سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11041
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11041 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

والتضليل وشراء الضمائر بأموال المسلمين وإنفاقها على جماعة خاصّة كرؤساء القبائل وقادة الجيش، فالإمام عليه السلام مقيدٌ بقيود شرعيّة حاكمة على جميع ممارساته ومواقفه. وليس هدفه البقاء في السلطة الآنيّة وإنّما هو جزء من حركة إصلاحيّة تنظر إلى الحاضر والمستقبل، لكي تبقى المفاهيم والقيم الإسلامية هي الحاكمة على أفكار المسلمين وعواطفهم وممارساتهم العمليّة على طول الحركة التاريخيّة لهم. وكان عليه السلام حريصاً على المصلحة الإسلامية الكبرى، ومصلحة كيان أهل البيت عليهم السلام وحيث وجد عليه السلام أنّه لا يستطيع بحسب الظروف القائمة أن يحسم الموقف لصالح الوجود الإسلامي، ولا يستطيع القضاء على رأس الفتنة الّتي كان يقودها الطليق معاوية، لذا أصبح أمام خيارين: إمّا الاستمرار في معركة خاسرة تؤدّي إلى إضعاف الكيان الإسلامي ككلّ أمام التحديات الخارجيّة، أو الميل إلى الصلح وحقن الدماء، والمحافظة على الوجود الإسلامي ثمّ ممارسة الإصلاح من الداخل. والخيار الأول يعني استيلاء معاوية على الحكم دون قيد أو شرط بعد مقتل الإمام الحسن عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام والخيرة من أصحابه، ومن هنا اختار عليه السلام الصلح على الاستمرار في المعركة، مقيّدا بشروط فيها مصلحة الكيان الإسلامي وكيان الموالين لأهل البيت عليهم السلام التي تضمن للشريعة بقاءها واستمرارها. فالصلح إذن جاء منسجماً مع تلك الظروف تماماً وإن حاول أنصار الطلقاء تغييب هذه الحقائق بشتى الأساليب كالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه قال بشأن الإمام الحسن عليه السلام: ((إن ابني هذا سيد ولعل الله تبارك وتعالى أن يصلح به بين فئتين من المسلمين))(١) . وهو خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً تفرّد به الحسن البصري عن أبي بكرة ولم يروه أحد غيره.

والصلح مقيّد بقيود وشروط وضعها الإمام عليه السلام تجعله في موقع القوّة دائماً ومعاوية في موقع الضعف على المدى القريب والبعيد، سواء كان معاوية يفي بالشروط أو لا، فإنّ عدم الوفاء بها يضمن للإمام عليه السلام ولكيان أهل البيت عليهم السلام نصراً على المدى البعيد لا محالة.

________________

(١) مسند أحمد ٦ : ١٧ ، صحيح البخاري ٥ : ٣٢

٢٤١

وقد تعهد معاوية إلى الإمام الحسن عليه السلام بجملة من الأمور، حيث كتب إليه: ((إنّي صالحتك على أنّ لك الأمر من بعدي.

ولك عهد الله وميثاقه وذمّته لا أبغيك غائلة ولا مكروهاً.

وعلى أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف درهم من بيت المال، وعلى أنّ لك خراج (فسا) و (دار أبجرد) تبعث إليها عمّالك، وتصنع بهما ما بدا لك)(١) .

وأمّا شروط الإمام الحسن عليه السلام فهي:

أن يعمل معاوية بكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله.

وليس لمعاوية أن يعهد لأحدٍ من بعده عهداً.

والناس آمنون حيث كانوا في العراق والشام والحجاز وتهامة، مع أمان شيعة وأصحاب علي عليه السلام على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم.

وأن لا يبغي للحسن ولا لأحد من أهل بيته غائلة سرّاً وعلانيةً، ولا يُخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق(٢) .

وأن لا يسميه الحسن عليه السلام بأمير المؤمنين وأن لا يقيم عنده شهادة، ولا يتعقب معاوية على شيعة عليّ عليه السلام شيئاً.

وأن يفرق في أولاد من قُتل مع أبيه عليه السلام يوم الجمل وصفين ألف ألف درهم(٣) .

إنّ الوعود والشروط الممضاة من قبل الطرفين، تشجع على قبول الصلح مع تلك الظروف والموازنة العسكريّة غير المتكافئة، وإلاّ فإنّ معاوية سينال السلطة إمّا بانتصاره العسكري أو بقتل الإمام عليه السلام من قبل عملائه المندسين في جيش الإمام عليه السلام، وستؤول السلطة إليه دون شروط أو قيود تقيّده أمام المسلمين. بينما أخذ الإمام عليه السلام عهوداً ومواثيق مقرونة بأَيْمانٍ مغلّظة

________________

(١) أنساب الأشراف ٣ : ٤١

(٢) أنساب الأشراف ٣ : ٤٢

(٣) بحار الأنوار ٤٤ :٢

٢٤٢

من قبل معاوية على أن يفي بها. فإن وفى بما تعهّد به، فإنّ الأمر سيعود إلى الإمام من بعده، وستكون لأتباع الإمام عليه السلام مطلق الحرّيّة في أداء دورهم الإصلاحي والتغييري. وإنّ شرط عدم تسميته بأمير المؤمنين يسلب عنه شرعيّة الخلافة وإمرة المؤمنين، ويبقى مجرّد حاكمٍ أو ملك في أنظار المسلمين.

وإذا لم يفِ معاوية بالشروط فإنّ الاُمّة ستنكشف لها حقيقة معاوية والحكم الأموي، وأنّه مجرّد طالب سلطة منذ أوّل شعار أعلنه حين مطالبته بدم عثمان، وبالتالي فإنّ الاُمّة ستشخص قادتها الحقيقيّين وهم أهل البيت عليهم السلام وستعود إلى موالاتهم في الحاضر أو في المستقبل.

ومن الصلح يمكننا ان نميّز بين الصحابي العادل والصحابي غير العادل ، فالإمام الحسن عليه السلام وان كان من أئمة أهل البيت عليهم السلام إلاّ أنّ رجال الحديث صنفوه ضمن الصحابة، ففرق بين صحابي منتخب للخلافة ولكنّه يتنازل عنها لحقن الدماء ، وبين صحابي يتمرد على الخلافة الشرعية من أجل التسلط والهيمنة.

ومن أهم نتائج الصلح انكشاف حقيقة معاوية والحكم الأموي فبعد أن استلم معاوية زمام الأمور استسلم لزهو الإنتصار، ولم يتمالك نفسه حتّى كشف عن سريرته ومكنونات أهوائه، ولم يلتفت إلى الآثار المترتّبة على هذا الكشف، فأعلن لأهل العراق عن أهدافه الحقيقيّة وهي تتلخّص في الوصول إلى قمّة السلطة، كما جاء ذلك في خطابه حين قال: ((إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم))(١) .

