أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 284977
تحميل: 9337


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 284977 / تحميل: 9337
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أن نعلقه بالثواب والكرامة المستحقين على التمسك بالآيات ساغ أن نعلّقه بما يمنع من تبليغها وأدائها وإقامة الحجة بها. وعلى هذا التأويل لا نجعل قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) راجعا إلى سَأَصْرِفُ بل نردّه إلى ما هو قبله بلا فصل؛ من قوله تعالى:

( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) على ما بينّاه في الوجه الثاني، من تأويل هذه الآية.

وسادسها أن يكون الصرف هاهنا الحكم والتسمية والشهادة، ومعلوم أن من شهد على غيره بالانصراف عن شيء جائز(١) أن يقال: صرفه عنه، كما يقال:(٢) أكفره وكذّبه وفسّقه(٢) ؛ وكما قال جلّ من قائل:( ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُمْ ) ؛ أي شهد عليها بالانصراف عن الحق والهدى، وكقوله تعالى:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ الله قُلُوبَهُمْ ) ؛ وهذا التأويل طابقه قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ؛ لأنّ الحكم عليهم(٣) بما ذكرنا من التسمية موجب تكذيبهم وغفلتهم(٣) عن آيات الله وإعراضهم عنها.

وسابعها أنه تعالى لما علم أن الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق سينصرفون عن النظر في آياته، والإيمان بها إذا أظهرها على أيدي رسلهعليهم‌السلام جاز أن يقول:

( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ ) فيريد سأظهر ما ينصرفون بسوء اختيارهم عنه. ويجري ذلك مجرى قولهم: سأبخّل فلانا وأخطّئه، أي أسأله ما يبخل، ببذله وأمتحنه بما يخطئ فيه، ولا يكون المعنى: سأفعل(٤) فيه البخل والخطأ. والآيات على هذا الوجه جائز أن تكون المعجزات دون سائر الأدلة الدالة على الله تعالى، وجائز أن تكون جميع الأدلة؛ ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) غير راجع إلى قوله تعالى:

( سَأَصْرِفُ ) ؛ بل إلى ما قدمنا ذكره لتصح الفائدة.

____________________

(١) ف: (جاز).

(٢ - ٢) ت: (كفره وكذبه وفسقه)؛ بالتشديد.

(٣ - ٣) ت، ف: (والتسمية من موجب تكذيبهم وغفلتهم).

(٤) ت، وحاشية ف (من نسخة): (أني أفعل فيه).

٣٤١

وثامنها أن يكون الصّرف هاهنا معناه المنع من إبطال الآيات والحجج، والقدح فيها بما يخرجها عن أن تكون أدلّة وحججا، فيكون تقدير الكلام: إني بما أؤيّده من حججي، وأحكمه من آياتي وبيناتي؛ صارف للمبطلين والمكذبين عن القدح في الآيات والدّلالات، ومانع لهم ممّا كانوا لولا هذا الإحكام والتأييد يفترضونه ويغتنمونه من تمويههم الحق ولبسه بالباطل. ويجري هذا مجرى قول أحدنا(١) : قد منع فلان أعداءه بأفعاله الكريمة،(٢) وطرائقه المهذّبة، وصرفهم عن ذمّه(٢) ، وأخرس ألسنتهم عن الطعن عليه؛ وإنما يريد المعنى الّذي ذكرناه.

فإن قيل: أليس في المبطلين من طعن على آيات الله تعالى وأورد الشبهة فيها مع ذلك؟

قلنا: لم يرد الله تعالى الصرف عن الطعن الّذي لا يؤثر ولا يشتبه على من أحسن النظر، وإنما أراد ما قدمناه، وقد يكون الشيء في نفسه مطعونا عليه، وإن لم يطعن عليه طاعن؛ كما قد يكون بريئا من الطعن، وإن طعن فيه بما لم يؤثر؛ ألا ترى أن قولهم: فلان قد أخرس أعداءه عن ذمّه ليس يراد به أنه منعهم عن التلفظ بالذم، وإنما المعنى فيه أنه لم يجعل للذم عليه طريقا ومجالا؛ ويجب على هذا الوجه(٣) أن يكون قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا ) يرجع إلى ما قبله بلا فصل، ولا يرجع إلى قوله:( سَأَصْرِفُ ) (٤) .

وتاسعها أن الله تعالى لما وعد موسىعليه‌السلام وأمّته إهلاك عدوهم قال:( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) ، وأراد جل وعزّ أنه يهلكهم ويصطلمهم ويجتاحهم على طريق العقوبة لهم؛ بما كان منهم من التكذيب بآيات الله تعالى، والردّ لحججه، والمروق عن طاعته، وبشّر من وعده بهذه الحال من المؤمنين بالوفاء

____________________

(١) ت: (القائل).

(٢ - ٢) ت، ش: (وطرائقه الممدوحة، وأخلاقه المهذبة من عيبه، وصرفهم عن ذمه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (التأويل).

(٤) حواشي الأصل، ت، ف: (قريب منه قوله تعالى: وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ؛ ويعترض الآية بأن الحسينعليه‌السلام جند الله ومع ذلك فقد غلبوا؛ والجواب: إنهم وإن غلبوا في صورة فإنهم الغالبون حقيقة).

