أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 281306
تحميل: 9170


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 281306 / تحميل: 9170
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فبك الّذي زعمت لها، وكلاكما

أبدى لصاحبه الصّبابة كلّها

ولعمرها لو كان حبّك فوقها

يوما وقد ضحيت إذا لأظلّها

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الضّمير إلى الفؤاد فسلّها

بيضاء باكرها النّعيم فصاغها

بلباقة فأدقّها وأجلّها(١)

لما عرضت مسلّما لي حاجة

أخشى صعوبتها، وأرجو ذلّها(٢)

منعت تحيّنها، فقلت لصاحبي:

ما كان أكثرها لنا وأقلّها!

فدنا، فقال: لعلّها معذورة

في بعض رقبتنا، فقلت: لعلّها!

قال عروة بن عبيد الله: فجاءني أبو السائب المخزومي يوما فسلّم وجلس إلي، فقلت له بعد الرّحب به: ألك حاجة ياأبا السائب؟ فقال: أو كما تكون الحاجة! أبيات لعروة ابن أذينة؛ بلغني أنك سمعتها منه، قلت: أي أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر!.

* إنّ الّتي زعمت فؤادك ملّها*

فأنشدته فقال: ما يروي هذا إلاّ أهل المعرفة والفضل، هذا والله الصادق الودّ، الدائم العهد، لا الهذلي الّذي يقول:

إن كان أهلك يمنعونك رغبة

عنّي فأهلي بي أضنّ وأرغب

لقد عدا الأعرابي طوره! وإني لأرجو أن يغفر الله لابن أذينة في حسن الظّنّ بها، وطلب العذر لها. فدعوت له بطعام، فقال: لا والله حتى أروي هذه الأبيات، فلمّا رواها وثب، فقلت له: كما أنت يغفر الله لك، حتى تأكل، فقال: والله ما كنت لأخلط بمحبتي لها وأخذي إياها غيرها(٣) .

____________________

(١) حاشية الأصل: (أي أدق منها ما ينبغي أن يكون دقيقا، وأجل منها ما ينبغي أن يكون جليلا) وقال ابن الأعرابي: ومعنى قوله: (فأدقها وأجلها) دق منها حاجباها وأنفها وخصرها، وجل عضداها وساقاها وبوصها؛ وهذا كما قال آخر:

فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكملت

فلو جنّ إنسان من الحسن جنّت

(٢) الذل هنا، بالضم ويكسر: ضد الصعوبة.

(٣) وانظر الخبر أيضا في زهر الآداب (طبعة الحلبي): ١٦٧، والموشح: ٢٣٠.

٤٤١

قال سيدنا أدام الله علوّه: والهذلي الّذي عابه وأنشد له هذا البيت هو عبد الله بن مسلم ابن جندب الهذلي.

وقول عروة: (باكرها النعيم) أراد أنها لم تعش إلاّ في النعيم، ولم تعرف إلا الخفض، وأنها لم تلاق بؤسا فتخشع وتضرع، فيؤثّر ذلك في جمالها وتمامها، والبكور هو التقدّم في كل وقت.

[عروة بن أذينة وسكينة بنت الحسين:]

وكان عروة بن أذينة مع تغزّله يوصف بالعفاف والنزاهة،(١) وروي أن سكينة بنت الحسينعليهما‌السلام مرّت به فقالت: ياأبا عامر، أنت الّذي تقول:

إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي

أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهره

فمن لنار على الأحشاء تتّقد!

وأنت القائل:

قالت وأبثثتها وجدي فبحت به

قد كنت عندي تحب السّتر، فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:

غطّى هواك وما ألقى على بصري(٢)

قال: نعم، قالت: هنّ حرائر - وأشارت إلى جواريها - إن كان هذا خرج من قلب سليم!

[أبيات لعروة بن أذينة في الغزل:]

وأنشد أبو الحسن أحمد بن يحيى(٣) لعروة:

كأنّ خزامى طلّة صابها النّدى

وفأرة مسك ضمّنتها ثيابها(٤)

وكدت لذكراها أطير صبابة

وغالبت نفسا زاد شوقا غلابها

____________________

(١) الخبر في مصارع العشاق: ٣١٣ - ٣١٤، وابن خلكان ١: ٢١١.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ت: (بما ألقى على بصري).

(٣) كذا في الأصول، وفي حاشيتي الأصل، ت (من نسخة): (أبو الحسن علي بن أحمد)، ومن نسخة أخرى: (أبو الحسن عن أحمد بن يحيى).

(٤) حاشية ت (من نسخة): (ضافها الندى)؛ الخزامى: نبت زهره أطيب الأزهار رائحة، والطلة: الروضة بالها الطل؛ وهو المطر الخفيف. وفأرة المسك: وعاؤه؛ ويريد به هنا المسك.

٤٤٢

إذا اقتربت سعدى لهجت بهجرها

وإن تغترب يوما يرعك اغترابها

ففي أي هذا راحة لك عندها!

