سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة0%

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 375

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف: الدكتورمحمدتقي مشكور
تصنيف:

الصفحات: 375
المشاهدات: 11065
تحميل: 1466

توضيحات:

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11065 / تحميل: 1466
الحجم الحجم الحجم
سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

سيرة الصحابة في موازین القرآن و السنة

مؤلف:
العربية

والقرآن الكريم حينما اوجب الاحترام وربط عدمه باحباط الاعمال؛ أراد ان تكون العلاقة بين القيادة الربانية وقاعدتها علاقة احترام وتقدير وتكريم وهي مستبطنة للمودة والمحبة والرحمة، والاحترام هو اساس للطاعة والاستسلام للأوامر والتوجيهات، لكي تكون اوامر وتوجيهات ذات قدسية خاصة وليس مجرد اوامر صادرة من جهة فوقية حريصة على طاعتها من قبل القاعدة مهما كانت الوسيلة المتبعة في هذه الطاعة.

عن أبي مليكة قال : ((كاد الخيران أن يهلكا ابو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه واله فقال ابو بكر لعمر: ماأردت الا خلافي.

فقال عمر: ماأردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك فانزل الله الاية))(١) .

ومن خلال الايات المتقدمة تظهر لنا مجموعة من الأمور الناقدة والذامة لأبي بكر وعمر ومنها:

١- انهما عوقبا في كتاب الله وذمهم الله تعالى في ستة ايات، واراد تعالى ان ان يبين سوء صحبتهما.

٢- حرصهما على التأّمر والحكومة فكل منهما يريد أن يؤخر صاحبه في حياة رسول الله صلى الله عليه واله،فكيف الحال بعد رحيله؟.

٣- انهما اشرفا على الهلاك

٤- قدما اختيارهما على اختيار الله تعالى وهو سوء ظن بالله تعالى ورسوله انهما لايختارا الأصلح.

٥- قال القاضي عياض:((ان التقدم والسبق بالقول على الرسول من سوء الأدب والسبق بالقول)).

وقال عبد الله بن عباس:((نهى الله عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام))(٢) .

٦- قال ابن تيمية:((ومن حقوق النبيّ أن الله حرّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن له ، وان يرفع الرجل صوته فوق صوت رسول الله وأخبر أنّه يحبط به العمل))(٣) .

________________

(١) فتح الباري : ٤٥٦ حديث ٤٨٤٧

(٢) كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ٣٥

(٣) الصارم المسلول على شاتم الرسول : ٨٥٦

٨١

ويمكن للبعض ان يقول ان الايات الكريمة نزلت لتربّي الصحابة على احترام رسول الله صلى الله عليه واله وعدم التقدم عليه بقول أو فعل ؛ فلايصح طعن الصحابة لانهم كانوا جاهلين قبل نزولها ؛ فهي في مقام التربية والتوجيه والارشاد.

والجواب : انّ بعض الصحابة استمروا في هذا النهج أي في التقدم على رسول الله صلى الله عليه واله ومخالفته والاعتراض عليه في مواقف عديدة سنذكرها في المواضيع اللاحقة.

ونزلت ايات قرانية عديدة تحذر من كثير من السلبيات في التعامل والعلاقة مع القيادة الربانية ومنها:

قوله تعالى:((أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ))(٥).

التجمعات الجانبية بعيداً عن القيادة الربانية ظاهرة خطيرة في حركة الصحابة لأنها تؤدي إلى إرباك البرامج والخطط، وإلى إرباك النشاطات المختلفة، وإلى حدوث إضطراب في العلاقات الداخلية أو تؤدي إلى التمرد أو الانسلاخ عن العمل للاسلام، وهذا ما أشارت إليه الآية:

والتجمعات الجانبية مقدّمة للتمرّد على القيادة الربانية، ومقدّمة للخروج عن الطاعة.

وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ))(٩).

يصاب بعض الصحابة بالفضول وحبّ الإطلاع غير النافع له ولحركة الاسلام، ولذا نهى القرآن عن ذلك، وورد عن رسول الله صلى الله عليه واله انّه قال:((ذروني ما تركتكم، فانّما هلك من كان قبلكم بسؤالهم وإختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما إستطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا))(١٠).

وقال تعالى: ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ))(١١).

٨٢

السريّة ضرورة من ضرورات الدين ما دامت أعين الأعداء مفتوحة تتابع الوجود الإسلامي وتضع الجواسيس للكشف عن أسراره من حيث القوة والضعف، لاستثمار الثغرات والدخول منها لاشاعة الاضطراب في صفوف الصحابة، أو وضع الخطط الرامية إلى إضعافهم وتشتيت صفوفهم أو تصفيتهم، ولهذا ذمّ القرآن الكريم الإذاعة وكشف الأسرار وإن كانت دون قصد ي.

والإذاعة أو كشف الأسرار أو إشاعة الأخبار والأحداث ظاهرة سلبية تؤدي إلى نتائج سلبية، وقد تكون نتائج قاصمة للامة بأسرها.

والآية الكريمة تشير إلى الإذاعة وكشف مطلق الأسرار سواء كانت الحالة التي يعيشها الصحابة إيجابية أو سلبية، فقد تكون إذاعة الإيجابيات مقدّمة للغرور والتراخي وعدم الحذر أو عدم الإستعداد لمواجهة أسوء الاحتمالات، وقد تكون إذاعة السلبيات إلى الارباك والاضطراب أو إلى الحذر الزائد أو وضع خطط غير ضرورية.

ولذا أمرت الآية الكريمة إلى الرجوع إلى القيادة الربّانية في مثل هذه الأمور، وعدم إتخاذ أي موقف الاّ بعد علمها وإخبارها، لكي توجّه الصحابةوجهة إيجابية، والرجوع إلى القيادة ضرورة إيجابية تقتضيها القيم الإسلامية وتقتضيها المصلحة الإسلامية ، فينبغي الإسراع لإخبار القيادة قبل الإخبار عن أيّ ظاهرة ، لانّ القيادة الربانية أعرف من غيرها بمواجهة الأمور وبمواجهة الأخبار والإشاعات ومعرفة صلاحها وفسادها.

