سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 10991
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 10991 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

فقال: لا انزع قميصاً ألبسنيه الله, ولكنّي أتوب وأنزع.

قالوا: ولكنّا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى.

ثمّ تدّخل الامام علي عليه السلام ، فكتب عثمان كتاباً على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه.

فكف الناس عنه، فجعل يتأهب سراً للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جنداً ، فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئاً ثار به الناس بعد عودتهم وطلبوا منه عزل عماله، فقال:((إن كنت مستعملاً من أردتم وعازلاً من كرهتم فلست في شيء والأمر أمركم)).

فقالوا: والله لتفعلنّ أو لتخلعنّ أو لتقتلنّ، فأبى عليهم، وقال:((لا انزع سربالاً سربلنيه الله))، فحصروه وإشتدّ الحصار عليه.. فكانت مدّة الحصار أربعين يوماً(١) .

وبقي عثمان مصراً على آرائه ومواقفه إلى أن أوصلته إلى هذه النهاية المأساوية.

رمى كثير بن الصلت الكندي احدهم بسهم فقتله، فقالوا لعثمان: ادفع إلينا قاتله لنقتله به.

قال: لم أكن اقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي، فكانت النتيجة قتل عثمان( ٢ ) .

وكان المفروض ان يجيب عثمان المعارضين بالقول بانّه سيسلم لهم القاتل ليحاكموه حسب الدستور، ولكن لا أدري بماذا أفسر موقفه هذا وهو محاصر وهو قريب من القتل المؤكد الوقوع، وهذا ما كان يتوقعه عثمان.

كتب عثمان إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه، فتوجه اليه في اثنى عشر الفاً، ثم قال: كونوا بمكانكم في اوائل الشام، فأتى عثمان فقال: قدمت لأعرف رأيك وأعود اليهم فأجيئك بهم.

قال عثمان: لا والله، ولكنك أردت أن أقتل فتقول: أنا وليّ الثأر ، إرجع فجئني بالناس.

________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ١٠٦ ، الكامل في التاريخ ٣ : ١٧٠ ـ ١٧٢.

( ٢ ) الكامل في التاريخ ٣ : ١٧٥.

٢٠١

فرجع فلم يعد اليه حتى قتل(١) .

فحوصر عثمان من قبل المسلحين أربعين يوماً ثم قتلوه، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه واله منهم من حرَّض على المعارضة له ، وعلى رأسهم عائشة وحفصة وعمّار بن ياسر وعبدالله بن مسعود وطلحة والزبير وعمرو بن العاص. ومنهم من حاصره ولم يقدم على قتله. ومنهم من اشترك في قتله أيضاً كعبدالرحمن بن عديس، وكان أمير القادمين لقتله، وهو ممّن بايع رسول الله صلّى الله عليه واله تحت الشجرة( ٢ ) ومنهم من كان هواه في قتل عثمان، كمعاوية بن أبي سفيان( ٣ ) ليتخذ قتله ذريعة للوصول إلى الخلافة، حيثُ تربّص به وأقرّ الجيش الذي بعثه لنصرته( ٤ )

معركة الجمل

اتخذ البعض مقتل عثمان بن عفان ذريعة للتمرد على خلافة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام سواء من قبل المحرضين على عثمان أو من المتربصين بقتله، في ظرف مضطرب لا استقرار فيه، وبدلاً من انتظار استقامة الظروف وهدوء الأوضاع الصاخبة، خرج بعض الصحابة، وأحدثوا فتنة بين المسلمين متمردين فيها على الخلافة الشرعية

فالطلب بدم عثمان ذريعة غير مشروعة وغير منطقية، استثمرها هؤلاء للتمرد على حكومة الإمام علي عليه السلام، وهذا حال جميع الطامعين بالسلطة أو الراغبين في الحصول على امتيازات قد يحرمون منها في ظل عدالة الحكومة القائمة.

فبعد مقتل عثمان اصبح الإمام علي عليه السلام الخليفة المتصدي لقيادة الحكومة والدولة، وهو مفترض الطاعة على رأي الشيعة لأنّه منصّب من قبل الله تعالى ومن قبل رسول الله صلّى الله عليه واله، وهو الخليفة المنتخب من أهل الحل والعقد القاطنين في عاصمة الدولة الإسلامية وهي المدينة؛ على رأي السنة، ولذا فان تصريحاته هي الفيصل وهي الدستور، وهي تصريحات منسجمة مع الوقائع والأحداث التي شهدها المسلمون، وقد صرح حول دور المطالبين بدم عثمان في التحريض عليه أو خذلانه.

________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥.

( ٢ ) الكامل في التأريخ ٣ : ٢٨٧ وتاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٥٥

( ٣ ) تاريخ المدينة المنورة ٤ : ١١٥٣

( ٤ ) الكامل في التاريخ ٣ : ١٧٠

٢٠٢

قال عليه السلام:((وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه ودماً هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه فانّ لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولّوه دوني، فما التبعة الاّ عندهم..))(١) .

وحول موقف طلحة قال عليه السلام:

((والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلاّ خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنّته، ولم يكن في القوم احرص عليه منه، فأراد أن يغالوا بما اجلب فيه ليتلبس الأمر ويقع الشك.

ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالماـ كما كان يزعم ـ لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذّرين فيه، ولئن كان في شك من الخصلتين، لقد كان ينبغي له ان يعتزله ويركد جانباً، ويدع الناس معه، فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره))( ٢ ) .

