سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11008
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11008 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

حزن فاطمة (عليها السلام) المتواصل تكالبت عوامل الحزن على فاطمة عليها السلام فلم تفارقها، وأصبح الألم والأسى وذرف الدموع مرافقاً لها من حين وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله) إلى حين ارتحالها إلى الرفيق الأعلى.

فقد حزنت على رسول الله (صلى الله عليه واله) وانقطاع الوحي، وعلى ما طرأ على الرسالة من تشويه وتزييف وتحريف، وإلى اتّفاق الأكثريّة على إقصاء عليّ عليه السلام من منصبه، حقداً وحسداً وخوفاً من عدالته وشدّته في ذات الله، ونفاقاً من بعضهم، والتظافر على هضمها واغتصاب حقوقها مع قلّة المأساة التي عاشتها بالقول:

((اللهمّ الحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أمره وشفاعته يوم القيامة))، وأخذت تربةً من تراب قبر رسول الله (صلى الله عليه واله) فشمّتها ثمّ أنشأت تقول:

ماذا على مَنْ شمَّ تُربةَ أحمدٍ

أنْ لا يَشمَّ مدى الزمانِ غواليا

صُبَّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها

صُبَّت على الأيامِ صِرن لَياليا(١)

وكانت تبكي أباها ليلاً ونهاراً، فقال لها عليّ عليه السلام: إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّأ أن تبكي أباك ليلاً أو تبكيه نهاراً.

فقالت: يا أبا الحسن، ما أقلّ مكثي بينهم، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم!

فبنى لها عليه السلام بيتاً خلف البقيع وسمّاه (بيت الأحزان)، فإذا أصبحت قَدَّمت الحسن والحسين (عليهما السلام) أمامها وخرجت إليه، وهي تمرّ على البقيع باكيةً(٢) ، فإذا جاء الليل أقبل عليّ عليه السلام ورافقها إلى منزلها.

وكان لبكائها دور كبير في كشف الواقع المنحرف الذي عاشته عليها السلام.

الرحيل إلى الرفيق الأعلى

لم يراع المتصدّون للحكم حقّ عليّ وحقّ فاطمة عليها السلام، وخالفوا النصّ على الإمامة ، واغتصبوا فاطمة حقّها، وبدأ الإنحراف عن النهج السليم واضحاً واعتدوا عليها في دارها وأسقطوا جنينها، واجتمعت عليها المصائب والآلام الجسديّة والنفسيّة، فبدأت حياتها تقترب من الموت. وفي أواخر حياتها أوصت عليّاً عليه السلام ببعض الوصايا ومنها: أن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر وأن لا يصلّيا عليها(٣) . وفي يوم شهادتها اغتسلت ثمّ لبست ثياباً جدداً، ثمّ قالت لاُمّ رافع: اجعلي فراشي وسط البيت، فاضطجعت عليه واستقبلت القبلة، وقالت: يا أمه! إنّي مقبوضة الساعة، فماتت وحملها عليّ ودفنها بغسلها(٤) ليلاً ولم يشعر بذلك أبو بكر(٥) ولا من اغتصبها حقّها. وتركت لنا مقياساً في تشخيص الرجال وتشخيص الأحداث والمواقف بعد رسول الله (صلى الله عليه واله) حتّى يومنا هذا.

________________

(١) تأريخ الخميس: ج٢، ص١٧٣.

(٢) بحار الأنوار: ج٤٣، ص١٧٧.

(٣) شرح نهج البلاغة: ج٦، ص٥٠.

(٤) الإصابة: ج٨، ص١٥٩.

(٥) تالمستدرك على الصحيحين: ج٣، ص١٦٢؛ الكافي: ج١، ص٤٥٨.

٢٦١

أخيارالصحابةوعثمان ومعاوية

سنتطرق الى سيرة ثلاثة من الصحابة المتصفين بالعدالة وهم مصداق الآيات الكريمة المادحة للصحابة وللروايات النبوية المادحة لهم ، وهم ميزان ومقياس لبقية الصحابة فمن شابههم فهو عادل ومن خالفهم وعاداهم فهو مسلوب العدالة ، وكيف يكون عادلا من عاداهم وهم من الصحابة الاوائل الذين هاجروا وجاهدوا وأخلصوا.

سيرة الصحابي ابي ذر الغفاري ومواقفه من عثمان ومعاوية

اسلم أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في بداية الدعوة الإسلامية وفي مرحلتها السرية، فقد سمع بظهور نبي في مكة فبدأ يتساءل عنه وبعث أخيه ليرجع إليه بالأخبار إلاّ أنّه لم يقتنع بما جاءه من أخبار، فتوجه بنفسه للقاء رسول رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولعل توجهه نابعاً من اشتياقه للقرب منه، فقد آمن بالإسلام ديناً وبمحمد رسولا، ثم أمره رسول الله صلّى الله عليه وآله بالعودة إلى قومه ليكون داعية لله تعالى، فأدى مسؤوليته فأسلم عن طريقه جمع من عشيرته، ثم التحق برسول الله صلّى الله عليه وآله بعد سنتنين من هجرته للمدينة.

وبعد هجرته لم يخلد للراحة بل شارك في اغلب المعارك التي خاضها رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وكان أبو ذر من الموالين إلى الإمام علي عليه السلام بعد ما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وآله ما قاله في حقه، وما قام به من إعداد له ليكون وصيّه من بعده وخليفته في أمته، واستمر على ولائه.