ايات النقد للارشاد والتربية

أكّد القرآن الكريم بالكثير من الآيات على ظاهرة النقد الموجهة للصحابة.

وظاهرة النقد القرآني يراد منها أخذ الدروس والعبر في واقعنا المعاصر، فينبغي تعميم وتأصيل هذه الظاهرة من أجل تقييم وتقويم الأشخاص والوجودات أو الكتل الاجتماعية والسياسية، وكذلك المواقف والأحداث والقرارات من أجل تصحيح الأخطاء المقصودة وغير المقصودة، وتجاوز السلبيات للوصول إلى أفضل القرارات التي تحقّق الأمن والسعادة والعيش الكريم القائم على أساس إشباع حاجات الإنسان المادية والمعنوية؛ ليتسامى ويتكامل ويرتقي إلى مستوى الأمانة التي كلّفه الله تعالى بها.

٨٣

فمن يريد لنفسه ولمجتمعه ولحركة الإسلام النجاح والظفر في جميع المجالات ينبغي ـ بل يجب ـ عليه ممارسة النقد البنّاء؛ ولذا عدّ الإمام الصادقعليه السلام الناقد من أحب إخوانه إليه فقال: ((أحبّ إخواني إليّ من أهدى إليّ عيوبي))(١) .

والنقد البنّاء أحد مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور بهما في جميع مجالات الحياة الإنسانية.

فالإنسان والمجتمع في تدهور واضطراب وخسران في جميع مقوّمات الحياة الإنسانية وميادينها، باستثناء من تكون المفاهيم والقيم الإلهية هي الحاكمة على أفكاره وعواطفه وسيرته، حيث تُحَرِرُ الإنسان من جميع ألوان العبودية الفكرية والاجتماعية، وتزرع في الضمير والواقع الاستقرار والطمأنينة، وتدفع إلى العمل الإيجابي البنّاء في إصلاح وتغيير النفس والمجتمع.

ولهذا فالإنسان بحاجة إلى نقد بنّاء متواصل من قبل نفسه، ومن قبل خالقه المهيمن والمحيط بسكناته وحركاته، والنقد تقييم وتقويم لمظاهر الضعف البشري وملابسات الغريزة والنفس والعقل والضمير؛ ليتوجه إلى منهج خالقه فيجسده عملياً بعد الاستفادة من مواطن الضعف والقوّة. والنقد إنذار وتنبيه وتوجيه الشخصية الإنسانية.

والصحابي باعتباره كائناً ضعيفاً يتصف بالتسرع والعجلة ويتأثر بالظنون والأهواء النفسية، ويتأثر بالمغريات الخارجية، فانّه سرعان ما يخطأ نتيجة نسيانه للمفاهيم والقيم والموازين السامية أو عدم تحكيمها في فكره وعاطفته وسلوكه، وقد يبقى أسيراً للخطأ والنسيان فيفقد روح المقاومة للأهواء والرغبات التي تتأثر بالمغريات الخارجية، وبالتالي قد ينتهي به الأمر إلى الانزلاق دون عودة، ويستثنى من هذا المصير من يعترف بأخطائه بعد نقده لذاته، وهذا الاعتراف والنقد هو مقدّمة للصلاح والتوجه إلى الله تعالى وطلب العون منه لإصلاح النفس في علاقاتها مع الآخرين وفي الذنوب والرحمة، والانتصار على الأعداء.

قال تعالى: (... رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )(٢) .

قال العلامة الطباطبائي :(( لما قالوا في مقام إجابة الدعوة سمعنا و أطعنا و هو قول ينبىء عن الإجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف و الفتور، و التفتوا أيضا إلى ما آل إليه أمر الذين كانوا من قبلهم و قد كانوا أمما أمثالهم استرحموا ربهم و سألوه أن لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة و الحمل و التحميل لأنهم علموا بما علمهم الله أن لا حول و لا قوة إلا بالله، و أن لا عاصم من الله إلا رحمته.

________________

(١) بحار الأنوار ٧٤: ٢٨٢.

(٢) سورة البقرة: ٢٨٦.

٨٤

و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان معصوما من الخطإ و النسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله و يصان به تعالى فصح له أن يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه، و يدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.

قوله تعالى: ((ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ))، الإصر هو الثقل على ما قيل، و قيل هو حبس الشيء بقهره، و هو قريب من المعنى الأول فإن في الحبس حمل الشيء على ما يكرهه و يثقل عليه.

قوله تعالى: ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق، إذ قد عرفت أن العقل لا يجوزه أبدا، و أن كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: و قالوا سمعنا و أطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ و نحوه.

قوله تعالى:((واعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا )) العفو محو أثر الشيء، و المغفرة ستره، و الرحمة معروفة، و أما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب أن يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الأصل، و بعبارة أخرى من الأخص فائدة إلى الأعم، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب أثر الذنب و إمحاؤه كالعقاب المكتوب على المذنب، و المغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب و الستر عليه، و الرحمة هي العطية الإلهية التي هي الساترة على الذنب و هيئته.

و عطف هذه الثلاثة أعني قوله: و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا على قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا على ما للجميع من السياق و النظم يشعر: بأن المراد من العفو و المغفرة و الرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطإ والنسيان ونحوهما ))(١) .

والنسيان هذا نسيان التكليف والمسؤولية والعهد مع الله تعالى، وهو الغفلة عن المواعظ والعبر والقيم الصالحة.

والنقد الإلهي للأمّة المتمثلة بالصحابة هو إرشاد وتوجيه وتربية وتعليم لها؛ للتقيّد بالمفاهيم والقيم الإلهية وتجسيدها في عالم الضمير وعالم الواقع، والاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة والنهوض بتكاليفها، والاستعلاء على المغريات والمعوّقات، وعدم التوقف عن الحركة الدؤوبة لإقرار المنهج الإلهي في الواقع.

والقرآن الكريم حافل بالآيات المباركة التي تتعرض إلى تقييم وتقويم الأمةأوالصحابة.