التحالف ضمن المصالح المشتركة

من خلال الشواهد والتصريحات الواقعية التي لا تقبل التأويل نستنتج ان المطالبة بدم عثمان لم تكن إلاّ مبرراً لشرعنة التمرّد، فقد كان موقفاً مع سبق الإصرار، وبعد إلقاء الحجة، وكان المطالبون بدمه يعون الحقيقة الا أنهم تناسوها أو ان رغباتهم أقنعتهم بأحقيتهم، أو أنهم أرادوا التنصل عن التحريض عليه لكي لا يطالبون بدمه من قبل ذويه أو من قبل القضاء.

قال كعب بن سور إلى طلحة والزبير:((إن يكن عثمان قتل ظالماً، فما لكما وله؟ وإن كان قتل مظلوماً فغيركما أولى به، وان كان أمره أشكل على من شهده، فهو على من غاب عنه أشكل))( ٣ ) .

كتب المنذر بن ربيعة إلى طلحة والزبير:((إنما اوجب حقّ عثمان اليوم حقه أمس وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم وبدا لكم هذا الرأي))( ٤ ) .

وقال أبو الأسود الدؤلي لطلحة:((إن كان قتل عثمان صواباً فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه

________________

(١) نهج البلاغة: ٦٣.

( ٢ ) نهج البلاغة: ٢٤٩.

( ٣ ) الامامة والسياسة ١: ٦١.

( ٤ ) الامامة والسياسة ١: ٦١.

٢٠٣

الأوفى))(١) .

وروي إن عائشة لما بلغها قتل عثمان قالت:((أبعده الله قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله... إن احقّ الناس بهذا الأمر ذو الإصبع)).

فلما جاءت الأخبار ببيعة علي عليه السلام قالت: تعسوا تعسوا، لا يردّون الأمر في تيم ابداً)).

وكتب طلحة والزبير إليها: أن خذّلي الناس عن بيعة عليّ وأظهري الطلب بدم عثمان، فلما قرأت الكتاب أظهرت الطلب بدم عثمان( ٢ ) .

وسألت عائشة عبيد بن أبي سلمة عن الأخبار فأجابها بأن الناس اجتمعوا على بيعة علي.

فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه.

فقال لها: والله ان أول من أمال حرفه لانت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

قالت: أنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.

والظاهر أن دور هؤلاء في التحريض على عثمان كان من المسلّمات عند أغلب الناس بما فيهم أتباعه، ففي رواية لقي سعيد بن العاص بن الحكم ومعه جماعة، فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، أقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم.

فقالوا: نسير فلعلّنا نقتل قتلة عثمان جميعاً( ٣ ) .

ولما تضعضع أهل الجمل قال مروان: لا أطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم، فرماه بسهم فقطع عرقاً في ذراعه فجعل الدم يسيل، فانتهى إلى احد دور البصرة فنزلها ومات بها( ٤ ) .

________________

(١) الإمامة والسياسة ١: ٦٤.

( ٢ ) شرح نهج البلاغة ٦: ٣٥٤.

( ٣ ) الكامل في التاريخ ٣: ٢٠٩، تاريخ الطبري ٤: ١٥٧.

( ٤ ) شرح نهج البلاغة ٩: ٨٦.

٢٠٤

فمروان كان مع عائشة وطلحة والزبير متمرداً على الإمام عليّ عليه السلام تحت ذريعة المطالبة بدم عثمان ولكنّه تحين الفرصة فقتل طلحة، واعترف في وقت متأخر ببرائة الإمام عليه السلام من دم عثمان، وهذا هو الظاهر من حديثه مع الإمام زين العابدين عليه السلام، حيث قال له:((ما كان احد اكف عن صاحبنا من صاحبكم)).

فقال له الإمام عليه السلام:((فَلِمَ تشتمونه على المنابر؟)).

قال:((لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك))(١) .

تحالف هؤلاء المتمردون بلا وحدة هدف ولاوحدة انتماء ولكن جمعتهم المصالح الذاتية والانية،فاجتمع المختلفون والخصوم والاعداء في شعار واحد واهداف معلنة واحدة وتوحدوا في جبهة واحدة،وهذا حال جميع التمردات على الحكومات العادلة او الجائرة.

ومعركة الجمل واحدة من وقائع التاريخ قادها جمع من الشخصيات متمردين فيها على الامامة والخلافة الشرعية، ورفعوا شعاراً أو طالبوا بمطلب ليس من حقهم المطالبة به ابتداءً وبالأسلوب الذي اختاروه دون الرجوع إلى القضاء أو دون الانتظار لحين استقرار الدولة، فندم بعضهم في بداية المعركة وآخرون بعد انتهائها لأنهم لم يقدّروا النتائج، ولكن لم ينفع الندم بعد حدوث شرخ بين المسلمين كان مقدمة لشروخ أخرى.

وفي هذا الموضوع سنتطرق إلى معركة الجمل لنستلهم منها دروساً وعبراً واهمها عدم عدالة من خرج على امام زمانه، ولا نستهدف الطعن بشخصية من الشخصيات بل نتابع المسيرة حسب ما ورد في مصادر التاريخ ونعود إلى الثوابت الإسلامية في تقييم الأحداث والأشخاص لنصف كل شخص بما يستحقه من قربه وبعده عن هذه الثوابت.

كانت عائشة في مقدمة المحرضين على معارضة عثمان، فقد روى اليعقوبي أن عثمان قام يوماً ليخطب إذ دلّت عائشة قميص رسول الله صلّى الله عليه واله ونادت:((يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته)).

وكان أكثر من يؤلّب عليه طلحة والزبير وعائشة( ٢ ) .