وامتاز أبو ذر بحماسه لإصلاح الواقع فكان يعترض على كل مخالفة شرعية يراها في الواقع، فكان تطبيق الإسلام همّه الدائم، وقد واجه الأذى والشدائد من اجل ذلك، فأ¬خرجوه من المدينة إلى الشام ثم أعيد إليها ولكنه لم يركن إلى الراحة والسكوت، فبقي يدعو لإصلاح الواقع إلى أن نفي إلى الربذة، فعاش بها وحيداً غريباً إلى ان توفي فيها في زمن عثمان بن عفان.

وقصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه من القصص المتواترة، ونذكرها هنا باختصار وعلى لسانه: (( بلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنّه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه واتني بخبره.. فقال: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا، ثم أقبلت إلى مكة)).

فاستضافه الإمام علي عليه السلام يومين ثم اخبره عن سبب مجيئه، فقال له عليه السلام : ((هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث ادخل، فاني إن رأيت أحدا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامض أنت )).

٢٦٢

قال أبو ذر: ((ودخلت معه على النبي صلّى الله عليه وآله فقلت له: اعرض علي الإسلام، فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: ((يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فاذا بلغك ظهورنا فاقبل )).

فقلت: والذي بعثك بالحق لاصرخن بها بين أظهرهم.

فجاء إلى المسجد فقال: يا معشر قريش إني اشهد أن لا اله إلا الله، واشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئي ،فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فاكب علي، فقال: ويلكم تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم على غفار فاقلعوا عني، فلما ان اصبحت الغد رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس، فصنع بين مثل ما صنع بالأمس، وادركني العبّاس فاكب علي، وقال مثل مقالته بالأمس)(١) .

وهنالك عدّة دروس مستفادة من هذه القصة:

١ـ إنّ وصول الخبر عن ظهور نبيّ إلى أبي ذر وهو بعيد عن مكة يدلّ دلالة واضحة على انه كان يبحث عن دين يتبناه وينتمي إليه، وانه يتابع ذلك باستمرار حتى علم الناس بذلك، فأوصلوا له الخبر.

٢ـ لم يكتف بإخبار أخيه له وهذا يدل على عمقه في تتبع الأحداث وعدم الانسياق ورائها بسرعة، بل يتصف بالتريث والتأني لكي لا ينخدع بالمظاهر والشعارات المطروحة؛ لذا ذهب بنفسه لمتابعة الأخبار عن قرب.

٣ـ إنه يتمتع بفطرة سليمة وبوعي تام لذا اسلم منذ اللحظات الأولى للقائه برسول الله صلّى الله عليه وآله بعد ان وجد فيه صدقا وصراحة وخلقا رفيعا، وفكرا واقعيا.

٤ـ لم يمنعه رسول الله صلّى الله عليه وآله من إعلان إسلامه في تلك الظروف لاتصافه بصفات تؤهله لتحمل تبعات موقفه الذي لا يشكّل خطورة على حركة رسول الله صلّى الله عليه وآله وانه صلّى الله عليه وآله يحتاج مثل هذه الصرخات في تلك الظروف ومن قبل رجال من أمثال أبي ذر.

________________

(١) مختصر صحيح البخاري: ٣٧٠.

٢٦٣

٥ـ إن صرخته أمام قريش جعلته يستعجل الخروج من مكة، ليعود إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام وهذا ما كان يرغب فيه رسول الله.

تشكيل نواة الدعوة خارج مكة

إن محاصرة الحركة الرسالية داخل مكة يمنعها من الانطلاق السريع والانتشار الواسع، ولذا من الضروري ان تخلق نواة وقاعدة للدعوة الإسلامية بعيدة عن محاصرة وملاحقة قريش، وقد اوكلت هذه المسؤولية إلى أبي ذر، وهذا دليل على تمتعه بمؤهلات الداعية والمبلغ الناجح والقدير.

قال أبو ذر: ((فقدمت على أخي فأخبرته أني أسلمت، قال: فاني على دينك، فانطلقنا إلى امّنا فقالت: فاني على دينكما، واتيت قومي فدعوتهم فتبعني بعضهم ))(١) .

إن إسراع أخيه وأمه وجماعة من قومه إلى الإسلام يدل دلالة واضحة على الاستعداد لقبول الإسلام، وهذا الاستعداد ناجم عن تأثرهم بشخصية أبي ذر وارتباطهم العاطفي معه، بحيث تقبلوا ما ابداه لهم من افكار وقيم، ولعلهم كانوا متأثرين به قبل لقائه برسول الله صلّى الله عليه وآله في بحثه عن دين جديد يخالف دين الجاهلية ويخالف الواقع المتناقض الذي يعيشون فيه، فكان الفضل يعود إلى جهود أبي ذر في تأسيس نواة للدعوة وللرسالة الإسلامية.

شخصيتة في موازين أهل البيت( عليهم السلام)

عاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فأقام معهم ثم التحق برسول الله صلّى الله عليه وآله بعد الهجرة وبعد غزوة احد.

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يبتدئ أبا ذر إذا حضرويتفقده إذا غاب.

وقال بحقه: ((ما اقلت الغبراء ولا أضلت الخضراء اصدق لهجة من أبي ذر )).

________________

(١) الإصابة في تمييز الصحابة ٤: ٦٤،.

٢٦٤

وقال صلّى الله عليه وآله: ((يرحم الله أبا ذر يعيش وحده ويموت وحده ويحشر وحده ))(١) .

والقول الأخير قاله رسول الله صلّى الله عليه وآله في طريقه إلى تبوك حينما رأى أبا ذر قد التحق به لوحده.

وكانت له مكانة خاصة عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((أبو ذر في أمتي على زهد عيسى ابن مريم عليه السلام ))(٢) .

وقال الإمام علي عليه السلام : (( أبو ذر وعاء مليء علماً ))(٣) .