فقد انتقد الموازين والمعايير وهي مفاهيم وقيم محرّكة للإنسان وموجهة له نحو العمل والنشاط والفاعلية، فيها يتفاضل مع غيره طبقاً لمتبنيات المجتمع الفكرية وطبقاً للعادات والتقاليد المعمول بها، والتي تعمل عمل الحاكم على جميع الأفكار والعواطف والممارسات حيث تطبق على الإنسان فيتحرك على ضوئها؛ ليرضي الآخرين، أو يفخر أمامهم، أو يجد كرامته ومقامه فيها.

ومن هنا وجّه القرآن الكريم نقده إلى هذه الموازين وقارنها بموازينه ومعايره السليمة؛ لتكون دافعاً للأمة للاهتداء بهديها، ومنها موازين العلاقات.

________________

(١) الميزان في تفسير القران ٢: ٦٤٣.

٨٥

قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(١) .

فقد جعل حبّ الله والرسول والجهاد موازينَ ثابتة لتوزن بها العلاقات للتخلّي عن الموازين الجاهلية.

وانتقد مَنَّ البعض بإسلامهم وبيّن العكس بأنّ الله تعالى هو الأحق بالمنّ لأنّه أنقذهم من الأوهام والضلالة والانحراف والعبودية.

قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ )(٢) .

ووجّه القرآن الكريم العقول والقلوب والمواقف إلى مفاهيمه وقيمه لتكون حاكمة على أثقال الدنيا وموازينها كالتجارة واللهو.

قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )(٣) .

وأراد الله تعالى للصحابة أن تتبنى منهجه في الحياة؛ ليكون حاكماً على جميع مقوّمات الشخصية، وحاكماً على جميع المواقف والأحداث والممارسات والوجودات والأشخاص، وما الارتباط بالقائد إلاّ وسيلة من وسائل تبني المنهج، فينبغي أن يكون الارتباط بالمنهج الإلهي مقدّماً على الارتباط بالنبي صلى الله عليه واله؛ لكي يبقى ثابتاً وراسخاً حتى في حال غيابه بموت أو قتل، أو سفر أو ظرف خاص.

قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )(٤) .

________________

(١) سورة التوبة: ٢٤.

(٢) سورة الحجرات: ١٧.

(٣) سورة الجمعة: ١١.

(٤)سورة آل عمران: ١٤٤.

٨٦

وحرّم الله تعالى التناجي أو التشاور بالإثم والعدوان ومعصية القائد، فينبغي أن تستسلم الأمة لتوجيهاته وإرشاداته وخططه وبرامجه، وهو نهي أو نقد لعقد التخالفات البعيدة عن نظره أو المخالفة له؛ لأنّ هذه التخالفات هي مقدّمة لظهور تكتلات متمردّة لا تهتدي بهدي القائد الذي يتمتع بالتفوّق عليها علماً ومعرفة وإخلاصاً ونزاهة، فينبغي ـ بل الواجب ـ الرجوع إليه، ناهيك عن معصيته.

قال تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )(١) .

ووجه الانظار الى أن النصر لا يتحقق إلاّ بالاتحاد، وطاعة النبي، وعدم الانسياق وراء مغريات الحياة، وهذه العوامل الثلاثة وما ينطلق منها من مواقف وممارسات عملية في هذا الاتجاه تجعل النصر الإلهي قريباً، كما هو وارد طبقاً للسنن الإلهية الحاكمة على الكون والحياة والإنسان، وقد تحقق النصر في بداية معركة أحد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه واله قد أمر خمسين رجلاً من الرماة وعلى رأسهم عبدالله بن جبير بقوله: ((انضح الخيل عنّا بالنبل، لا يأتُونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فأثبت مكانك؛ لا نُؤْتَينَّ من قِبَلك ))(٢) .

ولكنّ الرماة ـ بعد أن تحقق النصر ـ اختلفوا فيما بينهم، فثبت بعضهم، وترك الآخرون مواقعهم طلباً للغنيمة، فاستثمر المشركون الفرصة وعادوا من جديد، فكانت النتائج في صالحهم، وانهزم حينئذٍ المسلمون.

قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ )(٣) .

وقد بيّن الله تعالى أسباب الهزيمة من أجل تربية الصحابة على الإخلاص والتجرّد له وحده، وطاعة الرسول صلى الله عليه واله، وتوحيد الصفوف وعدم الوهن، فلما شعرت الأمة بالأخطاء الفادحة وتجاوزتها عفا الله عنها.

________________

(١) سورة المجادلة: ٩.

(٢) السيرة النبوية ٣: ٧٠.

(٣) سورة آل عمران: ١٥٢.

٨٧

والقرآن الكريم يوجّه نقده لأمة المسلمين أو للصحابة من أجل أن يستشعروا الرقابة الإلهية، ويستشعروا الرعاية الإلهية التي لا تتأتى جزافاً، وإنّما تنطوي على أسس ومقوّمات، فاستشعار الفشل والضعف يؤدي إلى عدم تحقيق النصر، واستشعار القوّة والرعاية الإلهية المترتبة على الإيمان بولاية وحاكمية الله هي التي تحقق النصر بعد التوجه إلى الله وإيكال الأمر إليه وهو العلّة الوحيدة للنصر.

قال تعالى: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ )(١) .

في هذه الآية المباركة كشف الله تعالى عن المخبوء في هاتين الطائفتين، ولم يتستر عليهما، بل أراد أن يربّيهما على استشعار الرقابة الإلهية، وعلى استشعار القوّة الغيبية الساندة لهم والناصرة لهم، وهي دعوة للتوكل على الله تعالى وطلب العون والتسديد منه وحده.

فالنقد هنا مُنْصبٌ على كشف المخبوء لما في ذلك الكشف من مصلحة لهاتين الطائفتين ولمطلق المسلمين، فالنقد هنا دعوة للحركة والعمل، وليس لتثبيط المعنويات، وقد أصبح درساً وعِبْرة لتجاوز ظاهرة الفشل في المستقبل.

وفي نهاية هذه الآية تأتي الآية اللاحقة حيث تنتقل من محور الفشل المخبوء إلى التذكير بالنصر والظفر في معركة بدر.

قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )(٢) .

