أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 284537
تحميل: 9302


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 284537 / تحميل: 9302
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والصالحين؛ قال معاوية: لهذه أشد عليّ من الأولى، فقال عمرو: أفكنت من جهادك في شك فتكون منه الساعة! قال: دعني منك الآن.

وقيل للأحنف بن قيس - وقد رأى مسيلمة الكذّاب: كيف هو؟ فقال: ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق.

[بعض ما يروى من أجوبة أبي الأسود الدؤلي الحاضرة:]

وروى المبرّد قال: قال زياد لأبي الأسود الدّؤليّ: لولا أنّك قد كبرت لاستعنّا بك في بعض أمورنا، قال: إن كنت تريدني للصّراع فليس عندي، وإن كنت تريد عقلي ورأيي فهما أوفر ما كانا.

وكان أبو الأسود حاضر الجواب جيّد الكلام مليح النادرة. وروي عن الشّعبي أنّه قال: قاتل الله أبا الأسود! ما كان أعفّ أطرافه، وأحضر جوابه! دخل على معاوية بالنّخيلة، فقال له معاوية: أكنت ذكرت للحكومة؟ قال: نعم، قال: فماذا كنت صانعا؟ قال:

كنت أجمع ألفا من المهاجرين وأبنائهم، وألفا من الأنصار وأبنائهم، ثم أقول: يامعشر من حضر؛ أرجل من المهاجرين أحقّ أم رجل من الطلقاء؟ فلعنه معاوية، وقال: الحمد للّه الّذي كفاناك.

وقد روي أنّ أبا الأسود طلب بأن يكون في الحكومة، وقال لأمير المؤمنينعليه‌السلام في وقت الحكمين: ياأمير المؤمنين، لا ترض بأبي موسى، فإني قد عجمت الرجل وبلوته، فحلبت أشطره؛ فوجدته قريب القعر، مع أنه يمان، وما أدري ما يبلغ نصحه! فابعثني فإنه لا يحلّ عقدة إلاّ عقدت له أشدّ منها، وإنهم قد رموك بحجر الأرض، فإن قيل: إنه لا صحبة لي، فاجعلني ثاني اثنين، فليس صاحبهم إلاّ من تقرّب، وكان في الخلاف عليهم كالنّجم؛ فأبىعليه‌السلام .

وروى محمد بن يزيد النحوي أنّ أبا الأسود كان(١) نازلا في بني قشير؛ وكانوا يخالفونه في المذهب لأن أبا الأسود كان(١) شيعيا، فكانوا يرمونه بالليل، فإذا أصبح شكا ذلك،

____________________

(١ - ١) ساقط من م.

٣٢١

فشكامرة، فقالوا: ما نحن نرميك؛ ولكنّ الله يرميك، فقال: كذبتم، لو كان الله يرميني ما أخطأني.

وقال لهم يوما: يابني(١) قشير، ما في العرب أحد أحبّ إلى طول بقاء منكم، قالوا:

ولم ذاك؟ قال: لأنكم إذا ركبتم أمرا علمت أنه غي فأجتنبه، وإذا اجتنبتم أمرا علمت أنه رشد، فاتبعته فنازعوه الكلام، فأنشأ يقول:

يقول الأرذلون بنو قشير

طوال الدّهر لا تنسى عليّا

أحبّ محمّدا حبّا شديدا

وعبّاسا وحمزة والوصيّا

أحبّهم لحبّ الله حتّى

أجئ إذا بعثت على هويّا

فإن يك حبّهم رشدا أصبه

ولست بمخطئ إن كان غيّا

فقالوا له: أشككت ياأبا الأسود، فقال: ألم تسمعوا الله تعالى يقول:( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، أفترون الله شكّ!

أما قوله: (هويّا) فإنه لغة هذيل؛ يقولون ذلك في كل مقصور(٢) ؛ مثل الهوى والعصا والتقى والقفا. قال أبو ذؤيب الهذلي:

سبقوا هوي وأعنقوا لسبيلهم

فتخرّموا ولكلّ جنب مصرع(٣)

وروي أن أبا الأسود دخل على معاوية فقال له: أصبحت جميلا ياأبا الأسود؛ فلو علّقت تميمة تدفع العين عنك! فقال أبو الأسود:

أفنى الشّباب الّذي ولى وبهجته(٤)

كرّ الجديدين من آت ومنطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما

شيئا أخاف عليه لذعة الحدق

____________________

(١) الخبر مع الأبيات ورد في الأغاني ١١: ١١٣، ونزهة الألباء ٦ - ٧، وأخبار النحوين للسيرافي ١٤ - ٢١٥، وإنباه الرواة ١: ١٧، يزيد وينقص في بعض الروايات، ويختلف في بعض الألفاظ وترتيب الأبيات.

(٢) وذلك إذا أضيف إلى ياء المتكلم؛ فيقولون: هوي؛ أي هواي، وعصي؛ أي عصاي؛ وهكذا.

(٣) ديوان الهذليين ١: ٢، والرواية فيه: (لهواهم).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فارقت بهجته).

٣٢٢

وروي أنه دخل يوما السوق يشتري ثوبا فقال له رجل: هلمّ أقاربك في هذا الثوب؛ فقال: إن لم تقاربني باعدتك، ثم قال له: بكم هو؟ قال: قد أعطيت به كذا كذا، قال:

إنما تخبّرني عما فاتك.

وروي أنّه كان ماشيا في طريق، فقال له راكب: الطريق الطريق، فقال له: عن الطريق تعدلني!

