أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 285093
تحميل: 9345


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 285093 / تحميل: 9345
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وأعيش بالبلل القليل وقد أرى

أنّ الرّموس مصارع الفتيان(١)

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني عليّ بن منصور قال: أخبرني محمد بن موسى عن دعبل بن عليّ قال قال عقيل بن علّفة: - وذكر الأبيات الثلاثة، وزاد فيها:

ولقد علمت لئن هلكت ليذكرن

قومي إذا علن النّجي مكاني(٢)

***

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله تأييده: وكان عقيل بن علّفة مع قوّة شعره جيّد الكلام حكيم الألفاظ. وروى المدائنى قال: قال عبد الملك بن مروان لعقيل بن علّفة المرّيّ:

ما أحسن(٣) أموالكم؟ فقال: ما ناله أحدنا عن أصحابه تفضّلا، قال: ثم أيّها؟ قال:

مواريثنا، قال: فأيّها أشرف؟ قال: ما استفدناه بوقعة خوّلت نعما، وأفادت عزّا، قال:

فما مبلغ عزّكم؟ قال: ما لم يطمع فينا، ولم نؤمن، قال: فما مبلغ جودكم؟ قال: ما عقدنا به مننا، وأبقينا به ذكرا، قال: فما مبلغ حفاظكم؟ قال: يدفع كل رجل منّا عن المستجير به كدفاعه عن نفسه؛ قال عبد الملك: هكذا فليصف الرجل قومه.

وروي أنه قيل لعقيل بن علّفة: قد عنّست(٤) بناتك، أفما تخشى عليهنّ الفساد؟ قال:

كلاّ، إني خلّفت عندهن الحافظين، قيل: وما هما؟ قال: الجوع والعري، أجيعهن فلا يأشرن، وأعرّيهنّ(٥) فلا يظهرن.

وقال له عبد الله يوما: ما لك تهجو قومك؟ قال: لأنهم أشباه الغنم، إذا صيح بها رفعت، وإذا سكت عنها رتعت، قال: إنّما تقول البيت والبيتين، قال: حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.

____________________

(١) البلل في الأصل: ما بل الحلق من ماء أو لبن أو غيره.

(٢) حاشية الأصل: (يصف نفسه بحفظ الأسرار؛ يقول: إذا مت والناس يناجون غيري فيفشي أسرارهم؛ يذكرونني عند ذلك ويذكرون مكاني).

(٣) من نسخة بحواشي الاصل، ت، ف: (ما أخس).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (عنست بناتك؛ بتاء الخطاب؛ أي أخرتهن عن التزويج).

(٥) حواشي الأصل، ت، ف: (في معناه الحديث: (اعروا النساء يلزمن الحجال)).

٤٠١

فأما معنى (علّفة) اسم أبيه، فإن ابن الأعرابي قال: العلّفة مثل الباقلاّء الرّطبة تكون تحت الزهرة من البقل وغيره. وقال أبو سعيد السّكّري: العلّفة ضرب من أوعية بزر بعض النبات مثل قشرة الباقلاّء. واللّوبيا؛ وهو الغلاف الّذي يجمع عدّة حبّ.

وقيل: إن عقيلا كان يكنى بأبي الوليد، وكان رجلا غيورا موصوفا بشدة الغيرة، وروى أبو عمرو بن العلاء أنّه حمل يوما ابنة له وأنشأ يقول:

إني وإن سيق إلي المهر

ألف وعبدان وذود عشر(١)

أحبّ أصهاري إليّ القبر

وذكر الأصمعي أن عقيلا كان لغيرته إذا رأى الرجل يتحدث إلى النساء أخذه، ودهن أرفاغه(٢) ومغابنه بزبد وربطه وطرحه في قرية النمل، فلا يعود إلى محادثتهنّ.

وروى الأصمعي قال: كان(٣) عقيل بن علّفة في بعض سفره، ومعه ابنه العملّس وابنته الجرباء، فأنشأ يقول:

قضت وطرا من دير سعد وربّما

على عجل ناطحنه بالجماجم(٤)

ثم أقبل على ابنه فقال: أجزيا عملّس، فقال:

وأصبحن بالموماة يحملن فتية

نشاوى من الإدلاج ميل العمائم(٥)

____________________

(١) الذود: القطيع من الإبل.

(٢) الأرفاغ: جمع رفع؛ وهو أصل الفخذ، والمغابن: جمع مغبن، كمنزل وهو الإبط.

(٣) الخبر في الأغاني ١٢: ٢٥٦ - ٢٥٧ (طبع دار الكتب المصرية).

(٤) دير سعد: بين بلاد غطفان والشام، وبعده في رواية الأغاني:

إذا هبطت أرضا يموت غرابها

بها عطشا أعطينهم بالخزائم

والخزائم: جمع خزامة، وهي حلقة من شعر تجعل في أحد جاني منخري البعير لينقاد بها.

(٥) الموماة: المفازة الواسعة. نشاوى: سكارى. الإدلاج: السير من أول الليل، وبعده في رواية الأغاني:

إذا علم غادرنه بتنوفة

تذارعن بالأيدي لآخر طاسم

- والعلم: شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة. التنوفة: المفازة. تذارعن: سرن، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا إذا سار على قدر سعة خطوه. رسم طاسم: دارس.