في هذه الآية الكريمة يذكر الله تعالى المسلمين ببدرٍ فهم على قلّة عددهم وعدّتهم، وعلى ضعفهم فانّه نصرهم.

ومن خلال الآيتين الكريمتين يوجه الله تعالى عقول وقلوب المسلمين إلى أسباب النصر وأسباب الهزيمة، ليستشعروا بأنّها من عندالله تعالى، وإنّ مرجع الأُمور في النهاية إليه، بعد لفت انتباههم إلى الأسباب الطبيعية للنصر والهزيمة التي يرتب عليها النتائج طبقاً لسننه في الكون والحياة ليتعرف الصحابة على نقاط الضعف ومواطن القوّة فيسعون إلى تحقيقها.

وانتقد القران الكريم اعجاب الصحابة بكثرتهم التي ادت الى هزيمتهم في بداية المعركة وتركهم رسول الله صلى الله عليه واله مع عدد قليل من الصابة.

________________

(١) سورة آل عمران: ١٢٢.

(٢) سورة آل عمران: ١٢٣.

٨٨

قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ )(١) .

أوكل الله تعالى أمر النصر إليه وهذه سنّة إلهية، فالنصر لا يعتمد على الكثرة والعدّة بمفردها إن لم يكن هنالك إخلاصاً وتجرداً لله تعالى والاعتقاد بأنّه الناصر والمعين.

وفي معركة حنين أعجبت المسلمين كثرتُهم وأصابهم الغرور بالاعتماد على قوّة غير قوّة الله تعالى، فبيّن الله لهم أنّ الكثرة العددية ليست بشيء، وأنّها لا تحسم المعركة لصالحهم، إنّما القلّة القليلة العارفة، المتصلة بالله تعالى هي التي تحقق النصر برعايته تعالى، فالكثرة لم تنفع في تحقق النصر، وإنّما الذي حقق النصر هو القلّة التي ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه واله حيث أنزل الله سكينته عليهم، وأنزل عليهم جنوداً لم يروها فتحقق النصر، فبالسكينة ثبتت القلوب وهدأت الانفعالات الناجمة عن العجب والغرور بعد شعورها بأنّ النصر من عند الله تعالى.

وانتقد القران الكريم الازدواجية عند الصحابة بين القول والعمل

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ )(٢) .

إنّ الإيمان بالله تعالى ليس كلمة أو قولاً يقال باللسان، فلا جدوى للكلام والقول ما لم يتجسد في واقع سلوكي عملي تترجم فيه الأقوال والآراء إلى مشاعر وعواطف وأعمال وممارسات وعلاقات متجسدة في الواقع في جميع مجالاته، فمن يتبنى الإسلام منهجاً له في الحياة ينبغي أن يطابق فعله قوله، وأن تكون شخصيته شخصية واحدة لا ازدواجية فيها، فينبغي أن يستتبع قوله بعمل إيجابي مثمر وفق المفاهيم والقيم الإلهية التي ينطق بها بلسانه أو يدعو إليها.

وقد انتقد الله تعالى الذين آمنوا ممن يخالف فعلهم قولهم واعتبره أكبر مقتاً في موازينه الإلهية حبذا لو تذكر الآية: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ).

________________

(١) سورة التوبة: ٢٥، ٢٦.

(٢) سورة الصف: ٢، ٣.

٨٩

الصحابة في موازين السُنّة النبوية

وردت روايات مستفيضة ومتواترة عن رسول الله صلى الله عليه واله انه اثنى على أصحابه الذين واكبوا مسيرة الرسالة والدعوة الاسلامية في جميع مراحلها منذ بداية البعثة الشريفة والمرحلة السرية وتحمل العذاب ثم الهجرة والجهاد، ابتداءً من المهاجرين الأوائل والأنصار وانتهاءاً بمن أسلم فيما بعد، وكان ثناؤه تارة على المجموع بما هو مجموع، وتارة على بعض الأفراد من الصحابة بأسمائهم؛ لمواقفهم النبيلة والمشرقة في الدفاع عن الرسالة وعن الرسول صلى الله عليه واله، وقد وردت الروايات المستفيضة في كتب الشيعة والسُنّة مؤكدة على هذا الثناء الذي يتناسب مع مواقفهم العملية ودرجة ذوبانهم في المبادىء الإسلامية، فلم يترك صلى الله عليه واله مناسبة أو واقعة إلاّ اثنى فيها على أصحابه ، وهم أهلاً للثناء حيث آمنوا به وصدّقوه، وفارقوا الأهل والديار والأموال من أجل رضوان الله تعالى، واستمروا مع رسول الله صلى الله عليه واله مجاهدين ومضحّين، واتبعوه في أوقات العسرة والشدّة، متغلبين على شهوات النفس ومغريات الحياة وأذى الكفّار وتآمر الأعداء

ووردت روايات في ذم الكثير منهم لمخالفتهم له في أوامره ونواهيه ، وعصيانهم له، وابتعادهم عن منهجه في حياته وبعد مماته ، وجاء الذم تقريعاً لهم للعودة إلى الاستقامة وتحذيراً لهم من التردّد والنكوص والانحراف والارتداد على الاعقاب، وكشفاً لحقيقة البعض، والقدر المتيقن الأهم هو مخالفة رسول الله صلى الله عليه واله في الامور السياسية، وهذاما قاله النقيب أبو جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد، وهو على حد تعبير ابن أبي الحديد: ((لم يكن إمامي المذهب ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة))(١) .

ففي حواره مع ابن أبي الحديد قال: ((إن القوم لم يكونوا يذهبون في الخلافة إلى أنّها من معالم الدين، وأنّها جارية مجرى العبادات الشرعية، كالصلاة والصوم، ولكنّهم كانوا يُجروها مجرى الأُمور الدنيوية، ويذهبون لهذا، مثل تأمير الأُمراء وتدبير الحروب وسياسة الرعيّة، وما كانوا يبالون في أمثال هذا من مخالفة نصوصه(صلى الله عليه وآله) إذا رأوا المصلحة في غيرها; ألا تراه كيف نصّ على إخراج أبي بكر وعمر في جيش أسامة، ولم يخرجا لمّا رأيا أنّ في مقامهما مصلحة للدولة وللملّة، وحفظاً للبيضة، ودفعاً للفتنة وقد أطبقت

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٩٠.