وقال عليه السلام : (( وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه ثم اوكأ عليه فلم يخرج شيئاً منه ))(٤) .

وقال الإمام الصادق عليه السلام : ((كان أكثر عبادة أبي ذر خصلتين: التفكر والاعتبار ))(٥) .

وحينما سئل الإمام الصادق عليه السلام عن شرايع الدين أجاب بحديث طويل جاء فيه: ((وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة... والولاية للمؤمنين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا بعد نبيّه صلّى الله عليه وآله واجبة مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر... ))(٦) .

وهذه المكانة والأحاديث التي قيلت بحقه إنما تعبّر عن إرشاد الناس أو المسلمين إلى معرفة الحق بمعرفة الشخصيات الممدوحة من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعرفة الباطل المتمثل بمن عاداهم فقد اخبر بزهده وصدقه، واخبر أهل البيت عليهم السلام بعلمه ووعيه الثاقب، وعلى ضوء هذه الخصائص فان موقفه من الأحداث هو الموقف الحق الذي يجب إتباعه حينما تلتبس الأمور على المسلمين في ظروف الخلاف والنزاع والخصام.

________________

(١) أسد الغابة ٥ : ١٠١.

(٢) الاستيعاب ٤ : ٦٤.

(٣) الإصابة في تمييز الصحابة ٤ : ٦٥.

(٤) الاستيعاب ٤ : ٦٤.

(٥) الخصال ١ : ٤٢.

(٦) الخصال: ٦٠٧.

٢٦٥

وقد وقف أبو ذر إلى جنب الإمام علي عليه السلام وتابعه في جميع الأمور، وكان تحركه طاعة الإمام علي عليه السلام ومراعاته للمصلحة الإسلامية العليا.

وكان أبو ذر من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام يدعو إلى ولايته وإمامته أينما حل وفي عدة مواطن في المدينة ومكة والشام، وكان يدعو إلى تطبيق العدالة الإسلامية، فحينما أعطى عثمان مروان بن الحكم وغيره أموالاً طائلة من بيت المال، جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع: بشر الكافرين بعذاب أليم، ويرفع بذلك صوته، ويتلو قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهبَ والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابِ أليم }(١) .

فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت، ثم انه أرسل إليه مولى من مواليه: ان انته عما بلغني عنك، فقال أبو ذر: أو ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى، وعيب من ترك أمر الله تعالى! فوالله لأن أرضى الله بسخط عثمان أحبّ إلىّ وخير لي من أن أسخط الله برضا عثمان.

فاغضب عثمان ذلك واحفظه، فتصابر وتماسك، إلى ان قال عثمان يوماً والناس حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضا، فإذا أيسر قضى؟ فقال كعب الاحبار: لا بأس بذاك، فقال أبو ذر: يا بن اليهوديين، اتعلمنا ديننا!

فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك باصحابي، الحق بالشام فنفاه إلى الشام، فكان ينكر على معاوية أشياء يفعلها، وكان يقول: والله لقد حدثت أعمال ما اعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيّه صلّى الله عليه وآله، والله إنّي لأرى حقاً يطفأ، وباطلا يحيا، وصادقاً مكذباً، وأثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثرا عليه.

وكان يقف على باب دار معاوية ويقول: أتتكم القطار تحمل النار اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.

وحينما جيء به إلى معاوية قال له: يا عدو الله وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع...

________________

(١) التوبة/ ٣٤.

٢٦٦

فقال أبو ذر: ما أنا بعدو لله ولا لرسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلّى الله عليه وآله ودعا عليك مرات ألاّ تشبع...(١) .

وحينما دخل عمار بن ياسر على عثمان ليبلغه بكتاب الصحابة لم يستجب له عثمان وحدث بينهما كلام شديد اللهجة، فأمر عثمان غلمانه، فضربوه ضرباً شديداً حتى وقع لجنبه حتى غشي عليه.

فبلغ ذلك أبا ذر وكان مقيما بالشام فجعل يظهر عيب عثمان هناك، فكتب معاوية بن أبي سفيان بذلك إلى عثمان.

فكتب إليه عثمان: ابعث به إليّ واحمله على أغلظ المراكب واوعرها.

لما وصل قال له: أنت الذي تزعم بأننا نقول: أن يد الله مغلولة وأن الله فقير ونحن أغنياء؟

فقال أبو ذر: أو كنتم لا تقولون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده المؤمنين؟

فقال عثمان: كذبت أنت رجل محب للفتنة.

فقال أبو ذر: والله ما اعرف لي إليك ذنباً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(٢) .

وفي موقف آخر أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف من المال ، فنثر حتى حال بين عثمان وبين رجل قائم.

فقال عثمان : إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا لأنه كان يتصدق ويقري الضيف، وترك ما ترون.

فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين

فرفع أبو ذر العصا فضرب به رأس كعب، وقال: يا بن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال : إن الله أعطاه خير الدنيا والآخرة ، وتقطع على الله بذلك، وأنا سمعت النبي صلّى الله عليه وآله يقول: ((ما يسرني أن أموت وادع ما يزن قيراطا )).

فقال له عثمان : وار عنّي وجهك، ورفض عثمان سيره إلى مكة أو الشام أو البصرة، ورفض إبقاءه بالمدينة ، ثم قال: فاني مسيرك إلى الربذة.

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ : ٢٥٦ ، ٢٥٨.

(٢) كتاب الفتوح ٢ : ٣٧٣ـ ٣٧٥.

٢٦٧

قال أبو ذر: الله اكبر صدق رسول الله صلّى الله عليه وآله قد اخبرني بكل ما أنا لاقِ.