وهذا التصريح قد كشف عن الوجه الحقيقي لمعاوية كشفاً لا يمكن بعد ذلك التستّر عليه بتزوير الأحاديث، وتحريف الوقائع، ولا تقوّل المبرّرات الموضوعة للتستّر عليه والّتي كان منها عدالة جميع الصحابة، وغيرها من الفضائل الّتي أدلى بها الوضّاعون من رواة السلاطين كأبي هريرة وأمثاله. وانكشفت حقيقة معاوية أمام الأمويّين خصوصاً أمام عائلة عثمان، إذ قد رفع معاوية شعار الطلب بدم

________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٧٧

٢٤٣

عثمان وتمرّد على الإمامة الشرعيّة المنصوبة من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وبالبيعة من قبل أهل الحلّ والعقد ـ كما هو الرأي السائد آنذاك ـ وهو ما حصل في خلافة الإمام الحسن عليه السلام بعد أن بايعه عامّة المهاجرين والأنصار، فتخلّى معاوية عن شعاراته حين تمّ الصلح، وترك متابعة قتلة عثمان، وحينما دخل دار عثمان قالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه، وبكت، فأجابها معاوية: ((يا ابنة أخي إنّ الناس أعطونا طاعة، وأعطيناهم أماناً وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كلّ إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا ولا ندري أعلينا تكون أم لنا؟ ولأن تكوني بنت عمّ أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين))(١) .

لقد كشف معاوية عن نواياه في عدم الوفاء بالعهود والمواثيق التي قطعها على نفسه وقال: (ألا أنّ كلّ شيء أعطيته للحسن بن عليّ تحت قدميّ هاتين لا أفي به))(٢) .

وهنا انكشفت حقيقة الصراع فهو صراع بين منهجين: منهج الاستقامة الّذي يمثّله الإمام عليه السلام ومنهج الانحراف والجاهليّة الّذي يمثّله معاوية. ولم يطل الأمر فسرعان ما كشف القناع عن هدفه الحقيقي ، فبعد أن تمّ تسليم السلطة إليه بأيّام قلائل: نادى ـ وهو في المدائن ـ بأعلى صوته: ((ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممّن لم يخرج فيبايع ألا وإنّا قد أجّلنا ثلاثاً، فمن لم يبايع فلا ذمّة له ولا أمان له عندنا)(٣) .

فقد خالف معاوية أساسيات المنهج الإسلامي المتفق عليه بين عموم المسلمين وهو عدم الإكراه على البيعة، وقد قامت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسيرة أمير المؤمنين عليه السلام على ذلك، فلم يكرهوا أحداً على البيعة لأنّها اختياريّة، بينما أعلن معاوية عن طبيعته الإرهابيّة في ملاحقة ومطاردة وقتل الرافضين لبيعته. ومن ذلك مواجهة عبدالله بن جعفر له في الشام وأمام المقربين له؛

________________

(١) عيون الأخبار١ : ٦٧

(٢) مقاتل الطالبيين : ٧٧

(٣) أنساب الأشراف ٣ : ٤٧

٢٤٤

حيث خاطبه قائلاً: ((ما يجهل موضع الصفوة إلاّ أهل الجفوة، وإنّك لتعرف وشائظ قريش وصبوة غرائزها، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه، فاقصد لمنهج الحقّ، فقد طال عماك عن سبيل الرشد، وضبطك في بحور ظلمة الغيّ))(١) .

وقد كشف عليه السلام فسق وجور معاوية فقال عليه السلام ذات يوم لمعاوية: ((أما الخليفة فمن سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وعمل بطاعة الله عزّ وجلّ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أمّاً وأباً، ولكن ذلك أمرَ ملْكٍ أصابَ مَلِكاً، فتمتع به قليلاً، وكان قد انقطع عنه وضم لذته، وبقيت عليه تبعته))(٢) .

ومن موبقات معاوية التي تدل على عدم عائلته أنّه خطب بالكوفة حين دخلها، والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر، فذكر علياً عليه السلام فنال منه، ثم نال من الحسن ثم قام الحسن عليه السلام فقال: ((أيّها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمّي فاطمة وأمّك هند، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة، وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسباً، وشرّنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً، فقال طوائف من أهل المسجد: آمين)(٣) . وروى أبو الحسن المدائني قال: سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب فامتنع، فناشده أن يفعل، فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال: ((الحمد لله الذي توحد في ملكه، وتفرّد في ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمّن يشاء، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم، وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء آخركم، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً أحسن البلاء، إن شكرتم أو كفرتم. أيها الناس، إنّ ربّ عليّ كان أعلم بعليّ حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله، ولم تجدوا مثل سابقته وأيم الله لا ترى أمة محمد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أميّة ...)(٤) .

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٩٦

(٢) الأحتجاج ٢ : ٥٢

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٤٦ ، ٤٧

(٤) شرح نهج البلاغة ١٦ : ٢٨

٢٤٥

وكانت لقاءات الإمام الحسن عليه السلام مع رؤوس النظام الأموي على هيئة مناظرات، استطاع الإمام عليه السلام من خلالها فضح رأس النظام الأموي معاوية وأتباعه وتبيان فضائل ومقامات الإمام علي عليه السلام، ففي أول مناظرة بينهما افتخر معاوية عليه فأجابه عليه السلام: ((هيهات لشرّ ما علوت يابن آكلة الأكباد؛ المجتمعون عليك رجلان: بين مطيع ومكره، فالطائع لك عاص لله، والمكره معذور بكتاب الله، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك، لأنّك لا خير فيك، فإنّ الله قد برأني من الرذائل كما برّأك من الفضائل)(١) .

وعلى أثر مواقف الامام الحسن عليه السلام في فضح حقيقة معاوية أيقن معاوية أنّ بقاء الإمام الحسن عليه السلام حيّاً يشكّل تهديداً واضحاً لنظامه القائم على أساس الخداع والتضليل وتزوير الحقائق وشراء الضمائر، لأنه عليه السلام الخليفة الحق والأعلم والأتقى والقمة في جميع مقوّمات الشخصية الانسانية، وزيادة على مؤهلاته الذاتية فإنّه يتمتع بفضائل ومقامات وردت في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي مقابل ذلك يبقى معاوية باغياً طليقاً مبتزّاً متسلطاً غاصباً للسلطة والحكومة لا يملك أي مؤهلات سوى الخداع والتضليل وشراء الضمائر كمقوّمات لبقائه في السلطة، وهو لا يستطيع الاستمرار في التسلط وممارسة الانحرافات المخالفة للكتاب والسنة، وتحويل الخلافة إلى ملكٍ عضوض وسلطان يتوارثه بنو أمية مادام الإمام الحسن عليه السلام حياً؛ ولهذا فكّر في التخلّص من الإمام عليه السلام فقتله بالسمّ. قال قتادة وأبوبكر بن حفص: ((سُمَّ الحسن ابن علي، سمّته امرأته بنت الأشعث بن قيس الكندي، وقالت طائفة كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك))(٢) .