سواء لعمري نأيها واقترابها

وعاد الهوى فيها كظلّ سحابة

ألاحت ببرق ثمّ مرّ سحابها(١)

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهيهات هذا البيت الأخير من قول كثيّر:

وإني وتهيامي بعزّة بعد ما

تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت(٢)

لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما

تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت

كأنّي وإيّاها سحابة ممحل

رجاها فلمّا جاوزته استهلّت

 [موازنة بين ما قاله الكميت بن زيد وعروة بن أذينة ونصر بن سيار في الحسد:]

وروى يحيى بن عليّ قال حدثنا أبو هفّان قال: أشعر أبيات قيلت في الحسدة والدعاء لهم بالكثرة أربعة، فأولها قول الكميت بن زيد(٣) :

إن يحسدوني فإني لا ألومهم

قبلي من النّاس أهل الفضل قد حسدوا(٤)

فدام بي وبهم ما لي وما لهم

ومات أكثرنا غيظا بما يجد

أنا الّذي يجدوني في حلوقهم

لا أرتقي صدرا منها ولا أرد

لا ينقص الله حسّادي فإنّهم

أسرّ عندي من اللاّئي له الودد(٥)

وقال عروة بن أذينة:

لا يبعد الله حسادي وزادهم

حتّى يموتوا بداء في مكنون

إنّي رأيتهم في كلّ منزلة

أجلّ قدرا من اللاّئي يحبّوني

وقال نصر بن سيّار:

إن يحسدوني على ما بي وما بهم

فمثل ما بي لعمري جرّ لي الحسدا

____________________

(١) ألاحت: لوحت.

(٢) أمالي القالي ٢: ١٠٩.

(٣) في حاشيتي الأصل، ت: (الكميت بن معروف الأسدي).

(٤) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (غير لائمهم)، والأبيات الثلاثة الأول وردت في معجم الشعراء: ٣٤٧، منسوبة إلى الكميت بن معروف، ووردت في عيون الأخبار ٢: ١٠ - ١١، وأمالي القالي ٢: ١٩٨ من غير عزو.

(٥) ت: (هم الودد)، ومن نسخة بحاشية الأصل: (لهم ودد).

٤٤٣

وقال معن بن زائدة:

إني حسدت فزاد الله في حسدي

لا عاش من عاش يوما غير محسود

ما يحسد المرء إلاّ من فضائله

بالعلم والظرف أو بالبأس والجود

قال سيدنا أدام الله علوّه: وقد لحظ البحتري بهذا(١) المعنى في قوله:

محسّد بخلال فيه فاضلة

وليس تفترق النّعماء والحسد(٢)

وأظن أبا العتاهية أخذ قوله:

كم عائب لك لم أسمع مقالته

ولم يزدك لدينا غير تزيين

كأنّ عائبكم يبدي محاسنكم

وصفا فيمدحكم عندي ويغريني

ما فوق حبّك حبّا لست أعلمه

فلا يضرّك ألاّ تستزيديني

من قول عروة بن أذينة:

لا بعد سعدى مريحي من جوى سقم

يوما ولا قربها إن حمّ يشفيني

إذا الوشاة لحوا فيها عصيتهم

وخلت أنّ بسعدى اليوم يغريني

وقد أخذ أبو نواس هذا المعنى في قوله:

ما حطّك الواشون من رتبة

عندي ولا ضرّك مغتاب

كأنّهم أثنوا ولم يعلموا

عليك عندي بالذي عابوا

ولعروة بن أذينة:

تروّعنا الجنائز مقبلات

ونلهو حين تخفى ذاهبات(٣)

كروعة ثلّة لمغار ذئب

فلما غاب عادت راتعات

الثّلّة: القطعة من الضأن؛ وهذا المعنى قد سبق إليه بعض الأعراب فقال:

ونحدث روعات لدى كلّ فزعة

ونسرع نسيانا وما جاءنا أمن

____________________

(١) ت، وحاشية الأصل (من نسخة): (هذا).

(٢) ديوانه ١: ١٤٠، وفي ت، من نسخة: (فيه ظاهرة).

(٣) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ونسهو). والشعر في الحيوان ٦: ٥٠٧ وعيون الأخبار ٣: ٦٢، والبيان ٣: ٢٠١

٤٤٤

وإنا - ولا كفران للّه ربّنا -

لكالبدن، لا تدري متى يومها البدن!

أخذه أبو العتاهية في قوله:

إذا ما رأيتم ميّتين جزعتم

وإن غيّبوا ملتم إلى صبواتها

وأخذ عروة قوله:

إنّ الفتى مثل الهلال له

نور ليالي ثمّ يمتحق(١)

يبلى وتفنيه الدّهور كما

يبلى وينضوا لجدّة الخلق(٢)

من قول لبعض شعراء طيئ:

مهما يكن ريب الزّمان فإنني

أرى قمر اللّيل المعذّب كالفتى(٣)

يهلّ صغيرا، ثمّ يعظم ضوءه

وصورته حتّى إذا ما هوى استوى

تقارب يخبو ضوءه وشعاعه

ويمصح حتّى يستسرّ فلا يرى(٤)

كذلك زيد المرء ثمّ انتقاصه

يعود إلى مثل الّذي كان قد بدا(٥)

أخذه محمد بن يزيد الكاتب فقال:

المرء مثل هلال عند مطلعه

يبدو ضئيلا ضعيفا ثمّ يتّسق

يزداد حتّى إذا ما ثمّ أعقبه

كرّ الجديدين نقصانا فيمتحق(٦)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (امحق)، وفيها: (يمحق وامتحق وامحق بمعنى).

