أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 281109
تحميل: 9163


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 281109 / تحميل: 9163
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعوراء من قيل امرئ ذي قرابة

تصاممت عنها بعد ما قد سمعتها(١)

رجاة غد(٢) أن يعطف الرّحم بيننا

ومظلمة منه بجنبي عركتها

إذا ما أمور الناس رثّت وضيّعت

وجدت أموري كلّها قد رممتها(٣)

وإني سألقى الله لم أرم حرّة

ولم تتمنّى(٤) يوم سرّ فخنتها

ولا قاذف نفسي ونفسي بريئة

وكيف اعتذاري بعد ما قد قذفتها

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا أبو ذرّ القراطيسي قال حدثنا عبيد الله بن محمد ابن أبي الدنيا قال حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي أنّ رجلا من الأنصار حدثه قال قال مسكين الدّارمي:

ولست إذا ما سرّني الدّهر ضاحكا

ولا خاشعا ما عشت من حادث الدّهر(٥)

ولا جاعلا عرضي لمالي وقاية

ولكن أقي عرضي فيحرزه وفري

أعفّ لدى عسري وأبدي تجمّلا

ولا خير فيمن لا يعفّ لدى العسر

وإني لأستحيي إذا كنت معسرا

صديقي وإخواني بأن يعلموا فقري

وأقطع إخوانى وما حال عهدهم

حياء وإعراضا، وما بي من كبر

فإن يك عارا ما أتيت فربما

أتى المرء يوم السّوء من حيث لا يدرى

ومن يفتقر يعلم مكان صديقه

ومن يحيى لا يعدم بلاء من الدّهر(٦)

ومن مستحسن قوله:

إن أدع مسكينا فما قصرت

قدري بيوت الحي والجدر

____________________

(١) العوراء هنا: الكلمة القبيحة.

(٢) د، ف، وحاشية الأصل، وديوان المعاني: (رجاء غد).

(٣) رممتها: أصلحتها.

(٤) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (لم تأتمني).

(٥) أبيات منها في معجم الأدباء ١١: ١٢٩، واللآلئ: ١٨٦، وكنايات الجرجاني: ١٠، ٥٧

(٦) حاشية الأصل: (من نسخة): (ومن يغن).

٥٠١

وقيل: إن مسكينا ليس باسمه، وإنما اسمه ربيعة، وإنما سمّي بذلك لقوله:

وسمّيت مسكينا وكانت لجاجة

وإني لمسكين إلى الله راغب(١)

- ومعنى: قصرت قدري، أي: سترت، يريد أنها بارزة لا تحجبها السواتر والحيطان -

ما مسّ رحلي العنكبوت ولا

جدياته من وضعه غبر

وهذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن، لأن العنكبوت إنما تنسج على ما لا تناله الأيدي ولا يكثر استعماله، والجديات: جمع جدية، وهي باطن دفّة الرحل.

لا آخذ الصّبيان ألثمهم

والأمر قد يغري(٢) به الأمر

- يقول: لا أقبّل الصبي؛ وأنا أريد التعريض بأمه.

ومثله لغيره:

ولا ألقي لذي الودعات سوطي(٣)

ألاعبه(٤) وريبته(٥) أريد

وأنشد ابن الأعرابي مثله:

إذا رأيت صبي القوم يلثمه

ضخم المناكب لا عمّ ولا خال

فاحفظ صبيّك منه أن يدنّسه

ولا يغرّنك يوما قلّة المال(٦)

- رجع إلى تمام القصيدة -

ولربّ يوم قد تركت وما

بيني وبين لقائه ستر

ومخاصم(٧) قاومت في كبد

مثل الدّهان فكان لي العذر(٨)

____________________

(١) الشعر والشعراء: ٥٢٩.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يعزي).

(٣) م: (صوتى).

(٤) د: (لألثمه)، ومن نسخة بحاشية ف: (لألهيه).

(٥) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (وربته)، أي أمه التي تربه. والودعات:

الخرزات.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كثرة المال).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ومقادم).