وفي رواية عن الإمام الحسن عليه السلام قال: ((لقد رقي إليّ أنّه كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجّه إليه من السمّ القتال بشربة، فكتب إليه ملك الروم: أنّه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا. فكتب إليه: إنّ هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض

________________

(١) حياة الامام الحسن ،باقر شريف القرشي ٢ : ٣٠٦

(٢) الاستيعاب ١ : ٣٤٧

٢٤٦

تهامة قد خرج يطلب ملك أبيه، وأنا أريد أن أدّس إليه من يسقيه ذلك، فاريح العباد والبلاد منه، ووجّه إليه بهدايا وألطاف، فوجّه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دسّ بها فسقيتها))(١) .

وعملية السم ليست عملية حقد شخصي أو ناجمة عن خلافات عشائرية أو قبلية فقط، بل هي تآمر سافر على مستقبل الرسالة الإسلامية.

وخلاصة القول : كيف يكون معاوية عادلا وهو لم يترك ذنبا كبيراً إلاّ وارتكبه من خروجه على إمام وخليفة زمانه الى قتله بالسم ثم قتل الموالين له ولأبيه الامام علي عليه السلام.

التناقض بين الصحابة

حديث أصحابي كالنجوم

نسب إلى رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال:((إنَّ أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيِّها أخذتم به اهتديتم))(٢) .

هذه الرواية نناقشها من حيث السند ومن حيث الدلالة ومن حيث وضعها مقابل الروايات الداعية للتمسك بأهل البيت عليهم السلام وهي روايات متواترة عند الجميع.

اما السند فهو غير تام عند فقهاء ومحققي الشيعة و عند كثير من الفقهاء والعلماء غير الشيعة بما فيهم بعض المؤمنين بعدالة جميع الصحابة

قال أبو عمر يوسف بن عبدالبر القرطبي : ((وهذا مذهب ضعيف عند جماعة من أهل العلم، وقد رفضه أكثر الفقهاء وأهل النظر))(٣)

________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ١٤٧

(٢) الكفاية في علم الرواية : ٤٨

(٣) جامع بيان العلم وفضله ٢ : ٣٠٠.

٢٤٧

وذكر ابن حزم الإندلسي أسماء الرواة الضعاف والكذّابين والمجهولين في أسانيد هذه الرواية، ثم أبرز رأيه من خلال تلك المقدمات فقال:((فقد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً، وبلا شك أنّها مكذوبة... فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه واله باتّباع كلّ قائل من الصحابة، وفيهم من يحلّل الشيء وغيره من يحرمه، ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً اقتداءً بسمرة بن جندب))(١)

وضعّف ابن قيم الجوزية إسناد الرواية ثم ناقش الدلالة فقال:((إنَّ هذا يوجب عليكم تقليد الجميع، فإن سوّغتم هذا، فلا تحتجّوا لقول على قول ومذهب على مذهب... ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتّبع قول أحدهم، وإن لم تسوّغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له))(٢)

وفي معرض تقييم الذهبي لجعفر بن عبد الواحد الهاشمي قال:((ومن بلاياه.. عن النبي صلى الله عليه واله : ‎ أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيء منها اهتدى))(٣)

ومن الذين ضعفّوا إسناد الرواية الاسفرايني(٤) ، وأبو حيان الأندلسي وتلميذه تاج الدين الحنفي(٥) واعتبروها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه واله

ومنهم : (أحمد بن حنبل، البزار، ابن عدي، الدارقطني، ابن حزم، البيهقي، ابن عبدالبر، ابن عساكر، ابن الجوزي، ابن دحية، الذهبي، الزين العراقي، ابن حجر العسقلاني، السخاوي، السيوطي، المتقي، القاري)(٦)

ويمكن مناقشة الرواية من حيث الدلالة ومن حيث نتائج الأخذ بها من الناحية العملية والواقعية

________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام ٦ : ٢٤٤

(٢) إعلام الموقعين ٢ : ٢٣٤.

(٣) ميزان الاعتدال ، للذهبي ١ : ٤١٣.

(٤) التبصير في الدين : ١٧٩

(٥) البحر المحيط ٥ : ٥٢٨.

(٦) الإمامة في أهم الكتب الكلامية: ٤٦١ ـ ٥١٤

٢٤٨

فالأمر بالاقتداء موجّه إلى الصحابة، فكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه واله الصحابة بالاقتداء بالصحابة وهذا يعني أنّه أمر للصحابة بالاقتداء بأنفسهم، وهذا محال

ولو فرضنا صحته، فإنّه مختص بالاقتداء ببعض الصحابة لا جميعهم ،والأعراف المتبعة عند العرب آنذاك إنّهم لا يهتدون بأي نجم كان، وإنّما كانوا يهتدون بنجوم معينة ومحدّدة في مسيرهم، والإطلاق الذي في الحديث لا يتناسب مع علومهم ومعارفهم الدارجة آنذاك

ولو تتبعنا سيرة الصحابة وأخذنا بها لوقعنا في تناقض حتمي، كما ورد في قول ابن حزم و ابن القيم.

وإذا قيل: إنّ المراد هو الاقتداء ببعض المواقف دون بعض، فلا بدَّ من مخصّص لهذا الاقتداء، ولا مخصص له، لأنَّ الرواية مطلقة

فالرواية إذن لا يصحّ الاستدلال بها على عدالة جميع الصحابة، فهي غير تامة السند ولا الدلالة

بين القريشيين والانصار

الخلاف بين الصحابة القريشيين واغلبهم من الطلقاء وبين الانصار ومادار فيه من تصريحات واشعار يرسم لنا حقيقة اغلبهم وتماديهم في مخالفة مفاهيم وقيم القران والسنة باستحلال بعض الصحابة دماء البعض الاخر اضافة الى فضح احدهم الاخر.

في رواية الزبير بن بكار(١) قال : لما بُويع أبو بكر واستقرّ أمرُهُ، نَدِم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضُهم بعضاً، وذكروا عليّ بن أبي طالب، وهتفوا باسمه، وإنّه في داره لم يخرج إليهم، وجزع لذلكَ المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام.