ومرض أبو الأسود فقيل له: هو أمر الله، فقال: ذاك أشدّ له!

وقيل إن امرأة أبي الأسود خاصمته إلى زياد في ولدها، فقالت: أيها الأمير، إن هذا يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء، فقال أبو الأسود:(١) أبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني(١) ! فو الله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه، فقالت: ولا سواء، إنك حملته خفّا، وحملته ثقلا، ووضعته شهوة، ووضعته كرها، فقال له زياد: إنها امرأة عاقلة ياأبا الأسود، فادفع ابنها إليها، فأخلق أن تحسن أدبه.

وقال رجل لأبي الأسود: أنت والله ظريف لفظ، وظرف(٢) علم، ووعاء حلم، غير أنّك بخيل؛ فقال: وما خير ظرف لا يمسك ما فيه!

وسلم عليه أعرابي يوما، فقال أبو الأسود: كلمة مقولة، فقال: أتأذن في الدخول؟

قال: وراءك أوسع لك! قال: فهل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: أطعمني، قال: عيالي أحقّ منك، قال: ما رأيت ألأم منك، قال: نسيت نفسك.

وسأله رجل شيئا فمنعه قال: ما أصبحت حاتميّا(٣) قال: بلى، قد أصبحت حاتمكم من حيث لا تدري، أليس حاتم الّذي يقول:

أماوي إمّا مانع فمبيّن

وإمّا عطاء لا ينهنهه الزّجر(٤)

____________________

(١ - ١) ت: (إنها لتريد أن تغلبني على ابني).

(٢) حاشية ت (من نسخة): (ظريف)، بالبناء للمجهول.

(٣) ت: (حاتمنا).

(٤) ديوانه: ١١٨.

٣٢٣

[٢١]

مجلس آخر [المجلس الحادي والعشرون:]

[خبر سليمان بن عبد الملك مع يزيد بن أبي مسلم:]

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي قال: لما ولي سليمان بن عبد الملك أتى بيزيد بن أبي مسلم مولى الحجّاج في جامعة - وكان رجلا دميما تقتحمه(١) العين - فلما رآه سليمان قال: لعن الله من أجرّك رسنك، وولى مثلك! فقال: ياأمير المؤمنين، رأيتني والأمر عني مدبر، ولو رأيتني وهو عليّ مقبل لاستعظمت ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت، فقال له سليمان: أين ترى الحجاج؟

أيهوى في النار؛ أم قد استقرّ! فقال: ياأمير المؤمنين، لا تقل كذا، فإن الحجاج قمع لكم الأعداء، ووطّأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس، وبعد، فإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك عبد الملك، وشمال أخيك الوليد، فضعه حيث شئت.

[خبر صفوان بن الأهتم مع رجل من بني عبد الدار:]

وروي أن خالد بن صفوان فاخر رجلا من بني عبد الدار، الذين يسكنون اليمامة، فقال له العبدري: من أنت؟ فقال: أنا خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال له العبدري: أنت خالد( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ) ؛ [محمد: ١٥]، وأنت ابن صفوان، وقال الله عزّ وجل( كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ ) ؛ [البقرة: ٢٦٤]، وأنت ابن الأهتم، والصحيح خير من الأهتم. فقال له خالد بن صفوان ياأخا بني عبد الدار، أتتكلم وقد هشمتك هاشم، وأمّتك بنو أميّة، وخزمتك بنو مخزوم، وجمحتك(٢) بنو جمح، فأنت عبد دارهم؛ تفتح إذا دخلوا، وتغلق إذا خرجوا؛ فقام العبدري محموما.

وتقدم الأشعث بن قيس إلى شريح فقال له الأشعث: أتعلمني بك ياابن أمّ شريح! لقد

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (تزدريه).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (يجوز أن يكون أصله: (جمحت بك)؛ فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل؛ ذكره ابن دريد في كتاب الاشتقاق، ويجوز أن يكون من جامحته فجمحته).

٣٢٤

عهدتك وإنّ شأنك لشؤين، فقال له شريح: انت امرؤ تعرف النعمة في غيرك، وتنساها في نفسك.

[ما دار بين الفرزدق والحطيئة عند سعيد بن العاص:]

وروى أبو العيناء عن العتبي قال: دخل الفرزدق إلى سعيد بن العاص، وعنده الحطيئة، فلما مثل بين يديه قال:

إليك فررت منك ومن زياد

ولم أحسب دمي لكما حلالا(١)

فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي

فقد قلنا لشاعركم وقالا(٢)

ترى الغرّ الجحاجح من قريش

إذا ما الأمر في الحدثان عالا(٣)

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنّهم يرون به هلالا(٤)

فقال له الحطيئة: هذا والله أيها الأمير الشّعر، لا ما كنّا نعلّل(٥) به منذ اليوم، ياغلام أقدمت أمك الحجاز؟ فقال: لا، ولكن قدمه أبي.

أراد الحطيئة بقوله: إن كانت قدمت أمّك الحجاز، فقد وقعت بها(٦) ، وكنت منّي، وأراد الفرزدق بقوله: (ولكن قدمه أبي) أي وقع بأمك فكنت أنت(٧) .