(٨) في حاشيتي الأصل، ف: (إنما يكون العذر إذا كان ثم ظلم، فيقول: إنما أقاوم وأخاصم مظلوما متعدي عليه، وإذا كان كذلك، فيجب الاعتذار على الظالم؛ ويكون العذر لي، كقوله:

فإن كان سحرا فاعذريني على الهوى

وإن كان داء غيره فلك العذر

٥٠٢

- ويروى: (القمر)، والكبد: المنزلة التي لا تثبت فيها الأرجل، والدهان:

الأديم الأحمر -

ما علّتي(١) ! قومي بنو عدس

وهم الملوك وخالي البشر(٢)

عمّي زرارة غير منتحل

وأبي الّذي حدّثته عمرو

في المجد غرّتنا مبيّنة

للنّاظرين كأنّها البدر

لا يرهب الجيران غدرتنا

حتّى يواري ذكرنا القبر

لسنا كأقوام إذا كلحت

إحدى السّنين فجارهم تمر

- أي يستحلى الغدر به كما يستحلى التمر -

مولاهم لحم على وضم

تنتابه العقبان والنّسر

ناري ونار الجار واحدة

وإليه قبلي تنزل القدر

يقال: إنه كان له امرأة تماظّه، فلما قال ذلك قالت له: أجل؛ إنما ناره ونارك واحدة، لأنه أوقد ولم توقد، والقدر تنزل إليه قبلك؛ لأنه طبخ ولم تطبخ، وأنت تستطعمه.

ما ضرّ جاري إذ أجاوره

أن لا يكون لبيته ستر

- قال: ويقال إنها قالت له في هذا البيت أيضا: أجل إن كان له ستر هتكته -

أعمى إذا ما جارتي خرجت

حتّى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عمّا كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر

وأنشد عمر بن شبّة لمسكين أيضا:

لا تجعلنّي كأقوام علمتهم(٣)

لم يظلموا لبّة يوما ولا ودجا(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (ما عابني).

(٢) من نسخة في حاشيتي الأصل، ف: (هو مسكين بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم؛ فهذا عدس وعدس أبو زرارة، مثل قثم؛ وقال ابن دريد: يقال عدس وعدس)، بضم الدال وفتحها.

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لا تجعليني كأقوام علمتهم).

(٤) حاشية الأصل: (أي لم ينحروا للأضياف فيطعنوا في لبة أو ودج).

٥٠٣

إني لأغلاهم باللّحم قد علموا

نيئا، وأرخصهم باللّحم إذ نضجا

أنا ابن قاتل جوع القوم قد علموا

إذا السّماء كست آفاقها رهجا(١)

ياربّ أمرين قد فرّجت بينهما

إذا هما نشبا في الصّدر واعتلجا(٢)

أديم خلقي لمن دامت خليقته

وأمزج الحلو أحيانا لمن مزجا

وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية

إذا الكواكب كانت في الدّجى سرجا(٣)

ما أنزل الله من أمر فأكرهه

إلاّ سيجعل لي من بعده فرجا

ما مدّ قوم بأيديهم إلى شرف

إلاّ رأونا قياما فوقهم درجا

وأنشد أبو العباس ثعلب له:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ولم يلهني عنه غزال مقنّع

أحدّثه إن الحديث من القرى

وتعلم نفسي أنه سوف يهجع

ومثله لغيره:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

ويخصب عندي والمكان جديب

وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى

ولكنّما وجه الكريم خصيب

ومعنى:

* أحدّثه إنّ الحديث من القرى*

أي أصبر على حديثه، وأعلم أنه سوف ينام، ولا أعرّض بمحادثته فأكون قد محقت قراي؛ والحديث الحسن من تمام القرى.

وقال الأصمعي: أحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:

ألا أيّها الغائر المستشيط

علام تغار إذا لم تغر

____________________

(١) الرهج: الغبار.

(٢) اعتلج. اضطرب.

(٣) الحزن: المفازة الواسعة، والخرقاء: الناقة السريعة.

٥٠٤

فما خير عرس إذا خفتها

وما خير بيت إذا لم يزر(١)

تغار على النّاس أن ينظروا

وهل يفتن الصّالحات النّظر

فإني سأخلي لها بيتها

فتحفظ لي نفسها أو تذر

إذا الله لم يعطه ودّها

فلن يعطي الودّ سوط ممرّ

ومن ذا يراعي له عرسه

إذا ضمّه والمطي السّفر!