٤٠٢

ثم أقبل على ابنته، فقال: أجيزي ياجرباء، فقالت:

كأنّ الكرى سقّاهم صرخديّة

عقارا تمشّت في المطا والقوائم(١)

قال: فأقبل على ابنته يضربها ويقول: والله ما وصفتها بهذه الصفة حتى شربتها، فوثب عليه إخوتها فقاتلوه دونها، ثم رماه أحدهم بسهم فانتظم فخذيه، فقال عقيل:

إنّ بنيّ زمّلوني بالدّم(٢)

من يلق أبطال الرّجال يكلم(٣)

ومن يكن ذا أود يقوّم

شنشنة أعرفها من أخزم

الشنشنة: الطبيعة والسجية. وقيل الشبه، وهذا مثل اجتلبه عقيل(٤) ، وقد قيل قبله؛ ولعقيل:

وللدّهر أثواب فكن في لباسه

كلبسته يوما أجدّ وأخلقا(٥)

وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم

وإن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا

____________________

(١) الصرخدية: منسوبة إلى صرخد، وهو بلد ملاصق لبلاد حوران من أعمال دمشق. العقار:

الخمر. المطا: الظهر.

(٢) رواية الأغاني: (سربلوني)،

(٣) رواية اللسان (شنن): (آساد الرجال).

(٤) حاشية الأصل: (قال س: قرأت في أمالي ابن الجبان الأصبهاني: شنشنة [بالفتح]، وشنشنة [بالكسر]، ونشنشة [بالفتح]، ونشنشة [بالكسر]، قال: قد فسروها بالطبيعة وبالمضغة من اللحم وبالمجامعة. ضارب هذا المثل حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أخزم الطائي حين نشأ حاتم، وتقيل أخلاق جده أخزم في الجود فقال: (شنشنة أعرفها من أخزم)، وتمثل به عقيل ابن علفة) وفي اللسان عن ابن بري: (كان أخزم عاقا لأبيه، فمات وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وأدموه، فقال ذلك).

وانظر ترجمة عقيل وأخباره وأشعاره في (الأغاني ١١: ٨١ - ٨٩).

(٥) حاشية ف: (المعنى: فالبس مع الدهر لبوسه؛ إن لبس الجديد فالبس أيضا أنت الجديد، وبالعكس).

٤٠٣

[٢٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن والعشرون:]

تأويل آية:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) ؛ [البقرة: ٢١٠] فقال: كيف يصحّ القول بأنّها رجعت عليه وهي لم تخرج عن يده؟.

الجواب، قلنا قد ذكر في ذلك وجوه:

أولها أنّ الناس في دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض، ويعتقدون فيهم أنهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم في النظر، وعدولهم عن وجهه وطريقه، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر، ويعبد آخرون البشر، ويجعلونهم شركاء للّه تعالى في استحقاق العبادة؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عز وجل فيهم إلى غيره، فإذا جاءت الآخرة، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رازق ولا ضارّ ولا نافع غير الله تعالى فردوا إليه أمورهم، وانقطعت آمالهم من غيره، وعلموا أنّ الّذي كانوا عليه من عبادة غيره، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور، فقال الله تعالى:( وَإِلَى الله تُرْجَعُ الآمُورُ ) لهذا المعنى.

والوجه الثاني أن يكون معنى الآية في الأمور أنّ الأمور كلّها للّه تعالى، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقي؛ وقد تقول العرب: قد رجع عليّ من فلان مكروه، بمعنى صار إلي منه؛ ولم يكن سبق إلى قبل هذا الوقت، وكذلك يقولون: قد عاد عليّ من زيد كذا وكذا وإن وقع منه على سبيل الابتداء قال الشاعر:

وإن تكن الأيّام أحسن مرّة

إلي فقد عادت لهنّ ذنوب

٤٠٤

أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة.

والوجه الثالث أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة، مثل ما ملّكه الموالي من العبيد، وما ملّكه الحكام من الحكم وعير ذلك؛ فيجوز أن يريد تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها.

ويمكن في الآية وجه آخر؛ وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهي إلى ألاّ يكون موجود قادر غيره، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء، لأن قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة، وبعد إفنائهم هكذا تصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى، وهو رجوع حقيقي، لأنه عاد إلى ما كان عليه متقدما.

ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات، لأن ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر، وإن كانت باقية لما دلّ عليه الدليل، من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير، وهذا أيضا حكم، هو تعالى المتفرد به دون غيره من سائر القادرين، والله أعلم بما أراد.

تأويل آية أخرى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، [البقرة: ١٨٩].

فقال: أي معنى لذكر البيوت وظهورها وأبوابها؟ وهل المراد بذلك البيوت المسكونة

٤٠٥

على الحقيقة، أو كنّى بهذه اللفظة عن غيرها؟ فإن كان الأول فما الفائدة في إتيانها من أبوابها دون ظهورها؟ وإن كانت كناية فبيّنوا وجهها ومعناها.

الجواب قيل له في الآية وجوه.