ويشبه ذلك ما روي أنّ الفرزدق كان ينشد شعره يوما، والناس حوله، إذ مرّ به الكميت بن زيد، فقال له الفرزدق: كيف ترى شعري؟ فقال الكميت: حسن بسن، فقال له الفرزدق:

أيسرّك أني أبوك، قال: أمّا أبي فلا أريد به بدلا(٨) ، ولكن يسرّني أن لو كنت أمي! فقال له

____________________

(١) ديوانه: ٦١٧، وبعده:

ولكنّي هجوت وقد هجتني

معاشر قد رضخت لهم سجالا

(٢) بعده:

وإن تك في الهجاء تريد قتلي

فلم تدرك لمنتصر مقالا

(٣) عال: فدح وأثقل؛ وبعده:

بني عمّ الرسول ورهط عمرو

وعثمان الذين علوا فعالا

(٤) حاشية ت (من نسخة): (الهلالا).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (ما كنت تعلل).

(٦) حاشية ت (من نسخة): (وقعت عليها).

(٧) ابن الشجري: (فكنت أنت أخي).

(٨) حاشية ت (من نسخة): (بديلا).

٣٢٥

الفرزدق: اكتم هذه على عمك ياابن أخي فما مرّ بي مثلها.

وقيل إنّ عبد الملك بن مروان ظفر برجل من بني مخزوم زبيري الرأي، فقال له لما حضر مجلسه: أليس قد ردّك الله على عقبيك! فقال الرجل: أو من ردّ عليك ياأمير المؤمنين فقد ردّ على عقبيه! فوجم عبد الملك،

وقال موسى بن عيسى بن موسى لشريك: ياأبا عبد الله، عزلوك عن القضاء، وما رأينا قاضيا عزل! فقال شريك: هم الملوك يعزلون ويخلعون - يعرّض أن أباه خلع من ولاية العهد.

وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن المفضّل الضبي الرواية وهب لبعض جبرانه أيام الأضحى أضحيّة، فلما لقيه قال: كيف وجدت أضحيّتك؟ قال: ما وجدت لها دما، يعرّض بقول الشاعر:

ولو ذبح الضبّي بالسّيف لم تجد

من اللّؤم للضّبّي لحما ولا دما

وروي عن المأمون أنه قال: ما أعياني جواب أحد قطّ مثل جواب ثلاثة: أحدهم أمّ الفضل بن سهل، فإني عزّيتها عن ابنها وقلت: لئن جزعت على الفضل لأنه ولدك، فها أنا ذا ابنك مكانه، فقالت: وكيف لا أجزع على من جعل مثلك لي ولدا. والثاني رجل أحضرته يزعم أنّه نبي الله موسىعليه‌السلام ، فقلت له: إن الله تعالى أخبرنا عن موسى أنّه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، فقال: متى فعل ذلك موسى؟

أليس بعد أن لقي فرعون! فاعمل كما عمل فرعون، حتى أعمل كما عمل موسى. والثالث أن جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا إلي يشكون عاملها، فقلت: ارضوا بواحد أسمع منه، فرضوا برجل منهم، فقال في العامل وأكثر؛ فقلت له: كذبت! بل هو العفيف الورع العدل؛ فذهب أصحابه يتكلمون فسكّتهم ثم قال: صدقت ياأمير المؤمنين، هو كما ذكرت، فواس بين رعيتك في العدل، فصرفته عنهم.

ودخل عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي على معاوية، فقال له معاوية: ما فعل الطّرفات؟

٣٢٦

يعني طريفا(١) وطرافا وطرفة، قال: قتلوا مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له:

ما أنصفك ابن أبي طالب، قدّم بنيك، وأخّر بنيه، فقال عدي: ما أنصفته(٢) أنا، أن قتل(٣) وبقيت.

وكتب رجل إلى صديق له يقترض منه شيئا، فأجابه يشكو ضيق حاله، فكتب إليه: (إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا، وإن كنت صادقا فجعلك الله كاذبا، وإن كنت معذورا فجعلك الله ملوما، وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا).

وسمع الأحنف رجلا يقول: ما أحلم معاوية! فقال: لو كان حليما ما سفه الحقّ.

ووصفه رجل عند الشعبي بالحلم، فقال الشّعبي: ويحك! وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد شيء!

وقال زياد لرجل حضره: أين منزلك؟ فقال: وسط البصرة، قال: فما لك من الولد؟

قال: تسعة، فقيل لزياد إن داره أقصى البصرة عند المقابر، وله ابن واحد، فقال الرجل:

داري بين أهل الدنيا والآخرة، فهي وسط البصرة، وكان لي عشر بنين فقدّمت تسعة، فهم لي، وبقي واحد لا أدري؛ أهو لي أم أنا له!

وقال رجل لابن سيرين: إنّي وقعت فيك فاجعلني في حلّ، فقال: ما أحبّ أن أحلّك ممّا حرّم الله عليك.

وخطب الحجاج يوم جمعة فأطال، فقال له رجل: إنّ الصلاة لا تنتظرك، وإن الله لا يعذرك، فأمر به فحبس، فجاءه أهله فشهدوا أنّه مجنون، فقال: إن أقرّ بالجنون أطلقته، فقيل له: اعترف بذلك وتخلّص، فقال: والله لا أقول إنّه ابتلاني وقد عافاني.

وحدّث الحسن البصري بحديث فقال له رجل: ياأبا سعيد، عمّن؟ فقال: وما تصنع بـ (عمّن)؟ أما أنت فقد نالتك عظته، وقامت عليك حجته.

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (طريفا)، بفتح أوله وكسر ثانيه.

(٢) حاشية ت (من نسخة): (بل ما أنصفته).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (إذ قتل).