قال المرتضىرضي‌الله‌عنه : وكان مسكين كثير اللهج بالقول في هذا المعنى، فمن ذلك قوله:

وإني امرؤ لا آلف البيت قاعدا

إلى جنب عرسي لا أفرّطها شبرا

ولا مقسم لا أبرح الدّهر بيتها

لأجعله قبل الممات لها قبرا

إذا هي لم تحصن أمام فنائها

فليس بمنجيها بنائي لها قصرا

ولا حاملي ظنّي ولا قيل قائل(٢)

على غيرة حتّى أحيط بها خبرا

فهبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا

فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا

وأنشد أبو العبّاس(٣) عن أبي العالية لمسكين:

ما أحسن الغيرة في حينها

وأقبح الغيرة في كلّ حين(٤)

من لم يزل متّهما عرسه

مناصبا فيها لوهم الظّنون

يوشك أن يغريها بالذي

يخاف، أو ينصبها للعيون

حسبك من تحصينها ضمّها

منك إلى خلق كريم ودين

لا تظهرن منك على عورة

فيتبع المقرون حبل القرين(٥)

____________________

(١) حاشية الأصل: (للسؤال).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (وإن قال قائل).

(٣) ف: (أبو العيناء).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (غير حين).

(٥) حاشية الأصل: (أي إياك أن تطلع المرأة منك على زنا وريبة؛ فإنها أيضا تزني أو تفعل كما فعلت).

٥٠٥

[٣٦]

مجلس آخر [المجلس السادس والثلاثون:]

تأويل آية:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها )

 إن سأل سائل عن قوله تعالى في قصة يوسفعليه‌السلام :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ؛ [يوسف: ٢٤].

فقال: هل يسوغ ما تأوّل بعضهم هذه الآية عليه من أن يوسفعليه‌السلام عزم على المعصية وأرادها، وأنه جلس مجلس الرجل من المرأة، ثم انصرف عن ذلك بأن رأى صورة أبيه يعقوبعليه‌السلام عاضّا على إصبعه، متوعّدا له على مواقعة المعصية، أو بأن نودي له بالنهي والزّجر في الحال على ما ورد به الحديث؟

الجواب، قلنا: إذا ثبت بأدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات أنّ المعاصي لا تجوز على الأنبياءعليهم‌السلام صرفنا كل ما ورد ظاهره بخلاف ذلك من كتاب أو سنة إلى ما يطابق الأدلة ويوافقها، كما نفعل مثل ذلك فيما يرد ظاهره مخالفا لما تدل عليه العقول من صفاته تعالى، وما يجوز عليه أو لا يجوز.

ولهذه الآية وجوه من التأويل؛ كلّ واحد منها يقتضي نزاهة نبي الله تعالى من العزم على الفاحشة وإرادة المعصية.

أوّلها أنّ الهمّ في ظاهر الآية متعلّق بما لا يصح أن يعلّق به العزم أو الإرادة على الحقيقة؛ لأنه تعالى قال:( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ) ، فعلّق الهمّ بهما، وذاتاهما لا يجوز أن يراد أو يعزم عليهما؛ لأنّ الموجود الباقي لا يصحّ ذلك فيه، فلا بدّ من تقدير محذوف يتعلّق العزم به؛ وقد يمكن أن يكون ما تعلّق به همّه إنما هو ضربها أو دفعها عن نفسه، كما

٥٠٦

يقول القائل: كنت هممت بفلان، وقد همّ فلان بفلان؛ أي بأن يوقع به ضربا أو مكروها.

فإن قيل: فأي معنى لقوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟

قلنا: يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنه لما همّ بدفعها وضربها أراه الله برهانا على أنه إن أقدم على ما همّ به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدّعي عليه المراودة على القبيح وتقذفه بأنه دعاها إليه، وأنّ ضربه؟؟؟؟؟ لامتناعها، فيظنّ به ذلك من لا تأمّل له، ولا علم بأنّ مثله لا يجوز عليه، فأخبر الله تعالى بأنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء، ويعني بذلك القتل والمكروه اللّذين كانا يوقعان به، لأنهما يستحقان الوصف بذلك من حيث القبح، أو يعني بالسوء والفحشاء ظنّهم به ذلك.

فإن قيل: هذا الجواب يقتضي أنّ جواب فَلَوْ لا يتقدّمها، ويكون التقدير: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بضربها ودفعها، وتقدّم جواب فَلَوْ لا قبيح غير مستعمل، أو يقتضي أن تكون فَلَوْ لا بغير جواب.