وكان أشدّ قريش على الأنصار نفرٌ فيهم، وهم سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤيّ، والحارث بن هشام، وعِكْرمة بن أبي جهل المخزوميّان، وهؤلاء أشراف قريش الّذين حاربوا النبي صلى الله عليه واله، ثمّ دخلوا في الإسلام، وكلُّهم موتورٌ قد وَتَرَهُ الأنصار. أمّا سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بَدْر، وأمّا الحارث بن هشام، فضربه عروة بن عمرو، فجرحه يوم بَدْر، وهو فارٌّ عن أخيه. وأمّا عِكْرِمة بن أبي جهل، فقتل أباه ابنا عَفْراء، وسَلبه دِرْعه يوم بدر زيادُ بن لبيد، وفي أنفسهم ذلكَ

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٢٢ إلى ٣٨

٢٤٩

فلما اعتزلت الأنصار تجمّع هؤلاء، فقام سهيل بن عمرو فقال : يامعشر قريش، إنّ هؤلاء القوم سمّاهم الله الأنصار، وأثنى عليهم في القرآن، فلهم بذلكَ حظٌّ عظيم، وشأن غالب، وقد دَعَوْا إلى أنفسهم وإلى عليّ بن أبي طالب، وعليّ في بيته لو شاء لردَّهم، فأدعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلاّ فاقتلوهم، فوالله إني لأرجوا أن ينصرَكم عليهم كما نُصِرتم بهم

ثمّ قام الحارث بن هشام، فقال : إن تكن الأنصار تبوأت الدار والإيمان مِنْ قَبْل، ونقلوا رسول الله صلى الله عليه واله إلى دورهم من دورنا، فآووْا ونصروا، ثمّ مارَضُوا حتى قاسمونا الأموال، وكفوْنا العمل، فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه، فإنهم قد خرجوا مما وُسِموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلاّ السّيف، وإن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم والمظنون معهم

ثمّ قام عِكْرمة بن أبي جهل، فقال : والله لولا قولُ رسول الله، صلى الله عليه واله : ‎ الأئمة من قريش، ماأنكرنا إمرة الإنصار، ولكانوا لها أهلاً، ولكنه قولٌ لا شكّ فيه ولا خيار، وقد عجِلت الأنصار علينا، والله ماقبضنا عليهم الأمر ولا أخرجناهم من الشورى، وإنّ الذي هم فيه من فلتات الأمور ونَزَغات الشيطان، ومالا يبلغه المُنى، ولا يحمله الأمل أعذِروا إلى القوم، فإن أبَو فقاتلوهم، فوالله لو لم يبق من قريش كلّها إلاّ رجل واحد لصيّر الله هذا الأمر فيه.

قال : وحضر أبو سفيان بن حرب، فقال :

يا معشر قريش، إنه ليس للأنصار أن يتفضّلوا على الناس حتى يُقرُّوا بفضلنا عليهم، فإن تفضّلوا فحَسبنا حيث انتهى بها، وإلاّ فحسبهم حيث انتهى بهم. وإيمُ الله لئن بَطروا المعيشة، وكَفَروا النعمة، لنضربهم على الإسلام كما ضرِبوا عليه، فأمّا عليّ بن أبي طالب فأهل والله أن يسوَّد على قريش، وتطيعه الأنصار

فلمّا بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال :

يامعشر الأنصار، إنّما يكبُر عليكم هذا القول لو قاله أهلُ الدين من قريش، فأمّا إذا كان من أهل الدنيا، لا سيما من أقوام كلّهم موتور، فلا يكبُرَنّ عليكم، إنما الرأي والقول معَ الأخيار المهاجرين، فإن تكلّمت رجال قريش، والذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء، فعند ذلكَ قولوا ماأحببتم وإلاّ فأمسكوا

وقال حسان بن ثابت يذكر ذلكَ :

تنادَى سُهَيلٌ وابنُ حَرْب وحارِثٌ

وعِكْرِمةُ الشَّاني لنا ابن أبي جَهْلِ

٢٥٠

قتلنا أباهُ وانتزعنا سِلاحَهُ

فأصبَحَ بالبطْحا أذلَّ مِنَ النَّعْلِ

فأمّا سهيلٌ فاحتواهُ ابن دخشم

أسيراً ذليلاً لا يُمِرُّ ولا يُحْلىِ

وصخْر بن حرب قد قتلنا رجاله

غداةَ لِوَا بَدْر فمِرْجَلُه يَغْلى

وراكَضنا تحتَ العجاجة حارثٌ

على ظهر جرْداء كباسِقة النَّخْلِ

يقبّلها طَوْراً وطوراً يحَتها

ويعدلها بالنفس والمال والأهل

وكّلهم ثان عن الحقِّ عِطفَه

يقول اقتلوا الأنصار، يابِئسَ مِنْ فِعْل!

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقاً وما ذاك بالعدْلِ

فبلغَ شعر حسان قريشاً، فغضبوا وأمروا ابن أبي عزّة شاعرهم أن يجيبه، فقال:

معشر الأنصار خافوا ربّكمْ

واستجيروا الله من شرِّ الفِتَنْ

إنّني أرهب حرْباً لاقحاً

يَشرَق المُرضَعُ فيها باللّبَنْ

جَرّها سعد وسعدٌ فِتْنَةٌ

ليت سعدَ بن عباد لم يَكُنْ

خلف برهوت خفيا شخصُه(١)

بين بُصرى ذى رُعين وَجَدَنْ

ثمّ اجتمعت جماعة من قريش يوماً وفيهم ناس من الأنصار وأخلاط من المهاجرين، وذلكَ بعد انصراف الأنصار عن رأيها وسكون الفتنة، فاتّفق ذلكَ عندَ قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه، فجاء إليهم، فأفاضُوا في ذكر يوم السَّقيفة وسعد ودعواه الأمر، فقال عمرو بن العاص: والله لقد دفع الله عنّا من الأنصار عظيمة، ولمَا دفع الله عنهم وأعظم، كادوا والله أن يحلّوا حبلَ الإسلام كما قاتلوا عليه، ويخرِجُوا منه مَنْ أدخلوا فيه، والله لئن كانوا سمعوا قول رسول الله، صلى الله عليه واله : ‎ الأئمة من قريش û ، ثمّ ادّعَوها لقد هَلكُوا وأهلَكوا، وإن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين، ـ كأبي بكر، ولا المدينة كمكة، ولقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء، ولو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة، فلم يجبه أحد، وانصرف إلى منزله وقد ظفر، فقال :

ألا قُلْ لأوس إذا جئتها

وقلْ كُلّما جئت للخزْرجِ

________________

(١) برهوت : واد باليمن

٢٥١

تمنيتُم الملك في يثرب

فأنزلت القِدرِ لم تنضج

وأخدجتُم الأمر قبل التمام

وأعجب بذا المعجَل المخدَجِ(١)