٣٢٧

وقيل لعبد الله بن جعفر - ونظر إليه يماكس في درهم - فقيل له: أتماكس في درهم وأنت تجود بما تجود به! فقال: ذاك مالي جدت به، وهذا عقلي بخلت به.

[من أجوبة أبي العيناء المسكتة:]

وروي أنّ أبا العيناء محمد بن القاسم اليمامي حدّث بعض الزبيريين(١) بفضائل أهله(٢) فقال له: الزّبيري(٣) : أتجلب التمر إلى هجر(٤) ! فقال له أبو العيناء: نعم، إذا أجدبت أرضها، وعاوم(٥) نخلها؛ وكان أبو العيناء من أحضر الناس جوابا، وأجودهم بديهة، وأملحهم نادرة.

وروى(٦) الصولي عن أبي العيناء قال: لما دخلت(٧) على المتوكل دعوت له، وكلّمته، فاستحسن خطابي، وقال لي: يامحمد، بلغني أنّ فيك شرّا، فقلت: ياأمير المؤمنين، إن يكن الشرّ ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكّى الله تعالى وذم، فقال في التزكية:( نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ؛ [ص: ٣٠، ٤٤]، وقال في الذم:( هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ. عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) ؛ [القلم: ١١ - ١٣]، فذمّه الله تعالى حتى قذفه(٨) ، وقد قال الشاعر:

إذا أنا بالمعروف لم أثن دائبا

ولم أذمم الجبس اللّئيم المذمّما(٩)

ففيم عرفت الخير والشّرّ باسمه

وشقّ لي الله المسامع والفما!

وإن كان الشرّ كفعل العقرب يلسع النبي والذّمي بطبع لا يتميز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (الزهريين).

(٢) ت: (بحديث في فضائل أهله.

(٣) حاشية ت (من نسخة): (الزهري).

(٤) هجر: مدينة واقعة على جبال العارض ببلاد العرب؛ وكانت قاعدة البحرين.

(٥) المعاومة: أن تحمل النخلة سنة ولا تحمل أخرى.

(٦) ت: (فحكى عن الصولي).

(٧) حاشية (من نسخة): (أدخلت).

(٨) ت: (قرفه)، والقذف والقرف: ذكر المرء بالسوء.

(٩) البيتان في أمالي القالي ٢: ١٥٩؛ رواهما عن أبي العالية الرياحي.

٣٢٨

 (١) وروي أنه قال له يوما: إلى كم تمدح الناس وتذمّهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساءوا(١) .

وروي أن المتوكّل قال له يوما: إنّي لأفرق من لسانك، فقال له: إنّ الشريف فروقة ذو إحجام، وإن اللئيم ذو أمنة وإقدام.

وقال له يوما - وقد دخل عليه: اشتقتك والله ياأبا العيناء، فقال له ياسيّدي؛ إنّما يشتد الشوق على العبد لأنه لا يصل إلى مولاه، فأمّا السّيّد فمتى أراد عبده دعاه.

وروي أنه قال له يوما: ما بقي أحد في مجلسي إلا اغتابك وذمّك - عند ما جرى من(٢) ذكرك - غيري، فقال أبو العيناء:

إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي

فلا زال غضبانا عليّ لئامها

وذكر أبو العيناء قال: قال لي المتوكل: كيف ترى داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدنيا، وأمير المؤمنين جعل الدّنيا في داره.

وقال أبو العيناء: قال لي المتوكل: من أسخى من رأيت؟ ومن أبخل من رأيت؟

فقلت: ما رأيت أسخى من أحمد بن أبى دؤاد، ولا أبخل من موسى بن عبد الملك؛ قال: وكيف وقفت على بخله؟ فقلت: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد، ويعتذر من الإحسان(٣) ؛ كما يعتذر من الإساءة؛ فقال: أجئت إلى من اطّرحته فسخيته، وإلى من أمسكته فبخّلته! فقلت: ياأمير المؤمنين، إنّ الصدق ما هو في موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك، والناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى السخاء؛ فإذا نسب الناس السخاء إلى البرامكة، فإنما ذاك من سخاء أمير المؤمنين الرشيد، وإذا نسب الناس الحسن ابن سهل، والفضل بن سهل إلى السخاء، فإنما ذاك سخاء أمير المؤمنين المأمون، وإذا نسبوا أحمد بن أبي دؤاد إلى السخاء فذاك سخاء أمير المؤمنين المعتصم، وإذا نسبوا الفتح بن خاقان

____________________

(١) ساقط من م.

(٢) ف: (عند ما جرى ذكرك).

(٣) حاشية ت: (يعني أن إحسانه يكون ساقطا يحتاج إلى العذر).

٣٢٩

وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فإنما هو سخاؤك؛ وإلاّ فما بال هؤلاء القوم لم ينسبوا إلى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء(١) ! فقال لي: صدقت، وسرّى(٢) عنه.

وقال له المتوكل: ما أشدّ عليك من ذهاب البصر؟ فقال له: فقد رؤيتك؛ مع إجماع الناس على جمالك.

وقال له يوما: أريدك لمجالستي، قال: لا أطيق ذاك، وما أقول هذا جهلا بما لي في هذا المجلس من الشرف، ولكن أنا رجل محجوب، والمحجوب تختلف إشارته، ويخفى عليه إيماؤه، ويجوز عليّ أن أتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أميّز بين هاتين(٣) هلكت؛ فقال: صدقت.

وروي أنه قال له: لولا أنّك ضرير لنادمتك، فقال: إن أعفيتني من رؤية الأهلّة، وقراءة نقش الخواتيم فإني أصلح.