قلنا: أما تقدّم جواب فَلَوْ لا فجائز، وسنذكر ما فيه عند الجواب المختص بذلك، غير أنّا لا نحتاج إليه في هذا الجواب، لأنّ الهمّ بالضرب قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان؛ والتقدير: ولقد همت به وهمّ بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك، فالجواب في الحقيقة محذوف، والكلام يقتضيه، كما حذف الجواب في قوله تعالى:( وَلَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) ؛ [النور: ٢٠]، معناه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم، ومثله:( كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) ؛ [التكاثر: ٥، ٦]، معناه: لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا، وتفاخروا بها؛ وقال امرؤ القيس:

٥٠٧

فلو أنّها نفس تموت سويّة

ولكنها نفس تساقط أنفسا(١)

أراد: فلو أنّها نفس تموت سويّة لانقضت وفنيت، فحذف الجواب؛ على أنّ من تأوّل هذه الآية على الوجه الّذي لا يليق بنبي الله تعالى، وأضاف العزم على المعصية إليه لا بد له من تقدير جواب محذوف، ويكون التقدير عنده: ولقد همّت بالزّنا وهمّ به؛ لولا أن رأى برهان ربه لفعله.

فإن قيل قوله: هَمَّ بِها كقوله:( هَمَّتْ بِهِ ) فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح وهمّه بها متعلقا بما ذكرتم من الضرب وغيره؟

قلنا: أما الظاهر فلا يدلّ على ما تعلق به الهم والعزم فيهما جميعا، وإنما أثبتنا همّها به متعلّقا بالقبيح، لشهادة الكتاب والآثار؛ وهي ممن يجوز عليه فعل القبيح، ولم يؤمن دليل من امتناعه عليها؛ كما أمن ذلك فيهعليه‌السلام .

والموضع الّذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى:( وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ إلى قوله: إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، [يوسف: ٣٠]، وقوله تعالى:( وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ) [يوسف: ٢٣]، وقوله تعالى:( الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ (٢) وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) [يوسف: ٥١]، وفي موضع آخر:( قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ) [يوسف: ٣٢].

____________________

(١) ديوانه: ١٤٠، وروايته: (تموت جميعة). وفي حاشية الأصل: (ويروى: (تساقط) [بضم التاء]، وساقط بوزن فاعل متعد؛ ويكون (أنفسا) مفعولا؛ وإذا روي: (تساقط) [بفتح التاء] جاز أن يكون (تفاعل) متعديا؛ والمعنى: أسقط. ويجوز أن يكون غير متعد أيضا؛ و (أنفسا) نصبت على الحال، كقوله تعالى:( تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ) ، أي تساقط عليك ثمر النخلة رطبا، وقال الفراء: هو تمييز، وكلاهما حسن. ويجوز إذا كان حالا أن يفيد كثرة الرطب على الجذع فكأنها إذا تساقط رطبا).

(٢) حاشية الأصل: (معنى( راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ) ؛ أي طلبت منه أن ينزل عن نفسه فيسلمها منى؛ هذا هو هو حقيقة هذه الكلمة؛ فاختصر).

٥٠٨

والآثار واردة بإطباق مفسّري القرآن ومتأوّليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية.

والوجه الثاني في تأويل الآية أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه:

ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها؛ ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أني تداركتك، وقتلت لولا أني خلّصتك، والمعنى: لولا تداركي لهلكت، ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يكن وقع هلاك ولا قتل؛ قال الشاعر:

فلا يدعني قومي صريحا لحرّة

لئن كنت مقتولا، ويسلم عامر(١)

وقال آخر:

فلا يدعني قومي صريحا لحرة

لئن لم أعجّل طعنة أو أعجّل(٢)

فقدم جواب فَلَوْ لا في البيتين جميعا، وقد استشهد عليه أيضا بقوله تعالى:( وَلَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ) ، والهمّ لم يقع لمكان فضل الله ورحمته.

ومما يشهد لهذا التأويل أنّ في الكلام شرطا، وهو قوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) ؛ فكيف يحمل على الإطلاق، مع حصول الشرط؟ وليس لهم أن يجعلوا جواب لَوْ لا محذوفا مقدّرا لأن جعل جوابها موجودا أولى.