قال عثمان: وما قال لك؟

قال: اخبرني بأني امنع من مكة والمدينة وأموت بالربذة.

فنفاه وأمر أن يتجافاه الناس(١) .

وفي رواية أخرى وردت في مصادر أخرى:

فلما دخل عليه وعنده جماعة، قال: بلغني انك تقول: سمعت رسول الله يقول: ((إذا كملت بنو أمية ثلاثين اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا ))، فقال: نعم! سمعت رسول الله يقول ذلك... فلم يقم بالمدينة إلاّ أياماً حتى أرسل إليه عثمان: والله لتخرجن عنها!

قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟

قال: نعم وانفك راغم.

قال: فإلى مكة؟ قال: لا !، قال: فإلى البصرة؟ قال: لا!، قال فإلى الكوفة؟ قال: لا! ولكن إلى الربذة التي خرجت منها حتى تموت بها.

ثم قال لمروان بن الحكم: يا مروان! أخرجه، ولا تدع أحداً يكلّمه حتى يخرج(٢) .

وكان في توديعه جماعة من الصحابة ومن أهل البيت عليهم السلام وفي وداعه تكّلموا معه قال له أمير المؤمنين عليه السلام : ((يا أبا ذر انك غضبت لله! إن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا...

يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق، ولا يوحشنك إلا الباطل )).

________________

(١) مروج الذهب ٢:٢٧٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٢، تقدم في رواية أخرى: إذا بلغ بنو أبي العاص.

٢٦٨

وقال الإمام الحسين عليه السلام : ((يا عمّاه، إن الله تعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى؛ والله كل يوم هو في شأن وقد منعك القوم دنياك، ومنعتهم دينك؛ فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم... ))

ثم تكلّم عمار مغضبا، فقال، لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك؛ أما والله لو أردت دنياهم لأمّنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبوك؛ وما منع الناس ان يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا، والجزع من الموت، ومالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه؛ والملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم، فخسروا الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين.

فبكى أبو ذر، وقال: إني ثقلت على عثمان بالحجاز، كما ثقلت على معاوية بالشام، وأكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فافسد الناس عليهما؛ فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله، والله ما أريد إلاّ الله صاحباً، وما أخشى مع الله وحشة.

فلم يزل أبو ذر بالربذة حتى توفي منفياً.(١) .

سيرة الصحابي حجر بن عدي الكندي

وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مع أخيه هانيء فأسلم، وكان من عباد الناس وزهادهم، وكان كثير الصلاة والصيام.

وكان شريفاً، أميراً مطاعاً، أمّاراً بالمعروف، مقدماً على الإنكار، وكان ذا صلاح وتعبد(٢) وكان مجاب الدعوة(٣) .

وكان من الموالين للإمام علي عليه السلام بعد ان سمع العديد من الأحاديث النبوية في حقّه، واستمر على ولائه وتابعه في جميع أموره، وكان كإمامه يفضل المصلحة الإسلامية العليا على غيرها، ولذا اشترك في الفتوحات التي قادها من تولى السلطة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله فلم ينقطع عن الجهاد، بحجة انّه يجاهد تحت ظل قيادة مخالفة لولائه وانتمائه، فقد شارك في حرب القادسية، وفي

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ : ٢٥٣، ٢٥٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣: ٤٦٣.

(٣) أسد الغابة ١: ٤٦٢.

٢٦٩

معركة جلولاء كان قائداً لألفي فارس وكان على ميسرة الجيش(١) .

وهو الذي افتتح مرج عذراء، وشاءت الأقدار أن يقتل فيها(٢) .

وكانت مشاركته في الفتوحات كغيره من أتباع الإمام علي عليه السلام خير دليل على الحرص على المصلحة الإسلامية العليا المتمثلة بالاتحاد والتعاون والتآزر مع بقية المسلمين من أتباع الخلفاء، أو مع الجيش الإسلامي المؤتمر بأوامر أبي بكر وعمر.

ووحدة المسلمين تعني وحدة الموقف العملي تجاه القضايا المصيرية، ووحدة الموقف العملي تجاه تحديات ومؤامرات الأعداء مع الاحتفاظ بالمتبنيات الفكرية والسياسية وعدم التنازل عنها أو المجاملة عليها تحت ذريعة الوحدة الإسلامية فقد احتفظ بولائه للإمام علي عليه السلام والإيمان بأنّه منصّب من قبل الله تعالى وانّه أفضل ممّن تقدّمه في قيادة الدولة، ولكن ذلك لم يمنعه من الاشتراك في الفتوحات.

وفي عهد عثمان كان ينطلق من المصلحة الإسلامية العليا في مواقفه المتنوعة، فحينما قرّب عثمان الأمويين وعينهم ولاة ومستشارين دون مؤهلات متوفرة فيهم، ووزع الأموال عليهم؛ انطلق حجر ليؤدي مسؤوليته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الأوضاع القائمة التي تنعكس آثارها السلبية على حركة الإسلام والمسلمين، ولذلك اشترك في كتابة كتاب إلى عثمان بن عفّان جاء فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين...سلام عليك... أما بعد فإننا كتبنا إليك هذا الكتاب نصيحة لك واعتذاراً وشفقة على هذه الأمة من الفرقة... فأنت أميرنا ما أطعت الله واتبعت ما في كتابه... نكون لك على الحق أنصار أو أعوانك... ادع الله بك إلى طاعته، يعصمك بتقواه من معصيته ))(٣) .

فقد كان الكتاب بمنتهى الأدب والخلُق الرفيع، فقد كان يخاطب عثمان بإمرة المؤمنين وان كان يرى أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام أحق بالخلافة منه، وقد بين أن محتوى الكتاب هو نصيحة للعودة إلى مفاهيم وقيم الإسلام في إسناد المناصب وتوزيع الأموال،

________________

(١) كتاب الفتوح ١: ٢١١.