٣٤٢

بها، وهو تعالى إذا أهلك هؤلاء الجبّارين المتكبرين، واصطلمهم فقد صرفهم عن آياته، من حيث اقتطعهم عن مشاهدتها، والنظر فيها بانقطاع التكليف عنهم، وخروجهم عن صفات أهله.

وهذا الوجه يمكن أن يقال فيه: إن العقوبة لا تكون إلاّ مضادّة للاستخفاف والإهانة، كما أن الثواب لا بدّ أن يكون مقترنا بالتعظيم والتبجيل والإجلال(١) ؛ وإماتة الله تعالى الأمم وما يفعله من بوار وإهلاك لا يقترن إليه ما لا بدّ أن يكون مقترنا إلى العقاب من الاستخفاف، ولا يخالف ما يفعله تعالى بأوليائه على سبيل الامتحان والاختبار؛ فكيف يصح ما ذكرتموه!.

ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: لا يمتنع أن يضمّ الله تعالى إلى ما يفعله بهؤلاء الكفار المكذّبين(٢) من الإهلاك والبوار اللعن والذم والاستخفاف(٢) ، ويأمرنا(٣) أن نفعل ذلك بهم، فيكون ما يقع بهم من الإيلام على وجه العقوبة وبشروطها، ولا يمتنع أن يكون الله تعالى يتعبّد ويأمر بإهلاكهم(٣) ، وقتلهم على وجه الاستخفاف والنّكال، ويضيف الله تعالى ذلك إليه من حيث وقع بأمره وعن أذنه.

فإن قيل: ما معنى قوله تعالى:( يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ ) ؛ كأنّ في التكبّر ما يكون بالحق!

قلنا في هذا وجهان: أحدهما أن يكون ذلك على سبيل التأكيد والتغليظ والبيان عن أنّ التّكبر لا يكون إلا بغير الحق، وأن هذه صفة له لازمة غير مفارقة؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) ؛ [المؤمنون: ١١٧]، وقوله تعالى:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ الله وَقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ ) ؛ [النساء: ١٥٥]، ولم يرد تعالى إلا المعنى الّذي ذكرناه. ومثله قوله تعالى:( وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) ؛ [البقرة: ٤١]، ولم يرد النهي عن الثمن القليل دون الكثير، بل

____________________

(١) ساقطة من ت.

(٢) ت، حاشيتي الأصل، ف: (المكذبين المستحقين للبوار اللعن والذم).

(٣ - ٣) ساقط من م.

٣٤٣

أراد تأكيد القول بأن كلّ ثمن يؤخذ عنها يكون قليلا بالإضافة إليها، ويكون المتعوّض به عنها مغبونا مبخوسا خاسر الصفقة.

والوجه الآخر أنّ في التكبر ما يكون ممدوحا لأنّ من تكبر وتنزّه عن الفواحش والدنايا وتباعد من فعلها، وتجنب أهلها يكون مستحقا للمدح، سالكا لطريق الحقّ؛ وإنما التكبّر المذموم هو الواقع على وجه النّخوة والبغي والاستطالة على ذوي الضّعف والفخر عليهم، والمباهاة لهم، ومن كان بهذه الصفة فهو مجانب للتواضع الّذي ندب الله تعالى إليه، وأرشد إلى الثواب المستحقّ عليه، ويستحق بذلك الذمّ والمقت، فلهذا شرط تعالى أن يكون التكبر بغير الحق. وقوله تعالى في هذه السورة:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالآثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) ؛ [الأعراف: ٣٣]، يحتمل أيضا هذين الوجهين اللّذين ذكرناهما.

فإن أريد به البغي المكروه الّذي هو الظلم وما أشبهه، كان قوله:( بِغَيْرِ الْحَقِ ) تأكيدا وإخبارا عن أن هذه صفته، وإن أريد بالبغي الطلب - وذلك هو أصله في اللغة - كان الشرط في موضعه؛ لأنّ الطلب قد يكون بالحقّ وبغير الحقّ.

فإن قيل فما معنى قوله تعالى:( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ) وهل الرؤية هاهنا العلم والإدراك بالبصر؟ وهب أنها يمكن أن تكون في قوله تعالى:( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ) محمولة على رؤية البصر، لأن الآيات والأدلة مما يشاهد كيف تحمل الرؤية الثانية على العلم، وسبيل الرشد إنما هي طريقه، ولا يصحّ أن يرجع بها إلى المذاهب والاعتقادات التي لا تجوز عليها رؤية البصر، فلا بد إذا من أن يكون المراد به رؤية العلم؛ ومن علم طريق الرّشد لا يجوز أن ينصرف عنه إلى طريق الغي؛ لأن العقلاء لا يختارون مثل ذلك.

قلنا: الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون المراد بالرؤية الثانية رؤية البصر، ويكون السبيل المذكورة في الآية هي الأدلة؛ لأنها مما يدرك بالبصر، وتسمّى بأنها سبيل إلى

٣٤٤

الرشد، من حيث كانت وصلة إلى الرّشد، وذريعة إلى حصوله، ويكون سبيل الغي هي الشبهات والمخاريق التي ينصبها المبطلون والمدغلون في الدين؛ ليوقعوا بها الشبهة على أهل الإيمان، وتسمّى سبيل الغي، وإن كان النظر فيها لا يوجب حصول الغي من حيث كان المعلوم ممّن تشاغل بها، واغترّ بأهلها أنه يصير إلى الغي.

