اختيار الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو في عصر الغيبة أجمع عليها علماء الشيعة، أما علماء السنّة فبعضهم تابع علماء الشيعة في ذلك(٤) ، والبعض الآخر لم يشترط الأفضلية ومنهم التفتازاني وعلل ذلك بالقول: ((الأفضلية أمر خفي قلّما يطلّع عليه أهل الحل والعقد، وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر))(٥) .

________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٤ : ١٤٣، الامامة والسياسة ١ : ١٦، تاريخ الطبري ٣ : ٢١٠، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٣٢، شرح نهج البلاغة ٢ : ٥٦، تاريخ الخلفاء للسيوطي ٥٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ : ١١.

(٣) الإمامة والسياسة ١ : ١٢، ونحوه في: الفتوح ١ : ١٣.

(٤) الأحكام السلطانية للماوردي٧، الأحكام السلطانية للفرّاء ٢٤، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ٤٧٤.

(٥) شرح المقاصد ٥ : ٢٤٧.

١٧٢

وكلامه صحيح ومنه نستدل على وجود النّصِّ لأنّ الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) هما المطلعان على الأمر الخفي، وهما اللذان يحدّدان الأفضل في الخلافة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أمّا في عصر الغيبة فيحدّد الأفضل عن طريق العلم الظاهري.

ولو تتبعنا بعض مؤلفات السنّة لوجدنا أنّهم يقدّمون أبا بكر وعمر وعثمان على علي (عليه السلام)لأنّهم تقدّموا عليه بالخلافة، فهم يشترطون الأفضلية في اختيار الخليفة، وفي هذا الصدد قال ابن عرفة المعروف بنفطويه: ((إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أُمية; تقرباً إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أُنوف بني هاشم))(١) .

وكتب معاوية إلى ولاته: ((أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنَّ هذا أحبّ إليّ وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته))(٢) .

وقال أبو الحسن المدايني: ((... فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة حتى انتقلت إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان; فقبلوها ورووها، وهم يظنّون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها، ولا تديّنوا بها))(٣) .

وعلى كل حال فانّ أصحاب السقيفة لم يراعوا الأفضلية الواقعية، وعدم المراعاة خلاف الشورى المراد منها اختيار الأفضل والأصلح للقيام بأعباء الرسالة وخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الاشكالات على اراء وسيرة عمر بن الخطاب

خطب عمر فقال: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ارتجعت ذلك منها فقامت إليه امرأة فقالت والله ما جعل الله ذلك لك انه تعالى يقول: ((وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا)).

فقال عمر الا تعجبون من امام أخطأ وامرأة أصابت ناضلت إمامكم فنضلته

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٤، ٤٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٥، ٤٦.

١٧٣

كان يعس ليله فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب وتسور فرأى رجلا عند امرأة وزق خمر فقال يا عدو الله ا ظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال: الله تعالى: (ولا تجسسوا) وقد تجسست، وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها) وقد تسورت وقال: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا) وما سلمت. فقال: هل عندك من خير ان عفوت عنك؟ قال: نعم، والله لا أعود، فقال: اذهب فقد عفوت عنك

وخطب عمر، فقال: أيها الناس، إنما كنا نعرفكم والنبي صلى الله عليه وآله بين أظهرنا، إذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم، الا وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انطلق، والوحي قد انقطع وإنما نعرفكم بما يبدو منكم. من أظهر خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه من أظهر شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه.

وخرج عمر يوما إلى المسجد، وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ حتى انتهى إلى قوله: (وفاكهة وأبا) فقال: ما الأب؟ ثم قال: ان هذا لهو التكلف! وما عليك يا بن الخطاب الا تدرى ما الأب.

وخرج للحج فسمع غناء راكب يغنى وهو محرم، فقيل: يا أمير المؤمنين، ألا تنهاه عن الغناء وهو محرم فقال: دعوه فإن الغناء زاد الراكب.