(٢) الإصابة في تمييز الصحابة ١: ٣١٤.

(٣) كتاب الفتوح ١: ٣٩٠.

٢٧٠

ومن الأمور المهمة التي جاءت بالكتاب إن المقياس في تقبل قيادة وسلطة الحاكم هو طاعة الله تعالى وأتباع إرشادات وتعاليم القرآن الكريم، أي الالتزام ببنود الدستور الإسلامي.

وأتبع الإمام علياً بعد أن بايعه وشارك معه في إنهاء التمردّات على سلطته الشرعية، فقاتل معه في الجمل وصفين والنهروان.

فقد انطلق من مسؤوليته الشرعية في طاعة القائد الربّاني المنصَّب من الله ورسوله صلّى الله عليه وآله استناداً لما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله في حقّه، إضافة إلى مؤهلاته التي أهلته للإمامة والخلافة وفي مقدّمتها: العلم والتقوى التي تصل إلى قمتها وهي العصمة، فهو يجاهد عن قناعة تامة بأحقيّة الإمام عليه السلام ولم يكن مجرد جندي أو قائد عسكري مأموراً بطاعة القيادة العليا للجيش أو للدولة، ولذا كان يقاتل باندفاع ذاتي، فلم يكن مكرهاً أو مجبوراً.

وقد كان الإمام عليه السلام يكلّفه بمهام عديدة، فحينما أقبل الضحّاك بن قيس في خيل أهل الشام حتى وصل إلى القطقطانة أمر الإمام علي عليه السلام حجر بن عدي بالمسير إليه، فقاتله فانهزم الضحّاك(١) .

وكان قائدا لكندة في صفين، وكان مستسلماً لأوامر وتوجيهات الإمام علي عليه السلام

وإتّبع حجر الإمام الحسن عليه السلام وتجهزّ مع الجيش الذي بعثه لردع معاوية وإعادته للطاعة، ولكنّ الظروف لم تساعد الإمام عليه السلام على الاستمرار في المعركة لأسباب عديدة، فقبل الصلح بشروط عديدة اثر فيها الإمام عليه السلام مصلحة شيعته والمصلحة الإسلامية العليا

وبقي حجر موالياً لمنهج أهل البيت عليهم السلام بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام وكان يدافع عنهم، فحينما كان المغيرة بن شعبة ـ والي معاوية على الكوفة ـ لا يدع شتم عليّ والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، كان حجر يقول: بل إياكم ذمّ الله ولعن.

ويقول: أنا اشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم(٢) .

وأمره ذات يوم المغيرة أن يقوم فيلعن علياً عليه السلام ، فأبى ذلك، فتوعده، فقام فقال: أيها الناس، إن أميركم أمرني أن العن

________________

(١) كتاب الفتوح ٤: ٢٢٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٢، ٤٧٣.

٢٧١

علياً فالعنوه، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد(١) .

وحينما كتب معاوية إلى المغيرة يستمده بمال يبعثه من بيت المال، فبعث عيراً تحمل مالاً، فاعترض لها حجر، فأمسك بزمام أولها، وقال: لا والله حتى يوفي كل ذي حقّ حقّه.

وحينما طلب قوم المغيرة منه قتل حجر أجابهم: إني قد قرب اجلي ولا أحب أن اقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى، ويعزّ في الدنيا معاوية، ويشقى في الآخرة المغيرة(٢) .

وبعد موت المغيرة تولى زياد بن أبيه الأمر في الكوفة، وكانت بينه وبين حجر مودّة سابقة، فاحضره، ثم قال له: يا حجر ارايت ما كنت عليه من المحبّة والموالاة لعلّي؟ قال: نعم! قال: فإنّ الله قد حوّل ذلك بغضة وعداوة، أو رأيت ما كنت عليه من البغضة والعدوان لمعاوية؟ قال: نعم! قال: فإنّ الله قد حوّل ذلك محبة وموالاة، فلا اعلمنّك ما ذكرت علياً بخير ولا أمير المؤمنين معاوية بشر.

واستمر حجر على موقفه في موالاة علي عليه السلام والدفاع عن سيرته، وكان يرد اللعن على زياد.

وفي احد المواقف أطال زياد الخطبة وأخّر الصلاة، فقال له حجر: الصلاة، فمضى في خطبته، فلما خشي حجر الفوت ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة وثار الناس معه، فنزل زياد فصلى بالناس، ثم كتب إلى معاوية في أمره من أنّه خلع الطاعة ودعا إلى الفتنة(٣) .

وفي رواية كتب إليه: أنهم خالفوا الجماعة في لعن أبي تراب، وزروا على الولاة، فخرجوا بذلك من الطاعة(٤) .

فأمر معاوية بأشخاصهم إليه ـ وكانوا ثلاثة عشر رجلاً ـ فلما صاروا بمرج عذراء من دمشق على أميال، أمر معاوية بإيقافهم هناك، ثم جاء الأمر بقتلهم فقتلوا باستثناء ستة منهم.

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤: ٥٨.

(٢) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٣.

(٣) المنتظم ٥: ٢٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٣٠.

٢٧٢

وفي وصية حجر قال: لا تنزعوا عنّي حديداً، ولا تغسلوا عنّي دماً، فانّي لاق معاوية على الجادة(١) ,

وكان السبب في قتل حجر وأصحابه هو رفض البراءة من علي عليه السلام وفي آخر اللحظات قيل لهم: تبرأوا من علي حتى يطلقكم، فلم يفعلوا(٢) .