أولها ما ذكر من أنّ الرجل من العرب كان إذا قصد حاجة فلم تقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخّر البيت، ولم يدخل من بابه تطيّرا، فدلّهم الله تعالى على أنّ هذا من فعلهم لا برّ فيه، وأمرهم من التّقى بما ينفعهم ويقرّبهم إليه، وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن التطيّر وقال: ( لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)؛ أي لا يعدي شيء شيئا. وقالعليه‌السلام : (لا يورد ذو عاهة على مصحّ)؛ ومعنى هذا الكلام أنّ من لحقت إبله آفة أو مرض فلا ينبغي أن يوردها على إبل لغيره صحاح، لأنّه متى لحق الصّحاح مثل هذه العاهة اتفاقا، لا لأجل العدوى لم يؤمن من صاحب الصّحاح أن يقول إنما لحق إبلي هذه الآفة من تلك الإبل، وهي أعدت إبلي، فنهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا، ليزول المأثم بين الفريقين والظّنّ القبيح.

وثانيها أن العرب إلاّ قريشا ومن ولدته قريش كانوا إذا أحرموا في غير الأشهر الحرم لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، ودخلوها من ظهورها إذا كانوا من أهل الوبر، وإذا كانوا من أهل المدر نقبوا في بيوتهم ما يدخلون ويخرجون منه، ولم يدخلوا ولم يخرجوا من أبواب البيوت؛ فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأعلمهم أنه لا معنى له، وأنه ليس من البرّ وأن البرّ غيره.

وثالثها - وهو جواب أبي عبيدة معمر بن المثنى - أن المعنى ليس البرّ بأن تطلبوا الخير من غير أهله، وتلتمسوه من غير بابه،( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ) ، معناه: واطلبوا الخير من وجهه، ومن عند أهله.

ورابعها - وهو جواب أبي عليّ الجبّائي - أن تكون الفائدة في هذا الكلام ضرب المثل،

٤٠٦

وأراد: ليس البرّ أن يأتي الرجل الشيء من خلاف جهته؛ لأن إتيانه من خلاف جهته يخرج الفعل عن حد الصواب والبرّ إلى الإثم والخطأ، وبيّن البرّ والتقوى، وأمر بإتيان الأمور من وجوهها، وأن تفعل على الوجوه التي لها وجبت وحسنت، وجعل تعالى ذكر البيوت وظهورها وأبوابها مثلا؛ لأن العادل في الأمر عن وجهه كالعادل في البيت عن بابه.

وخامسها أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمّي المرأة بيتا؛ قال الشاعر:

ما لي إذا أنزعها صأيت

أكبر غيّرني أم بيت(١)

أراد بالبيت: المرأة.

ومما يمكن أن يكون شاهدا للجواب الّذي حكيناه عن أبي عليّ الجبّائي، والجواب عن أبي عبيدة أيضا ما أخبرنا به أبو القاسم عبيد الله عثمان بن يحيى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي قال: أملى علينا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: أنشدنا ابن الأعرابي(٢) :

إني عجبت لأمّ العمر إذ هزئت

من شيب رأسي وما بالشّيب من عار(٣)

ما شقوة المرء بالإقتار يقتره

ولا سعادته يوما بإكثار

إنّ الشّقي الّذي في النّار منزله

والفوز فوز الّذي ينجو من النّار

أعوذ بالله من أمر يزيّن لي

شتم العشيرة أو يدني من العار

وخير دنيا ينسّي أمر آخرة

وسوف يبدي لي الجبّار أسراري(٤)

____________________

(١) البيان في اللسان (صأى) وفي حاشية الأصل: (هذا مستق يستقي الماء من البئر وينزع الدلو.

والهاء في قوله: (أنزعها) راجعة إلى الدلو؛ وقيل الضمير للقوس؛ يقال: (صأى يصأى، مثل صعى يصعى؛ إذا صوت).

(٢) أبيات منها في الكامل ٢: ٥١ - ٥٢ - بشرح المرصفي؛ عن ابن الأعرابي، ونسبها إلى أحد ابني حبناء، قال: (وأحسبه صخرا).

(٣) حاشية الأصل: (ويروى: (لأم الغمر - بالغين المعجمة)، ورواية الكامل:

إنّي هزئت من أمّ الغمر إذ هزئت

بشيب رأسي، وما بالشّيب من عار

 (٤) د:

* وسوف تبدو إلى الجبّار أسراري*

٤٠٧

لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره

ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري

فقوله:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

يحتمل أن يريد به: إنني لا آتي الأمور من غير وجهها، على أحد الأجوبة في الآية، ويحتمل أيضا أني لا أطلب الخير إلا من أهله على جواب أبي عبيدة، ويحتمل وجها آخر(١) ؛ وهو أن يريد أنني لا أقصد البيت للرّيبة والفساد، لأنّ من شأن من يسعى إلى إفساد الحرم، ويقصد البيوت للريبة أن يعدل عن أبوابها طلبا لإخفاء أمره، فكأنه نفى عن نفسه بهذا القول القبيح، وتنزّه عنه؛ كما تنزه بقوله:

* ولا أكسّر في ابن العمّ أظفاري*

عن مثله، وأراد أنه لا يندى(٢) ابن العمّ مني السوء، ولا يتألم بشيء من جهتي، فأكون كأنني قد جرحته بأظفاري، وكسرتها في لحمه؛ وهذه كنايات بليغة مشهورة للعرب.