(٢) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (وينضى الحبرة). وفي حاشية الأصل أيضا: (أنضيت الثوب: أبليته وكذلك انتضيته، ونضوته: خلعته).

(٣) معجم البلدان ٤: ١٣٤؛ من أبيات نسبها إلى حنظلة بن أبي عفراء الطائي؛ وكان قد نسك في الجاهلية وتنصر، وبني ديرا عرف باسمه.

(٤) حاشية الأصل: (يقال: مصح النبات إذا ولى لون زهره).

(٥) رواية عجز البيت في معجم البلدان:

* وتكراره في إثره بعد ما مضى*

(٦) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (فيمحق).

٤٤٥

[٣١]

مجلس آخر [المجلس الحادي والثلاثون:]

تأويل آية:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ... )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ١٠٢].

فقال: كيف ينزل الله السّحر على الملائكة؟ أم كيف تعلّم الملائكة الناس السّحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنّه بإذنه، وهو تعالى قد نهى عنه، وحذّر من فعله؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم، بقوله:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ، ثم قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) ؟.

الجواب، قلنا: في الآية وجوه؛ كلّ منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النّظر فيها:

أوّلها أن يكون ما في قوله:( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) بمعنى الّذي، فكأنه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب، بأنهم اتّبعوا ما تكذب فيه الشياطين على ملك سليمان، وتضيفه إليه من السّحر؛ فبرأه الله تعالى من قرفهم، وأكذبهم في قولهم، فقال:

( وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) باستعمال السّحر والتمويه على الناس، ثم قال:( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) ، وأراد أنهم يعلّمونهم السّحر

٤٤٦

والّذي أنزل على الملكين، وإنّما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيّته وكيفية الاحتيال فيه؛ ليعرفا ذلك ويعرّفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه، كما أنّه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي، ووصف لنا أحوال القبائح لنجتنبها لا لنوقعها؛ لأنّ الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه، وأقدموا على فعله؛ وإن كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطّلاعه على كيفيته، ثم قال:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) يعني الملكين، ومعنى( يُعَلِّمانِ ) يعلمان، والعرب تستعمل لفظة علّمه بمعنى أعلمه، قال القطامي:

تعلّم أنّ بعد الغي رشدا

وأنّ لتانك الغبر انقشاعا(١)

وقال كعب بن زهير:

تعلّم رسول الله أنّك مدركي

وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد(٢)

ومعنى (تعلّم) في البيتين معنى (اعلم)(٣) ؛ والّذي يدلّ على أنّ المراد هاهنا الإعلام لا التعليم قوله:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) ، أي أنهما لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته إلاّ بعد أن يقولا إنما نحن محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة؛ وإنما كانا محنة، من حيث ألقيا إلى المكلّفين أمرا لينزجروا عنه، وليمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله، ولا تعدل عن الغرض في إلقاء هذا إليك، فإنه إنّما ألقى إليك، وأطلعت عليه لتجتنبه؛ لا لتفعله، ثم قال:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، أي فيعرفون من جهتهما ما يستعلمونه في هذا الباب؛ وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك؛ ولهذا قال:( وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) ؛ لأنّهم

____________________

(١) ديوانه: ٤٠؛ ومن نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (لهذه الغمر)، وهي رواية الديوان والغمر: جمع غمرة، وهي الشدة.

(٢) ملحقات ديوانه: ٢٥٨ (عن الغرر).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (قال ابن السكيت رحمه الله: يقال: تعلمت أن فلانا خارج يعني علمت، وإذا قال لك: اعلم أن زيدا خارج قلت: قد علمت، وإذا قال: تعلم أن زيدا خارج لم تقل:

قد تعلمت؛ يعني أنه يقتصر على ما ورد عنهم، ولا يتجاوز إلى غيره).

٤٤٧

لمّا قصدوا بتعلّمه أن يفعلوه ويرتكبوه، لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم.

وثانيها أن يكون ما أُنْزِلَ موضعه موضع جرّ؛ فيكون معطوفا بالواو على مُلْكِ سُلَيْمانَ؛ والمعنى: واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان، وعلى ما أنزل على الملكين؛ ومعنى( ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) أي معهما، وعلى ألسنتهما؛ كما قال تعالى:

( رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ) ؛ [آل عمران: ١٩٤]، أي على ألسنتهم ومعهم.

وليس بمنكر أن يكون( ما أُنْزِلَ ) معطوفا على( مُلْكِ سُلَيْمانَ ) وإن اعترض بينهما من الكلام ما اعترض؛ لأن ردّ الشيء إلى نظيره، وعطفه على ما هو أولى هو الواجب، وإن اعترض بينهما ما ليس منهما؛ ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب كثيرة، قال الله تعالى:

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ) ؛ [الكهف: ١، ٢] و (قيّم) من صفات الكتاب حال منه، لا من صفة (عوج)، وإن تباعد ما بينهما، ومثله قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ؛ [البقرة: ٢١٧]، فالمسجد هاهنا معطوف به على الشهر الحرام، أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وعن المسجد الحرام.