والوجه الثاني أن يكون المراد بالرؤية العلم؛ إلا أن العلم لم يتناول كونها سبيلا للرّشد، وكونها سبيلا للغي؛ بل يتناولها لا من هذا الوجه؛ ألا ترى أن كثيرا من المبطلين يعلمون مذاهب أهل الحق واعتقاداتهم وحججهم؛ إلا أنهم يجهلون كونها صحيحة مفضية إلى الحق، فيجتنبونها؛ وكذلك يعلمون مذاهب المبطلين واعتقاداتهم الباطلة الفاسدة، إلا أنهم يجهلون كونها باطلة، ويعتقدون صحتها بالشبهة فيصيرون إليها؟ وعلى هذا الوجه لا يجب أن يكون تعالى وصفهم بالعناد وترك الحق مع العلم به.

والوجه الثالث أن يكونوا عالمين بسبيل الرشد والغي، ومميزين بينهما؛ إلا أنهم للميل إلى أعراض الدنيا، والذّهاب مع الهوى والشهوات يعدلون عن الرشد إلى الغي، ويجحدون ما يعلمون، كما أخبر بها عن كثير من أهل الكتاب بأنهم يجحدون الحقّ وهم يعلمونه ويستيقنونه.

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) ، والتكذيب لا يكون في الحقيقة إلا في الأخبار دون غيرها؟

قلنا: التكذيب قد يطلق في الأخبار وغيرها؛ ألا ترى أنهم يقولون: فلان يكذّب بكذا إذا كان يعتقد بطلانه، كما يقولون: يصدّق بكذا إذا كان يعتقد صحته؟ ولو صرفنا التكذيب هاهنا إلى أخبار الله تعالى التي تضمنتها كتبه الواردة على أيدي رسلهعليهم‌السلام جاز؛ وتكون الآيات هاهنا هي الكتب المنزلة دون سائر المعجزات.

فإن قيل: فما معنى ذمّه تعالى لهم بأنهم كانوا عن الآيات غافلين، والغفلة على مذاهبكم

٣٤٥

من فعله، لأنها السهو أو ما جرى مجراه مما ينافي العلوم الضرورية، ولا تكليف على الساهي فكيف يذمّ بذلك؟.

قلنا: المراد هاهنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة، ووجه التشبيه أنهم لما أعرضوا عن تأمّل آيات الله تعالى، والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها، فأطلق عليهم هذا القول كما قال تعالى:( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) ؛ [البقرة: ١٨]، على هذا المعنى، وكما يقول أحدنا لمن يستبطئه ويصفه بالإعراض عن التأمل والتبيّن: أنت ميّت وراقد، ولا تسمع، ولا تبصر، وما أشبه ذلك، وكل هذا واضح بحمد الله.

٣٤٦

تأويل خبر [: (إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن]

إن سأل سائل عن الخبر المروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرّحمن، يصرّفها كيف شاء)(١) ثم يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذلك: (اللهم مصرّف القلوب، صرّف(٢) قلوبنا إلى طاعتك). وعما يرويه أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما من قلب آدميّ إلاّ وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالى، فإذا شاء أن يثبّته ثبّته، وإن شاء أن يقلّبه قلّبه). وعمّا يرويه ابن حوشب قال: قيل(٣) لأم سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

ما كان أكثر دعاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قالت: كان أكثر دعائه: (يامقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)، قالت: قلت: يارسول الله، ما أكثر دعاءك(٤) : (يامقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)! فقال: (ياأمّ سلمة، ليس من آدميّ إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، ما شاء أقام، وما شاء أزاغ).

فقال: ما تأويل هذه الأخبار على ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟ أو ليس من مذهبكم أنّ الأخبار التي يخالف ظاهرها الأصول، ولا تطابق العقول لا يجب ردّها، والقطع على كذب رواتها(٥) إلاّ بعد ألاّ يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل؟ وإن كان لها ذلك فباستكراه أو تعسّف، ولستم ممّن يقول ذلك في مثل هذه الأخبار، فما تأويلها؟.

الجواب، إنّ الّذي يعوّل عليه من تكلّم في تأويل هذه الأخبار هو أن يقول: إن الإصبع في كلام العرب وإن كانت الجارحة المخصوصة فهي أيضا الأثر الحسن؛ يقال: لفلان على ماله وإبله إصبع حسنة؛ أي قيام وأثر حسن؛ قال الراعي يصف راعيا حسن القيام على إبله:

____________________

(١) ف، حاشية ت (من نسخة): (يشاء).

(٢) ت، ف، حاشية الأصل (من نسخة) (اصرف).

(٣) ت، ف: (قلت لأم سلمة).

(٤) ت، د، ف: (أكثر دعائك).

(٥) ج، ش: (كذب راويها)، ت، ف (كذبها).