وكانت تقول له:((يا عثمان أكلت امانتك وضيّقت رعيتك وسلطت عليهم الأشرار من أهل بيتك، لاسقاك الله الماء من فوقك

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣: ٢٢٠.

( ٢ ) تاريخ اليقعوبي ٢ : ١٧٥.

٢٠٥

وحرمك البركة من تحتك! اما والله لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك قوم ذو بصائر يذبحوك كما يذبح الجمل)).

وكانت تقول:((إقتلوا نعثلاً، قتل الله نعثلاً))(١) .

ولما خرجت تريد مكة لقيها عبد الله بن عباس، فقالت له:((انك قد أوتيت عقلاً وبياناً فإياك أن ترد الناس عن قتل هذا الطاغي عثمان، فاني اعلم انه سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر)).

ثم أنها مضت إلى مكة وتركت عثمان على ما هو فيه من ذلك الحصار والشدة( ٢ ) .

فعائشة لها حقّ تبيان وجهة نظرها المعارضة لسياسة عثمان باعتبارها كمسلمة وكزوجة رسول الله صلّى الله عليه واله ، فمن مسؤوليتها الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، والدعوة إلى إصلاح الواقع، إلاّ أنّه ليس من حقّها التحريض على قتل الحاكم لأنّه ليس من صلاحيتها ؛ لأنّ مثل هذا القرار لا يصدر من قبل أي كان، فهنالك شخصيات عديدة يمكنها بل يجب عليها التدخّل لإصلاح الواقع، وعلى رأسها الإمام عليّ عليه السلام فقد تدخل لإصلاح الواقع وكان وسيطاً بين الحاكم أو الخليفة وبين المعارضين، وكان لا يشجّع على قتله.

موقف طلحة والزبير

كان طلحة أكثر من الزبير شدّة على عثمان وتحريضاً عليه،.

قال الإمام علي عليه السلام لطلحة:(( انشدك الله ألا رددت الناس عن عثمان)).

قال:((لا والله حتى تعطيني بنو أميّة الحقّ من نفسها))( ٣ ) .

وحينما حوصر عثمان قال الإمام عليّ عليه السلام:((يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه)).

فقال طلحة:((يا أبا الحسن بعد ما مسّ الحزام الطيبين))، فانصرف الإمام علي عليه السلام حتى أتى بيت المال، وأعطى الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده، وسُرّ بذلك عثمان.

________________

(١) كتاب الفتوح ٢ : ٤٢١.

( ٢ ) المصدر السابق: ٢: ٤٢٢.

( ٣ ) الكامل في التاريخ ٣: ١٨٣.

٢٠٦

وجاء طلحة فقال لعثمان:(( يا أمير المؤمنين أردت أمراً فحال الله بيني وبينه)).

فقال عثمان:((والله ما جئت تائبا، ولكن جئت مغلوباً الله حسيبك يا طلحة))(١) .

في فترة الحصار مرّ طلحة فناجى عبد الرحمن بن عديس، فقال إبن عديس لأصحابه:((لا تتركوا احداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده)).

فقال عثمان:((هذا ما أمر به طلحة، والله إنّي لأرجوا أن يكون منها صفراً))( ٢ ) .

تصريحات الإمام علي عليه السلام

الإمام علي عليه السلام كان الخليفة المتصدي لقيادة الحكومة والدولة، وهو مفترض الطاعة على رأي الشيعة لأنّه منصّب من قبل الله تعالى ومن قبل رسول الله صلّى الله عليه واله ، وهو الخليفة المنتخب من أهل الحل والعقد القاطنين في عاصمة الدولة الإسلامية وهي المدينة؛ على رأي السنة، ولذا فان تصريحاته هي الفيصل وهي الدستور، وهي تصريحات منسجمة مع الوقائع والأحداث التي شهدها المسلمون، وقد صرح حول دور المطالبين بدم عثمان في التحريض عليه أو خذلانه.

قال عليه السلام:((وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه ودماً هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه فانّ لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولّوه دوني، فما التبعة الاّ عندهم..))( ٣ ) .

وحول موقف طلحة قال عليه السلام:

((والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلاّ خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه مظنّته، ولم يكن في القوم احرص عليه منه، فأراد أن يغالوا بما اجلب فيه ليتلبس الأمر ويقع الشك.

ووالله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفّان ظالماـ كما كان يزعم ـ لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذّرين فيه، ولئن كان في شك من الخصلتين، لقد كان ينبغي له ان يعتزله

________________

(١) المصدر السابق ٣: ١٦٧.

( ٢ ) المصدر السابق ٣: ١٧٤.

( ٣ ) نهج البلاغة: ٦٣.

٢٠٧

ويركد جانباً، ويدع الناس معه، فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه، ولم تسلم معاذيره))(١) .

شواهد وتصريحات واقعية

من خلال الشواهد والتصريحات الواقعية التي لا تقبل التأويل نستنتج ان المطالبة بدم عثمان لم تكن إلاّ مبرراً لشرعية التمرّد، فقد كان موقفاً مع سبق الإصرار، وبعد إلقاء الحجة، وكان المطالبون بدمه يعون الحقيقة الا أنهم تناسوها أو ان رغباتهم أقنعتهم بأحقيتهم، أو أنهم أرادوا التنصل عن التحريض عليه لكي لا يطالبون بدمه من قبل ذويه أو من قبل القضاء.

قال كعب بن سور إلى طلحة والزبير:((إن يكن عثمان قتل ظالماً، فما لكما وله؟ وإن كان قتل مظلوماً فغيركما أولى به، وان كان أمره أشكل على من شهده، فهو على من غاب عنه أشكل))( ٢ ) .