وحكي عن بعض علماء أهل اللغة أنه قال: العرب تلفّ الخبرين المختلفين، ثم ترمي بتفسيرهما جملة؛ ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ خبره؛ كقوله تعالى:( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) ؛ [يونس: ٦٧]، وهذا واضح في مذهب العرب، كثير النظائر.

ثم قال:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) ، والمعنى أنهما لا يعلّمان أحدا، بل ينهيان عنه، ويبلغ من نهيهما عنه وصدّهما عن فعله واستعماله أن يقولا:( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) باستعمال السحر والإقدام على فعله، وهذا كما يقول الرجل: ما أمرت فلانا بكذا، ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له: إنك إن فعلته أصابك كذا وكذا؛ وهذا

٤٤٨

هو نهاية البلاغة في الكلام؛ والاختصار الدال مع اللفظ القليل على المعاني الكثيرة؛ لأنه استغنى بقوله تعالى:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) عن بسط الكلام الّذي ذكرناه؛ ولذلك نظائر في القرآن، قال الله تعالى:( مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ) ؛ [المؤمنون: ٩١]، فلولا الاختصار لكان مع شرح الكلام يقول: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، ولو كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق؛ ومثله قوله تعالى:( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) ؛ [آل عمران: ١٠٦]، أي: فيقال للذين اسودت وجوههم:

( أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) ؛ وأمثاله أكثر من أن تورد.

ثم قال تعالى:( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) ، وليس يجوز أن يرجع الضمير على هذا الجواب إلى الملكين؛ وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنهما التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر، وقد تقدم ذكر السحر، وتقدم أيضا ذكر ما يدلّ على الكفر ويقتضيه في قوله:( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ) ؛ فدل كَفَرُوا على الكفر، والعطف عليه مع السحر جائز، وإن كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه؛ ومثل ذلك قوله تعالى:

( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى ) ؛ [الأعلى: ١٠ - ١١، أي يتجنّب الذكرى الأشقى، ولم يتقدم تصريح بالذّكرى، لكن دلّ عليها قوله:( سَيَذَّكَّرُ ) .

ويجوز أيضا أن يكون معنى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما، أي بدلا مما علّمهم الملكان، ويكون المعنى أنهم يعدلون عمّا علّمهم ووقفهم عليه الملكان من النهي عن السحر إلى تعلمه واستعماله؛ كما يقول القائل: ليت لنا من كذا وكذا كذا(١) ! أي بدلا منه، وكما قال الشاعر:

____________________

(١) حواشي الأصل، ت، ف: (من هذا الباب قوله:

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على الطّهيان

- الطهيان: اسم جبل).

٤٤٩

جمعت من الخيرات وطبا وغلبة

وصرّ الأخلاف المزمّمة البزل(١)

ومن كلّ أخلاق الكرام نميمة

وسعيا على الجار المجاور بالمحل(٢)

يريد جمعت مكان الخيرات، ومكان أخلاق الكرام هذه الخصال الذميمة.

وقوله:( ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) فيه وجهان:

أحدهما أن يكونوا يغوون أحد الزوجين، ويحملونه على الكفر والشرك بالله تعالى، فيكون بذلك قد فارق زوجه الآخر المؤمن المقيم على دينه، فيفرّق بينهما اختلاف النّحلة والملّة.

والوجه الآخر أن يسعوا بين الزّوجين بالنميمة والوشاية والإغراء والتمويه بالباطل؛ حتى يئول أمرهما إلى الفرقة والمباينة.

وثالث الوجوه في الآية أن يحمل ما في قوله:( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) على الجحد والنفي، فكأنه تعالى قال:( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ) ، ولا أنزل الله السّحر على الملكين،( وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) ويكون قوله:( بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ) من المؤخّر الّذي معناه التقديم، ويكون - على هذا التأويل - هاروت وماروت رجلين من جملة الناس، هذان اسماهما؛ وإنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا، ويكون الملكان المذكوران اللذان

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (الوطب: زق اللبن، والعلبة: ما يحلب فيه. والصر: شد الضرع.

والأخلاف: جمع خلف؛ وهو للناقة كالثدي للمرأة والمزممة: النوق التي علقت الأزمة عليها، والبزل:

جمع بازل؛ وهي التامة السن). وفي د، م: (المزهمة)، وهي السمان الكثيرة الشحم.

(٢) المحل: الكذب والخداع.

٤٥٠

نفي عنهما السحر جبرائيل وميكائيلعليهما‌السلام ؛(١) لأن سحرة اليهود - فيما ذكر - كانت تدّعي أن الله تعالى أنزل السحر على لسان جبرائيل وميكائيل(١) إلى سليمان بن داودعليهما‌السلام ، فأكذبهما الله تعالى بذلك.

ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين، كأنه قال: ولكن الشياطين:

هاروت وماروت كفروا؛ ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله تعالى:( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) ؛ [الأنبياء: ٧٨]، يعني حكم داود وسليمانعليهما‌السلام .