٣٤٧

ضعيف العصا بادي العروق ترى له

عليها إذا ما أجدب النّاس إصبعا(١)

وقال طفيل الغنوي يصف فحلا:

كميت كركن الباب أحيا بناته

مقاليتها واستحمشتهنّ إصبع(٢)

وقال لبيد بن ربيعة:

من يبسط الله عليه إصبعا(٣)

بالخير والشّرّ بأي أولعا

يملأ له منه ذنوبا مترعا

وقال حميد بن ثور:

أغرّ كلون البدر في كلّ منكب

من النّاس نعمى يحتذيها وإصبع

وقال آخر:

وأرزنات ليس فيهنّ أبن

ذو إصبع في مسّها وذو فطن

وقال آخر:

أكرم نزارا واسقه المشعشعا

فإنّ فيه خصلات أربعا

حدّا وجودا وندى وإصبعا(٤)

والإصبع في كلّ ما أوردناه المراد بها الأثر الحسن والنّعمة، فيكون المعنى: ما من آدميّ إلا وقلبه بين نعمتين للّه جليلتين حسنتين.

فإن قيل: هذا قد ذكر كما حكيتم؛ إلاّ أنه لم يفصّل: ما النعمتان؟ وما وجه التثنية هاهنا ونعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى؟

____________________

(١) البيت في اللآلئ ٥٠، ٧٦٤، واللسان (عصا)؛ وضعيف العصا كناية عن الرفق بما يرعاه، والعرب تعيب الرعاء بضرب الإبل؛ لأن ذلك عنف بها وقلة رفق.

(٢) ديوانه: ٥٢، وفي حاشية ت (من نسخة): (واستحشمتهن)، وفي حواشي الأصل، ت، ف أيضا: (الحمش: الجمع، وقد حمش [بفتحتين]؛ فيمكن أن يكون (استحمش) في البيت من هذا، واستحمش، أي غضب، غير متعد) وفي حاشية الأصل أيضا: (استحمشتهن: أصلحتهن؛ من قولهم: حمشت الدابة إذا صلحت؛ عن النضر بن شميل).

(٣) ديوانه ٢: ٨.

(٤) حاشية ف: (قوله: (حدا)، قيل به أراد البأس، وقيل: المنع)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (جدا).

٣٤٨

 قلنا: يحتمل أن يكون الوجه في ذلك نعم الدنيا ونعم الآخرة، وثناهما لأنهما كالجنسين أو كالنوعين، وإن كان كل قبيل منهما في نفسه ذا عدد كثير؛ لأن الله تعالى قد أنعم على عباده بأن عرّفهم بأدلته وبراهينه ما أنعم به عليهم، من نعم الدنيا والآخرة، وعرّفهم ما لهم في الاعتراف بذلك والشكر عليه والثناء به من الثواب الجزيل، والبقاء في النعيم الطويل.

ويمكن أن يكون الوجه في تسميتهم للأثر الحسن بالإصبع هو من حيث يشار إليه بالإصبع إعجابا به، وتنبيها عليه؛ وهذه عادتهم في تسمية الشيء بما يقع عنده، وبما له به علقة، وقد قال قوم في بيتي طفيل والراعي: إنهما أرادا أن يقولا (يدا) في مكان (إصبع)؛ لأن اليد النعمة، فلم يمكنهما، فعدلا عن اليد إلى الإصبع، لأنها من اليد.

وفي الإصبع الجارحة ثمان لغات: إصبع بفتح الألف والباء، وإصبع، بفتح الألف وكسر الباء، وإصبع بضم الألف والباء، وإصبع بضم الألف وفتح الباء، وأصبوع، بضم الألف مع الواو، وإصبع، بكسر الألف والباء، وإصبع، بكسر الألف وفتح الباء، وإصبع بكسر الألف وضم الباء.

وفي هذه الأخبار وجه آخر؛ هو أوضح مما ذكر، وأشبه بمذاهب العرب في ملاحن كلامها، وتصرّف كناياتها؛ وهو أن يكون المعنى في ذكر الأصابع الإخبار عن تيسّر تصريف القلوب وتقليبها، والفعل فيها عليه جلّت عظمته، ودخول ذلك تحت قدرته. ألا ترى أنهم يقولون: هذا الشيء في خنصري وإصبعي، وفي يدي وقبضتي؛ كلّ ذلك إذا أرادوا تسهّله وتيسّره وارتفاع المشقة فيه، والمئونة(١) .

وعلى هذا المعنى يتأوّل المحققون قوله تعالى:( وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ، [الزمر: ٦٨]؛ فكأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما أراد المبالغة

____________________

(١) ت: (المئونة).

٣٤٩

في وصفه بالقدرة على تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقّة ولا كلفة - وإن كان غيره تعالى يعجز عن ذلك، ولا يتمكّن منه - قال: إنها بين أصابعه؛ كناية عن هذا المعنى، واختصارا للّفظ الطويل، وجريا على مذهب العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعنى بمثل هذا اللفظ؛ وهذا الوجه يجب أن يكون مقدّما على الوجه الأول ومعتمدا؛ لأنه واضح جلي.