وقد استبعد قوم تقديم جواب لَوْ لا عليها، قالوا: ولو جاز ذلك لجاز: (قام زيد لولا عمرو)، و (قصدتك لولا بكر) وقد بيّنّا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لَوْ لا، والّذي ذكروه لا يشبه ما أجزناه.

وقد يجوز أن يقول القائل: (قد كان زيد قام لولا كذا وكذا)، و (قد كنت قصدتك لولا أن صدّنى فلان)، وإن لم يقع قيام ولا قصد؛ وهذا هو الّذي يشبه الآية؛ وليس تقديم

____________________

(١) صريحا: خالص النسب.

(٢) م:

فلا يدعني قومي ليوم كريهة

لئن لم أعجّل ضربة أو أعجل

وفي حاشية الأصل: (في نسخة س البيت الثاني مقدم على الأول).

٥٠٩

جواب لَوْ لا بأبعد من حذف جواب لَوْ لا جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف - لئلا يلزمهم تقديم الجواب - جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لا يلزم الحذف.

والجواب الثالث ما اختاره أبو عليّ الجبّائي - وإن كان غيره قد تقدمه إلى معناه - وهو أن يكون معنى هَمَّ بِها اشتهاها، ومال طبعه إلى ما دعته إليه. وقد يجوز أن تسمّى الشهوة في مجاز اللغة همّاً؛ كما يقول القائل فيما لا يشتهيه: ليس هذا من همّي، وهذا أهمّ الأشياء إلي؛ ولا قبح في الشهوة لأنها من فعل الله تعالى فيه؛ وإنما يتعلق القبح بتناول المشتهي.

وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال: أما همّها فكان أخبث الهم، وأما همّه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء، ويجب على هذا الوجه أن يكون قوله تعالى:( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ) ، متعلق بمحذوف؛ كأنه قال: لولا أن رأى برهان ربه لعزم أو فعل.

والجواب الرابع، أنّ من عادة العرب أن يسمّوا الشيء باسم ما يقع عنده في الأكثر، وعلى هذا لا ينكر أن يكون المراد ب هَمَّ بِها خطر بباله أمرها(١) ، ووسوس إليه الشيطان بالدعاء إليها؛ من غير أن يكون هناك همّ أو عزم، فسمّي الخطور بالبال همّا من حيث كان الهمّ يقع في الأكثر عنده، والعزم في الأغلب يتبعه.

وإنما أنكرنا ما ادّعاه جهلة المفسرين ومخرّفو القصّاص، وقرفوا به نبي اللهعليه‌السلام ، لما في العقول من الأدلة على أن مثل ذلك لا يجوز على الأنبياءعليهم‌السلام ؛ من حيث كان منفّرا عنهم، وقادحا في الغرض المجرى إليه بإرسالهم؛ والقصّة تشهد بذلك؛ لأنه تعالى قال:( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ ) ؛ ومن أكبر السوء والفحشاء العزم على الزنا، ثم الأخذ فيه، والشروع في مقدماته؛ وقوله تعالى أيضا:( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يقتضي تنزيهه

____________________

(١) س: (ما أخطر بباله أمرها).

٥١٠

عن الهمّ بالزّنا، والعزم عليه. وحكايته عن النسوة قولهن:( حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) ؛ [يوسف: ٥١]، تدل أيضا على براءته من القبيح.

فأما البرهان الّذي رآه فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله له به في تلك الحال أو قبلها، اختار عنده الانصراف عن المعاصي، والتنزه عنها.

ويحتمل أيضا ما ذكره أبو عليّ، وهو أن يكون البرهان دلالة الله تعالى له على تحريم ذلك عليه، وعلى أنّ من فعله يستحق العقاب. وليس يجوز أن يكون البرهان ما ظنّه الجهّال من رؤية صورة أبيه يعقوبعليه‌السلام متوعّدا له، أو النداء له بالزجر والتخويف، لأنّ ذلك ينافي المحنة، وينقض الغرض بالتكليف، ويقتضي ألاّ يستحق على امتناعه وانزجاره مدحا ولا ثوابا؛ وهذا سوء ثناء على الأنبياء، وإقدام على قرفهم بما لم يكن منهم، ونحمد الله على حسن التوفيق.