كتب المنذر بن ربيعة إلى طلحة والزبير:((إنما اوجب حقّ عثمان اليوم حقه أمس وقد كان بين أظهركم فخذلتموه، فمتى استنبطتم هذا العلم وبدا لكم هذا الرأي))( ٣ ) .

وقال أبو الأسود الدؤلي لطلحة:((إن كان قتل عثمان صواباً فمسيركم لماذا؟ وإن كان خطأ فحظكم منه الأوفر، ونصيبكم منه الأوفى))( ٤ ) .

وروي إن عائشة لما بلغها قتل عثمان قالت:((أبعده الله قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله... إن احقّ الناس بهذا الأمر ذو الإصبع)).

فلما جاءت الأخبار ببيعة علي عليه السلام قالت: تعسوا تعسوا، لا يردّون الأمر في تيم ابداً)).

وكتب طلحة والزبير إليها: أن خذّلي الناس عن بيعة عليّ وأظهري الطلب بدم عثمان، فلما قرأت الكتاب أظهرت الطلب بدم عثمان( ٥ ) .

________________

(١) نهج البلاغة: ٢٤٩.

( ٢ ) الامامة والسياسة ١: ٦١.

( ٣ ) الإمامة والسياسة ١: ٦١.

( ٤ ) الإمامة والسياسة ١: ٦٤.

( ٥ ) شرح نهج البلاغة ٦: ٣٥٤، ابن أبي الحديد المعتزلي المدائني

٢٠٨

وسألت عائشة عبيد بن أبي سلمة عن الأخبار فأجابها بأن الناس اجتمعوا على بيعة علي.

فقالت: ليست هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك، فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه.

فقال لها: والله ان أول من أمال حرفه لانت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر.

قالت: أنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول.

والظاهر أن دور هؤلاء في التحريض على عثمان كان من المسلّمات عند أغلب الناس بما فيهم أتباعه، ففي رواية لقي سعيد بن العاص بن الحكم ومعه جماعة، فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، أقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم.

فقالوا: نسير فلعلّنا نقتل قتلة عثمان جميعاً(١) .

ولما تضعضع أهل الجمل قال مروان: لا أطلب ثأر عثمان من طلحة بعد اليوم، فرماه بسهم فقطع عرقاً في ذراعه فجعل الدم يسيل، فانتهى إلى احد دور البصرة فنزلها ومات بها(٢) .

فمروان كان مع عائشة وطلحة والزبير متمرداً على الإمام عليّ عليه السلام تحت ذريعة المطالبة بدم عثمان ولكنّه تحين الفرصة فقتل طلحة، واعترف في وقت متأخر ببرائة الإمام عليه السلام من دم عثمان، وهذا هو الظاهر من حديثه مع الإمام زين العابدين عليه السلام، حيث قال له:((ما كان احد اكف عن صاحبنا من صاحبكم)).

فقال له الإمام عليه السلام:((فَلِمَ تشتمونه على المنابر؟)).

قال:((لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك))(٣) .

________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٢٠٩، تاريخ الطبري ٤: ١٥٧.

( ٢ ) شرح نهج البلاغة ٩: ٨٦.

( ٣ ) شرح نهج البلاغة ١٣: ٢٢٠.

٢٠٩

الحوار وإلقاء الحجة قبل المعركة

الحوار وإلقاء الحجة ضرورة شرعية وسياسية واجتماعية، لتذكير الطرف المقابل بخطأ موقفه وقراره وتذكيره بالنتائج الخطيرة له، وهو ضرورة لتوعية الأمة أو المواطنين لكي يقفوا مع الحق أو يخذلوا الباطل أو يكونوا محايدين لحين الاطلاع على حقيقة الأمر، ويجب أن يكون الحوار وإلقاء الحجة قائماً على أسس مشروعة دون كذب أو خداع أو لفّ أو دوران، وأن يستخدم الطرف الحق جميع أساليب ووسائل الحوار وإلقاء الحجة والتذكير لكي يتراجع الطرف المقابل عن قراره وموقفه، وأن يتلو الحوار حوار والحجة حجة إلى أن ينتهي أمدهما ولا يبقى لدى الطرف المصرّ على موقفه أي حجة على باطله، فيثبت على نفسه انه متمرد ليس تمرداً في أمور يسيرة أو في أوامر معينة، وإنما متمرد على الوجود الإسلامي بأكمله لما ينتج منه الفرقة والتمزق وإراقة الدماء بدون حق.

والحوار وإلقاء الحجة لا يقتصر على الحوار المباشر أو على جانب معين أو أسلوب معيّن، بل ينبغي ممارسة جميع الأساليب والوسائل الكفيلة بإعادة المتمردين إلى الاستقامة أو إنهاء التمرد والعودة إلى العقل والوجدان، والرجوع إلى الثوابت الإسلامية والعرفية.

ففي بداية الأمر بيّن الإمام عليه السلام خطأ الأسلوب الذي يريد المتمردون استخدامه، وبيّن خطورة الموقف.

أجاب الإمام علي عليه السلام طلحة والزبير حينما طالباه بالقصاص من قتلة عثمان:((إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف اصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم... إن هذا الأمر أمر جاهلية وإنّ لهؤلاء القوم مادة... ان الناس من هذا الأمر ان حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فأهدأوا عنّي وانظروا ما يأتيكم ثمّ عودوا))(١) .

فالموقف الاصوب هو الانتظار لحين هدوء الأوضاع واستقرار الحكومة ثم يأتي دور التحقيق في الموضوع، ودور القضاء الذي يعتمد على الأدلة والبراهين.