وقد بعثت عائشة عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية تسأله ان يخّلي سبيلهم(٣) .

إلا أنّ معاوية لم يهتم بالأمر، وحينما عاتبته بالقول: ما حملك على قتل أهل عذراء حجراً وأصحابه؟ قال إني رأيت في قتلهم صلاحاً للأمة، وفي مقامهم فساداً للأمة.

فقالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ((سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء )).

وكان الإمام علي عليه السلام يقول: ((يا أهل العراق سيقتل منكم سبعة نفر بعذراء، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود ))(٤) .

وقد ألقيت الحجة على معاوية قبل قراره بقتل حجر، فقد كتب إليه شريح بن هاني، بلغني أن زياداً كتب شهادتي، وان شهادتي على حجر انه ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويديم الحج والعُمرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وان شئت فدعه.

وقال حجر لعامر بن الأسود العجلي ابلغ معاوية: أن دماءنا عليه حرام، وأنّا قد أومنّا وصالحناه وصالحنا، وأنّا لم نقتل احداً من أهل القبلة فيحلّ له دماؤنا(٥) .

________________

(١) اسد الغابة ١: ٤٦٢.

(٢) المنتظم ٥: ٢٤٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣: ٤٦٤.

(٤) البداية والنهاية ٨: ٥٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٣: ٤٨٤.

٢٧٣

ومن مواقفه روى إبراهيم بن الجنيد: أن حجر بن عدي أصابته جنابة، فقال للموكل به: أعطني شرابي أتطهر به ولا تعطني غداً شيئاً، فقال: أخاف أن تموت عطشاً فيقتلني معاوية.

فدعا الله فانسكبت له سحابة بالماء فأخذ منها الذي احتاج إليه، فقال له أصحابه: أدع الله أن يخلّصنا، فقال: ((اللهم خر لنا ))، فقتل هو وطائفة منهم(١) .

فقد دعا الله تعالى ليختار لهم ولم يدع للخلاص من القتل، وهذا يعبر عن عمق إيمانه وعن اشتياقه للانتقال إلى الدار الآخرة، فآثر الاختيار الإلهي على اختياره وان كان اختياره هي الشهادة.

وقال المأمور بقتله: إن أمير المؤمنين أمرني بقتلك يا رأس الضلال ومعدن الكفر والطغيان والمتولي لأبي تراب وقتل أصحابك إلاّ أن ترجعوا عن كفركم، وتلعنوا صاحبكم وتتبرؤوا منه.

فقال حجر وجماعة ممن كان معه: ((إن الصبر على حدّ السيف لأيسر علينا مما تدعونا إليه، ثم القدوم على الله وعلى نبيّه وعلى وصيّه أحب إلينا من دخول النار ))(٢) .

فقولهم: ((أحب إلينا من دخول النار )) يدل دلالة واضحة على أن طلب معاوية هو طلب البراءة الحقيقية وليست البراءة باللسان، والبرائة باللسان هي بداية التنازل والتراجع وهي لا تليق بشخصية مثل شخصية حجر، التي عرفت بالمواقف البطولية في حركة المسلمين، فقد تكون البراءة باللسان لأفراد عاديين لا ضرر فيها لإنقاذ أنفسهم من القتل، ولكن شخصية مثل حجر أرادت أن تثبت موقفاً للجيل الحاضر وللأجيال المقبلة لكي لا يتنازلوا عن مبادئهم وقيمهم، وبإراقة هذا الدم أصبح منهج أهل البيت عليه السلام مناراً لجميع المسلمين، وبقي منهجاً فاعلاً رغم القتل والإبادة على يد زياد وابنه عبيد الله والحجاج ويوسف بن عمر وجميع الطغاة على طول التاريخ.

لما قدم ليقتل قال: دعوني أصلي ركعتين، فجعل يطول في صلاته، فقيل له: اجزعاً من الموت؟

فقال: ((لا، ولكني ما تطهرت للصلاة قط إلا صليت، وما صليت قط اخف من هذه، وكيف لا اجزع وأني لأرى قبراً محفوراً

________________

(١) الإصابة في تمييز الصحابة ١: ٣١٤.

(٢) مروج الذهب ٣: ١٢.

٢٧٤

وسيفاً مشهوراً وكفناً منشوراً ))(١) .

سيرة الصحابي عمار بين ياسر

كان عمار رضي الله عنه من السابقين للايمان بالاسلام وبنبوة رسول الله صلّى الله عليه وآله حينما كانت الدعوة سريّة، فكان صلّى الله عليه وآله لا يفاتح إلاّ من يجد فيه المؤهلات لتبني الاسلام منهجا في الحياة، ومن يتصف بصفات حميدة وفطرة سليمة، مع الوثوق باخلاصه وشجاعته ونزاهته وقدرته على تحمّل المسؤولية، ومواجهة الصعاب في جميع مراحل السيرة النبوية وما بعدها.

وري عن زر عن عبد الله: أن اول من اظهر اسلامه سبعة فذكر منهم عماراً(٢) .

فحينما اعلن رسول الله صلّى الله عليه وآله بدء الدعوة العلنية والاعلان عن مفاهيم وقيم الاسلام ودعوة قريش والقبائل إلى الانتماء للاسلام، كان عمار من السبعة الاوائل الذين اظهروا الاسلام، واظهار الاسلام في تلك الظروف يعني الاستعداد للمواجهة والاستعداد لتحمّل الأذى والعذاب، ولذا كان اول من عذب في سبيل الله ومعه ابوه وامه.

كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يمرّ به وأبيه وأمه وهم يعذبون في رمضاء مكة، فيقول: ((صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة )).