وروى سعيد بن المسيب، أن عمر لما صدر من الحج في الشهر الذي قتل فيه، كوم كومة من بطحاء، وألقى عليها طرف ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء، وقال اللهم كبرت سنى، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد فرضت لكم الفرائض وسننت لكم السنن، وتركتكم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا إياكم أن تنتهوا عن آية الرجم وأن يقول قائل: لا نجد ذلك حدا في كتاب الله فقد رأيت رسول الله رجم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول الناس: إن ابن الخطاب أحدث آية في كتاب الله لكتبتها، ولقد كنا نقرؤها (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن

وروى عن ابن عباس أيضا، قال: دخلت على عمر يوما، فقال: يا بن العباس لقد، أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته، رياء. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك - يعنى عليا - قلت: وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين؟ قال يرشح نفسه بين الناس للخلافة، قلت: وما يصنع بالترشيح! قد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرفت عنه. قال: إنه كان شابا حدثا فاستصغرت

١٧٤

العرب سنه، وقد كمل الان، ألم تعلم أن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا بعد الأربعين! قلت يا أمير المؤمنين، أما أهل الحجى والنهى فإنهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الاسلام، ولكنهم يعدونه محروما مجدودا، فقال: أما إنه سيليها بعد هياط ومياط ، ثم تزل فيها قدمه ولا يقضى منها أربه، ولتكونن شاهدا ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين وتعلم العرب صحة رأى المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء فليتني أراكم بعدي يا عبد الله! إن الحرص محرمة، وإن دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا.

وعن ابن عباس، قال: تبرم عمر بالخلافة في آخر أيامه، وخاف العجز، وضجر من سياسة الرعية، فكان لا يزال يدعو الله بأن يتوفاه، فقال لكعب الأحبار يوما وانا عنده: إني قد أحببت أن أعهد إلى من يقوم بهذا الامر وأظن وفاتي قد دنت، فما تقول في علي؟ أشر على في رأيك وأذكرني ما تجدونه عندكم، فإنكم تزعمون أن أمرنا هذا مسطور في كتبكم، فقال: أما من طريق الرأي فإنه لا يصلح، إنه رجل متين الدين، لا يغضي على عورة ولا يحلم عن زلة ولا يعمل باجتهاد رأيه وليس هذا من سياسة الرعية في شئ وأما ما نجده في كتبنا فنجده لا يلي الامر ولا ولده، وإن وليه كان هرج شديد، قال: كيف ذاك؟ قال: لأنه أراق الدماء، فحرمه الله الملك. إن داود لما أراد أن يبنى حيطان بيت المقدس أوحى الله إليه إنك لا تبنيه لأنك أرقت الدماء وإنما يبنيه سليمان، فقال عمر: أليس بحق أراقها؟ ، قال كعب: وداود بحق أراقها يا أمير المؤمنين، قال: فإلى من يفضي الامر تجدونه عندكم؟ قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه، إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه، وحاربهم على الدين. فاسترجع عمر مرارا، وقال أتستمع يا بن عباس! أما والله لقد سمعت من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول: ليصعدن بنو أمية على منبري، ولقد أريتهم في منامي ينزون عليه نزو القردة " وفيهم أنزل : ((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) ).

وروى الزبير بن بكار في (الموفقيات) ما يناسب هذا عن المغيرة بن شعبة قال: قال لي عمر يوما: يا مغيرة هل أبصرت بهذه عينك العوراء منذ أصيبت؟ قلت: لا، قال: أما والله ليعورن بنو أمية الاسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدرى أين يذهب ولا أين يجئ؟ قلت: ثم ما ذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم يبعث الله تعالى بعد مائه وأربعين أو بعد مائة وثلاثين وفدا كوفد الملوك طيبة ريحهم يعيدون إلى الاسلام بصره وشتاته. قلت: من هم يا أمير المؤمنين قال: حجازي وعراقي، وقليلا ما كان، وقليلا ما دام

وروى أبو سعيد الخدري قال: حججنا مع عمر أول حجة حجها في خلافته، فلما دخل المسجد الحرام، دنا من الحجر الأسود فقبله واستلمه، وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله قبلك واستلمك لما قبلتك ولا

١٧٥

استلمتك، فقال له: على بلى يا أمير المؤمنين إنه ليضر وينفع ولو علمت تأويل ذلك من كتاب الله لعلمت أن الذي أقول لك كما أقول قال: الله تعالى : ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى))

فلما أشهدهم وأقروا له أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق ثم ألقمه هذا الحجر وإن له لعينين ولسانا وشفتين تشهد لمن وافاه بالموافاة فهو أمين الله عز وجل في هذا المكان.