***

[أبيات لهلال بن خثعم وشرح ما ورد فيها من الغريب:]

ويجري مجرى هذه الأبيات ويقاربها في المعنى وحسن الكناية قول هلال بن خثعم:

وإني لعفّ عن زيارة جارتي

وإني لمشنوء إلي اغتيابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها

زءورا ولم تنبح عليّ كلابها(٣)

وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها

ولا عالم من أي حوك ثيابها

وإنّ قراب البطن يكفيك ملؤه

ويكفيك عورات الأمور اجتنابها(٤)

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ووجه آخر).

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (من حر كلامهم: ما ينداك مني سوء، أي ما يصيبك، ويقال: ما نديت بهذا الأمر ولا نطقت به، ولا بللت به، أي ما علمته ولا أصبته، قال النابغة:

ولا نديت بشيء أنت تكرهه

إذا فلا رفعت سوطي إليّ يدي

 (٣) يقال رجل زوار وزءور، كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت.

(٤) حاشية الأصل: (القراب: ما دون المل ء أو قريب منه).

٤٠٨

قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد جمعت هذه الأبيات فقرا عجيبة، وكنايات بليغة، لأنه نفى عن نفسه زيارة جارته عند غيبة بعلها، وخصّ حال الغيبة لأنها أدنى إلى الرّيبة وأخصّ بالتهمة فقال: (ولم تنبح عليّ كلابها)، أراد: إني لا أطرقها ليلا مستخفيا متنكّرا فتنكرني كلابها، وتنبحني، وهذه الكناية تجري مجرى قول الشاعر المتقدم:

* لا أدخل البيت أحبو من مؤخّره*

وقد روي: (ولم تأنس إلى كلابها) وهذا معنى آخر، كأنه أراد أنه ليس يكثر الطروق لها والغشيان لمنزلها، فتأنس به كلابها لأن الأنس لا يكون إلاّ مع المواصلة والمواترة.

وقوله:

* وما أنا بالدّاري أحاديث بيتها*

أراد به أيضا التأكيد في نفي زيارتها وطروقها عن نفسه؛ لأنه إذا أدمن الزيارة عرف أحاديث بيتها، فإذا لم يزرها وصارمها لم يعرف، ويحتمل أن يريد: إنني لا أسأل عن أحوالها وأحاديثها كما يفعل أهل الفضول؛ فنزّه نفسه عن ذلك.

وقوله:

* ولا عالم من أي حوك ثيابها*

كناية مليحة عن أنّه لا يجتمع معها، ولا يقرب منها؛ فيعرف صفة ثيابها.

***

[إيراد مقطعات مختلفة لحارثة بن بدر الغداني:]

وبالإسناد المتقدّم لحارثة بن بدر الغداني(١) .

إذا الهمّ أمسى وهو داء فأمضه

ولست بممضيه وأنت تعادله

ولا تنزلن أمر الشّديدة بامرئ

إذا همّ أمرا عوّقته عواذله(٢)

____________________

(١) هو حارثة بن بدر بن حصين بن قطن بن غدانة؛ من بني يربوع. كان من فرسان بني تميم ووجوهها وسادتها، ولم يكن معدودا في فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه في الشعر. (وانظر أخباره وأشعاره في الأغاني ٢١: ١٣ - ٣١)

(٢) حواشي الأصل، ت، ف: (سوفته عواذله).

٤٠٩

فما كلّ ما حاولته الموت دونه،

ولا دونه أرصاده وحبائله

وما الفتك ما آمرت فيه ولا الّذي

تحدّث من لاقيت أنّك فاعله(١)

وما الفتك إلاّ لامرئ ذي حفيظة

إذا صال لم ترعد إليه خصائله(٢)

ولا تجعلن سرّا إلى غير أهله

فتقعد إن أفشى عليك تجادله

ولا تسأل المال البخيل ترى له

غنى بعد ضرّ أورثته أوائله(٣)

أرى المال أفياء الظّلال فتارة

يئوب، وأخرى يختل المال خاتله

معنى (آمرت) شاورت. والخصائل: كل لحم مجتمع.

وقد روينا في هذه الأبيات زيادة على القدر الّذي ذكرناه:

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني الحسن بن عليّ قال حدثنا محمد بن العباس قال حدّثني الفضل بن محمد عن أبي المنهال المهلّبي قال: من الأبيات السائرة قول حارثة ابن بدر الغداني:

لعمرك ما أبقى لي الدّهر من أخ

حفي ولا ذي خلّة لي أواصله(٤)

ولا من خليل ليس فيه غوائل

فشرّ الأخلاّء الكثير غوائله

وقل لفؤاد إن نزا بك نزوة

من الرّوع أفرخ، أكثر الرّوع باطله(٥)

معنى (أفرخ) أي اسكن، يقال: أفرخ روعه إذا سكن.

وما كلّ ما حاولته، الموت دونه

 ... ... ... ... ... ... ....