***

[أخبار متفرقة لإبراهيم بن العباس الصولي وذكر طائفة من شعره:]

روى أحمد بن عبد الله بن العباس الصولي الملقب بطماس قال: كنت يوما عند عمّي إبراهيم بن العباس(١) ، فدخل عليه رجل فرفعه حتى جلس إلى جانبه، أو قريبا من ذلك، ثم حادثه إلى أن قال عمي: ياأبا تمام؛ ومن بقي ممن يعتصم به ويلجأ إليه؟ قال: أنت لا عدمت - وكان إبراهيم طويلا - أنت والله كما قيل:

يمدّ نجاد السّيف حتّى كأنّه

بأعلى سنامي فالج يتطوّح

ويدلج في حاجات من هو نائم

ويوري كريمات النّدى حين يقدح

إذا اعتمّ بالبرد اليماني خلته

هلالا بدا في جانب الأفق يلمح

يزيد على فضل الرّجال فضيلة

ويقصر عنه مدح من يتمدّح

____________________

(١) هو أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول، شاعر مجيد؛ توفي سنة ٢٤٣، وله ديوان شعر، نشره الأستاذ عبد العزيز الميمني؛ ضمن مجموعة الطرائف سنة ١٩٣٧ م (وانظر ترجمته في الأغاني (٢٠٩ - ٣٣، وابن خلكان ١: ٩ - ١١، ومعجم الأدباء، ١: ١٦٤ - ١٩٨، وتاريخ بغداد ٦: ١١٧).

٥١١

فقال له إبراهيم: أنت تحسن قائلا، وراويا، ومتمثلا؛ فلما خرج تبعته وقلت له: اكتبني الأبيات، فقال: هي لأبي الجويرية العبدي(١) فخذها من شعره.

***

وروي عن يحيى بن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من أمراء أهل الشام بمعان من الشعر، فمرّ فيها ذكر قلة نوم العاشق وما قيل فيه، فأنشدوا إنشادات كثيرة، فقال لهم أبي: قد فرغ من هذا كاتب كان بالعراق فقال:

أحسب النوم حكاكا

إذ رأى منك جفاكا(٢)

منّي الصّبر ومنك ال

هجر فابلغ بي مداكا

بعدت همّة عين

طمعت في أن تراكا

أو ما خطّ لعيني

أن ترى من قد رآكا

ليت حظّي منك أن تع

لم ما بي من هواكا

قال أبي: إنه تصرّف في معان من الشعر في هذه الأبيات، قال: وكتبها عنه جماعة من حضر؛ والأبيات لإبراهيم بن العباس الصولي.

***

وأخبرنا عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال: لما بايع المأمون لعلي ابن موسى الرّضاعليهما‌السلام بالعهد، وأمر الناس بلبس الخضرة صار إليه دعبل(٣) بن علي

____________________

(١) اسمه عيسى بن أوس بن عصبة؛ أبو جويرية العبدي؛ شاعر محسن متمكن؛ ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف: ٧٩، والمرزباني في المعجم: ٢٥٨.

(٢) ديوان إبراهيم بن العباس: ١٤٨.

(٣) هو دعبل بن علي الخزاعي، شاعر مطبوع؛ كان هجاء خبيث اللسان؛ ولم يسلم من لسانه أحد ممن عاصره من الخلفاء والوزراء ولا من أولادهم وأولاد أولادهم؛ ولا ذو نباهة؛ أحسن إليه أو لم يحسن، وكان من مشاهير الشيعة؛ قال ياقوت (وقصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قصد بها علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قمّ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها؛ فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد للّه -

٥١٢

وإبراهيم بن العباس الصولي - وكانا صديقين لا يفترقان، فأنشده دعبل:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات(١)

وأنشده إبراهيم بن العباس على مذهبها قصيدة، أولها:

أزالت عزاء القلب بعد التّجلّد

مصارع أولاد النّبيّ محمّد

قال: فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه، وكان المأمون أمر بضربها في ذلك الوقت؛ فأما دعبل بن عليّ فصار بالشّطر منها إلى قمّ، فاشترى أهلها منه كلّ درهم بعشرة، فباع حصته بمائة ألف درهم.

____________________

 - عز وجل؛ وهي محرمة عليكم؛ فدفعوا له ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه كما واحدا؛ فكان في أكفانه؛ ويقال: إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه؛ وأوصى بأن يكون في أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة، في بعضها زيادات؛ يظن أنها مصنوعة)، وتوفي دعبل سنة ٢٤٦.