فقال عمر: لا أبقاني الله بأرض لست بها يا أبا الحسن. قلت قد وجدنا في الآثار والاخبار في سيرة عمر أشياء تناسب قوله في هذا الحجر الأسود كما أمر بقطع الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وآله تحتها بيعه الرضوان في عمرة الحديبية لان المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله كانوا يأتونها فيقيلون تحتها، فلما تكرر ذلك أوعدهم عمر فيها ثم أمر بها فقطعت. وروى المغيرة بن سويد قال: خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ((ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)) و ((لإيلاف قريش)) فلما فرغ رأى الناس يبادرون إلى مسجد هناك، فقال: ما بالهم؟ قالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم والناس يبادرون إليه فناداهم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم! اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له صلاة في هذا المسجد فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض.

وجاء رجل إلى عمر فقال: إن ضبيعا التميمي لقينا يا أمير المؤمنين فجعل يسألنا عن تفسير حروف من القرآن فقال: اللهم أمكني منه فبينا عمر يوما جالس يغدى الناس إذ جاءه الضبيع وعليه ثياب وعمامة فتقدم فأكل حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا).

قال: ويحك أنت هو! فقام إليه فحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فإذا له ضفيرتان، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ثم أمر به فجعل في بيت، ثم كان يخرجه كل يوم فيضربه مائة فإذا برأ أخرجه فضربه مائة أخرى ثم حمله على قتب وسيره إلى البصرة وكتب إلى أبى موسى يأمره أن يحرم على الناس مجالسته وأن يقوم في الناس خطيبا ثم يقول إن ضبيعا قد ابتغى العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه وعند الناس حتى هلك وقد كان من قبل سيد قومه. وقال عمر: على المنبر الا إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فأفتوا بآرائهم فضلوا وأضلوا ألا إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع إنه ما ضل متمسك بالأثر

١٧٦

وإنه عطل حد الله في المغيرة بن شعبة لما شهد عليه بالزنا ولقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة اتباعا لهواه فلما فعل ذلك عاد إلى الشهود فحدهم وضربهم فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح الثلاثة مع تعطيله لحكم الله ووضعه في غير موضعه. أجاب قاضى القضاة فقال: إنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة وبإرادة الرابع لئلا يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل بالشهادة. وقال إن قوله (أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين) يجرى في أنه سائغ صحيح مجرى ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه أتى بسارق فقال: (لا تقر).

فلا يمتنع من عمر ألا يحب أن تكمل الشهادة وينبه الشاهد على ألا يشهد وقال: إنه جلد الثلاثة من حيث صاروا قذفه وإنه ليس حالهم - وقد شهدوا - كحال من لم تتكامل الشهادة عليه لان الحيلة في إزالة الحد عنه - ولما تتكامل الشهادة عليه - ممكنة بتلقين وتنبيه غيره ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة فلذلك حدهم.،وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة لأنه يتصور بأنه زان ويحكم بذلك وليس كذلك حال الشهود لأنهم لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة. وحكى عن أبي على إن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد أنك زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد عنهم ما أمكن في المغيرة. وحكى عن أبي على في جواب اعتراضه عن نفسه بما روى عن عمر إنه كان رآه يقول لقد خفت أن يرميني الله عز وجل بحجارة من السماء إن هذا الخبر غير صحيح ولو كان حقا لكان تأويله التخويف وإظهار قوة الظن لصدق القوم الذين شهدوا عليه ليكون ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يحب ألا يفتضح لما كان متوليا للبصرة من قبله. ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة وهل يقتضى الفسق أم لا؟ فان قال: لا نعلم أنه كان يتمم الشهادة: ولو علمنا ذلك لكان حيث ثبت في الشرع أن له السكوت لا يكون طعنا ولو كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لأمير المؤمنين عليه السلام لما ولاه فارس ولما ائتمنه على أموال الناس ودمائهم.