وقال المتوكل: ما تقول في ابن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر، وإثمهما أكبر من نفعهما، فقال: بلغني أنك تودّهما، فقال: لقد ابتعت الضّلال بالهدى، والعذاب بالمغفرة.

وقال له يوما: بلغني أن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) ؛ [المطففين: ٢٩] وقال أبو العيناء: قال لي المنصور:

ما أحسن(٤) الجواب؟ فقلت: ما أسكت المبطل، وحيّر المحق.

 وقيل لأبي العيناء: إبراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب، فقال:( وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) ؛ [البقرة: ١٢٠]. ورآه زرقان وهو يضاحك

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (للخلفاء).

(٢) حاشية ف: (قوله: سرى عنه؛ من قولهم: سروت عني الدرع، أي كشفتها، وسرى عنه الثوب: كشفه، وانسرى عنه الهم، وسرى عنه الهم).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (هذين).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (خير الجواب)

٣٣٠

نصرانيا فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ) ؛ [المائدة: ٥١]، فقال أبو العيناء( لا يَنْهاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) ؛ [الممتحنة: ٨].

وأخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال أخبرنا أبو العيناء قال: كان سبب اتصالي بأحمد بن أبي دؤاد أنّ قوما من أهل البصرة عادوني وادّعوا عليّ دعاوى كثيرة؛ منها أنّي رافضي، فاحتجت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى، وألقيت نفسي على ابن أبي دؤاد - وكنت نازلا في داره، أجالسه كلّ يوم - وبلغ القوم خبري، فشخصوا نحوي إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يدا عليّ، فقال:( يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) ، فقلت: إنّ لهم مكرا، فقال:( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ ) ؛ [الأنفال: ٣٠]، فقلت: هم كثيرون قال:

( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله ) ؛ [البقرة: ٢٤٩]، فقلت: للّه درّ القاضي! هو والله كما قال الصّموت الكلابي:

للّه درّك أي جنّة خائف

ومتاع دنيا أنت للحدثان(١)

متخمّط تطأ الرّجال غلبة

وطء الفنيق دوارج القردان(٢)

وتركتهم حتّى كأنّ رءوسهم

مأمومة تنحطّ للغربان(٣)

وتفرّج الباب الشّديد رتاجه

حتّى يصير كأنّه بابان

وقال لابنه الوليد: اكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه.

- قال الصولي: حفظي من أبي العيناء الصّموت الكلابي على أنه رجل، وقال وكيع؛ حفظي أنها للصّموت الكلابية على أنها امرأة -

ودخل أبو العيناء على الحسن بن سهل، فأثنى عليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وقال:

____________________

(١) ديوان المعاني ١: ٦٨.

(٢) التخمط: الأخذ والقهر بغلبة؛ وغلبة مصدر غلب كثير الغلبة، والفنيق الجمل الفحل، ودوارج: جمع دارج.

(٣) د، ف حاشية ت (من نسخة): (وتكبهم) والمأمومة: المشجوجة.

٣٣١

والله ما أستكثر كثيرك أيها الأمير، ولا أستقلّ قليلك، قال: وكيف ذاك؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنك أكثر منه، ولا أستقل قليلك لأنه أكثر من كثير غيرك(١) .

وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوما: اعذرني فإني مشغول(٢) ، فقال: إذا فرغت لم أحتج إليك. وقال له يوما: قد تبينت فيك الغضب ياأبا عبد الله، فقال له: قد أجلّ الله قدرك من غضبي، إنما يغضب الرجل على من دونه؛ فأما من فوقه فلا، ولكن أحزنني تقصيرك؛ فسمّيت حزني غضبا.

ويقال إن صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم دينا، وأكثرهم صلاة وصدقة، فصار إلى بابه أبو العيناء مرات كثيرة بعقب إسلامه فحجب وقيل له: هو مشغول في صلاته، فقال أبو العيناء: لكل جديد لذة.

ودخل يوما إلى أبي الصقر إسماعيل بن بلبل في وزارته، فقال له: ياأبا عبد الله،(٣) ما أخّرك عنّا(٣) ؟ فقال: سرق حماري، فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع الّذي سرقه فأخبر بما كان، قال له: هلاّ اكتريت أو استعرت أو اشتريت؟ قال: قعد بي عن الشراء نشبي(٤) ، وكرهت منّة العواري، وذلّة المكاري، فوهب له حمارا ووصله. وأدناه أبو الصّقر يوما ورفعه فقال: تدنيني حتّى كأني بعضك، وتبعدني حتى كأني ضدّك.

وقال يوما لعبيد الله بن سليمان أيضا - وقد رفعه: إلى كم ترفعني ولا ترفع بي رأسا! وقال له يوما - وقد سأله عن حاله: أنا معك(٥) مغبوط الظاهر، محروم الباطن.

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (نظم البحتري هذا المعنى فقال

كثير نوالك في جنب ما

جبلت عليه من الجود نزر

ونزر نوالك في جنب ما

يجود به سائر النّاس غمر

 (٢) ت: (فإني عنك مشغول).

(٣ - ٣) حاشية ت (من نسخة): (ياأبا عيناء ما أخرك بالله؟).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (عدمي).

(٥) ت: (أنابك).