ويمكن أن يكون في الخبر وجه آخر على تسليم ما يقترحه المخالفون، من أنّ الإصبعين هما المخلوقتان من اللّحم والدم؛ استظهارا في الحجّة، وإقامة لها على كل وجه:

وهو أنه لا ينكر أن يكون القلب يشتمل عليه جسمان على شكل الإصبعين، يحرّكه الله تعالى بهما، ويقلّبه بالفعل فيهما؛ ويكون وجه تسميتهما بالأصابع من حيث كانا(١) على شكلهما. والوجه في إضافتهما إلى الله تعالى - وإن كانت جميع أفعاله تضاف إليه بمعنى الملك والقدرة - أنّه(٢) لا يقدر على الفعل فيهما وتحريكهما منفردين عما(٣) جاورهما غيره تعالى؛ فقيل إنهما إصبعان له؛ من حيث اختصّ بالفعل فيهما على هذا الوجه؛ لأنّ غيره إنما يقدر على تحريك القلب، وما هو مجاور للقلب من الأعضاء بتحريك جملة الجسم، ولا يقدر على تحريكه وتصريفه منفردا ممّا يجاوره غيره تعالى؛ فمن أين للمبطلين المتأوّلين هذه الأخبار بأهوائهم وضعف آرائهم أنّ الأصابع هاهنا إذا كانت لحما ودما فهي جوارح للّه تعالى! وما هذا الوجه الّذي ذكرناه ببعيد؛ وعلى المتأوّل أن يورد كلّ ما يحتمله الكلام؛ ممّا لا تدفعه حجّة، وإن ترتّب بعضه على بعض في القوة والوضوح.

ونحن نعود إلى تفسير ما لعلّه أن يشتبه من الأبيات التي استشهدنا بها.

أما قوله:

* حدّا(٤) وجودا وندى وإصبعا*

فمعنى الحدّ: المضاء والنّفاذ.

____________________

(١) ت: (من حيث كانتا).

(٢) ت: (فإنه).

(٣) ف، حاشية (من نسخة): (مما).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (جدا).

٣٥٠

وقول الآخر:

* وأرزنات ليس فيهنّ أبن*

فالأرزنات العصي، والابن العقد.

فأما قول حميد بن ثور: (في كل منكب من الناس)، فالمنكب: الجماعة، والمنكب:

الناحية.

وأما معنى أبيات(١) لبيد، فإنه أراد: من يسق الله إليه خيرا، أو يصرف عنه شرّا أيّهما فعل ذلك به أسبغ له حتى ينتهي منتهاه.

فأما بيت طفيل الغنوي، فمعناه أنّ هذا الفحل الّذي وصفه بأنه كميت، وأنه كركن الباب لتمامه وشدّته لما ضرب في الإبل التي وصفها عاشت أولادها التي هي بناته بعد أن كنّ مقاليت، والمقاليت: التي لا يعيش لهنّ ولد، فكان هذا منه أثرا جميلا عليها.

فأما بيت الراعي فمعنى قوله: (ضعيف العصا) يريد أنّه قليل الضّرب لها؛ إما لأنّهن لا يحوجنه سدادا وتأدبا، أو لشفقته عليهن؛ وهذه كناية في نهاية الحسن، واختصار شديد؛ لأنّه قد يجوز أن يكون ضعيف العصا على الحقيقة من حيث لا يحتاج إلى استعمالها في الضرب، فيختارها قوية، ويجوز أن يكون حذف، وأراد ضعيف فعل العصا.

وقوله: (بادي العروق) يعني عروق رجله لفسادها من السعي في أثر هذه الإبل. وأراد (بالإصبع) أنّ له عليها في جدب الناس أثرا جميلا لحسن قيامه وتعهده.

وقد قيل إنه إنما سمّي الراعي لبيت قاله في هذه القصيدة بعد بيتين من البيت الّذي أنشدناه، وهو:

لها أمرها حتّى إذا ما تبوّأت

بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا(٢)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بيت لبيد).

(٢) اللآلئ: ٧٦٤؛ والرواية هناك: (لأخفافها).

٣٥١

وهذا قول الأصمعي. وقال السّكّري: سمّي بذلك لقوله في هذه القصيدة أيضا:

هدان أخو وطب وصاحب علبة

يرى المجد أن يلقى خلاء ومرتعا(١)

وروي عن بعض بني نمير أنه قال: إنما سمّي بذلك لقوله:

بنيت مرافقهنّ فوق مزلّة

لا يستطيع بها القراد مقيلا(٢)

فقال بعض بني نمير لما سمع هذا البيت: والله ما هو إلاّ راعي إبل، فبقيت عليه.

وقال محمد بن سلاّم: خ خ إنما(٣) سمّي الراعي لكثرة وصفه الإبل وحسن نعته لها؛ واسمه عبيد ابن حصين بن جندل، وكنيته أبو جندل، وقيل أبو نوح.

____________________

(١) الهدان: الأحمق الثقيل، والعلبة: محلب من جلد.

(٢) جمهرة الأشعار: ٣٥٣، واللسان (زلل)، والمزلة: موضع الزلل والانزلاق.

(٣) طبقات الشعراء: ٢٥٠.

٣٥٢

[٢٣]

مجلس آخر [المجلس الثالث والعشرون:]

تأويل آية:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) ؛ [المائدة: ١١٦].

فقال: ما المراد بالنفس في هذه الآية؟ وهل المعنى فيها كالمعنى في قوله:( وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) ؛ [آل عمران: ٢٨] أو يخالفه؟ وهل يطابق معنى الآيتين والمراد بالنفس فيهما ما رواه أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: قال الله تعالى: (إذا أحبّ العبد لقائي أحببت لقاءه، وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإذا تقرّب إلى شبرا تقرّبت إليه ذراعا، وإذا تقرّب إلى ذراعا تقربت إليه باعا)، أو لا يطابقه؟

الجواب، قلنا: النفس في اللغة لها معان مختلفة، ووجوه في التصرّف متباينة؛ فالنفس نفس الإنسان وغيره من الحيوان، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حيّا، ومنه قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) ؛ [آل عمران: ١٨٥].