٩٠

الصحابة إطباقاً واحداً على ترك كثير من النّصوص لمّا رأوا المصلحة في ذلك، كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلّفة قلوبهم، وهذان الأمران أدخلُ في باب الدّين منهما في باب الدنيا حتى اقتدى بهم الفقهاء من بعدُ، فرجّح كثير منهم القياس على النصّ ...))(١) .

ومن ابرز الصحابة واقدمهم واقربهم لرسول الله صلى الله عليه واله قربة نسبية وعقائدية وسلوكية هو الامام علي عليه السلام وهو المقياس لبقية الصحابة فمن ايده ونصره واحبه مع الالتزام بمفاهيم وقيم الاسلام فهو عادل ومن حاربه وابغضه فهو غير عادل،وسنتطرق الى مسيرة رسول الله صلى الله عليه واله ومعه اصحابه وابرزهم الامام عليه السلام لنتطلع على دوره وجهاده ومواقفه التي ساهمت في انتصار الاسلام ، وهو افضل مصاديق الصحابة وهو مقياس لتقييم الصحابة من حيث العدالة وعدمها ولا تبرير لمن حاربه ولاتأويل الا انهم حاربوه مع سبق الاصرار.

والتطرق الى فضائله ودوره ومقامه خير وسيلة لكشف هشاشة الراي بعدالة الصحابة فردا فردا.

وفي تصورنا ان عدالة الصحابة يراد منها اثبات عدالة معاوية بالذات ومن معه وتاييدا لممارساته.

في السنين الأولى من عمر الامام علي عليه السلام أصابت قريشاً أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه واله للعباس ـ وكان من أيسر بني هاشم: ((إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا، فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بيته واحداً، وتأخذ واحداً، فنكفيهما عنه)).

قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ماهم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه واله علياً عليه السلام فضمه اليه وكان عمره يومئذ ستة أعوام(٢)

وفي ذلك قال رسول الله(ص): ((قد إخترت من اختاره الله لى عليكم علياً))(٣)

فكان الاختيار من الله تعالى وهذا يدل على الرعاية الالهية والتخطيط الالهي للامام علي عليه السلام ليكون قريباً من رسول الله صلى الله عليه واله يتعلّم منه مفاهيم وقيم الحياة الصالحة، وقد أشار الامام علي عليه السلام الى قربه من رسول الله صلى الله عليه واله في مواضع عديدة من خطبه وكلماته وتأثير هذا القرب على نشأته العقائدية والسلوكية، وكان يتبعه في حركاته وتنقلاته وخصوصاً في غار حراء.

________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٨٢، ٨٣، ٨٤.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣: ١٩٨.

(٣) شرح نهج البلاغة ١: ١٥.

٩١

وقد عبّر الامام علي عليه السلام عن ذلك قائلاً: ((وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه والهبالقرابة القريبة،والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضع الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل...

ولقد كنت اتّبعه اتباع الفصيل أثرامّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ فى الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه والهوخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة....))(١)

وهذا النصّ يدل على ان الامام علياً عليه السلام قد تمتع برعاية رسول الله صلى الله عليه واله منذ نشأته الأولى، فكان يرعاه رعاية خاصة وبجميع ألوان الرعاية كتقديم الغذاء، واشعاره بالمحبة، إضافة الى الرعاية التربوية، فقد ربّاه تربية الهية ورسالة، وكان يأمره بالاقتداء به، وهو تعبير عن إقتداء الإمامة بالنبوة.

وحينما بعث رسول الله صلى الله عليه واله نبياً ورسولاً كان الامام عليه السلام أول من صدّقه واتبعه جنباً الى جنب خديجة الكبرى عليها السلام.

عن أنس بن مالك قال: أنزلت النبوة على رسول الله صلى الله عليه واله يوم الإثنين وصلّى عليّ يوم الثلاثاء(٢)

وجعل رسول الله صلى الله عليه واله يذكر جميع ما نزل عليه سراً الى من يطمئن اليه من أهله وكان أوّل من تبعه إبن عمّه عليّ بن أبي طالب(٣)

قال عفيف أخو الأشعث بن قيس لأمه: ((كنت امرءاً تاجراً فقدمت منىً أيام الحج، وكان العباس بن عبدالمطلب امرءاً تاجراً فأتيته ابتاع منه وأبيعه، فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلّي معه، فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما ندري ماهو! فقال: هذا محمد بن عبدالله يزعم أن الله أرسله، وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح له، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمّه علي بن أبي طالب آمن به))(٤)

________________

(١) نهج البلاغة: ٣٠٠، الخطبة :١٩٢.

(٢) الكامل في التاريخ ٢: ٥٨.

(٣) السيرة النبوية لابن كثير ١: ٤٢٨.

(٤) السيرة النبوية لابن كثير ١: ٤٢، ومثله في: الكامل في التاريخ ٢: ٥٧.

٩٢

وبدأت الدعوة سريّة والظاهر منها هو مفاتحة البعض سرّاً واخفاء انتمائهم للاسلام أمام المشركين، وفي جانبها دعوة عامة بتبيان مفاهيم وقيم الدين الجديد، وذلك ظاهر من عبارات المؤرخين فقد ((دعا رسول الله الى الاسلام سرّاً وجهراً... وكفّار قريش غير مكترثين لما يقول، فكان اذا مرّ عليهم فى مجالسهم يقولون: إنّ غلام بني عبدالمطلب ليكلم من السماء))(١)

فالسرية المعنية هي المحافظة على شخصيات من أسلم، والمحافظة على سرية التحرك ((وكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا الى الشعاب فاستخفوا))(٢)

ثم بدأت الدعوة العلنية فاسلم البعض من أبناء كبار الشخصيات والبعض من المستضعفين والعبيد مما أخاف قادة قريش من ذهاب سلطانهم فبدأوا يتآمرون على الرسالة وعلى شخص الرسول صلى الله عليه والهإلا أن التآمر لم يصل الى القتل خوفاً من أبي طالب وخوفاً من عمّه حمزة الذي أعلن إسلامه، واشتدت المواجهة فأمر رسول الله صلى الله عليه واله بعض أصحابه بالهجرة الى الحبشة، فكانوا على قسمين:

أولاً: المستضعفون ممن لا يجدون حماية.