ويكون قوله تعالى على هذا التأويل:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين، أو من الإنس المتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين به. ومعنى قولهما:( إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) يكون على طريق الاستهزاء والتماجن والتخالع، كما يقول الماجن من الناس إذا فعل قبيحا أو قال باطلا: هذا فعل من لا يفلح، وقول من لا ينجب، والله ما حصلت إلا على الخسران؛ وليس ذلك منه على سبيل النّصح للناس وتحذيرهم من مثل فعله، بل على وجه المجون والتهالك.

ويجوز أيضا على هذا التأويل الّذي يتضمّن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين، ونفي عنهما إنزال السحر بقوله:( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ ) ويكون قوله:( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) يرجع إلى قبيلتين من الجنّ أو إلى شياطين الجنّ والإنس، فتحسن التثنية لهذا.

وقد روي هذا التأويل الأخير في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين.

وروي عنه أيضا أنه كان يقرأ:( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) بكسر اللام، ويقول:

متى كان العلجان ملكين! إنما كانا ملكين؛(١) وعلى هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله:

( وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ ) إليهما(١) .

____________________

(١ - ١) ساقط من م.

٤٥١

وعلى(١) هذه القراءة في الآية وجه آخر وإن لم يحمل قوله:( وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) على الجحد والنفي، وهو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتّبعوا ما تتلوا الشياطين وتدّعيه على ملك سليمان، واتبعوا ما أنزل على هذين الملكين من السحر، ولا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى، وإن أطلق؛ لأنه جلّ وعز لا ينزل السحر؛ بل يكون منزله إليهما بعض الضّلاّل العصاة، ويكون معنى أُنْزِلَ - وإن كان من الأرض - حمل إليهما لا من السماء أنه أتى به به من نجود الأرض وأعاليها؛ فإنّ من هبط من نجد البلاد إلى غورها يقال: نزل وهبط، وما جرى هذا المجرى.

فأما قوله تعالى:( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله ) فيحتمل وجوها:

منها أن يريد بالإذن العلم، من قولهم: آذنت فلانا بكذا إذا أعلمته، وأذنت لكذا إذا استمعته وعلمته، قال الشاعر:

في سماع يأذن الشّيخ له

وحديث مثل ماذي مشار(٢)

ومنها أن تكون إِلاّ زائدة، فيكون المعنى: وما هم بضارين به من أحد بإذن الله، ويجري مجرى قول أحدنا: لقيت زيدا إلا أني أكرمته، أي لقيت زيدا فأكرمته.

ومنها أن يكون أراد بالإذن التخلية وترك المنع، فكأنه أفاد بذلك أنّ العباد لن يعجزوه، وما هم بضارين أحدا إلا بأن يخلّي الله تعالى بينهم وبينه، ولو شاء لمنعهم بالقهر والقسر، زائدا على منعهم بالزجر والنهي.

 ومنها أن يكون الضرر الّذي عني أنه لا يكون إلا بإذنه، وأضافه إليه هو ما يلحق المسحور من الأدوية والأغذية التي يطعمه إياها السّحرة ويدّعون أنها موجبة لما يقصدونه فيه من الأمور؛ ومعلوم أن الضرر الحاصل عن ذلك من فعل الله تعالى بالعادة؛ لأنّ الأغذية لا توجب ضرّا ولا نفعا، وإن كان المعرّض للضرر من حيث كان كالفاعل له هو المستحق للذم، وعليه يجب العوض.

____________________

(١) ت: (ويمكن على هذه القراءة ).

(٢) البيت في اللسان (أذن)، ونسبه إلى عدي ابن زيد الماذي: العسل الأبيض. والمشار: المجنى، ويقال: شرت العسل واشترته وأشرته، إذا جنيته.

٤٥٢

ومنها أن يكون الضرر المذكور إنما هو ما يحصل عن التفريق بين الأزواج؛ لأنه أقرب إليه في ترتيب الكلام؛ والمعنى أنهم إذا أغووا أحد الزوجين، وكفر فبانت منه زوجته، فاستضرّ بذلك كانوا ضارّين له بما حسّنوه له من الكفر، إلاّ أنّ الفرقة لم تكن إلاّ بإذن الله وحكمه؛ لأنه تعالى هو الّذي حكم وأمر بالتفريق بين المختلفي الأديان؛ فلهذا قال:( وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله ) ؛ والمعنى أنه لولا حكم الله وإذنه في الفرقة بين هذين الزوجين باختلاف الملّة لم يكونوا ضارين له هذا الضّرب من الضرر الحاصل عند الفرقة؛ ويقوّي هذا الوجه ما روي أنه كان من دين سليمان؛ أنه من(١) سحر بانت منه امرأته.

فأما قوله تعالى:( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) ، ثم قال:

( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا، ويكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبّر عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، والذين لم يعلموا هم الذين تعلّموا السحر، وشروا به أنفسهم.

وثانيها أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا؛ إلا أنهم علموا شيئا ولم يعلموا غيره، فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك ورضيه لنفسه على الجملة، ولم يعلموا كنه ما يصير إليه من عقاب الله الّذي لا نفاد له ولا انقطاع.