٣٣٢

ويقال: إن أبا عليّ البصير قال لأبي العيناء - وكانت بينهما ملاحاة معروفة: في أي وقت ولدت؟ فقال له: قبل طلوع الشمس، فقال أبو عليّ: لذلك خرجت شحاذا سائلا، لأنه الوقت الّذي ينتشر فيه السؤال.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو العيناء قال: ما رأيت قطّ أحسن شاهدا عند حاجة من ابن عائشة! قلت له: يوما كان أبو عمرو المخزومي يقصدك ثم جفاك، فقال:

فإن تنأ عنّا لا تضرنا وإن تعد

تجدنا على العهد الّذي كنت تعلم

وقال: والله لا أدري لمن هذا البيت، فقلت: إنّ ابن سلاّم روى عن يونس أن الفرزدق لما قال:

تصرّم مني ودّ بكر بن وائل

وما خلت دهري ودّهم يتصرّم(١)

قوارص تأتيني فيحتقرونها

وقد يملأ القطر الإناء فيفعم(٢)

وكان قد نزل عليهم حين هرب من زياد، فقال جرير بن خرقاء العجلي(٣) يحييه:

لقد بوّأتك الدّار بكر بن وائل

وردّت لك الأحشاء إذ أنت مجرم(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٧٥٦، وطبقات الشعراء ٣٠٢، والكامل - بشرح المرصفي، ١: ١٢٧، والمؤتلف والمختلف: ٧١ وتصرم الشيء: تقطع.

(٢) قوارص: جمع قارصة؛ وهي الكلمة المؤذية.

فعم الإناء يفعمه فعما: ملأه وبالغ في ملئه.

(٣) ذكره ابن سلام في ص ٢٥٩ بنسبة (البكري)، وفي ص ٣٠٣ بكنية (أبي العطاف).

(٤) في الطبقات: (لقد وسطتك)، وقبله:

لعمري لئن كان الفرزدق عاتبا

وأحدث صرما، للفرزدق أظلم

وفي حاشية الأصل: (يعني كنت خائفا غاية الخوف فأمنوك)، ورواية الطبقات:

لقد وسّطتك الدّار بكر بن وائل

وضمتك للأحشاء إذ أنت مجرم

٣٣٣

ليال تمنّى أن تكون حمامة

بمكّة يغشاها السّتار المحرّم(١)

فإن تنأ عنّا لا تضرنا وإن تعد

تجدنا على العهد الّذي كنت تعلم

فقال ابن عائشة: أنت والله يابنيّ ممن ستصدق في العلم مخائله، وتكثر عليه دلائله.

وقال أبو العيناء يوما لأبي الصقر بن بلبل وهو زائر: أنت والله تقرب منا إذا احتجنا إليك، وتبعد منا إذا احتجت إلينا.

[موازنة بين شعر لإبراهيم بن العباس الصولي وأوس بن حجر:]

قال سيدنا الشريف أدام الله علوّه: وهذا يشبه قول إبراهيم بن العباس الصولي:

ولكنّ الجواد أبا هشام

وفي العهد مأمون المغيب(٢)

بطيء عنك ما استغنيت عنه

وطلاّع عليك مع الخطوب

ولعلّه مأخوذ منه، فليس ينكر ذلك، لأنّهما وإن اجتمعا في زمان واحد في بعض الأوقات؛ فإن أبا العيناء بقي بعد إبراهيم زمانا طويلا؛ لأن إبراهيم توفّي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وأبا العيناء سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائتين، وما حكيناه عنه من الكلام قاله لأبي الصقر في وزارته، وكانت بعد وفاة إبراهيم بن العباس الصولي بزمان طويل.

ويوشك بيتا إبراهيم أن يكونا مأخوذين من قول أوس بن حجر:

وليس أخوك الدّائم العهد بالذي

يذمّك إن ولى ويرضيك مقبلا(٣)

ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا

وصاحبك الأدنى إذا الخطب أعضلا

ولإبراهيم بن العباس ما يقارب هذا المعنى أيضا، وهو:

أسد ضار إذا هيّجته

وأب برّ إذا ما قدرا(٤)

يعلم الأبعد إن أثرى ولا

يعلم الأدنى إذا ما اقترا(٥)

____________________

(١) الستار المحرم: هو ستار الكعبة.

(٢) ديوانه: ١٢٩ (ضمن مجموعة الطرائف).

(٣) ديوانه: ٢٢

(٤) ديوانه: ١٣٣؛ (ضمن مجموعة الطرائف).

(٥) ت: (افتقرا)؛ وهي رواية الديوان.

٣٣٤

ويشبه أن يكون هذا مأخوذا من قول المرّار الفقعسيّ:

إذا افتقر المرّار لم ير فقره

وإن أيسر المرّار أيسر صاحبه(١)

ومما يشبه قول المرّار بعينه قول إبراهيم بن العباس أيضا:

فتى غير محجوب عن العين عرضه

ولا مظهر البلوى إذا النّعل زلّت(٢)

رأى خلّة من حيث يخفى مكانها

فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت

[أبيات للمتنخل الهذلي وشرح ما ورد فيها من الغريب:]

أو من قول المتنخّل الهذلي:

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناه(٣)

وهذا البيت الّذي رويناه للهذلي من جملة أبيات يرثي بها المتنخّل أباه - وقيل يرثي أخاه، وأولها:

لعمرك ما إن أبو مالك

بوان ولا بضعيف قواه(٤)

ولا بألدّ له نازع

يغاري أخاه إذا ما نهاه(٥)

- فمعنى (له نازع) أي خلق سوء ينزعه. ويغاري، أي يلاحي ويشارّ -.