ثانياً: الشخصيات المرموقة والظاهر انّ مهمتها الدعوة الى الاسلام وادارة شؤون المهاجرين، لأنهم كانوا بحماية عشائرهم.

وأوّل تصريح بامامة وخلافة الامام علي عليه السلام كان في واقعة يوم الدار، والتي حدثت في السنين الأولى من البعثة، حنيما أمر الله تعالى رسوله الكريم(ص): ((وانذر عشيرتك الأقربين))(٣) .

فأخبر رسول الله صلى الله عليه والهالامام علياً عليه السلام بذلك فجمعهم اليه وكانوا يومئذ أربعين رجلاً من أبرز رجال بني عبدالمطلب فتكلّم رسول الله صلى الله عليه والهوقال: ((يا بني عبدالمطلب: إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم اليه، فأيّكم يؤازرني على هذ الأمر أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟)) فأحجم القوم عنها جميعاً، فقام الامام عليه السلام وقال: ((أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه)).

فأخذ برقبة علي عليه السلام ثم قال: ((إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا))(٤)

وفي رواية قال صلى الله عليه واله : ((هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي))(١)

________________

(١) المنتظم في تاريخ الامم والملوك ٢: ٣٦٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٢: ٦٠.

(٣) سورة الشعراء: ٢١٤.

(٤) الكامل في التاريخ ٢: ٦٣، تاريخ أبي الفداء ١: ١٧٥،

٩٣

وكان الامام عليه السلام يدعو للاسلام سراً وعلانية، وحينما إشتدت أزمة الصراع بين رسول الله والمشركين، وتعاقد المشركون على مقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب لدفاعهم عن رسول الله صلى الله عليه واله توجه رسول الله صلى الله عليه واله ومعه الامام علي عليه السلام الى شعب أبي طالب، وتحمّل الحصار الظالم لثلاث سنين، ليخرج وهو أصلب عوداً وأشدّ شكيمة في الدعوة الى الاسلام.

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) في بداية الدعوة يدعو إلى الايمان بالله تعالى والتخلي عن عبادة الاصنام ويدعو إلى ارساء القيم الصالحة في العلاقات والمعاملات، وإلى تطبيق العدالة والغاء والاضطهاد والاستغلال، ويدعو إلى مكارم الاخلاق، فكانت دعوته سلمية ليس فيها عداء ولا ظلم ولا صدام، إلاّ آنها جوبهت بعنف وعدوانية من قبل المشركين، فلم يكتفوا بالتكذيب وبث الاشاعات والاستهزاء تجاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) واصحابه، بل مارسوا الاضطهاد والأذى الجسدي وبأساليب لا تتناسب حتى مع القيم الجاهلية التي تعيب على الشخصيات المرموقة في المجتمع من ممارسة الوسائل الوضيعة مع الخصوم والاعداء.

وعلى سبيل المثال كان أبو جهل يضع القاذورات بين كتفي رسول الله(صلى الله عليه وآله)وهو يصلي، وكان بعض الأكابر من قريش يطرحون عليه رحم شاة وهو يصليّ(٢) .

واستمر مشركوا قريش في مواجهة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن آمن به، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ.

وكان ممن عذَّبوا بلال الحبشي، وكان اميّة بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللات والعزّى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.

وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار بن ياسر وبأبيه وأمه إذا حميت الظهيرة، ويعذّبونهم برمضاء مكّة، فيمرّ بهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنة، وقد قتل المشركون سميّة أم عمّار لانها أبت الرجوع عن الاسلام.

وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، فإذا كان ذا منعة ومكانة مرموقة أنّبه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهنّ حلمك، ولنفيِّلنَّ رأيك، ولنضعنّ شرفك، وان كان تاجراً قال: والله لنكسدنَّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.

قال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد الله بن عبّاس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله; إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطّشونه

________________

(١) معالم التنزيل ٤: ٢٧٩، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣١١.

(٢) أسباب النزول ، للسيوطي : ٣٤١

٩٤

حتى ما يقدر أن يستوى جالساً من شدّه الضرّ الذي نزل به، حتى يعطيهم ماسألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: أللات والعزّى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم(١) .

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يأمر المسلمين بالصبر ولم يتخذ أي موقف مسلح لردّ العدوان وان كان قادراً عليه، بل بقي يدعو إلى الصبر والاكتفاء بالحذر والاستتار عن أعين المشركين، إلى أن يأذن الله تعالى بأمره.

ولما رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما يصيب أصحابه من البلاء، وماهو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنّه لا يقدر على أن يمنعهم ممّاهم فيه من البلاء ـ إلاّ بالقتال ـ قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يظلم عنده احد، وهي ارض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم(٢) .

والذي نراه وهو المنسجم مع سير الأحداث أنّ المهاجرين إلى الحبشة لم يكونوا من المستضعفين، بل أن اغلبهم له مكانة مرموقة في المجتمع المكّي وله عشيرة تمنعه كجعفر بن أبي طالب، وعثمان بن عفّان، وأبو حذيفة بن عتبة، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وهؤلاء قادرون على مواجهة المشركين ومقاتلتهم أو اغتيال قادتهم أو على أقل التقادير قدرتهم على حماية انفسهم، فاختاروا الهجرة علي أي موقف آخر، لانّ الاسلام لايرغب في القتال ابتداءً، ولا يرغب في المواجهة المسلحة في بداية الطريق لتجنب الدماء وللحفاظ على أرواح الناس من مسلمين ومشركين مادام هنالك أمل في انضوائهم تحت راية الاسلام عاجلاً أم آجلاً، فكانت الهجرة تجنباً لحدوث صراع دموي يخلّف الاحقاد في القلوب والمشاعر دون أن يحقق اهداف الاسلام الكبرى.