وقال جارية بن قدّامة السعدي لعائشة: يا أمّ المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح، إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنّه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت اتيتينا

________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ١٩٦، تاريخ الطبري ٤: ١٦١.

٢١٠

طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت اتيتينا مكرهة فاستعيني بالناس(١) .

وقالت أم سلمة لعائشة:((إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الأبصار، وخفض الأطراف، وجر الذيول، إن الله وضع عني وعنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجاباً قد ضربه عليك؟)) فنادى مناديها: إلا أن أم المؤمنين مقيمة فأقيموا.

وأتى طلحة والزبير وأزالاها عن رأيها(٢) .

وقال الإمام علي عليه السلام للزبير:((تذكر يوم مررت مع رسول الله صلّى الله عليه واله في بني غنم، فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلّى الله عليه واله : ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له)).

قال: ((اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً)).

وقيل إنما عاد عن القتال لما سمع ان عمّار بن ياسر مع علي عليه السلام فخاف ان يقتل عماراً، وقد قال النبي عليه السلام:((يا عمّار تقتلك الفئة الباغية))(٣) .

انسحب الزبير بعد إلقاء الحجة عليه، وكذلك انسحب طلحة، وانسحاب طلحة قد لا يتفق عليه الرواة، ولكنّي أتبنى الرواية التي تشير إلى انسحابه من المعركة بعد إلقاء الحجة عليه، لأنها تنسجم مع ماضي طلحة ومع قوة حجة الإمام عليه السلام الذي أغلق ثغرات اللبس والغموض أمامه.

نادى الإمام علي عليه السلام طلحة حين رجع الزبير: يا أبا محمد، ما الذي أخرجك؟

قال: الطلب بدم عثمان.

قال: قتل الله أولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه واله يقول:((اللهّم وال من والاه، وعاد من عاداه))،

________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٢١٣، تاريخ الطبري ٤ : ١٨٥.

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٨٠.

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٢٤٠، ٢٤١.

٢١١

وأنت أول من بايعني ثم نكث، وقد قال الله عز وجل:((فمن نكث فإنما ينكث على نفسه))(١) .

فقال: استغفر الله، ثم رجع.

فقال مروان بن الحكم: رجع الزبير ويرجع طلحة، ما أبالي رميت ها هنا أم ها هنا، فرماه فقتله(٢) .

وانسحاب الزبير وطلحة وعدم انسحاب عموم المتمردين يدل دلالة واضحة على انّهما مجرد شخصين لا تأثير لهما على الآخرين ولا على سير التمرّد، بمعنى ان المتمردين ليسوا من أتباعهما، وانّما هم جزء من مؤامرة تدار من وراء الكواليس يقودها الأمويون وجميع الحاقدين على الإمام علي عليه السلام فلو كان لهما أتباع لانسحبوا معهما تبعاً لهم وتأثراً بأفكارهم.

إلقاء الحجة من خلال الأحاديث النبوية

وردت عدة أحاديث صحيحة ومتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه واله توجه الأنظار إلى أحقية الإمام علي عليه السلام وأهل البيت عموماً، لا مجال لذكرها ومنها:((حديث الثقلين)) و((حديث سفينة النجاة))، و((حديث علي مع الحق)) و((حديث عليّ مع القرآن))و((حديث قتال الناكثين والقاسطين والمارقين)).

وأقوى الحجج حديث ماء الحوأب، وهو حديث لا نقاش فيه، ولا تأويل ولا لبس ولا غموض.

قال العرني صاحب جمل عائشة:((طرقنا ماء الحوأب فنبحتنا كلابها، قالوا: أي ماء هذا؟ قلت: ماء الحوأب، فصرخت عائشة بأعلى صوتها، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طروقا، ردّوني، تقول ذلك ثلاثاً، فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك، وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد، فجاءها ابن الزبير ، فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله عليّ بن أبي طالب، فارتحلوا(٣) .

وفي رواية قالت: قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه واله يقول وعنده نساؤه:((ليت شعري أيتكنّ تنبحها كلاب الحوأب)).

________________

(١) سورة الفتح: ١٠.

(٢) مروج الذهب ٢: ٢٩٣

(٣) تاريخ الطبري ٤: ١٧٨، ١٧٩.

٢١٢

فأرادت الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم انه قال: كذب من قال ان هذا الحوأب ، ولم يزل حتى مضت(١) .

وفي رواية قالت:((هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب))(١٢) .

وفي رواية المسعودي، قال الزبير : بالله ما هذا بالحوأب، لقد غلط فيما أخبرك به، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب، وشهد معهما خمسون رجلاً مما كان معهم، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام(٣) .

القدر المتقين في مصداق الرواية هو: نباح كلاب الحوأب على إحدى نساء رسول الله صلّى الله عليه واله ، وقد أخبرت بذلك ، وفي هذه الحالة يجب عليها الاحتياط، ولا ينبغي ان تؤثر عليها شهادة الشهود ، فيجب عليها الانسحاب بعد قيام الحجج الأخرى وتعاضدها مع هذه الحجة، وخصوصا، إنّ عائشة غير مكلّفة بالطلب بدم عثمان وبطريقة التمرد العسكري، والموقف الشرعي المطلوب هو إيكال الأمر إلى الإمام علي عليه السلام ليتابع قتلة عثمان ، أو إيكال الأمر إلى الصحابة من المهاجرين والأنصار.

فالتمرد على الخليفة الشرعي تمرد مع سبق الاصرار وقد القيت الحجة على المتمردين وهنا ننقل جملة من الروايات تعميما للفائدة:

روى من طرق مختلفه أن عائشة لما بلغها قتل عثمان وهي بمكة، قالت: أبعده الله! ذلك بما قدمت يداه، وما الله بظلام للعبيد.