تريدون نتْج الحِيال العشا

ر ولم تلقحوه فلم يُنتجِ

عَجِبْتُ لسعد وأصحابه

ولو لم يهيجوه لم يهتَجِ

رجا الخزرجي رجاء السّراب

وقد يخلف المرء مايرتجى

فكان كَمُنْح على كفّه

بكفّ يقطّها أهوجِ

فلما بلغ الأنصار مقالته وشعره، بعثوا إليه لسانهم وشاعرهم النعمان بن العجلان ـ وكان رجلاً أحمر قصير، تزدريه العيون، وكان سيّداً فخما ـ فأتى عمرا وهو في جماعة من قريش، فقال : والله ياعمرو ماكرهتُم من حربنا إلاّ ماكرهنا من حربكم، وماكان الله ليخرجَكم من الإسلام بمن أدخلكم فيه، إن كان النبيّ، صلى الله عليه واله قال : ‎ الأئمة من قريش، والله ماأخرجناكم من الأمر إذ قلنا : منّا أمير ومنكم أمير، وأمّا مَنْ ذكرت، فأبو بكر لَعَمَرْى خير من سَعْد، لكنّ سعدا في الأنصار أطوعُ من أبي بكر في قريش، فأمّا المهاجرُون والأنصار، فلا فرق بينهم أبدا، ولكنّك يابن العاص، وترْتَ بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة لقتل جعفر وأصحابه، ووترتَ بني مخزوم بإهلاك عُمارة بن الوليد ثم انصرف فقال :

فقل لقريش نحن أصحاب مكّة

ويوم حُنين والفوارس في بَدْر

وأصحاب أحد والنّضير وخيبر

ونحن رجعنا من قريظة بالذّكر

ويوم بأرض الشام أدخِل جعفر

وزيد وعبد الله في علَق يجرِى

وفي كلِّ يوم ينكر الكلبُ أهله

نطاعنُ فيه بالمثقفة السُّمرِ

ونضربُ في نقع العجاجة أرؤساً

ببيض كأمثال البروق إذا تسرى

نصرْنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف اللّيالي والعظيم من الأمر

________________

(١) يقال : أخذج الأمر، إذا لم يحكمه، والمخدج : الناقص

٢٥٢

وقلنا لقوم هاجروا قبلُ : مرحباً

وأهلاً وسهلاً، قد أمنتم من الفقرِ

نقاسمكم أموالنا وبيوتنا

كقسمة أيسار الجزور على الشّطرِ

ونكفيكم الأمر الذي تكرهونه

وكنّا اناساً نُذْهبُ العسر باليسر

وقلتم : حرامٌ نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عثمان ـ حلال ـ أبا بكر

وأهلٌ أبو بكر لها خير قائم

وإنّ علياً كان أخلَقَ بالأمر

وكان هواناً في عليّ وإنّه

لأهْل لها ياعمروا من حيثُ لا تدري

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى

وينهى عن الفحشاء والغي والنُّكر

وصيُّ النبي المصطفى وابن عمّه

وقاتِلُ فرسان الضّلالة والكُفر

وهذا بحمدِ الله يهدي من العَمَى

ويفتح آذاناً نقُلْنَ من الوَقْرِ

فلولا اتّقاء الله لم تذهبوا بها

ولكن هذا الخير أجمع للصّبرِ

ولم نرْضَ إلاّ بالرِّضا ولربما

ضربنا بأيدينا إلى أسفل القِدْرِ

فلما انتهى شعر النعمان وكلامه إلى قريش، غضب كثير منها، وألفى ذلكَ قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن وكان رسول الله استعمله عليها، وكان له ولأخيه أثر قديم عظيم في الإسلام وهما من أوّل من أسلم من قريش، ولهما عبادة وفضل فغضب للأنصار، وشتمَ عمرو بن العاص، وقال : يامعشر قريش، إنّ عمراً دخل في الإسلام حين لم يجِدْ بداً من الدخول فيه، فلما لم يستطِعْ أن يكيدَه بيده كاده بلسانه، وإنّ مِنْ كيده الإسلام تفريقَه وقطعه بين المهاجرين والأنصار والله ماحاربناهم للدين ولا للدنيا، لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا، ومابذلنا دماءنا لله فيهم، وقاسمونا ديارهم وأموالهم، ومافعلنا مثل ذلكَ بهم، وآثرونا على الفَقْر، وحرمناهم على الغنى، ولقد وصّى رسولُ الله بهم، وعزّاهم عن جَفْوة السلطان، فأعوذ بالله أن أكون وإياكم الخلّف المضيّع، والسلطان الجاني!

ثمّ قال :

تفوّه عمرو بالذي لا نُريدُه

وصرّح للأنصار عن شَنْأةِ البُغْضِ

فإن تكن الأنصار زَلّتْ فإننا

نُقيلُ ولا نجزيهم بالقَرْضِ

٢٥٣

فلا تقطعنْ ياعمرو ماكان بيننا

ولا تحملنْ ياعمرو بعضاً على بعضِ

أتنسى لهم ياعمرو ماكان منهمُ

ليالي جئناهم من النّفْلِ والفَرْضِ

وقسْمَتنا الأموال كاللّحم بالمُدَى

وقسمتَنا الأوطان كلٌّ به يقضي

لياليَ كلُّ الناس بالكفر جهرة

ثِقالٌ علينا، مجمعونَ على البُغضِ

فساوَوْا وآووا وانتهينا إلى المُنى

وقرّ قَرَارَانا من الأمن والخفضِ

ثمّ إنّ رجالاً من سفهاء قريش ومثيري الفِتَن منهم، اجتمعوا إلى عمرو بن العاص، فقالوا له : إنّك لسانُ قريش ورجُلها في الجاهلية والإسلام، فلا تدَع الأنصار وما قالت، وأكثروا عليه من ذلك، فراح إلى المسجد، وفيه ناس من قريش وغيرهم، فتكلم وقال : إنّ الأنصار تَرَى لنفسها ماليس لها، وايمُ الله لوددت أنّ الله خلّى عنّا وعنهم، وقضى فيهم وفينا بما أحبّ، ولنحنُ الذين أفسدْنا على أنفسنا أحرزناهم عن كلّ مكروه، وقدّمناهم إلى كلّ محبوب، حتى أمنوا المخوف، فلما جاز لهم ذلك صغّروا حقّنا، ولم يراعُوا ماأعظمنا من حقوقهم