والنّفس ذات الشيء الّذي يخبر عنه كقولهم: فعل ذلك فلان نفسه؛ إذا تولّى فعله.

والنفس: الأنفة، من قولهم ليس لفلان نفس، أي لا أنفة له.

والنفس الإرادة، من قولهم نفس فلان في كذا، أي إرادته؛ قال الشاعر:

فنفساي نفس قالت ايت ابن بحدل

تجد فرجا من كلّ غمّى تهابها(١)

ونفس تقول اجهد نجاءك لا تكن

كخاضبة لم يغن شيئا خضابها(٢)

____________________

(١) البيتان في اللسان (نفس).

(٢) ت: (عنها خضابها)، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لم يغن يوما).

٣٥٣

ومنه أن رجلا قال للحسن: ياأبا سعيد، لم أحجج قطّ، فنفس تقول لي: حجّ، ونفس تقول لي: تزوّج، فقال الحسن: إنّما النفس واحدة، ولكن لك همّ يقول حجّ، وهمّ يقول: تزوّج، وأمره بالحج.

وقال الممزّق(١) العبدي - وتروى لمعقّر بن حمار البارقي:

ألا من لعين قد نآها حميمها

وأرّقني بعد المنام همومها

فباتت لها نفسان شتّى همومها

فنفس تعزّيها ونفس تلومها

وقال النّمر بن تولب العكلي:

أمّا خليلي فإني لست معجله

حتى يؤامر نفسيه كما زعما

نفس له من نفوس القوم صالحة

تعطي الجزيل ونفس ترضع الغنما(٢)

أراد أنّه بين نفسين: نفس تأمره بالجود، وأخرى تأمره بالبخل، وكنّى برضاع الغنم عن البخل، لأنّ اللّئيم يرضع اللبن من الشّاة ولا يحلبها؛ لئلا يسمع الضيف صوت الشّخب فيهتدي إليه، ومنه قيل: لئيم راضع؛ وقال كثيّر:

فأصبحت ذا نفسين نفس مريضة

من اليأس ما ينفكّ همّ يعودها(٣)

ونفس ترجّي وصلها بعد صرمها

تجمّل كي يزداد غيظا حسودها

والنفس العين التي تصيب الإنسان، يقال: أصابت فلانا نفس، أي عين. وروي

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (الممزّق، بكسر الزاي وفتحها، كلاهما جائز؛ الكسر لأنه أتى بذكر التمزيق في شعره، والممزق بالفتح؛ لأنه قال: (لما أمزق)، وقال أبو القاسم الآمدي: الممزق، بفتح الزاي هو شأس بن نهار العبدي، الّذي قال: (ولما أمزق)، والممزق، بكسرها هو الممزق الحضرمي، متأخر، وولده الممزّق بن الممزق، ذكره في المختلف والمؤتلف.

وانظر ص ١٨٥ - ١٨٦؛ والبيت الّذي يشير إليه هو بتمامه:

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلاّ فأدركني ولما أمزّق

من قصيدة يخاطب فيها عمرو بن المنذر بن عمرو بن النعمان، وكان هم بغزو عبد القيس.

(٢) البيتان في الأغاني ١٩: ١٦١.

(٣) ديوانه: ١: ٧٥.

٣٥٤

أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرقي فيقول: (بسم الله أرقيك، والله يشفيك، من كلّ داء هو فيك؛ من عين عائن، ونفس نافس، وحسد حاسد).

وقال ابن الأعرابي: النّفوس الّذي يصيب الناس بالعين. وذكر رجلا فقال: كان والله حسودا نفوسا كذوبا. وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات(١) :

يتّقي أهلها النّفوس عليها

فعلى نحرها الرّقى والتّميم

وقال مضرّس بن ربعي الفقعسيّ:

وإذا نموا صعدا فليس عليهم

منّا الخبال ولا نفوس الحسّد(٢)

وقال ابن هرمة يمدح عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك:

فاسلم سلمت من المكاره والرّدى

وعثارها ووقيت نفس الحسّد

والنفس أيضا من الدّباغ بمقدار الدّبغة؛ تقول: أعطني نفسا من دباغ، أي قدر ما أدبغ به مرة.

والنفس الغيب، يقول القائل: إنّي لأعلم نفس فلان، أي غيبه؛ وعلى هذا تأويل قوله تعالى:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) ، أي تعلم غيبي وما عندي، ولا أعلم غيبك.

وقيل: إنّ النفس أيضا العقوبة، من قولهم: أحذّرك نفسي؛ أي عقوبتي؛ وبعض المفسّرين حمل قوله تعالى:( وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) على هذا المعنى؛ كأنه يحذّركم عقوبته.

وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وآخرون؛ قالوا: معنى الآية ويحذركم الله إياه. وقد روي عن الحسن ومجاهد في قوله تعالى:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) ما ذكرناه من التأويل بعينه.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قيل له ابن قيس الرقيات؛ لأنه كان يشبب بجماعة كل واحدة منهن اسمها رقية؛ وقيل: كانت له جدات؛ اسم كل واحدة منهن رقية).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (يقال هذا نبات ينمى صعدا؛ أي يزداد طولا).