وكان صلّى الله عليه وآله يضع يده على رأس عمار ويقول: ((يا نار كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على ابراهيم ))(٣) .

في احد المشاهد اخذه المشركون فعذبوه فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلّى الله عليه وآله وذكر الهة المشركين بخير، فلما اتى رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: ما وراءك؟

قال: شرّ يا رسول الله! ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير.

قال: كيف تجد قلبك؟

________________

(١) مروج الذهب ٣: ١٣.

(٢) الاصابة في تمييز الصحابة ٢: ٥٠٦.

(٣) تاريخ الاسلام: ٥٧١.

٢٧٥

قال: مطمئناً بالإيمان.

قال: فإن عادوا لك فعد لهم(١) .

وفي عمار نزلت الاية المباركة: ((من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان...))(٢) .

وقد تواترت الروايات والتفاسير على نزولها بحقّ عمّار حينما عذبوا والديه أمامه وقتلوهما، فاضطر وتحت التعذيب إلى التراجع عن الايمان بلسانه دون قلبه.

وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً وأحد والخندق وبيعة الرضوان وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وآله.

قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله في بداية الهجرة: ((ابشر يا عمار تقتلك الفئة الباغية ))(٣) .

وكان صلّى الله عليه وآله يكرر القول في مناسبات ومشاهد عديدة وكان يقول في حقه:

((إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ))(٤) .

وهذا القول اشارة واضحة لتمييز الحق عن الباطل في مرحلة ما بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله.

وقال صلّى الله عليه وآله: ((لا يُخيّر بين امرين الا اختار ارشدهما ))(٥) .

وقال صلّى الله عليه وآله: ((عمار مُليء ايماناً إلى مشاشه ))(٦) .

________________

(١) اسد الغابة ٣ : ٦٢٨.

(٢) سورة النحل: اية ١٠٦.

(٣) أسد الغابة ٣ : ٦٣٠.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٩١.

(٥) مسند احمد ٧ : ١٦٣.

(٦) سير اعلام النبلاء ١ : ٤١٣.

٢٧٦

وكان صلّى الله عليه وآله يؤكد على فضائل عمار وخصائصه ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وآله: ((أبو اليقظان على الفطرة...))(١) .

وحنما أغلظ خالد بن الوليد القول لعمار وانطلق يشكوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله قال صلّى الله عليه وآله: ((من عادى عماراً عاداه الله ومن أبغض عماراً أبغضه الله ))(٢) .

وعن امير المؤمنين علي عليه السلام قال: كنا جلوساً عند النبي صلّى الله عليه وآله فجاءه عمار فاستأذن فقال: ((ائذنوا له، مرحباً بالطيّب المطيّب ))(٣) .

وقال صلّى الله عليه وآله: ((إنّ الجنة تشتاق إلى ثلاثة عليّ وعمّار وسلمان ))(٤) .

إن مدح رسول الله صلّى الله عليه وآله لصحابي من الصحابة بتبيان دوره وفضله لم يكن رغبة منه صلّى الله عليه وآله أو مجاملة شخصية، وانما يقع مدحه ضمن المنهج النبوي في الهداية والارشاد والاصلاح، بتشجيع المحمود لكي يؤدي دوره ومسؤوليته على احسن وجه، ولا يقصر في أي تكليف يسند اليه، والاهم من ذلك جعل المدح وسيلة للهداية ، ولذا نرى ان مدحه صلّى الله عليه وآله متعلق بأحداث ووقائع حاضرة ومستقبلية قد تلتبس فيها الامور على الكثير من المسلمين بسبب قلة الوعي وعدم الاحاطة بالنوايا والممارسات مما يقعون في المعصية أو مخالفة الثوابت الاسلامية أو مخالفة المصلحة الاسلامية العليا.

فقد بين صلّى الله عليه وآله الرأي الحق والموقف الحق في ظروف خلط الاوراق السياسية والتباس المفاهيم والقيم، وعدم التمييز بين الحق والباطل، وقد بيّن صلّى الله عليه وآله الحجة والقاها على من ستلتبس عليه الامور ، فقد بيّن صلّى الله عليه وآله الموقف الحق في الاحداث المستقبلية والوقائع المستجدة، كواقعة السقيفة وواقعة الاختلاف بين عثمان والمعارضين ، وواقعة الجمل، وواقعة صفين التي ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين ، فلو تدبر المسلمون بالاحاديث الشريفة التي قيلت بحق عمار رضي الله عنهلأستطاعوا معرفة الرأي والموقف الحق واتبعوه، وتخلوا عن اتباع بعض الشخصيات المنحرفة والضالة والمضلة.

________________

(١) مجمع الزوائد ٩ : ٩٢٥.

(٢) مسند احمد ٥ : ٥٠.

(٣) مسند احمد ٥ : ٥٠.

(٤) البداية والنهاية ٧ : ٣١١.

٢٧٧

وبعد احداث السقيفة ساند عمار امير المؤمنين علياً عليه السلام في رفضه لبيعة أبي بكر ، وكان يدعو إلى امامته وخلافته والبيعة له، ولم يبايع الا بعد بيعة امير المؤمنين عليه السلام حفاظا على وحدة المسلمين.

وتابع عمار امير المؤمنين عليه السلام في موقفه من الخلفاء ، وفي مراعاته للمصلحة العامة للاسلام وللمسلمين، فاشترك في الغزوات في عهد عمر بن الخطاب، وكان له دور فعّال في كثير منها.

جعله عمر اميراً على الكوفة، وكتب إلى اهلها: اما بعد، فإنّي قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وهما من نجباء اصحاب محمد، فاقتدوا بهما(١) .