ثمّ التفتَ فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب، وندِم على قوله، للخئولة التي بين ولد عبد المطلب وبين الأنصار، ولأنّ الأنصار كانت تُعظّم عليّاً، وتهتِف باسمه حينئذ، فقال الفضل : ياعمرو، إنّه ليس لنا أن نكتُم ماسمعنا منك، وليس لنا أن نجيبَك، وأبو الحسن شاهد بالمدينة، إلاّ أن يأمرنا فنفعل

ثمّ رجع الفضلُ إلى عليّ فحدّثه فغضب وشتم عمْرا. وقال آذى الله ورسوله، ثمّ قام فأتى المسجد، فاجتمع إليه كثير من قريش وتكلّم مغضباً، فقال:

يا معشَر قريش، إن حبّ الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، وقد قَضَوا ما عليهم، وبقي ما عليكم، واذكروا أنّ الله رغب لنبيكم عن مكّة، فنقله إلى المدينة، وكره له قريشاً، فنقله إلى الأنصار، ثمّ قدِمنا عليهم دارَهم، فقاسمونا الأموال، وكَفوْنا العمل، فصرنا منهم بين بذل الغنّى وإيثار الفقير، ثمّ حاربَنا الناس فوقونا بأنفسهم، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن، جمع لهم فيها بين خمس نِعَم، فقال: (والّذين تبَوءوا الدَّار والإيمان مِنْ قَبْلِهم يُحبُّون مَنْ هَاجَرَ إليْهِم ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمّا اُوتُوا وَيُؤثِرُونَ علَى أنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ

٢٥٤

وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)(١) ، ألا وإنّ عمرو بن العاص قد قام مقاما آذى فيه المّيت والحيّ، ساء به الواتر وسرّ به الموتور، فاستحقَ من المستمع الجواب، ومن الغائب المقْت، وإنه مَنْ أحبّ الله ورسوله أحبَّ الأنصار، فليكفُف عمرو عَنّا نفسه

فمشت قريش عند ذلكَ إلى عمرو بن العاص، فقالوا : أيّها الرجل، أمّا إذا غضب عليّ فاكفُفْ

وقال خُزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشاً :

أيال قُريْش أصلِحوا ذات بيننا

وبينكُم قد طالَ حَبْلُ التماحك(٢)

فلا خيْر فيكُم بعدنا فارفُقوا بنا

ولا خير فينا بعد فِهْر بن مالك

كِلانا على الأعداء كفٌ طويلة

إذا كان يومٌ فيه جَبُّ الحَواركِ(٣)

فلا تذكُروا ما كان مِنَّا ومنكُم

ففي ذِكْرِ ماقد كان مَشْيُ النَّساوكِ

وقال عليّ للفضل : يافضل، انصر الأنصار بلسانك ويدك، فإنهم منك وإنك منهم فقال الفضل :

قلتَ ياعمرُو مقالا فاحشا

إن تعُد ياعمرو والله فلكْ

انمّا الأنصار سيفٌ قاطعٌ

مَنْ تُصِبْه ظُبَةُ السّيْفِ هَلَك

وسيوفٌ قاطع مَضرَبُها

وسهام الله في يوم الحَلَكْ

نصرُوا الدين وآوَوْا أهلَه

منزلٌ رَحْبٌ ورِزْقٌ مُشْتَرَك

وإذا الحرب تَلظَّت نارُها

بركوا فيها إذا الموت بَرَكْ

ودخل الفضل على عليّ فأسمعه شعره، ففرح به، وقال وَرِيَتْ بك زنادى يافَضْل، أنت شاعر قريش وفتاها، فاظهر شِعْرَك وابعث به إلى الأنصار، فلما بلغ ذلكَ الأنصار، قالت : لا أحد يجيبُ إلاّ حسّان الحسام، فبعثوا إلى حسان بن ثابت، فعرضوا عليه شعر

________________

(١) سورة الحشر : ٩

(٢) الماحك : اللجاج

(٣) كناية عن الشدة، والحارك : عظم على الظهر

٢٥٥

الفضل، فقال : كيف أصنع بجوابه! إنْ لم أتحرَ قوافيه فضحني، فرويدا حتى أقفُوا أثره في القوافي، فقال له خُزيمة بن ثابت : اذكر عليا وآله يكفِك عن كلّ شيء، فقال :

جزى الله عنّا والجزاء بكَفِّه

أبا حسن عَنّا وَمَنْ كأبي حسَنْ

سبقت قريشاً بالذي أنتَ أهلُه

فصدرك مشروح، وقلبك ممتحَنْ

تمنّت رجالٌ من قريش أعِزّةٌ

مكانك، هيهات الهزال من السِّمَن!

وأنتَ من الإسلام في كلِّ موطن

بمنزلة الدّلو البطين من الرّسَنْ

غضبتَ لنا إذ قام عمروٌ بخطبة

أمات بها التقوى وأحيا بها الإحَنْ

فكنت المرجّى من لؤيّ بن غالب

لما كان منهم والّذي كان لن يكُنْ

حفظت رسول الله فينا وعهده

إليك ومَنْ أولى به منك مَنْ ومَنْ!

ألستَ أخاه في الهُدى ووصيّهُ

وأعلم منهم بالكتابِ وبالسُّنَنْ

فحقّك مادام بنجْد وشيجةٌ

عظيم علينا ثمّ بعد على اليمنْ

وبعثت الأنصار بهذا الشعر إلى عليّ بن أبي طالب، فخرج إلى المسجد، وقال لمن به من قريش وغيرهم يامعشر قريش، إنّ الله جعلَ الأنصار أنصارا، فأثنى عليهم في الكتاب، فلا خير فيكم بعدهم، إنّه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وَتَره الإسلام، ودفعه عن الحقّ، وأطفأ شرفه وفضَّل غيره عليه، يقوم مقاماً فاحشاً فيذكر الأنصار، فاتقّوا الله وارعَوْا حقّهم، فوالله لو زالوا لزلتُ معهم، لأنّ رسول الله قال لهم : ‎ أزولُ حيثما زُلتم ، فقال المسلمون جميعاً : رحِمك الله ياأبا الحسن! قلت قولاً صادقاً

وترك عمرو بن العاص المدينة، وخرجَ عنها حتى رضي عنه عليّ والمهاجرون ثمّ إنّ الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط ـ وكان يبغض الأنصار، لأنهم أسرُوا أباه يوم بدر، وضَربُوا عنقه بين يدي رسول الله ـ قام يشتم الأنصار، وذكرهم بالهُجْر، فقال : إنّ الأنصار لَترى لها من الحقّ علينا ما لا نراه، والله لئن كانوا آوَوا لقد عزُّوا بنا، ولئن كانوا آسوا لقد منُّوا علينا، والله ما نستطيع مودّتهم، لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلّنا بمكة، وعزّنا بالمدينة، ولا ينفكّون يعيّرون موتانا، ويغيظون أحياءنا، فإن أجبناهم قالوا: غضبت قريش على غاربها، ولكن قد هوّن عليّ ذلكَ منهم حرْصُهم على الدين أمس، واعتذارهم من الذنب اليوم، ثمّ قال :