٣٥٥

فإن قيل: ما وجه تسمية الغيب بأنه نفس؟ قلنا: لا يمتنع أن يكون الوجه في ذلك أنّ نفس الإنسان لما كانت خفيّة الموضع نزّل ما يكتمه ويجتهد في ستره منزلتها، وسمّي باسمها، فقيل فيه إنه نفسه، مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء؛ وإنما حسن أن يقول تعالى مخبرا عن نبيه:( وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ) من حيث تقدم قوله:( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ) ؛ ليزدوج الكلام، ولهذا لا يحسن ابتداء أن يقول: أنا لا أعلم ما في نفس الله تعالى، وإن حسن على الوجه الأول؛ ولهذا نظائر في الاستعمال مشهورة مذكورة.

فأما الخبر الّذي ذكره السائل فتأويله ظاهر، وهو خارج على مذهب للعرب في مثل هذا الباب معروف؛ ومعناه أنّ من ذكرني في نفسه جازيته على ذكره لي، وإذا تقرّب إلي شبرا جازيته على تقرّبه إلي؛ وكذلك الخبر إلى آخره، فسمّى المجازاة على الشيء باسمه اتساعا، كما قال تعالى:( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) ، [الشورى: ٤٠]؛( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ) ؛ [الأنفال: ٤٠]،( الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) ، [البقرة: ١٥]؛ وكما قال الشاعر(١) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب. ولما أراد تعالى المبالغة في وصف ما يفعله به من الثواب والمجازاة على تقرّبه بالكثرة والزيادة؛ كنّى عن ذلك بذكر المسافة المتضاعفة فقال: (باعا وذراعا)، إشارة إلى المعنى من أبلغ الوجوه وأحسنها.

____________________

(١) هو عمرو بن كلثوم؛ والبيت من المعلقة ص ٢٣٨ - بشرح التبريزي.

٣٥٦

[٢٤]

مجلس آخر [المجلس الرابع والعشرون:]

تأويل آية:( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ )

إن سأل سائل فقال: ما تأويل قوله تعالى:( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الأبْصارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ، وَتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا ) ؛ [الأحزاب: ١٠].

وكيف يجوز أن تبلغ القلوب الحناجر مع كونهم أحياء، ومعلوم أنّ القلب إذا زال عن موضعه المخلوق فيه مات صاحبه؟ وعن أي شيء زاغت الأبصار؟ وبأي شيء تعلّقت ظنونهم بالله تعالى؟.

الجواب، قيل له في هذه الآية وجوه:

منها أن يكون المراد بذلك أنهم جبنوا وفزع أكثرهم لما أشرف المشركون عليهم، وخافوا من بوائقهم وبوادرهم، ومن شأن الجبان عند العرب إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، ولهذا يقولون للجبان: انتفخ سحره، أي رئته، وليس يمتنع أن تكون الرئة إذا انتفخت رفعت القلب، ونهضت به إلى نحو الحنجرة. وهذا التأويل قد ذكره الفرّاء وغيره، ورواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

ومنها أنّ القلوب توصف بالوجيب والاضطراب في أحوال الجزع والهلع؛ قال الشاعر:

كأنّ قلوب أدلاّئها

معلقة بقرون الظّباء(١)

____________________

(١) الأدلاء: جمع دليل؛ والبيت في وصف فلاة مخيفة، ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث ص ٤٨٨، ونسبه إلى المرار، وقال في شرحه: (يريد أن القلوب تنزو وتجب؛ فكأنها معلقة بقرون الظباء؛ لأن الظباء لا تستقر؛ وما كان على قرونها فهو كذلك).

٣٥٧

وقال امرؤ القيس:

ولا مثل يوم في قداران ظلته

كأني وأصحابي على قرن أعفرا(١)

ويروى: (في قدار ظللته)؛ أراد المبالغة في وصف نفسه وأصحابه بالقلق والاضطراب ومفارقة السّكون والاستقرار؛ وإنما خصّ الظّبي؛ لأن قرنه أكثر تحركا واضطرابا؛ لنشاطه ومرحه وسرعته.

وقد قال بعض الناس: إن امرأ القيس لم يصف شدّة أصابته في هذا البيت فيليق قوله: (على قرن أعفرا) بالتأويل المذكور؛ بل وصف أماكن كان فيها مسرورا متنعما؛ ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت بلا فصل:

ألا ربّ يوم صالح قد شهدته

بتاذف ذات التلّ من فوق طرطرا(٢)

فيكون معنى قوله: (على قرن اعفرا) على هذا الوجه أنه كان على مكان عال مشرف؛ شبّهه لارتفاعه وطوله بقرن الظبي؛ وهذا القول لابن الأعرابي والأول(٣) للأصمعي؛ فأما قول الآخر:

ألا قلّ خير الشّام(٤) كيف تغيّرا

فأصبح يرمي النّاس عن قرن أعفرا

فلا يحتمل إلاّ الشدة والحال المذمومة، ويجوز أن يريد أن الناس فيه غير مطمئنين بل هم منزعجون قلقون؛ كأنهم على قرن ظبي، ويحتمل أنه يريد أن يطعنهم بقرن ظبي، كقولك:

رماه بداهية، ويكون معنى (عن) هاهنا معنى الباء، فقال: (عن قرن أعفرا) وهو يريد بقرن أعفرا، وقد ذكر في هذا البيت الوجهان معا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل أن القلوب لما اتصل وجيبها واضطرابها بلغت الحناجر لشدة القلق.