ولما رأت قريش أنّ اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد نزلوا بلداً أصابوا منه أمناً وقراراً، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وجعل الاسلام يفشو في القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطّلب; على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، فلما كتبوا الصحيفة وعلقوها في جوف الكعبة، انحازت بنو هاشم وبنو

________________

(١) السيره النبوية لابن هشام ١: ٣٣٩ ـ ٣٤٢، الكامل في التاريخ ٢: ٦٦.

(٢) السيرة النبوية ١: ٣٤٤، الكامل في التاريخ ٢: ٧٦.

٩٥

عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه شعبه، فأقاموا على ذلك ثلاث سنين، حيث قطعوا عنهم المواد الغذائية والاستهلاكية، حتى بلغ الجهد مبلغاً لا يطاق، وسمع اصوات صبيانهم من وراء الشعب(١) .

وتوفي أبو طالب بعد انتهاء المقاطعة بوقت قصير، فاشتدّ البلاء على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ونالت قريش منه من الاذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه أحدهم فنثر على رأسه تراباً، وكان(صلى الله عليه وآله) يقول: ((مانالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب))(٢) .

وبعد وفاة أبي طالب حامي رسول الله صلى الله عليه واله توجه رسول الله صلى الله عليه واله الى القبائل المحيطة بمكة يدعوهم الى الاسلام والى نصرته، وكان يصطحب الامام عليه السلام في دعوته هذه(٣)

وقابل رسول الله(صلى الله عليه وآله) الأذى بالصبر والتحمّل ولم يتخذ أيّ موقف يؤدي إلى اراقة الدماء طمعاً في إيمان الكثير من المشركين ولو بعد حين.

واستمر رسول الله(صلى الله عليه وآله) على الدعوة السلمية في داخل مكة وخارجها، وكان يعرض الاسلام على القبائل القادمة من خارج مكة في موسم الحج، ففي أحد المواسم التقى مع جماعة من أهل يثرب فدعاهم إلى الله عزّوجلّ، وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن، فأجابوه فيما دعاهم اليه ثم انصرفوا إلى بلادهم، حتى إذا كان العام المقبل لقوه عند العقبة وبايعوه، يقول عبادة بن الصامت: كنت فيمن حضر العقبة الاولى، فبايعنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب على (ان لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولانأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف)(٤) .

وبعد عام من هذه البيعة خرج جماعه من مسلمي يثرب إلى الموسم حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند العقبة، وبايعوا رسول الله(صلى الله عليه وآله) سرّاً على الحماية والنصرة، وحينما علمت قريش بالخبر اقبلوا بالسلاح، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)للمبايعين تفرّقوا، فقالوا: يارسول الله أن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((لم أؤمر بذلك ولم يأذن الله لي في محاربتهم))(٥) .

________________

(١) السيرة النبوية ١: ٣٧٥، المنتظم ٢: ٣٨٧.

(٢) السيرة النبوية ٢: ٥٨.

(٣) السيرة النبوية لابن كثير ٢: ١٦٥.

(٤) السيرة النبوية ٢: ٧٥.

(٥) بحار الانوار ١٩: ١٣.

٩٦

قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم من بلادهم، فهم من بين مفتون في دينه، ومن بين معذّب في ايديهم، وبين هارب في البلاد فراراً منهم، منهم من بأرض الحبشة، ومنهم من بالمدينة، وفي كل وجه; فلما عتت قريش على الله عزّوجلّ، وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذّبوا نبيّه(صلى الله عليه وآله)، وعذّبوا ونفوا من عبده ووحدّه وصدّق نبيّه واعتصم بدينه، أذن الله عزّوجلّ لرسوله(صلى الله عليه وآله) في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية نزلت في إذنه له في الحرب، وإحلا له الدماء والقتال، لمن بغى عليهم، قول الله تبارك وتعالى: (اُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأ نَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَـقَدِيرٌ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أنْ يَـقُولُوا رَبُّـنَا اللهُ... )(١) .

فلما أذن الله تعالى له(صلى الله عليه وآله) في الحرب، وبايعه هذا الحيّ من الأنصار على الاسلام، والنٌّصرة له ولمن اتبعه، وأوَى اليهم من المسلمين، أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله)أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة اليها واللحوق باخوانهم من الانصار.

ولما رأت قريش أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين اليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله(صلى الله عليه وآله) اليهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ولما وصل خبرهم إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) قرّر الهجرة إلى المدينة تاركاً وطنه وبلاده وعشيرته، ولم يدخل في صراع مسلح معهم في داخل مكة.

وحينما هاجر رسول الله صلى الله عليه واله الى المدينة أخبر الامام عليه السلام بتعاقد قريش على قتله وأمره ان ينام في مضجعه على فراشه الذي كان ينام فيه، ووصاه باداء الامانات الى اهلها، وقال له: ((اذا أبرمت ما أمرتك به، فكن على أهبة الهجرة الى الله ورسوله، وسر لقدوم كتابي عليك))(٢)

فنفّذ الامام عليه السلام وصية رسول الله صلى الله عليه واله ونام في فراشه، فانقذه الله تعالى من المشركين حينما هجموا على دار رسول الله ، ثم ادّى الامانات الى أهلها، والتحق برسول الله صلى الله عليه واله ، وكان ينتظر قدومه في مسجد قبا في أطراف المدينة.

________________

(١) الحج: ٣٩، ٤٠.

(٢) بحار الأنوار ١٩: ٥٩، ٦٠.

٩٧

وفي بداية الهجرة آخى رسول الله صلى الله عليه واله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: ((هذا أخي))(١)

وقد زوّجه من ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام بأمر من الله تعالى كما ورد: ((إنّ الله أمرني أن أزوّج فاطمة من علي))(٢)

وقام رسول الله صلى الله عليه واله بنفسه في إجراء مراسيم الزوج، ودعا لهما بالذرية الصالحة.