اعترض المرتضى فقال: إنما نسب إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم الثابت وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة لان زيادا ما حضر إلا ليشهد بما شهد به أصحابه وقد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم ولو لم يكن هذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون هل حاله في ذلك الحكم كحالهم لكنه أحجم في الشهادة لما رأى كراهية متولي الامر لكمالها وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها. ومن العجائب أن يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى ثلاثة فإن كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة

١٧٧

فدرؤه عن ثلاثة أولى من درئه عن واحد!. وقوله إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة - وقد شهدوا - غير ممكن طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع عن الشهادة لاندفع الحد عن الثلاثة وكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره!. وقوله: إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة غير صحيح لان الحكم في الامرين واحد لان الثلاثة إذا حدوا يظن بهم الكذب وإن جوز أن يكونوا صادقين والمغيرة لو تكاملت الشهادة عليه بالزنا لظن به ذلك مع التجويز لان يكون الشهود كذبة وليس في أحد إلا ما في الاخر. وما روى عنه عليه السلام من أنه أتى بسارق فقال له: (لا تقر) إن كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه لأنه ليس في دفع الحد عن السارق إيقاع غيره في المكروه. وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه.

و روى عن عمر من قوله (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى فكيف إذ فسد! لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول ولأنه يوهم مساواة الرسول صلى الله عليه وآله في الأمر والنهي وأن اتباعه أولى من اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله. أجاب قاضى القضاة، فقال: إنه إنما عنى بقوله: (وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) كراهته لذلك وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عنهما بعد أن كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما وتغير الحكم لأنا نعلم أنه كان متبعا للرسول متدينا بالاسلام فلا يجوز أن نحمل قوله على خلاف ما تواتر من حاله

اعترض المرتضى هذا الكلام ، فقال: ظاهر الخبر المروى عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل لأنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) فأضاف النهى إلى نفسه ولو كان الرسول نهى عنهما لأضاف النهى إليه، فكان آكد وأولى فكان يقول: فنهى عنهما أو نسخهما وأنا من بعده أنهى عنهما وأعاقب عليهما.

وروي إنه أبدع في الدين ما لا يجوز كالتراويح، وما عمله في الخراج الذي وضعه على السواد وفي ترتيب الجزية وكل ذلك مخالف للقرآن والسنة، لأنه تعالى جعل الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف القرآن، وكذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا، فخالف في ذلك السنة وأن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات، فخالف السنة.

وروى: أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد، فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع، فقال: بدعة فنعمت البدعة! فاعترف كما ترى بأنها بدعة، وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله أن كل بدعة ضلالة. وقد روى أن أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلى بهم نافلة شهر رمضان، زجرهم وعرفهم أن ذلك

١٧٨

خلاف السنة فتركوه واجتمعوا لأنفسهم وقدموا بعضهم فبعث إليهم ابنه الحسن عليه السلام فدخل عليهم المسجد ومعه الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا وا عمراه(١) .

الاشكالات على اراء وسياسة عثمان بن عفان

لاشكال الاول :إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك ولا يؤتمن عليه، ومن ظهر منه الفسق والفساد، ومن لا علم عنده، مراعاة منه لحرمة القرابة، وعدولا عن مراعاة حرمة الدين والنظر للمسلمين، حتى ظهر ذلك منه وتكرر، وقد كان عمر حذره من ذلك، حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه، وقال له: إذا وليت هذا الامر فلا تسلط بنى أبى معيط على رقاب الناس. فوقع منه ما حذره إياه، وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب، وذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة ، وتقليده إياه حتى ظهر منه شرب الخم... واستعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة، وتوليته عبد الله بن أبي سرح وعبد الله بن عامر بن كريز ، حتى روى عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر وصرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر، كاتبه بأن يستمر على ولايته، فأبطن خلاف ما أظهر، فعل من غرضه خلاف الدين. ويقال: إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر وغيره ممن يرد عليه، وظفر بذلك الكتاب، ولذلك عظم التظلم من بعد، وكثر الجمع، وكان سبب الحصار والقتل، حتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه وعلى أموره ما قتل بسببه، وذلك ظاهر لا يمكن دفعه وظنه

الاشكال الثاني :كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله طرده، وامتنع أبو بكر من رده، فصار بذلك مخالفا للسنة ولسيرة من تقدمه،مدعيا على رسول الله صلى الله عليه وآله، عاملا بدعواه من غير بينة.

اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا، فقال: أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وآله أذن في رد الحكم فشئ لم يسمع إلا من قاضى القضاة، ولايدرى من أين نقله، ولا في أي كتاب وجده! والذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك،

وروى الواقدي من طرق مختلفة وغيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح،أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وقال: لا تساكني في بلد أبدا، فجاءه عثمان فكلمه فأبى، ثم كان من أبى بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم – يعنون الحكم ومن معه - وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم، وإنا نذكرك الله والاسلام ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة قبلك، ولم يطمع أحد أن يكلمها فيهم، وهذا شئ نخاف الله فيه عليك. فقال عثمان: إن قرابتهم منى ما تعلمون، وقدكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم، وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم، ولم يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم. فقال علي عليه السلام: لا أجد شرا منه ولا منهم، ثم قال: هل تعلم عمر يقول: والله ليحملن بنى أبى معيط على رقاب الناس! والله إن فعل ليقتلنه، فقال عثمان: ما كان منكم أحد ليكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله،وفي الناس من هو شر منه.

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٢٠٢ – ٢٤٦

١٧٩

فغضب علي عليه السلام، وقال: والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت، وستری يا عثمان غب ما تفعل! ثم خرجوا من عنده.

الاشكال الثالث:أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين، نحو ما روى أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، وأعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية، ويروى خمس إفريقية، وغير ذلك، وهذا بخلاف سيرة من تقدمه في

القسمة على الناس بقدر الاستحقاق، وإيثار الأباعد على الأقارب.

وفي رد ذلك قال قاضى القضاة: وجوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار، كثير المال، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله، وإذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة.

وقد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى: إن الذي روى من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته، إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار، إنما هو من ماله، ولا رواية صح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال، ولو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم

من بيت المال ليرد عوضه من ماله، لان للامام عند الحاجة أن يفعل ذلك، كما له أن يقرض غيره.

وقال شيخنا أبو علي أيضا: إن ما روى من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان، ليس بمحفوظ ولا منقول على وجه يجب قبوله، وإنما يرويه من يقصد التشنيع.

وقد قال الشيخ أبو الحسين الخياط: إن ابن أبي سرح لما غزا البحر، ومعه مروان في الجيش، ففتح الله عليهم، وغنموا غنيمة عظيمة، اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف، وأعطاه أكثرها، ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح، وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش، فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال، وللامام فعل مثل ذلك، ترغيبا في مثل هذه الأمور.

قال: وهذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته، ولم يبرأ أحد منه فيها، فلاوجه للتعلق بذلك.

وذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم، فلا يمتنع مثله في الامام إذا رآه صلاحا. وذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية، أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها، ويعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها وعمارتها،ويؤدى عنها ما يجب من الحق، فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به، وله أيضا أن

يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح والتألف، وطريق ذلك الاجتهاد.

اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام، فقال: أما قوله: يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله، فالرواية بخلاف ذلك، وقدصرح الرجل بأنه كان يعطى من بيت المال صلة لرحمه، ولما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر، ولا قال: إن هذه العطايا من مالي، فلا اعتراض لأحد فيها.

وروى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة،قال: سمعت عثمان يقول: إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما

وذوي أرحامهما، وإني تأولت فيه صلة رحمي.

وروى عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد، مولى الحارث بن كلدة الثقفي،وقد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة، فجعل عثمان يقسمه بين ولده وأهله بالصحاف، فبكى زياد، فقال: لا تبك، فإن عمر كان يمنع أهله وذوي قرابته ابتغاء وجه الله، وأنا أعطى أهلي وولدي وقرابتي ابتغاء وجه الله.

وروى الواقدي أيضا بإسناده، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص.

وروى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.

وروى أبو مخنف والواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف، وكلمه على والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن في ذلك، فقال: إن له قرابة ورحما.

قالوا: فما كان لأبي بكر وعمر قرابة وذوو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي، قالوا: فهديهما - والله - أحب إلينا من هديك.

وروى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، قدم على عثمان من مكة، ومعه ناس، فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف، ولكل واحد من القوم بمائة ألف وصك بذلك على عبد الله بن الأرقم - وكان خازن بيت المال - فاستكثره ورد الصك به. ويقال: إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا، فأبى وامتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم، فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا،

١٨٠