وعلى الرغم من اعترافه بأحقية الامام علي عليه السلام إلاّ أنه وافق ان يكون والياً لعمر بن الخطاب على الكوفة تقديراً منه للمصلحة العامة، والتي بقيت المحرك له في تعامله مع الاشخاص والاحداث والوقائع.

وفي عهد عثمان كتب عمار وعدة من اصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله كتابا إلى عثمان عددّوا فيه الأحداث، وخوّفوه به، واعلموه أنهم مواثبوه ان لم يُقلع، فأخذ عمار الكتاب، فأتاه به، فقرأ منه صدراً، ثم قال له: أعليّ تقدم من بينهم! فقال: لأني انصحهم لك(٢) .

وتفاقمت الأوضاع وازدادت تشنجاً بين عمار وعثمان، فقد صلّى عمّار على عبد الله بن مسعود وبعده المقداد دون اذن من عثمان حسب وصيتهما، فاشتدّ غضب عثمان على عمّار، وقال: ويلي على ابن السوداء! اما لقد كنت به عليماً(٣) .

وقد روي من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر، وأنا الرابع، وأنا شر الاربعة، ((ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون))(٤)

________________

(١) أسد الغابة ٣ : ٦٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ : ٥٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧١.

(٤) سورة المائدة: اية ٤٤.

٢٧٨

وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله(١) .

واعترض عمار على تسيير أبي ذر إلى الربذة، وبلغ عثمان عن عمار كلام، فأراد أن يسيره أيضا، فاجتمعت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسألوه إعانتهم، فقال علي عليه السلام لا ندع عثمان ورأيه، فجلس عمّار في بيته، وبلغ عثمان ما تكلمت به بنو مخزوم، فامسك عنه(٢) .

لم يكن موقف عمار من عثمان منطلقاً من مصلحة شخصية أو خلاف شخصي، بل كان منطلقاً من مسؤوليته الرسالية في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، واصلاح الاوضاع وتغييرها نحو الأفضل ، فقد وقف مواقف شجاعة من اجل إعادة الامور إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ولذا عبر عن ذلك بقوله لعثمان: ((لاني انصحهم لك)).

ولو إستجاب عثمان لمطالب الثوار أو المعارضين لما استمر عمار بالمعارضة له لانتفاء موضوعها وهو اصلاح الاوضاع.

وبعد مقتل عثمان بن عفان كان عمار من اوائل الداعين إلى بيعة امير المؤمنين علي عليه السلام

وحينما خرج طلحة والزبير وعائشة على الامام علي عليه السلام مطالبين بدم عثمان، توجه عمار إلى جمع من الصحابة ليحثهم على اسناد الامام علي عليه السلام ومنهم: (عبد الله بن عمر ، ومحمد بن مسلمة وسعد بن أبي وقاص)(٣) .

وبعثه الامام عليه السلام إلى أهل الكوفة ليحثهم على جهاد البغاة عليه، فخطب في أهل الكوفة قائلا: ((إن طلحة والزبير... كانا اول من بايع علياً ، فلما اخطأهما ما املاه نكثا بيعتهما من غير حدث)(٤) .

وكان له دور كبير في اقناع الكوفيين بنصرة الامام عليه السلام

وحينما صعد أبو موسى الاشعري المنبر في الكوفة ثم قال: ((إن هذه الفتنة النائم فيها خير من اليقظان ، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الساعي، والساعي خير من الراكب ، فأغمدوا سيوفكم حتى تنجلي هذه الفنتة )).

فقام عمار بن ياسر فقال: ((أيها الناس ان أبا موسى ينهاكم عن الشخوص إلى هاتين الجماعتين، ولعمري ما صدق فيما قال ، وما

________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ : ٥١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣.

(٣) الامامة والسياسة: ١ : ٥٥.

(٤) المصدر السابق ١ : ٦٧.

٢٧٩

رضى الله من عباده بما ذكر

قال الله عز وجل : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى امر الله فان فاءت فاصحلوا بينهما بالعدل واقسطوا }

وقال:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }.

فلم يرض من عباده بما ذكر أبو موسى من ان يجلسوا في بيوتهم ويخلوا بين الناس، فيسفك بعضهم دماء بعض، فسيروا معنا إلى هاتين الجماعتين واسمعوا من حججهم وانظروا من اولى بالنصرة فاتبعوه... ))(١) .

فكانت حجة وأدلة وبراهين عمار اقوى من حجة الاشعري، ولو رجع الاشعري إلى الوراء وتعمق في احاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله حول عمار لعرف الحقيقة وعرف الموقف المناسب ، فاذا كان الكوفيون معذورين لعدم سماعهم الاحاديث الشريفة فان أبا موسى الاشعري غير معذور.

وكان لعمّار دور واضح في معركة الجمل، فقبل بدئ المعركة قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال: ((ايها الناس ما انصفتم نبيكم حين كففتم عقائلكم في الخدور وابرزتم عقيلته للسيوف)).

ثم دنا من عائشة فنادى: إلى ماذا تدعين؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان ، فقال: قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق، ثم قال: ايها الناس انكم لتعلمون اينا المماليء في قتل عثمان؟ فرشقوه بالنبل، وتواتر عليه الرمي واتصل فحرك فرسه واتى عليا عليه السلام(٢) .

ولم يساند عمار الامام عليه السلام تعصبا له ، بل سانده عن قناعة تامة لانه وجده على الحق وان مخالفيه على الباطل للأسباب التالية:

١ـ وجوب طاعة الامام عليه السلام من قبل عائشة وطلحة والزبير لأنه منتخب من أهل الحل والعقد على راي أهل السنة ،

________________

(١) الامامة والسياسة ١ : ٦٦.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٩١.

٢٨٠