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (ولا الفتك). وآمرت: شاورت.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (لم ترعد إليه) وفيها: (الخصائل: جمع خصلة، وهي كل لحم مجتمع، مثل الساقين والفخذين).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (يجوز أن يكون ضمير المال أو البخل).

(٤) الحفي: الّذي يكرم خليله ويبالغ في إكرامه، مع إظهار المسرة والفرح.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (إنما نكر الفؤاد على اعتبار أن له فؤادين، أحدهما يشجعه والآخر يجبنه، فقال: لا تطع المجبن؛ وإنما جعل لنفسه فؤادين ينقسمان للخوف والأمن، لكيلا يكون في حال من الأحوال جبانا مطلقا، بل يكون مترنحا بينهما). وفي حاشية ت (من نسخة): (للفؤاد).

٤١٠

وذكر البيتين اللذين بعده، وزاد:

وكن أنت ترعى سرّ نفسك واعلمن

بأنّ أقلّ النّاس للنّاس حامله(١)

إذا ما قتلت الشّيء علما فبح به(٢)

ولا تقل الشّيء الّذي أنت جاهله

ومما يستحسن لحارثة بن بدر قوله:

لنا نبعة كانت تقينا فروعها

وقد بلغت إلاّ قليلا عروقها(٣)

وإنّا لتستحلى المنايا نفوسنا

ونترك أخرى مرّة لا تذوقها(٤)

وشيّب رأسي قبل حين مشيبه

رعود المنايا بيننا وبروقها

قوله:

* لنا نبعة كانت تقينا فروعها*

مثل ضربه، وإنما أراد عشيرته وأهل بيته.

وقد روى هذه الأبيات عليّ بن سليمان الأخفش عن أبي العباس ثعلب، وزاد فيها:

رأيت المنايا باديات وعوّدا

إلى دارنا سهلا إلينا طريقها

وقد قسمت نفسي فريقين منهما:

فريق مع الموتى، وعندي فريقها

وبينا نرجّي النّفس ما هو نازح

من الأمر لاقت دونها ما يعوقها

وروى أبو العيناء قال: أنشد الشعبي عبد الله بن جعفر الأبيات الثلاثة الأول،

____________________

(١) د: (للسر)، وفي حاشية ت: (نسخة الشجري: (أقل الناس للسر حامله)، كأنه أقلهم لحمله.

(٢) قلت الشيء علما، أي علمته علما تاما، ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فقل به.

(٣) النبع: شجر ينبت في قلة الجبل، تتخذ منه العسى.

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (مرة لا نذوقها)، وفي حاشية ف: مثله (قول السموءل ابن عاديا اليهودي:

يقرّب حبّ الموت آجالنا

وتكرهه آجالهم فتطول

أي حبنا الموت؛ ويجوز أن يكون أضاف الحبّ من قوله: (حبّ الموت) إلى الفاعل؛ فيكون المعنى:

يقرب حب الموت لنا آجالنا؛ ويكون هذا كقول طرفة:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

٤١١

فقال عبد الله: لمن هذا ياشعبي؟ فقال: لحارثة بن بدر، فقال: نحن أحقّ بهذا، ثم أمر للشّعبي بأربعمائة دينار.

[طرف من أخبار حارثة بن بدر وبعض نوادره:]

ومن مستحسن قول حارثة:

ولقد وليت إمارة فرجعتها

في المال سالمة ولم أتموّل(١)

ولقد منعت النّصح من متقبّل

ولقد رفدت النّصح من لم يقبل

فبأي لمسة لامس لم ألتمس

وبأي حيلة حائل لم أحتل(٢)

يا طالب الحاجات يرجو نجحها

ليس النجاح مع الأخفّ الأعجل

فاصدق إذا حدّثت تكتب صادقا

وإذا حلفت مماريا فتحلّل(٣)

- معنى (تكتب صادقا)، أي تكون عند الله صادقا. وقوله: (فتحلّل) أي استثن -

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى

غبرا أكفّهم بريث فاعجل

- معنى الباهشين: المادّين أيديهم إلى الشيء المهتشّين(٤) له -

واحذر مكان السّوء لا تحلل به(٥)

وإذا نبا بك منزل فتحوّل

وإذا ابن عمّك لجّ بعض لجاجة

فانظر به عدة ولا تستعجل

وإذا افتقرت فلا تكن متخشّعا

ترجو الفواضل عند غير المفضل

واستغن ما أغناك ربّك بالغنى

وإذا تكون خصاصة فتجمّل

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثنا محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا محمد بن يزيد

____________________

(١) عجز البيت الخامس والبيت ٦، ٧، ٨، ٩، ١٠ نسبت إلى عبد قيس بن خفاف البرجمي في قصيدة مفضلية. ٧٥ - ٧٥٣ مطلعها:

أجبيل إنّ أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى العظائم فاعجل

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل ف: (ختلة خاتل لم أختل).

(٣) مماريا: مجادلا.

(٤) ف، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (المشتهين).

(٥) حاشية ت (من نسخة): (لا تنزل به).