وفي جميع الغزوات كانت راية المهاجرين مع علي عليه السلام في المواقف كلّها(٣)

وكان لعليّ عليه السلام دور متميّز في جميع الغزوات، ففي الخندق أحجم الجميع عن مبارزة عمرو بن عبد ودّ إلا علي إلا ان رسول الله صلى الله عليه والهلم يأذن له في المرتين الأولى والثانية، وأذن له في الثالثة، فكان النصر حليف المسلمين(٤)

حيث قال بحقه: ((برز الايمان كلّه الى الشرك كلّه))(٥)

وبعد هزيمة المشركين قال له: ((لو وزن اليوم عملك بعمل جميع أمّة محمد لرجح عملك على عملهم))(٦)

وفي غزوة خيبر تراجع ابو بكر وعمر بن الخطاب عن التقدّم فقال رسول الله(ص): ((لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله، ويحبّ الله ورسوله، يفتح الله على يديه وليس بفرّرا))(٧)

وفي رواية: ((كرّار غير فرّار))(٨)

فاعطاه الراية وكان النصر حليف المسلمين.

واستخلفه على المدينة في غزوة تبوك وقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي))(٩)

وكان يبثعه في المهام الصعبة، وخصوصاً في المهام التي يتدارك فيها أخطاء الآخرين.

________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ٢: ١٥٠.

(٢) المعجم الكبير ٢٢: ٤٠٨.

(٣) مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٢٠.

(٤) المنتظم في تاريخ الأمم والملوك ٣: ٢٣٣.

(٥) تاريخ الخميس ١: ٤٦٨.

(٦) المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٢.

(٧) الكامل في التاريخ ٢: ٢١٩.

(٨) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٦.

(٩) الصواعق المحرقة: ١٨٧، وروي بصيغ مختلفة في مصادر عديدة، صحيح مسلم، سنن ابن ماجة، الكامل في التاريخ، تاريخ الخلفاء.

٩٨

وتقدم رسول الله(صلى الله عليه وآله) نحو مكة وقد عهد إلى امرائه: أن لا يقتلوا أحداً إلاّ من قاتلهم، وبعث أمامه جماعة من اصحابه منهم سعد بن عبادة، فقال سعد حين وجهّه:

اليوم يوم الملحمة

اليوم تستحل الحرمة

فسمعها رجل من المهاجرين، فأخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)لعليّ بن أبي طالب: ((أدركه، فخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها))(١) .

وفى رواية: ((... وكن انت الذي يدخل بها، وأدخلها إدخالاً رفيقاً))، فأخذها علي(عليه السلام)وأدخلها كما أمر(٢) .

وفي بعض الروايات انّ علياً(عليه السلام) قال:

اليوم يوم المرحمة

اليوم تصان الحرمة

وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد عهد إلى أمرائه من المسلمين، حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم، إلاّ أنّه قد عهد في نفر سمّاهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، إلاّ أنّ البعض منهم هربوا والبعض الاخر حصلوا على الأمان من قبل بعض الصحابة فعفى رسول الله(صلى الله عليه وآله) عنهم.(٣) .

ولمّا دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله) مكّة دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووقف قائماً على باب الكعبة فقال: ((لا اله إلاّ الله وحده وحده، انجز وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، ألا إنّ كلّ مال ومأثرة ودم يدّعى تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة، وسقاية الحاج، فإنّهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إنّ مكة محرّمة بتحريم الله لم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار، وهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة، لا يختلي خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحلّ لقطتها إلاّ لمنشد))(٤) .

وفي رواية اخرى انّه اضاف: ((يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية (يَا أ يُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَـقْنَاكُمْ مِنْ ذَ كَر وَاُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَـبَائِلَ لِتَـعَارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ)))(٥) .

________________

(١) السيرة النبوية ٤: ٤٩.

(٢) بحار الانوار ٢١: ١٠٥.

(٣) السيرة النبوية ٤: ٥٣.

(٤) بحار الانوار ٢١: ١٠٦.

(٥) الحجرات: ١٣.

٩٩

ثم قال: ((يا معشر قريش، ما ترون أنّي فاعل فيكم؟)). قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))(١) .

وحينما قتل بعض بني خزاعة أحد الرجال، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ((يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد كثر القتل إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينّه))(٢) .

وكان فتح مكة تحريراً للناس جميعاً من الانحراف والاستغلال والاضطهاد وتحريراً للكعبة من دنس المشركين، وقد تحقق الفتح بدماء قليلة جداً قياساً للانجاز العظيم، وكان فاتحة للهداية والاصلاح، فتحول المشركون إلى عناصر فعالة في المجتمع والكيان الجديد وتلاشى الظلم والعدوان وعمت مفاهيم وقيم الصلاح جميع ارجاء المعمورة.

وحينما قتل خالد بن الوليد أفراد بني جذيمة خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه والهأرسله لتدارك خطأ خالد، فودّى لهم الدماء والأموال(٣)

وله في حقّه أقوال متواترة عبّر عن مقامه، بالامام، والخليفة، والولي، وسيد المسلمين، ويعسوب الدين.

وفي حجة الوداع نصّبه خليفة من بعده في ١٨ ذي الحجة في غدير خم وقال: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاده))(٤)

وكان من المهنئين له بالولاية عمر بن الخطّاب حيث قال: ((هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة))(٥)

وفي رواية: ((بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مسلم))(٦)

وحنيما رجع رسول الله صلى الله عليه واله الى المدينة بدأ يعدّ العدّة لبسط اليد للامام علي عليه السلام ليتصدى للخلافة دون منازع، فأمر المسلمين بالالتحاق بجيش أسامة بن زيد، لكي لا يبقى في المدينة من ينافس الامام عليه السلام حول الخلافة، كما ورد في قول الامام علي عليه السلام: ((ثم أمر رسول الله صلى الله عليه واله بتوجيه الجيش الذي وجّهه مع أسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفّاه فيه، فلم يدع النبي أحداً من أفناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممّن يخاف على

________________

(١) السيرة النبوية ٤: ٥٥.

(٢) السيرة النبوية ٤: ٥٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٢: ٢٥٦.

(٤) مسند أحمد ٥: ٣٥٥، الكتاب المصنّف ١٢: ٧٩، مجمع الزوائد ٩: ١٠٤.

(٥) مسند أمد بن حنبل ٥: ٣٥٥.

(٦) أسد الغابة ٣: ٦٠٦، تاريخ بغداد ٨: ٢٩٠.

١٠٠