وثالثها أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموا، فكأنهم لم يعلموا، وهذا كما يقول أحدنا لغيره: ما أدعوك إليه خير لك وأعود عليك؛ لو كنت تعقل وتنظر في العواقب، وهو يعقل وينظر في العواقب، إلا أنه لا يعمل بموجب علمه، فحسن أن يقال له مثل هذا القول؛ قال كعب بن زهير يصف ذئبا وغرابا تبعاه؛ ليصيبا من زاده:

إذا حضراني قلت: لو تعلمانه

ألم تعلما أني من الزاد مرمل(٢)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (أن من).

(٢) ديوانه: ٥١. المرمل: الّذي نفد زاده.

٤٥٣

فنفى عنهما العلم، ثم أثبته بقوله: (ألم تعلما)، وإنما المعنى في نفيه العلم عنهما أنهما لم يعملا بما علماه فكأنهما لم يعلماه.

ورابعها أن يكون المعنى أنّ هؤلاء القوم الذين قد علموا أن الآخرة لا حظّ لهم فيها مع عملهم القبيح، إلا أنهم ارتكبوه طمعا في حطام الدنيا وزخرفها فقال تعالى:( وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) أن الّذي آثروه وجعلوه عوضا من الآخرة لا يتمّ لهم، ولا يبقى عليهم، وأنه منقطع زائل، ومضمحلّ باطل، وأن المال إلى المستحق في الآخرة؛ وكل ذلك واضح بحمد الله.

٤٥٤

[٣٢]

مجلس آخر [المجلس الثاني والثلاثون:]

تأويل خبر: [لو كان القرآن في إهاب ما مسّته النار]

روى عقبة بن عامر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لو كان القرآن في إهاب ما مسّته النار).

وقد ذكر متأوّلو حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخبر وجوها كثيرة، كلّها غير صحيح ولا شاف، وأنا أذكر ما اعتمدوه(١) ، وأبيّن ما فيه، ثم أذكر الوجه الصحيح.

قال ابن قتيبة: ذهب الأصمعي إلى أنّ من تعلّم القرآن من المسلمين لو ألقي في النار لم تحرقه، فكنّى بالإهاب - وهو الجلد - عن الشخص والجسم؛ واحتجّ على تأويله هذا(٢) الحديث بما روى عن سليمان(٢) بن محمد قال: سمعت أبا أمامة يقول: اقرءوا القرآن ولا تغرّنكم هذه المصاحف المعلّقة(٣) ؛ فإن الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن.

قال ابن قتيبة: وفي الحديث تأويل آخر، وهو أنّ القرآن لو كتب في جلد، ثم ألقي في النار على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تحرقه النار؛ على وجه الدّلالة على صحة أمر النبي عليه وآله السلام، ثم انقطع ذلك بعده، قال: وجرى هذا مجرى كلام الذئب وشكاية البعير وغير ذلك من آياتهعليه‌السلام .

قال: وفيه تأويل ثالث؛ وهو أن يكون الإحراق(٤) إنما نفى عن القرآن لا عن الإهاب؛ ويكون معنى الحديث: لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق القرآن؛

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (ما ذكروه).

(٢ - ٢) ت: (بالحديث عن سليمان).

(٣) حواشي الأصل، ت، ف: (المعلقة؛ يجوز أن يكون معناها الكتب؛ لأن التعليق الكتب).

(٤) حاشية ف (من نسخة): (الاحتراق).

٤٥٥

فكأن النار تحرق الجلد والمداد ولا تحرق القرآن؛ لأنّ الله تعالى ينسخه ويرفعه من الجلد، صيانة له عن الإحراق.

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري ردا على ابن قتيبة، ومعترضا عليه: اعتبرت ما قاله ابن قتيبة من ذلك كلّه، فما وجدت فيه شيئا صحيحا.

أما قوله الأول فيردّه ما روي عنهعليه‌السلام من قوله: يخرج من النار قوم بعد ما يحرقون(١) فيها فيقال: هؤلاء الجهنّميون طلقاء الله عز وجل). قال: وقد روى أبو سعيد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (إذ دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قال الله عز وجل: انظروا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان(٢) فأخرجوه منها)؛ قال أبو بكر: وكيف يصحّ قول ابن قتيبة في زعمه أن النار لا تحرق من قرأ القرآن؛ ولا خلاف بين المسلمين أنّ الخوارج وغيرهم ممّن يلحد في دين الله تعالى ويقرأ القرآن أن تحرقهم النار بغير شكّ؛ واحتجاجه بخبر أبي أمامة: (إنّ الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن) معناه:

قرأ القرآن وعمل به؛ فأما من حفظ ألفاظه وضيّع حدوده؛ فإنه غير واع له.