٤١٢

النحوي قال: كان(١) حارثة بن بدر الغداني رجل تميم في وقته، وكان قد غلب على زياد، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك، وهو مستهتر(٢) بالشراب؛ فقال زياد: كيف باطّراح رجل هو يسايرني مذ دخلت العراق، لم يصكك ركابي ركاباه(٣) ، ولا تقدمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخّر عني فلويت عنقي إليه، ولا أخذ عليّ الشمس في شتاء قط، ولا الرّوح(٤) في صيف قطّ، ولا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره! فلما مات زياد جفاه ابنه عبيد الله، فقال له حارثة: أيها الأمير، ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة(٥) ! فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعا لا يلحقه معه عيب، وأنا حدث، وإنما أنسب إلى من يغلب عليّ، وأنت رجل تديم الشّراب، فمتى قرّبتك وظهرت منك رائحة الشراب لم آمن أن يظنّ بي، فدع الشراب، وكن أول داخل عليّ، وآخر خارج، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرّي ونفعي، أفدعه للحال عندك! قال: فاختر من عملي ما شئت. قال: توليني رامهرمز(٦) ، فإنها أرض عذاة(٧) ، وسرّق(٨) ؛ فإن بها شرابا وصف لي. فولاّه إياها، فلما شيّعه الناس قال أنس بن أبي أنيس(٩) - وقيل: ابن أبي إياس الدّيلي:

أحار بن بدر قد وليت إمارة

فكن جرذا فيها تخون وتسرق(١٠)

ولا تحقرن ياحار شيئا وجدته

فحظّك من ملك العراقين سرّق

____________________

(١) الخبر في الكامل - بشرح المرصفي ٣ - ١٩١ - ١٩٢.

(٢) مستهتر بالشراب: مولع به؛ من استهتر بكذا، مبنيا لما لم يسم فاعله: أولع به لا يفعل غيره، ولا يتحدث إلا به.

(٣) من نسخة بحاشيتي ف، ت: (يصطك ركابي ركابه).

(٤) الروح: برد النسيم.

(٥) أبو المغيرة: كنية زياد.

(٦) رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان من بلاد الفرس.

(٧) الأرض العذاة: الطيبة التربة، البعيدة من الأنهار والنجود والسباخ.

(٨) سرق: إحدى كور الأهواز.

(٩) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ابن أبي أنس). وفي الشعر والشعراء: ٧١٤: (أنس بن أبي أناس)، من كنانة، من الدؤل، رهط أبي الأسود الدؤلي.

(١٠) الأبيات في الشعر والشعراء: ٧١٥.

٤١٣

وباه تميما بالغنى إنّ للغنى

لسانا به العي الهيوبة ينطق(١)

فإنّ جميع النّاس؛ إمّا مكذّب

يقول بما يهوى، وإما مصدّق(٢)

يقولون أقوالا ولا يعلمونها

فإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا

وهذه الأبيات تروى لأبي الأسود الدّؤليّ، وأنه كتب بها إلى حارثة لما ردّت إليه سرّق، ويزاد فيها:

وكن حازما في اليوم إنّ الّذي به

يجئ غد يوم على الناس مطبق(٣)

ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب

وما كلّ من يدعو إلى الخير يرزق

إذا ما دعاك القوم عدّوك آكلا

وكل حار أوجع؛ لست ممّن يحمّق

ويقال إن حارثة بن بدر أجاب عن هذه الأبيات بقوله:

جزاك إله الناس خير جزائه

فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا

أشرت بأمر لو أشرت بغيره

لألفيتني فيه لرأيك عاصيا(٤)

ويقال إن حارثة بن بدر والأحنف بن قيس دخلا على ابن زياد، فقال لحارثة: أي الشراب أطيب؟ وكان يتّهم(٥) ، فقال: برّة طاسارية، وأقطة غنويّة، وسمنة عنبريّة، وسكّرة سوسية، ونطفة مسرقانيّة(٦) . فقال للأحنف: ياأبا بحر، ما أطيب الشراب؟ قال:

____________________

(١) الهيوية: الّذي يهاب الناس؛ والهاء فيه لتأكيد المبالغة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (تهوى).

(٣) حاشية الأصل: (يقال غمام مطبق؛ أي ذو طبق؛ وقد أطبقت السماء).

(٤) البيتان في الأغاني ٢١: ٢٣، وبعدهما:

ستلقى أخا يصفيك بالودّ حاضرا

ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائيا

(٥) ت، ومن نسخة بحاشية الأصل: (وكان بينهم).

(٦) حواشي الأصل، ت، ف: (ذكره يزيد بن مفرغ الحميري:

سقى هزم الأوساط منبجس العرا

منازلها من مسرقان فسرّقا

- هزم الأسواط؛ أي مجلجل بالرعد، وهزيم الرعد: صوته، وأوساطه؛ أي أوساط السحاب).

٤١٤

الخمر، قال: وما يدريك ولست من أهلها؟ قال: رأيت فيها خصلتين عرفت أنها أطيب الشراب بهما، قال: وما هما؟ قال: رأيت من أحلّت له لا يتعدّاها إلى غيرها، ومن حرّمت عليه يتناولها، فعرفت أنها أطيب الشراب.

ولحارثة بن بدر يخاطب عبيد الله بن زياد لما تغيّر عليه بعد اختصاصه كان بأبيه(١) :

أهان وأقصى ثمّ تنتصحونني

وأي امرئ يعطى نصيحته قسرا!