وقد روى قيس بن أبي حازم أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان وكان مع عائشة لما بلغها قتله، فتحمل إلى المدينة، قال: فسمعها تقول في بعض الطريق: إيه ذا الإصبع! وإذا ذكرت عثمان قالت: أبعده الله! حتى أتاها خبر بيعة على، فقالت: لوددت أن هذه وقعت على هذه، ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها، ورأيتها في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها، كأنها تخاطب أحدا: قتلوا ابن عفان مظلوما! فقلت لها: يا أم المؤمنين، ألم أسمعك آنفا تقولين: أبعده الله وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه وأقبحهم فيه قولا! فقالت: لقد كان ذلك، ولكني نظرت في أمره، فرأيتهم استتابوه حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائما محرما في شهر حرام فقتلوه. قال: وروى من طرق أخرى أنها قالت لما بلغها قتله، أبعده الله! قتله ذنبه، وأقاده الله بعمله! يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان، كما سام أحمر ثمود قومه، إن أحق الناس بهذا الامر ذو الإصبع، فلما جاءت الاخبار ببيعة علي عليه السلام، قالت: تعسوا تعسوا! لا يردون الامر في تيم أبدا. كتب طلحة والزبير إلى عائشة وهي بمكة كتابا: أن خذلي الناس عن بيعة على، وأظهري الطلب بدم عثمان، وحملا الكتاب مع ابن

________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٨٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٨١.

(٣) مروج الذهب ٢: ٢٨٨.

٢١٣

أختها عبد الله بن الزبير، فلما قرأت الكتاب كاشفت وأظهرت الطلب بدم عثمان، وكانت أم سلمة رضي الله عنها بمكة في ذلك العام، فلما رأت صنع عائشة، قابلتها بنقيض ذلك، وأظهرت موالاة علي عليه السلام ونصرته(١) .

وقال أبو مخنف: جاءت عائشة إلى أم سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، فقالت لها: يا بنت أبي أمية، أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم لنا من بيتك، وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك، فقالت أم سلمة: لأمر ما قلت هذه المقالة، فقالت عائشة: إن عبد الله أخبرني أن القوم استتابوا عثمان، فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام، وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ومعي الزبير، وطلحة، فأخرجي معنا، لعل الله أن يصلح هذا الامر على أيدينا بنا، فقالت أم سلمة: إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان، وتقولين فيه أخبث القول، وما كان اسمه عندك إلا نعثلا، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله صلى الله عليه وآله، أفأذكرك؟ قالت: نعم، قالت: أتذكرين يوم أقبل عليه السلام ونحن معه، حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال، خلا بعلي يناجيه، فأطال، فأردت أن تهجمي عليهما، فنهيتك فعصيتني، فهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية، فقلت: ما شأنك؟ فقلت: إني هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلت لعلى، ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة، أيام، أفما تدعني يا بن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على، وهو غضبان محمر الوجه، فقال: ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلا وهو خارج من الايمان، فرجعت نادمة ساقطة! قالت عائشة: نعم أذكر ذلك. قالت: وأذكرك أيضا، كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تغسلين رأسه، وأنا أحيس له حيسا، وكان الحيس يعجبه، فرفع رأسه، وقال:((يا ليت شعري، أيتكن صاحبة الجمل الا ذنب، تنبحها كلاب الحوأب، فتكون ناكبة عن الصراط!))، فرفعت يدي من الحيس، فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك، ثم ضرب على ظهرك، وقال: (إياك أن تكونيها)، ثم قال: (يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء، أما أنا فقد أنذرتك)، قالت عائشة: نعم، أذكر هذا.

قالت: وإذكرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر له، وكان على يتعاهد نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخصفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل، فأخذها يومئذ يخصفها، وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر، فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحادثانه فيما أراد، ثم قالا: يا رسول الله، إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١٦ – ٢١٧

٢١٤

يستخلف علينا، ليكون لنا بعدك مفزعا؟ فقال لهما: أما إني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه، كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا، فلما خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له، وكنت أجرا عليه منا: من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟ فقال: خاصف النعل، فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا، فقلت: يا رسول الله، ما أرى إلا عليا فقال هو ذاك، فقالت عائشة: نعم، أذكر ذلك، فقالت: فأي خروج تخرجين بعد هذا؟

فقالت: إنما أخرج للاصلاح بين الناس وأرجو فيه الاجر إن شاء الله، فقالت: أنت ورأيك. فانصرفت عائشة عنها، وكتبت أم سلمة بما قالت وقيل لها إلى علي عليه السلام

وروى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل أن أم سلمة كتبت إلى علي عليه السلام من مكة: أما بعد، فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة، يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة ومعهم عبد الله بن عامر بن كريز، ويذكرون أن عثمان قتل مظلوما، وإنهم يطلبون بدمه، والله كافيهم بحوله وقوته، ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج، وأمرنا به من لزوم البيت لم أدع الخروج إليك، والنصرة لك، ولكني باعثه نحوك ابني، عدل نفسي عمر بن أبي سلمة، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا.

وروي إن أم سلمة رحمها الله، كتبت به إلى عائشة: إنك جنة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أمته، وإن الحجاب دونك لمضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكن عقيراك فلا تصحريها، لو أذكرتك قولة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرفينها لنهشت بها نهش الرقشاء المطرقة. ما كنت قائله لرسول الله صلى الله عليه وآله لو لقيك ناصة قلوص قعودك من منهل إلى منهل قد تركت عهيداه، وهتكت ستره، إن عمود الدين لا يقوم بالنساء، وصدعه لا يرأب بهن، حماديات النساء خفض الأصوات وخفر الاعراض، اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه، وأنت على ذلك.