قال: فأما قوله إنه من دلائل النبوّة التي انقطعت بعده، فما روى هذا الحديث أحد أنه كان في دلائلهعليه‌السلام ؛ ولو أراد ذلك دليلا لكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يجعل القرآن في إهاب ثم يلقيه في النار فلا يحترق قال: وقول ابن قتيبة الثالث: (لاحترق الجلد والمداد، ولم يحترق القرآن) غير صحيح؛ لأن الّذي يصحّح هذا القول يوجب أنّ القرآن غير المكتوب؛ وهذا محال؛ لأن المكتوب في المصحف هو القرآن. والدليل على هذا قوله تعالى:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاّ الْمُطَهَّرُونَ ) ؛ [الواقعة: ٧٧ - ٧٩]، ومنه الحديث: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)؛ وإنما يريد المصحف.

قال أبو بكر: والقول عندنا في تأويل هذا الحديث أنه أراد: لو كان القرآن في جلد

____________________

(١) من نسخة بحواشي الأصل، ت، ف: (يحترقون).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (إيمانا).

٤٥٦

ثم ألقي في النار ما أبطلته؛ لأنها وإن أحرقته فإنها لا تدرسه؛ إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده؛ والدليل على هذا قول الله تعالى للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما روي عنه:

إني منزّل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان؛ فلم يرد تعالى أن القرآن لو كتب في شيء ثم غسل بالماء لم ينغسل؛ وإنما أراد أنّ الماء لا يبطله ولا يدرسه إذا كانت القلوب تعيه وتحفظه.

قال: ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى وفي لغة العرب؛ قال الله تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ؛ [النساء: ٤٢]، فهم قد كتموا الله تعالى لما قالوا:( وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) [الأنعام: ٢٣]، وإنما أراد تعالى؛ ولا يكتمون الله حديثا في حقيقة الأمر؛ لأنهم وإن كتموه في الظاهر فالذي كتموه غير مستتر عنه.

قال سيدنا الشريف المرتضى أدام الله علوّه: والوجه الصحيح في تأويل الخبر غير ما توهّمه ابن قتيبة وابن الأنباري جميعا، وهو أن هذا من كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على طريق المثل والمبالغة في تعظيم شأن القرآن والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره، والمعنى أنه لو كتب في إهاب، وألقي في النار وكانت النار مما لا تحرق شيئا لعلوّ شأنه وجلالة قدره لم تحرقه النار.

ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب وأمثالهم كثيرة ظاهرة على من له أدنى أنس بمذاهبهم، وتصرّف كلامهم.

فمن ذلك قوله تعالى:( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ؛ [الحشر: ٢١].

ومعنى الكلام: إنّنا لو أنزلنا القرآن على جبل، وكان الجبل مما يتصدّع إشفاقا من شيء؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته؛ فكيف بكم يامعاشر المكلّفين، مع ضعفكم وقلّتكم! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق؛ وقد صرح الله تعالى بأنّ الكلام خرج مخرج

٤٥٧

المثل بقوله:( وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ؛ ومثله قوله تعالى:

( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) ؛ [مريم: ٩٠].

ومثله قول الشاعر:

أما وجلال الله لو تذكرينني

كذكراك ما نهنهت للعين مدمعا

فقالت: بلى والله ذكرا لو انّه

تضمّنه صمّ الصّفا لتصدّعا(١)

ومثله:

فلو أنّ ما بي بالحصى فلق الحصى

وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب(٢)

ومثله:

وقفت على ربع لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه(٣)

وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه(٤)

وهذه طريقة للعرب مشهورة في المبالغة؛ يقولون: هذا كلام يفلّق الصّخر، ويهدّ الجبال ويصرع الطير، ويستنزل الوعول؛ وليس ذلك بكذب منهم؛ بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الأمور لو تأتت؛ ولو كانت مما يسهل(٥) ويتيسر لشيء من الأشياء لتسهّلت به من أجله.

فأما الجواب الأوّل المحكي عن ابن قتيبة فالذي يفسده(٦) زائدا على ما ردّه ابن الأنباري أنه لو كان الامر على ما ذكره ابن قتيبة وحكاه عن الأصمعي لكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أغرانا بالذّنوب؛ لأنه إذا أمن حافظ القرآن ومتعلّمه من النار والعذاب فيها ركن(٧)

____________________

(١) الصفا: جمع الصفاة؛ وهو الحجر الصلد الضخم لا ينبت.

(٢) ت: قلق الحصى.

(٣) ديوانه: ٣٨.

(٤) أسقيه: أدعو له بالسقيا.

(٥) من نسخة بحاشيتي ت، الأصل: (يتسهل).

(٦) ت: (يبطله).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: يقال: ركن [بفتح الكاف] يركن، [بكسرها]. وركن [بكسر الكاف] يركن [بفتح الكاف]؛ لغتان إلا أنهم أخذوا الماضي من هذا والمضارع من ذاك، فقالوا: (ركن يركن) بالفتح فيهما.

٤٥٨

المكلّفون إلى تعلّم القرآن والإقدام على القبائح آمنين غير خائفين؛ وهذا لا يجوز عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله والمعنى في قول أبي أمامة أن الله لا يعذّب قلبا وعى القرآن على نحو ما ذكره ابن الأنباري.