رأيت الأكفّ المصلتين عليكم

ملاء، وكفّي من عطاياكم صفرا

وإني مع السّاعي إليكم بسيفه

إذا أحدث الأيّام في عظمكم كسرا

متى تسألوني ما عليّ وتمنعوا ال

لذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا

وقال يعاتبه:

وكم من أمير قد تجبّر بعد ما

مريت له الدّنيا بسيفي فدرّت

إذا زبنته عن فواق أتت به

دعاني ولا ادعى إذا ما أقرّت

إذا ما هي احلولت محا حقّ مقسمي

ويقسم لي منها إذا ما أمرّت

زبنته: أي دفعته عن أن يحلبها. والفواق: اجتماع اللّبن في الضّرع بين الحلبتين.

ومعنى أقرت: تركته يحلبها.

ويشبه أبيات حارثة هذه قول عبد الله بن الزّبير الأسدي يعاتب معاوية ومروان وأهل بيته؛ من جملة قصيدة، وهي أبيات قوية جدّا:

عطاؤكم للضّاربين رقابكم

وندعى إذا ما كان حزّ الكراكر(٢)

أنحن أخوكم في المضيق وسهمنا

إذا ما قسمتم في الحظاء الأصاغر

- الحظاء: سهام صغار -.

____________________

(١) الخبر مبسوط في (الأغاني ٢١: ١٥)، والأبيات فيه منسوبة إلى أنس بن زنيم الليثيّ.

(٢) الكراكر: جمع كركرة؛ وهي صدر البعير. وفي حاشية الأصل: (مثله:

وإذا تكون كريهة ادعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

٤١٥

وثديكم الأدنى إذا ما سألتم

ونلقى بثدي حين نسأل باسر(١)

وإن كان فينا الذّنب في الناس مثله

أخذنا به من قبل ناه وآمر(٢)

- معنى (من قبل ناه وآمر)، أي من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر به، أي باجتنابه -

وإن جاءكم منّا غريب بأرضكم

لويتم له يوما جنوب المناخر

فهل يفعل الأعداء إلاّ كفعلكم

هوان السّراة وابتغاء العواثر(٣)

وغيّر نفسي عنكم ما فعلتم

وذكر هوان منكم متظاهر

جفاؤكم من عالج الحرب عنكم

وأعداؤكم من بين جاب وعاشر(٤)

فلا تسألوني عن هواي وودّكم

وقل في فؤاد قد توجّه نافر(٥)

ولحارثة يرثي زيادا:

لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير

أمّا القبور فإنّهنّ أوانس

بجوار قبرك والدّيار قبور

عمّت فواضله فعمّ مصابه

فالنّاس فيه كلّهم مأجور

ردّت صنائعه إليه حياته

فكأنّه من نشرها منشور

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: وأظن أبا تمام الطائي نظر إلى قول حارثة ابن بدر (ردت صنائعه إليه حياته) في قوله:

ألم تمت ياشقيق النّفس مذ زمن؟

فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه(٦)

وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن - يعني ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: مرّ حارثة بن بدر الغداني، ومعه كعب مولاه، فجعل لا يمرّ

____________________

(١) باسر: قليل اللبن.

(٢) حاشية ت: (أي إن أذنبنا الذنب الّذي يذنب الناس مثله أخذنا به من قبل أن ننهى عنه أو نؤمر بالانكفاف عنه).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (هوان) بضم النون.

(٤) الجابي: الّذي يأخذ الجباية، والعاشر الّذي يأخذ العشر.

(٥) حاشية الأصل: (أي توجه إلى غيركم ونفر عنكم). وفي ت وحاشية الأصل (من نسخة): (قد توجد).

(٦) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ياشقيق الجود).

٤١٦

بمجلس من مجالس تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا. فقال كعب: ما سمعت كلاما قطّ هو أقرّ لعيني، وألذّ في سمعي مما سمعته اليوم! فقال حارثة: ولكنّي ما سمعت كلاما قطّ هو أكره إلي منه، ثم قال:

ذهب الرّجال فسدت غير مدافع

ومن الشّقاء تفرّدي بالسّؤدد(١)

وهذا البيت يقال إنه لحارثة، لا أنه تمثّل به.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني عبد الله بن جعفر قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال الكناني: مرّ حارثة بن بدر بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنّك مستعجل لشاورتك، قال له: أجل، كانوا يكرهون أن يشاور الجائع حتى يشبع، والظمآن حتى ينقع، والمضلّ(٢) حتى يجد، والغضبان حتى يرضى، والمحزون حتى يفيق.

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (غير مسود).

(٢) المضل: الّذي ذهب بعيره.

٤١٧

[٢٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والعشرون:]

تأويل آية:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٢].

فقال: أي تمدّح في سرعة الحساب، وليس بظاهر وجه المدحة فيه؟.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أولها أن يكون المعنى أنّه سريع المجازاة(١) للعباد على أعمالهم، وأنّ وقت الجزاء قريب وإن تأخر، ويجري مجرى قوله تعالى:( وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ؛ [النحل: ٧٧].