فقالت عائشة: ما أعرفني بنصحك، وأقبلني لوعظك! وليس الامر حيث تذهبين، ما أنا بعمية عن رأيك، فإن أقم ففي غير حرج، وإن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين. وقد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه المصنف في غريب الحديث في باب أم سلمة، على ما أورده عليك، قال: لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة، أتتها أم سلمة، فقالت لها: إنك سدة بين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أمته، وحجابك مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكن عقيراك فلا تصحريها، الله من وراء هذه الأمة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعهد إليك عهدا علت علت، بل قد نهاك عن الفرطة

٢١٥

في البلاد، إن عمود الاسلام لا يثاب بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن صدع، حماديات النساء غض الأطراف وخفر الاعراض وقصر الوهازة، ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وآله عارضك بعد الفلوات، ناصة قلوصا، من منهل إلى آخر، إن بعين الله مهواك، وعلى رسوله تردين، وقد وجهت سدافته - ويروى سجافته - وتركت عهيداه. لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: ادخلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمدا صلى الله عليه وسلم هاتكة حجابا، وقد ضربه على، اجعلي حصنك بيتك، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقينه، وأنت على تلك أطوع ما تكونين لله بالرقبة، وأنصر ما تكون للدين ما حلت عنه. لو ذكرتك قولا تعرفينه لنهشت به نهش الرقشاء المطر قة

.فقالت عائشة: ما أقبلني لوعظك! وليس الامر كما تظنين، ولنعم المسير مسير فزعت فيه إلى فئتان متناجزتان - أو قالت متناحرتان - إن أقعد ففي غير حرج وإن أخرج فإلى ما لابد لي من الازدياد منه(١) .

شروط نقض البيعة وعدم الطاعة

بيعة المسلمين للإمام المعصوم عليه السلام تفيد توكيد إمامته وخلافته؛ لأنها ثابتة له بحكم التنصيب والتعيين الإلهي، وهي ثابتة أيضا عند من لا يؤمن بذلك، فبالبيعة تنعقد الخلافة للشخص المبايع له، وهذا ما كان معمولاً به من قبل أصحاب نظرية البيعة، وإذا انعقدت البيعة وجب الوفاء بها وعدم نقضها ووجب طاعة المبايع له إلا إذا انحرف عن الإسلام أو انحرف عن الشروط التي اشترطها المسلمون المبايعون.

فالحدث الذي يحدثه المبايع له وهو الحاكم والذي يخالف فيه شروط البيعة يكون شرطاً لجواز النقض، فمخالفة الشريعة موجب لنقض البيعة وعزل المبايع له، ومخالفة الشريعة موجب للفسق، والفسق يمنع من إدامة البيعة، كما ورد في آراء جمع من العلماء والفقهاء من غير الشيعة.

قال عبد القاهر البغدادي:(( وإنما يشترط فيها عدالة ظاهرة، فمتى أقام في الظاهر على موافقة الشريعة كان أمره في الإمامة

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١٧ – ٢٢٠

٢١٦

منتظماً، ومتى زاغ عن ذلك كانت الأمة عياراً عليه في العدول به من خطأ إلى صواب، أو في العدول عنه إلى غيره))(١) .

وقال الماوردي:((وإذا طرأت عليه هذه الحالة ـ أي الفسق ـ فانه يخلع من منصبه، ويخرج منه))(٢) .

وقال ابن حزم الأندلسي:((والواجب ان وقع شيء من الجور وان قل ان يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فان امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق))(٣) .

وقد تسالم جميع فقهاء السنة على أن البيعة لا يشترط فيها اتفاق جميع المسلمين، فلو عقدها جماعة لشخص تتوفر فيه الشروط أصبح خليفة على الجميع وان لم يبايعوا، فيجب على جميع الأمصار طاعته(٤) .

وعلى ضوء ذلك فان الإمام علياً عليه السلام قد أصبح خليفة بالبيعة ـ وان كان رأي الشيعة ثبوتها له بالبيعة أو عدمها ـ فواجب على طلحة والزبير طاعته، وواجب على غيرهم كعائشة ومروان وجميع أصحاب الجمل طاعته لأنه منتخب من الصحابة المتواجدين في عاصمة الدولة الإسلامية.

ولذا فهو واجب الطاعة ويحرم الخروج عليه إلا إذا احدث حدثاً ـ حاشاه الله ـ يوجب نقض بيعته، ولا يوجد دليل عند المتمردين على مخالفته للثوابت الشرعية ، وهذا ما أكدته الاحتجاجات التي احتج بها إتباعه على مخالفيه والمتمردين عليه.

تحدث رجل من عبد القيس مع طلحة والزبير مستعرضا بيعة الخلفاء من قبلهم ودون مشورة من أهل البصرة إلى ان قال:((بايعتم علياً عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو عمل بغير الحق أو أتى شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلا فما هذا؟(٥) .

________________

(١) أصول الدين: ٢٧٨.

(٢) الأحكام السلطانية: ١٧.

(٣) الفصل في الملل والاهواء والنحل ٤: ١٧٥.

(٤) الاحكام السلطانية: ٧ للماوردي، شرح المقاصد ٥: ٢٣٣ للتافتازاني، روضة الطالبين ٧: ٢٦٣ للنووي، اصول الدين: ٢٨٠ للبغدادي.