فأما جواب ابن قتيبة الثاني، فمن أين له أن ذلك مختص بزمانهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس في اللفظ ولا في غيره دلالة عليه! وأقوى ما يبطله أنّه لو كان كما ذكر لما جاز أن يخفى على جماعة المسلمين الذين رووا جميع معجزاته عليه وآله السلام وضبطوها. وفي وجداننا من روى ذلك وجمعه وعنى به غير عارف بهذه الدّلالة والآية إبطال لما توهمه.

فأما جوابه الثالث فباطل؛ لأنّ القرآن في الحقيقة ليس يحلّ الجلد، ولا يكون فيه حتى ينسب الاحتراق إلى الجلد دونه؛ وإذا كان الأمر على هذا لم يكن في قوله: إن الإهاب هو المحترق دون القرآن فائدة؛ لأنّ هذه سبيل كلّ كلام كتب في إهاب أو غيره إذا احترق الإهاب لم يضف الاحتراق إلى الكلام لاستحالة هذه القضيّة(١) عليه.

ومن عجيب الأمور قول ابن الأنباري: (وهذا يوجب أنّ القرآن غير المكتوب)؛ لأنّ كلام ابن قتيبة ليس يوجب ما ظنّه؛ بل يوجب ضده من أن المكتوب هو القرآن؛ ولهذا علّق الإحراق(٢) بالكتابة والجلد دون المكتوب؛ الّذي هو القرآن؛ وإذا كان المكتوب في المصحف هو القرآن على ما اقترح ابن الأنباري، فما المانع من قول ابن قتيبة أنّ الجلد يحترق دونه؟ لأن أحدا لا يقول إن الجلد هو القرآن؛ وإنما يقول قوم إنه مكتوب فيه؛ وإذا كان غيره لم يمتنع إضافة الاحتراق إلى أحدهما دون الآخر؛ وهذا كله تخليط من الرجلين؛ لأن القرآن غير حالّ في الجلد على الحقيقة؛ وليست الكتابة غير المكتوب؛ وإنما الكتابة أمارة للحروف؛ فأمّا أن تكون هي الكلام على الحقيقة أو يوجد معها الكلام مكتوبا فمحال.

فأما استشهاده على ذلك بالآية وبقوله: (لا تسافروا بالقرآن) فذلك تجوّز وتوسّع،

____________________

(١) ت، ف: (القصة).

(٢) ت: (الاحتراق).

٤٥٩

وليس يجب أن يجعل إطلاق الألفاظ المحتملة دليلا على إثبات الأحكام والمعاني، ومعترضة على أدلّة العقول؛ وقد تجوّز القوم بأكثر من هذا فقالوا: في هذا الكتاب شعر امرئ القيس وعلم الشافعي وفقه فلان، ولم يقتض ذلك أن يكون العلم والكلام على الحقيقة موجودين في الدفتر. وقد بيّن الكلام، في هذا الباب في مواضع هي أولى به.

فأما جواب ابن الأنباري الّذي ارتضاه لنفسه، فلا طائل أيضا فيه، لأنه لا مزيّة للقرآن فيما ذكره على كل كلام وشعر فى العالم، لأنّا نعلم أنّ الشعر والكلام المحفوظ فى صدور الرجال إذا كتب فى جلد ثم أحرق أو غسل لم يذهب ما فى الصدور. منه؛ بل يكون ثابتا بحاله، فأي مزيّة للقرآن فى هذا على غيره؟ وأي فضيلة؟ فإن قال: وجه المزيّة أنّ غير القرآن من الشعر وغيره يمكن أن يندرس ويبطل بإحراق النار؛ والقرآن إذا كان هو تعالى هو المتولّي لإيداعه الصدور لا يتم ذلك فيه؟

قلنا: الكل سواء لأن غير القرآن إنما يبطل باحتراق الإهاب المكتوب فيه متى لم يكن محفوظا مودعا للصدور، ومتى كان بهذا الصفة لم يبطل باحتراق الجلد؛ وهكذا القرآن لو لم يحفظ في الصدور لبطل بالاحتراق؛ ولكنه لا يبطل بهذا الشرط؛ فصار الشرط في بطلان غير القرآن وثباته كالشّرط في بطلان القرآن وإثباته، فلا مزيّة على هذا الجواب للقرآن فيما خصّ به من أنّ النار لا تمسّه، وهذا يبيّن أنه لا وجه غير ما ذكرناه في الخبر؛ وهو أشبه بمذاهب العرب وأولى بتفضيل القرآن وتعظيمه.

***

[من شعر الحسين بن مطير الأسدي:]

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم قال ابن دريد وأنشدنا عبد الرحمن - يعني ابن أخي الأصمعي - عن عمه للحسين بن مطير الأسدي(١) - وقال عبد الرحمن قال عمّي: لو كان شعر العرب هكذا ما أثم منشده -:

____________________

(١) هو الحسين بن مطير بن مكمل؛ مولى لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد؛ شاعر متقدم من شعراء الدولتين؛ ومذهبه في الشعر يشبه كلام الأعراب ومذاهبهم؛ (وانظر ترجمته وأخباره وأشعاره في الأغاني ١٤: ١١٠ - ١١٤، والخزانة ٢: ٤٨٥ - ٤٨٨).

٤٦٠