٢٥٦

تباذَخَتِ الأنصار في الناس بأسمِها

ونسبُها في الأزْد عَمْروا بن عامِر

وقالوا : لَنَا حقٌّ عظيم ومِنَّةٌ

على كلِّ باد من مَعَدٍّ وحاضرِ

فإن يكُ للأنصار فضلٌ فلم تنل

بحرمته الأنصار فضلَ المهاجرِ

وإن تكن الأنصار آوت وقاسمت

معايشها مَنْ جاء قسمةَ جازرِ

فقد أفسدت ما كان منها بمنّها

وما ذاك فعلُ الأكرمين الأكابر

إذا قال حسانٌ وكعب قصيدةً

بشتمِ قريش غُنِّيتْ في المعاشر

وسارَ بها الرُّكبان في كلِّ وجهة

وأعملَ فيها كلُّ خُف وحافرِ

فهذا لنا من كلِّ صاحب خطبة

يقوم بها منكم من كلِّ شاعر

وأهلٌ بأن يُهجَوا بكلِّ قصيدة

وأهلٌ بأن يُرْمَوْا بنبل فواقرِ

ففشا شعره في الناس، فغضبت الأنصار، وغضب لها من قريش قومٌ، منهم ضرار بن الخطاب الفهريّ، وزيد بن الخطاب، ويزيد بن أبي سفيان، فبعثوا إلى الوليد فجاء

فتكلّم زيد بن الخطاب، فقال: يابن عُقبة بن أبي معيط، أما والله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، لأحببتَ الأنصار، ولكنّك من الجفاة في الإسلام البطآء عنه، الذين دخلوا فيه بعد أنْ ظهر أمرُ الله وهم كارهون، إنّا نعلم أنا أتيناهم ونحنُ فقراء، فأغنونا، ثمّ أصبنا الغنى فكفُّوا عنا. ولم يرزءونا شيئاً. فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة وعزها بالمدينة، فكذلكَ كنا، وكذلكَ قال الله تعالى: ( واذْكُروا إذ أنتُمْ قليلٌ مستضْعَفُونَ في الأرضِ تخافُونَ أنْ يتخَطَفَّكُمُ النَّاسُ )(١) ، فنصرنا الله تعالى بهم، وآوانا إلى مدينتهم

وأما غضبك لقريش فإنا لا ننصر كافراً، ولا نوادّ مُلحِداً ولا فاسِقاً، ولقد قلت وقالوا، فقطعك الخطيب، وألجمكَ الشاعر

وأمّا ذكر الذي كان بالأمس، فدعِ المهاجرين والأنصار، فإنّك لستَ من ألسنتهم في الرّضا، ولا نحن من أيديهم في الغضب.

________________

(١) سورة الأنفال : ٢٦

٢٥٧

وتكلّم يزيد بن أبي سفيان، فقال : يابن عُقْبة، الأنصار أحقُّ بالغضب لقتلى أُحد، فاكفف لسانك، فإنّ من قتله الحقّ لا يغضب له

وتكلّم ضرار بن الخطاب، فقال : أما والله لولا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ‎ الأئمة من قريش لقلنا : الأئمة من الأنصار، ولكن جاء أمر غلب الرأي، فاقمع شِرَّتَك أيها الرجل، ولا تكن أمرأ سَوْء، فإن الله لم يفرّق بين الأنصار والمهاجرين في الدنيا، وكذلكَ الله لا يفرّق بينهم في الآخرة

وأقبل حسان بن ثابت مغضَباً من كلام الوليد بن عُقْبة وشعره، فدخل المسجد وفيه قوم من قريش، فقال : يامعشر قريش، إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفارَكم، وحمايتُنا رسول الله، صلى الله عليه واله ، وإن كنتم تنقمون مِنّا مِنَّة كانت بالأمس، فقد كفى الله شرّها، فما لنا ومالكم، والله مايمنعنا من قتالكم الجبنُ، ولا من جوابكم العِىّ. إنا لحىّ فَعال ومقال، ولكنا قلنا : إنها حرب، أولها عار وآخرها ذلّ، فأغضيْنا عليها عيوننا، وسحبنا ذيولَنا، حتى نرَى وتَرَوْا، فإن قلتم قلنا، وإن سكتّم سكتنا

فلم يجْبه أحدٌ من قريش، ثمّ سكت كلٌّ من الفريقين عن صاحبه

بين فاطمة (عليها السلام) وابي بكر

قرر الخليفة ان يصادر فدك وسلبها من فاطمة عليها السلام، فلمّا بلغها ذلك أرسلت مَنْ يطالب بحقّها من أبي بكر ثمّ قرّرت أن تواجهه بنفسها، ولهذا قِدمت ومعها بعض النساء فدخلت على أبي بكر، وأنّت أنّةً أجهش لها القوم بالبكاء، فلما سكتوا خطبت فيهم خطبة طويلة قالت في آخرها: ((فاتّقوا الله حق تقاته،وأطيعوا فيما أمركم به... ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته، ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه...

ثمّ أنتم تزعمون أنّ لا إرثَ لأبي... أبى الله أنْ ترث يا ابن أبي قحافة أباك، ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئاً فريّاً! فدونكها مخطوطة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنِعمَ الحَكَمُ الله، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكّل نبأٍ مستقرّ، وسوف تعلمون مَنْ يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذابُ مقيم!)).

ثمّ التفتت إلى قبر رسول الله(صلى الله عليه واله) فتمثّلت بقول هند بنت أثاثة:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم

لمّا قضيت وحالت دونك الكتب

تجهّمتنا رجال واستُخفّ بنا

إذ غبت عنّا فنحن اليوم نُغتَصَبُ

ثمّ عدلت إلى جمع الأنصار فقالت:

يا معشر البقيّة، وأعضاد الملّة، وحضنة الإسلام، ما هذه الفترة عن نصرتي ، والونية عن معونتي ، والغمزة في حقّي ، والسنِّة عن ظُلامتي...))(١) .

________________

(١) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢١٦.

٢٥٨

وحينما احتجّ أبو بكر بحديث نسبه إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) : ((إنّ الأنبياء لا يورّثون))، قالت عليها السلام: إنّ فدكاً وهبها لي رسول الله (صلى الله عليه واله) ، وشهد عليّ عليه السلام وأمّ أيمن بذلك، وشهد عمر و عبد الرحمن بن عوف بأنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) كان يقسّمها(١) ، فأخذ بقول عمر.