ولكنّه هيّن ليّن

كعالية الرّمح عرد نساه

- العرد: الشديد؛ يقال: وتر عردّ وعرند، وعرندد بالنون، أي شديد. والنّسا:

عرق معروف -

إذا سدته سدت مطواعة

ومهما وكلت إليه كفاه

معنى (سدته) من المساودة، التي هي المسارّة، والسّواد هو السّرار أيضا، كأنه قال:

____________________

(١) معجم الشعراء: ٤٠٨.

(٢) ديوانه: ١٣٠؛ وانظر تخريج البيتين في الحواشي.

(٣) ديوان الهذليين ٢: ٢٩ - ٣٩.

(٤) شرح ديوان الهذليين: (ويروى: بواه ولا بضعيف)، وهو الأجود عند أبي العباس.

(٥) ألد: شديد الخصومة، وفي حواشي الأصل، ت، ف: (غاريت بين الشيئين؛ إذا واليت بينهما، قال كثير:

إذا قلت أسلو فاضت العين بالبكا

غراء ومدّتها مدامع حفّل

قال أبو عبيد: هو من غري بالشيء يغرى به).

٣٣٥

إذا ساررته طاوعك وساعدك. وقال قوم: إنّه من السيادة، وكأنه أراد: إذا كنت فوقه سيدا له أطاعك ولم يحسدك، وإن وكلت إليه شيئا كفاك، وقوم ينشدونه:

* إذا سسته سست مطواعة*

 - ولم أجد ذلك في رواية -

ألا من ينادي أبا مالك

أفي أمرنا هو أم في سواه؟

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ومشيع غناه

٣٣٦

[٢٢]

مجلس آخر [المجلس الثاني والعشرون:]

تأويل آية:( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً؛ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ؛ [الأعراف: ١٤٦].

فقال: ما تأويل هذه الآية على ما يطابق العدل؟ فإنّ ظاهرها كأنه مخالف له.

الجواب، قيل له: في هذه الآية وجوه؛ منها ما ابتدأناه فيها، ومنها ما سبقنا به فحرّرناه، واحترزنا فيه من المطاعن، وأجبنا عمّا لعله يعترض(١) فيه من الشّبه.

أولها أن يكون تعالى عني بذلك صرفهم عن ثواب النظر في الآيات، وعن العزّ والكرامة اللذين يستحقّهما من أدّى الواجب عليه في آيات الله تعالى وأدلّته، وتمسّك بها.

والآيات على هذا التأويل يحتمل أن تكون سائر الأدلة، ويحتمل أن تكون معجزات الأنبياءعليهم‌السلام خاصة؛ وهذا التأويل يطابقه الظاهر؛ لأنه تعالى قال:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ؛ فبيّن أنّ صرفهم عن الآيات مستحقّ(٢) بتكذيبهم، ولا يليق ذلك إلاّ بما ذكرناه.

وثانيها أن يصرفهم(٣) تعالى عن زيادة المعجزات التي يظهرها(٤) الأنبياءعليهم‌السلام

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة) (يعرض).

(٢) ف: (يستحق).

(٣) ت: (أنه أراد صرفهم).

(٤) ت، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (يظهرها على الأنبياء).

٣٣٧

بعد قيام الحجة بما تقدّم من آياتهم ومعجزاتهم؛ لأنّه تعالى إنما يظهر هذا الضرب من المعجزات إذا علم أنّه يؤمن عنده من لم يؤمن بما تقدم من الآيات، فإذا علم خلاف ذلك لم يظهرها، وصرف الذين علم من حالهم أنهم لا يؤمنون عنها، ويكون الصّرف على أحد وجهين: إمّا بألاّ يظهرها جملة، أو بأن يصرفهم عن مشاهدتها، ويظهرها بحيث ينتفع بها غيرهم.

فإذا قيل: وما الفرق فيما ذكرتموه بين ابتداء المعجزات، وبين زيادتها؟ قلنا: الفرق بينهما أن المعجز الأوّل يجب إظهاره لإزاحة العلّة في التكليف؛ ولأنّا به نعلم صدق الرسول المؤدّى إلينا ما فيه لطفنا ومصلحتنا.

فإذا كان التكليف يوجب تعريف(١) المصالح والألطاف لتنزاح العلّة، وكان لا سبيل إلى معرفتها على الوجه الّذي تكون عليه لطفا إلاّ من قبل الرسول، وكان لا سبيل إلى العلم بكونه رسولا إلاّ من جهة المعجز وجبت بعثة الرسول وتحميله ما فيه مصلحتنا من الشرائع، وإظهار المعجز على يده لتعلّق هذه الأمور بعضها ببعض، ولا فرق في هذا الموضع بين أن يعلم أنّ المبعوث إليهم الرسول، أو بعضهم يطيعون ويؤمنون، وبين ألاّ يعلم ذلك في وجوب البعثة، وما يجب بوجوبها، لأنّ تعريف المصالح مما يقتضيه التكليف العقلي الّذي لا فرق في حسنه بين أن يقع عنده الإيمان أو لا يقع؛ وليس هذه سبيل ما يظهر من المعجزات بعد قيام الحجة بما تقدم منها؛ لأنّه متى لم ينتفع بها منتفع، ويؤمن عندها من لم يؤمن لم يكن في إظهارها فائدة، وكانت عبثا؛ فافترق الأمران.

فإن قيل: كيف يطابق هذا التأويل قوله:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ، ومن المعلوم أنّ صرفهم عن الآيات لا يكون مستحقا بذلك؟ قلنا: يمكن أن يكون قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) لم يرد به تعليل قوله:( سَأَصْرِفُ ) ، بل يكون كالتعليل لما هو أقرب إليه في ترتيب الكلام،

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (تعريفنا).