وإنما جاز أن يعبّر عن المجازاة أو الجزاء بالحساب؛ لأنّ ما يجازى به العبد هو كفء لفعله ولمقداره، فهو حساب له إذا كان مماثلا مكافئا.

وممّا يشهد بأنّ في الحساب معنى الكفاية والمكافأة قوله تعالى:( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) ؛ [النبأ: ٣٦]، أي عطاء كافيا، ويقال: أحسبني الطعام يحسبني إحسابا إذا كفاني، قال الشاعر:

وإذ لا ترى في النّاس حسنا يفوتها وفي النّاس حسن لو تأمّلت محسب(٢) معناه كاف.

____________________

(١) ت: (الحساب).

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (يصف امرأة بالحسن ويبالغ في وصفها؛ يقول: ما رأينا حسنا فات هذه المرأة وتعداها مع أن ما في الناس كفاية حسن).

٤١٨

وثانيها أن يكون المراد أنّه عزّ وجل يحاسب الخلق جميعا في أوقات يسيرة، ويقال:

إنّ مقدار ذلك مقدار حلب شاة؛ لأنه تعالى لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة غيره(١) ؛ بل يكلّمهم جميعا ويحاسبهم كلّهم على أعمالهم في وقت واحد؛ وهذا أحد ما يدلّ على أنّه تعالى ليس بجسم، وأنّه لا يحتاج في فعل الكلام إلى آلة؛ لأنه لو كان بهذه الصفات - تعالى عنها - لما جاز أن يخاطب اثنين في وقت واحد بمخاطبتين مختلفتين؛ ولكان خطاب بعض الناس يشغله عن خطاب غيره، ولكانت مدة محاسبته للخلق على أعمالهم طويلة غير قصيرة؛ كما أنّ جميع ذلك واجب في المحدثين الذين يفتقرون في الكلام إلى الآلات.

وثالثها ما ذكره بعضهم من أنّ المراد بالآية أنه سريع العلم بكل محسوب، وأنّه لما كانت عادة بني الدنيا أن يستعملوا الحساب والإحصاء في أكثر أمورهم؛ أعلمهم الله تعالى أنّه يعلم ما يحسبون بغير حساب؛ وإنما سمّي العلم حسابا لأنّ الحساب إنما يراد به العلم؛ وهذا جواب ضعيف؛ لأن العلم بالحساب أو المحسوب لا يسمّى حسابا، ولو سمّي بذلك لما جاز أيضا أن يقال إنه سريع العلم بكذا؛ لأنّ علمه بالأشياء مما لا يتجدّد فيوصف بالسرعة.

ورابعها أنّ الله تعالى سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ وذلك أنّه يسأل في وقت واحد سؤالات مختلفة من أمور الدنيا والآخرة، فيجزى كلّ عبد بمقدار استحقاقه ومصلحته، فيوصل إليه عند دعائه ومسألته ما يستوجبه بحد ومقدار؛ فلو كان الأمر على ما يتعارفه الناس لطال العدد واتصل الحساب، فأعلمنا تعالى أنّه سريع الحساب، أي سريع القبول للدعاء بغير إحساس وبحث عن المقدار الّذي يستحقّه الداعي؛ كما يبحث المخلوقون للحساب والإحصاء؛ وهذا الجواب مبني أيضا على دعوى أنّ قبول الدعاء لا يسمّى حسابا في لغة ولا عرف ولا شرع. وقد كان يجب على من أجاب بهذا الجواب أن يستشهد على ذلك بما يكون حجة فيه، وإلاّ فلا طائل فيما ذكره.

____________________

(١) حاشية ت (من نسخة): (بعض).

٤١٩

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالحساب محاسبة الخلق على أعمالهم يوم القيامة وموافقتهم عليها، وتكون الفائدة في الإخبار بسرعته الإخبار عن قرب الساعة؛ كما قال تعالى:( سَرِيعُ الْعِقابِ ) .

وليس لأحد أن يقول: فهذا هو الجواب الأول الّذي حكيتموه؛ وذلك أن بينهما فرقا؛ لأن الأول مبني على أن الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة، والمقابلة بالأعمال وترجيحها، وذلك غير الجزاء الّذي يفضي الحساب إليه.

وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني معترضا على أبي عليّ الجبّائي في اعتماده إياه(١) بأن قال(١) : مخرج الكلام في الآية على وجه الوعيد، وليس في خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضي زجرا، ولا هو مما يتوعد بمثله؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.

وهذا الجواب ليس أبو عليّ هو المبتدئ به، بل قد حكي عن الحسن البصري، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحوي: وذكره المفضّل بن سلمة، وليس الطّعن الّذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له، لأنه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد، وليس كذلك، لأنه تعالى قال:( فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَالله سَرِيعُ الْحِسابِ ) ؛ [البقرة: ٢٠٠ - ٢٠٢]، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب، وراجعا إلى الذين يقولون:( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) ، أو يكون راجعا إلى الجميع، فيكون المعنى:

إن للجميع نصيبا مما كسبوا؛ فلا يكون وعيدا خالصا؛ بل إما أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا، على أنه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى:

____________________

(١) ت: (فقال).

٤٢٠