وقد طلبتها عليها السلام بالميراث تارة وبالنِّحلة اُخرى فدُفعت عنها(٢) .

وفي رواية: جاءت تطلب ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه واله): أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فلم يجبها أبو بكر لما طلبت، فهجرته ولم تكلّمه في ذلك حتّى ماتت(٣) .

وبقيت فدك حقّاً مغتصباً تُعاد إلى ولد فاطمة ثمّ ّ تؤخذ منهم تبعاً لطبيعة الحاكم وعلاقته مع أهل البيت(٤) .

ولم تكن فاطمة عليها السلام تطالب بفدك لكونها أرضاً بل تعبيراً عن الحقّ المغتصب، وقد وضّح الإمام موسى الكاظم عليه السلام هذه الحقيقة لهارون الرشيد العبّاسي، حينما أراد إرجاعها له فقال عليه السلام: ((لا آخذها إلاّ بحدودها))، وقد جعل حدودها جميع أراضي الدولة الإسلامية، ويظهر ذلك من خلال الرواية التالية:

كان هارون يقول لموسى الكاظم بن جعفر: يا أبا الحسن خذ فدك حتّى أردها عليك، فيأبى، حتّى ألحّ عليه.

فقال لا آخذها إلاّ بحدودها.

قال: وما حدودها؟

قال: إنْ حددتها لم تردها.

قال: بحق جدك إلا فعلت.

قال: اما الحد الأول فعدن، والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث أفريقية، والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية.

قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء فتحول في مجلسي.

قال موسى عليه السلام: ((قد أعلمتك أني ان حددتها لم تردها، فعند ذلك عزم على قتله))(٥) .

فالمسألة ليست أرضاً بل هي رمز الخلافة، ولهذا فقد طالبت بها فاطمة الزهراء عليه السلام وإلاّ فهي كأرض لا قيمة لها عندها وهي الزاهدة والمتصدقة بأموالها على الفقراء والمساكين، ولو كانت فدك بيدها لأنفقت مالها على المحتاجين، ولكنها طالبت بها باعتبارها رمزاً للخلافة التي هي واحدة من حقوق الإمام علي عليه السلام، ومن جهة ثانية إنّ وارداتها ضخمة جداً فخشي ابو بكر أن يستعين بها الإمام علي عليه السلام لإسترداد حقّه بالخلافة.

خطاب فاطمة (عليها السلام) في المسجد النبوي

دخلت فاطمة عليها السلام على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثمّ أنَّت أنَّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت كلامها بالحمد لله عزّ وجلّ والثناء عليه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه واله، ثمّ قالت: ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنّتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)) فإنْ تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم)).

إلى أن قالت: ((وكنتم على شفا حفرة من النار، حتّى أنقذكم الله برسوله (صلى الله عليه واله) بعد اللتيّا والتي، وبعد أن مني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب، وكلما اوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان، أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها، ولا ينكفي حتّى يطأ صماخها بأخمصه ويطفئ عادية لهيبها بسيفه، مكدوراً في ذات الله، وانتم في رفاهية)).

________________

(١) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢١٦.

(٢) شرح نهج البلاغة: ج١، ١٩٩.

(٣) تأريخ الطبري: ج٣، ص٢٠٨.

(٤) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢١٦.

(٥) ربيع الأبرار: ج١، ص٣١٦.

٢٥٩

وفي رواية اخرى: ((حتّى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه، ظهرت حسيكة النفاق، وشمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خال الاَفكين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، ولقربه متلاحظين... بئس للظالمين بدلاً...))(١) .

وفي رواية عبد الله بن حسن بن الحسن عليها السلام: ((... نحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه...))(٢) .

واستمرت تبيّن عمق المؤامرة على أهل البيت (عليهم السلام) ومما قالته في ذلك : ((وما الذي نقموا من أبي حسن، نقموا والله نكير سيفه وشدّة وطأته ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله، وتالله لو كافّوا عن زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه واله) لاعتلقه، ولسار إليهم سيراً سجحا... ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض... استبدلوا والله الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل...

أما لعمر الله لقد لقحت فنظرةٌ ريثما تُحلب ثمّ احتلبوها طلاع القعب دماً عبيطاً هنالك يخسر المبطلون و يعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ثمّ طيبوا عن أنفسكم نفساً وابشروا بسيف صارم وهرج شامل واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وجمعكم حصيداً فيا حسرة عليكم))(٣) .

في هذه الخطبة بينت فاطمة الزهراءعليها السلام دور أهل البيت (عليهم السلام) في الحياة الإنسانية والإسلامية، وهو دور القدوة والحجة، ولهم دور الإمامة والقيادة، وهم خلفاء الله تعالى في أرضه وعباده، وبيّنت دور أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو دور الإمامة والخلافة، وبيّنت فضائله ابتداءً بالمؤاخاة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه واله ودوره في انتصارات رسول الله ، ثمّ بينت الإنقلاب الطارئ بعد رحيله، والأسباب والدوافع التي ساهمت في إزاحة الإمام علي عليه السلام عن الخلافة.

وهي (عليها السلام) قد طالبت بفدك كوسيلة لإثبات الحق، فقد كانت خطبتها بالأساس بسبب أخذ فدك ولكنها تحدثت عن دور أهل البيت (عليهم السلام) وعن واقع المسلمين بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه واله) ، لتصبح فدك وسيلة لتبيان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام).

مقاطعة فاطمة (عليه السلام) لأبي بكر وعمر

قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلّماه، فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها، حوّلت وجهها إلى الحائط... وقالت:

نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: ((رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي؟))...

قال أبو بكر: نعم. قالت: فإنّي اُشهدُ اللهَ وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي (صلى الله عليه واله) لأشكونّكما إليه. فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطكِ يافاطمة، ثمّ أنحب يبكي... وهي تقول: ((والله لأدعونَّ الله عليك في كل صلاة اُصلّيها))(٤) .

وهجرت فاطمة عليها السلام أبا بكر ولم تكلّمه حتّى ماتت(٥) .

وفي ذلك قال أبن أبي الحديد المعتزلي: ((والصحيح عندي أنّها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر، وأنّها أوصت ألا يصليّا عليها(٦) .

________________

(١) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢٥٠، ٢٥١.

(٢) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢١١.

(٣) شرح نهج البلاغة: ج١٦، ص٢٣٤.

(٤) الإمامة والسياسة: ج١، ص١٤.

(٥) تاريخ الطبري: ج٣، ص٢٠٨؛ البداية والنهاية: ج٥، ص٢٤٩.

(٦) شرح نهج البلاغة: ج٦، ص٥٠.

٢٦٠