٣٣٨

وهو قوله تعالى:( وَإِنْ يَرَوْا كُلَ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) ، لأنّ من كذب بآيات الله جل وعزّ؛ وغفل عن تأمّلها والاهتداء بنورها ركب الغي، واتخذه سبيلا، وحاد عن الرشد وضل ضلالا بعيدا. ورجوع لفظة ذلِكَ إلى ما ذكرناه أشبه بالظاهر من رجوعها إلى قوله: سَأَصْرِفُ؛ لأنّ رجوع اللفظ(١) في اللغة إلى أقرب المذكورين إليه أولى.

ويمكن أن يكون قوله تعالى:( كَذَّبُوا ) وإن كان بلفظ الماضي المراد به الاستقبال، ويكون وجهه أن التكذيب لما كان معلوما منهم لو أظهرت لهم الآيات جعل ذلك كأنه(٢) واقع، فبني الخطاب عليه؛ ولهذا نظائر في اللغة كثيرة. أو يكون جوابا لمحذوف؛ كأنه(٢) قال:

ذلك بأنه متى ما أظهرنا لهم آياتنا كذبوا بها. ويجري ما ذكرناه(٣) أولا مجرى قوله تعالى:

( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ) في أنه بلفظ الماضي والمعنى الاستقبال.

وثالثها أن يكون معنى( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ ) ، أي لا أوتيها(٤) من هذه صفته، وإذا(٥) صرفهم عنها فقد صرفها عنهم(٥) ، وكلا اللّفظين(٦) يفيد معنى واحدا. وليس لأحد أن يقول هلاّ قال: (سأصرف آياتي عن الذين يتكبرون)؛ والآيات هاهنا هي المعجزات التي تختص بها الأنبياء.

 فإن قيل: فأي فائدة في قوله على سبيل التعليل(٧) :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) وأي معنى لتخصيصه الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، وهو لا يؤتي الآيات والمعجزات إلاّ الأنبياء دون غيرهم، وإن كان ممن لا يتكبر؟ قلنا: لخروج الكلام مخرج التعليل على هذا التأويل وجه صحيح؛ لأن من كذّب بآيات الله لا يؤتي معجزاته(٨) لتكذيبه وكفره،

____________________

(١) ت، وحاشية ف (من نسخة): (اللفظة).

(٢ - ٢) ساقط من م.

(٣) ت: (ويجري ذلك).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (لا أريها).

(٥ - ٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإذا صرفتهم عنها فقد صرفتها عنهم).

(٦) من نسخة بحواشي الأصل، ت. ف: (كلتا اللفظتين).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (التحصيص).

(٨) ت، ف (لا يؤتي آياته ومعجزاته).

٣٣٩

وإن كان قد يكون غير مكذّب، ويمنع من إتيانه الآيات علّة أخرى(١) ؛ فالتكبر والبغي بغير الحق مانع من إيتاء الآيات، وإن منع غيره. ويجري هذا مجرى قول القائل: أنا لا أودّ فلانا لغدره، ولا يلزم إذا لم يكن غادرا أن يودّه، لأنه ربما خلا من الغدر وحصل على صفة أخرى تمنع من مودته.

ويجوز أيضا أن تكون الآية خرجت على ما يجري مجرى السبب، وأن يكون بعض الجهال في ذلك العصر اعتقد جواز ظهور المعجزات على يد الكفار المتكبرين(٢) ، فأكذبهم الله تعالى بذلك.

ورابعها أن يكون المراد بالآيات العلامات التي يجعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين؛ ليدلّ بها الملائكة على الفرق بين المؤمن والكافر، فيفعلوا بكل واحد منهما ما يستحقه من التعظيم أو الاستخفاف، كما تأول أهل الحق الطبع والختم اللذين ورد بهما القرآن على أن المراد بهما العلامة المميّزة بين الكافر والمؤمن؛ فيكون معنى سأصرفهم عنها، أي أعدل بها عنهم(٣) ، وأخصّ بها المؤمنين المصدقين بآياتي وأنبيائي(٤) . وهذا التأويل يشهد له أيضا قوله تعالى:

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ؛ لأنّ صرفهم عن هذه الآيات كالمستحقّ لتكذيبهم وإعراضهم عن آياته تعالى.

وخامسها أن يريد تعالى: أني أصرف من رام المنع من أداء آياتي وتبليغها؛ لأنّ من الواجب على الله تعالى أن يحول من بين رام ذلك وبينه؛ ولا يمكّن منه؛ لأنه ينقض الغرض في البعثة. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ؛ فتكون الآيات هاهنا القرآن وما جرى مجراه من كتب الله تعالى التي تحمّلتها(٥) الرسل.

والصرف وإن كان متعلقا في الآية بنفس الآيات فقد يجوز أن يكون المعنى متعلّقا(٦) في الآية بنفس الآيات، فقد يجوز أن يكون المعنى متعلقا بغيرها(٦) مما هو متعلق بها. فإذا ساغ

____________________

(١) في حاشيتي ت، ف: (يعني وإن كان غير التكذيب أيضا مانعا).

(٢) ت: (المذكورين)، ومن نسخة بحاشية ت: (المكذبين).

(٣) ف، ونسخة بحاشية ت: (أي أعدل بهم عنها).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (وبيناتي).

(٥) ت، وحاشية ف (من نسخة): (تحملها).

(٦ - ٦) ساقط من م.

٣٤٠