(٥) الكامل في التاريخ ٣: ٢١٧، تاريخ الطبري ٤: ١٨٩.

٢١٧

وقال عمّار بن ياسر:((... إن طلحة والزبير كانا أول من طعن وآخر من أمر، وكانا أول من بايع علياً، فلمّا أخطأهما ما أملاه نكثا بيعتهما من غير حدث))(١) .

وقال الإمام علي عليه السلام:((إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر، فهل استأثرت بمال أو بدلت حكماً))(٢) .

الاحتياط في الدماء والدعوة للسلم

الإسلام دين الرحمة والرأفة جاء لهداية الناس وإنقاذهم من جميع ألوان ومظاهر الانحراف والاضطهاد والظلم، ولذا لم يشرع القتال إلا لضرورة بعد استنفاذ جميع وسائل وسبل السلام والصلح بحيث لا يترك المتمردون فرصة له لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه من الفة ومودة وأخوة، فيكون القتال أخر الحلول للخروج من الأزمة.

وكان الإمام علي عليه السلام يتلكأ في اختيار قرار القتال لعل المتمردين يعودون إلى رشدهم للحيلولة دون إراقة دمائهم ودماء أصحاب الحق.

لما أراد الإمام عليه السلام المسير من الربذة إلى البصرة، قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال:((يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟)).

فقال:(( أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منّا وأجابونا إليه)).

قال:((فإن لم يجيبونا إليه؟)).

قال:(( ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر)).

قال:((فإن لم يرضوا؟)).

قال:((ندعهم ما تركونا)).

قال:((فإن لم يتركونا)).

________________

(١) الامامة والسياسة ١: ٦٧.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٢٣٠.

٢١٨

قال:((إمتنعنا منهم))(١) .

فالإمام عليه السلام لم يمنع المعارضة السياسية بطرح الرأي ووجهة النظر، المخالفة له أو لسياسة حكومته، وإنّما منع من إرباك الأوضاع عن طريق التمرّد العسكري لأنه يستهدف الكيان الإسلامي ووحدة الدولة ووحدة المجتمع.

وكان عليه السلام يقول: سأصبر ما لم اخف على جماعتكم، واكف ان كفّوا، وأقتصر على ما بلغني))(٢) .

وحينما خطب الإمام عليه السلام بالناس قام إليه الأعور بن بنان المنقري فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة.

فقال له:(( على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم)).

قال: فان لم يجيبونا؟

قال:((تركناهم ما تركونا)).

قال: فان لم يتركونا؟

قال:((دفعناهم عن أنفسنا))(٣) .

وقال الإمام علي عليه السلام لجماعة من أهل الكوفة لقيهم في ذي قار:((...قد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فان يرجعوا فذاك الذي نريد، وان يلجّوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح الا أثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله))(٤) .

فقد سمّاهم بالإخوان وبيّن تعامله المتسامح معهم ودعوته إلى إصلاح الأوضاع.

وأرسل الإمام عليه السلام القعقاع إلى طلحة والزبير وقال له:((الق هذين الرجلين فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الفرقة))(٥) .

________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٢٢٤، تاريخ الطبري ٤: ١٩٧.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٢٠٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٣: ٢٣٤.

(٤) الكامل في التاريخ ٣: ٢٣٢.

(٥) الكامل في التاريخ ٣: ٢٣٢.

٢١٩

وكتب الإمام علي عليه السلام إلى طلحة والزبير:((...فان كنتما بايعتماني طائعين، فارجعا وتوبا إلى الله من قريب... فارجعا ايّها الشيخان عن رأيكما، فإنّ الآن أعظم أمركما العار من قبل ان يتجمع العار والنار))(١) .

وفي خطاب للإمام عليه السلام قال:((يا أيّها الناس، املكوا أنفسكم، كفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم، واصبروا على مايأتيكم، وإياكم ان تسبقونا فانّ المخصوم غداً من خصم اليوم)).

وقال الأحنف بن قيس للإمام عليه السلام: إنّ قومنا بالبصرة يزعمون انك ان ظهرت عليهم غداً تقتل رجالهم وتسبي نساءهم.

فقال:((ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا ممن تولى وكفر، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل:{لست عليهم بمصيطر* الا من تولى وكفر }(٢) . وهم قوم مسلمون))(٣) .

ولما انهزم أهل البصرة أمر علي عليه السلام منادياً فنادى:((ألا لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور))(٤) .

ولما خرج الإمام عليه السلام من عند عائشة قال له رجل من أزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة، فغضب وقال:((مه! لا تهتكنّ ستراً ولا تدخلن داراً ولا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمنّ أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنّ النساء ضعيفات، ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهن مشركات، فكيف إذاهنّ مسلمات؟))(٥) .

مبرّرات قرار القتال

استخدم الإمام عليّ عليه السلام جميع السبل والوسائل السلمية للحيلولة دون القتال الا ان المتمردين اصرّوا عليه، وقاموا بأعمال وممارسات تستوجب ردعهم بقوة السيف، حيث اعتدوا على المسلمين دون أي مبرر شرعي.

فقد كان الجميع مصراً على التمرد والبدء بالقتال لأسباب ودوافع عديدة، ولم يكن دم عثمان الا ذريعة اخفَوْا من خلالها دوافعهم

________________

(١) نهج البلاغة: ٤٤٥، ٤٤٦.

(٢) سورة الغاشية/ ٢٢ ،٢٣.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ٢١٣.

(٤) الكامل في التارخ ٣: ٢٥٤.

(٥) الكامل في التاريخ ٣: ٢٥٧.

٢٢٠