____________________

(١) ديوانه: ١٠٦. قداران: قرية بالشام؛ وأعفر؛ أراد قرن ظبي أعفر. وفي حواشي الأصل، ت، ف: (في نسخة الوزير الكامل أبي القاسم المغربي رحمه الله: (قذاران)، بالذال المعجمة وفتح القاف، وضب عليه).

(٢) في حاشية ت: (طرطر: قرية بالشام بمنبج، ولها نهر يقال له نهر طرطر). وفي شرح الديوان: تاذف وطرطر: موضعان فيهما أوقع بعدوه).

(٣) حاشية ت (من نسخة): (والآخر).

(٤) ت، ف: (الشأن).

٣٥٨

ومنها أن يكون المعنى: كادت القلوب من شدة الرّعب والخوف تبلغ الحناجر، وإن لم تبلغ في الحقيقة، فألغى ذكر (كادت) لوضوح الأمر فيها، ولفظة (كادت) هاهنا للمقاربة؛ مثل قول قيس بن الخطيم:

أتعرف رسما كاطّراد المذاهب

لعمرة وحشا غير موقف راكب(١)

ديار الّتي كادت ونحن على مني

تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب

معناه: قاربت أن تحلّ بنا، وإن لم تحلل في الحقيقة.

وقوله: (غير موقف راكب) فيه وجهان: أحدهما أنه ليس بموضع يقف فيه راكب لخلوّه من الناس ووحشته، والآخر أن يكون أراد أنّه وحش؛ إلاّ أن راكبا واقف به؛ يعني نفسه.

وقال نصيب:

وقد كدت يوم الحزن لما ترنّمت

هتوف الضّحى محزونة بالترنّم

أموت لمبكاها أسى إنّ لوعتي(٢)

ووجدي بسعدى شجوه غير منجم(٣)

معنى المنجم: المقلع.

وقال ذو الرّمة:

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه(٤)

وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه(٥)

تكلّمني أحجاره وملاعبه

____________________

(١) ديوانه: ١٠٠، والرسم: ما شخص من آثار الديار بعد البلى، والمذاهب: جمع مذهب؛ وهي جلود تجعل فيها خطوط فيرى بعضها في إثر بعض، واطرادها: تتابعها.

(٢) ف، حاشية ت (من نسخة): (لوعتي).

(٣) في حواشي الأصل، ت، ف: (في ديوانه:

* ووجدي بسعدى قاتل لي فاعلمي*

وبعده:

ولو قبل مبكاها بكيت صبابة

بسعدى شفيت النّفس قبل التّندّم

ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا

بكاها، فقلت: الفضل للمتقدّم

 (٤) ديوانه: ٣٥.

(٥) في حواشي الأصل، ت، ف: (يقال بثثته السر وأبثثته).

٣٥٩

وكل هذا معنى (كاد) فيه المقاربة.

ومتى أدخلت العرب على (كاد) جحدا، فقالوا: ما كاد عبد الله يقوم، ولم يكد عبد الله يقوم؛ كان فيه وجهان:

أجودهما: قام عبد الله بعد إبطاء ولأي، ومثله قوله تعالى:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ؛ [البقرة: ٧١]، أي ذبحوها بعد إبطاء وتأخير، لأنّ وجدان البقرة عسر عليهم.

وروي أنهم أصابوها ليتيم لا مال له غيرها، فاشتروها من وليّه بمل ء جلدها ذهبا، فقال تعالى:( وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ) ، إما لأنهم لم يقفوا عليها، أو لغلائها وكثرة ثمنها.

والوجه الآخر في قولهم: ما يكاد عبد الله يقوم، أي ما يقوم عبد الله، وتكون لفظة يكاد على هذا المعنى مطّرحة لا حكم لها، وعلى هذا يحمل أكثر المفسرين قوله تعالى:

( إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ) ، أي لم يرها أصلا؛ لأنه جل وعز لما قال:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ) ؛ [النور: ٤٠]، كأنّ بعض هذه الظلمات يحول بين العين وبين النظر إلى اليد وسائر المناظر؛ ف يَكَدْ على هذا التأويل زيدت للتوكيد، والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها.

وقال قوم: معنى الآية: إذا أخرج يده رآها بعد إبطاء وعسر؛ لتكاثف الظلمة(١) ، وترادف الموانع من الرؤية؛ ف يَكَدْ على هذا الجواب ليست بزائدة.

وقال آخرون: معنى الآية إذا أخرج يده لم يرد أن يراها، لأن الّذي شاهده من تكاثف الظلمات أيأسه(٢) من تأمل يده، وقرّر في نفسه أنه لا يدركها ببصره. وحكي عن العرب:

أولئك أصحابي الذين أكاد أنزل عليهم، أي أريد أن أنزل عليهم؛ قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من لهو الصّبابة ما مضى(٣)

 أي أرادت وأردت، وقال الأفوه الأودي:

____________________

(١) ف: (الظلمات)، حاشية ت (من نسخة): (الظلم).

(٢) ت، حاشية ف (من نسخة): (آيه).

(٣) ديوانه: ١٠ (ضمن مجموعة الطرائف).

(٣) البيت في اللسان (كيد).

٣٦٠