(وانظر ترجمته في معجم الأدباء ١١: ١٩: ١١٢، وابن خلكان ١: ١٧٩ - ١٨٠، والأغاني ١٨: ٢٩ - ٣٢، وتاريخ بغداد ٨: ٣٨٢).

(١) القصيدة في معجم الأدباء، وتنوير الأبصار: ١٤١، ١٤٢؛ ومطلعها فيه:

ذكرت محلّ الرّبع من عرفات

وأجريت دمع العين بالعبرات

وفكّ عرى صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار أقفرت وعرات

مدارس آيات ...

وفيها يقول:

ألم تر أني من ثلاثين حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

وأيديهم من فيئهم صفرات

فآل رسول الله نحف جسومهم

وآل زياد حفّل القصرات

بنات زياد في القصور مصونة

وآل رسول الله في الفلوات

إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم

أكفّا عن الأوتار منقبضات

فلولا الّذي أرجوه في اليوم أو غد

لقطّع قلبي إثرهم حسرات

٥١٣

وأما إبراهيم بن العباس فلم يزل عنده بعضها حتى مات؛ قال الصولي: ولم أقف من قصيدة إبراهيم على غير هذا البيت.

قال: وكان السبب في ذهاب هذا الفن من شعره ما حدّثني به أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات والحسين بن عليّ الباقطاني(١) قالا: كان إبراهيم بن العباس صديقا لإسحاق بن إبراهيم أخي زيدان الكاتب المعروف بالزّمن، فأنسخه شعره في عليّ بن موسى الرّضاعليهما‌السلام ، وقد انصرف من خراسان، ودفع إليه شيئا بخطّه منه، وكانت النّسخة عنده إلى أن ولي المتوكل، وولي إبراهيم بن العباس ديوان الضّياع، وقد كان تباعد ما بينه وبين أخي زيدان، فعزله عن ضياع كانت في يده بحلوان وغيرها وطالبه بمال وألحّ عليه، وأساء مطالبته، فدعا إسحاق بعض من يثق به من إخوانه، وقال له: امض إلى إبراهيم بن العباس، فأعلمه أنّ شعره في عليّ بن موسى بخطّه عندي، وبغير خطّه، والله لئن استمرّ على ظلمي(٢) ، ولم يزل عنّي المطالبة لأوصلنّ الشعر إلى المتوكل؛ قال: فصار الرجل إلى إبراهيم بن العباس، فأخبره بذلك، فاضطرب اضطرابا شديدا، وجعل الأمر في ذلك إلى الواسطة في ذلك حتى أسقط جميع ما كان طالبه به، وأخذ الشعر منه، وأحلفه أنه لم يبق عنده منه شيء، فلما حصل عنده أحرقه بحضرته.

وذكر أبو أحمد يحيى بن عليّ المنجم أنّ أباه عليّ بن يحيى كان الواسطة بينهما.

قال الصولي: وما عرفت من شعر إبراهيم في هذا المعنى شيئا إلاّ أبياتا؛ وجدتها بخط أبي قال: أنشدني أخي لعمه في عليّ بن موسى من قصيدة:

كفى بفعال امرئ عالم

على أهله عادلا شاهدا(٣)

أرى لهم طارفا مونقا

ولا يشبه الطّارف التالدا

يمنّ عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا

____________________

(١) حاشية الأصل: الباقطان: قرية بالعراق، والنسبة إليها باقطاني؛ وثم أيضا قرية يقال لها باقطينا؛ والنسبة إليها باقطيني.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ظلمه).

(٣) ديوانه: ١٧٢، ومن نسخة بحاشية الأصل: (على قومه عادلا).

٥١٤

فلا حمد الله مستنصرا(١)

يكون لأعدائكم حامدا

فضلت قسيمك في قعدد(٢)

كما فضل الوالد الوالدا

قال الصولي: فنظرت في قوله:

* فضلت قسيمك في قعدد*

فوجدت عليّ بن موسىعليهما‌السلام والمأمون متساويين في قعدد النسب، وهاشم التاسع من آبائهما جميعا.

وروى الصولي أنّ منشدا أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضّياع:

ربّما تكره النفوس من الأمـ

ر له فرجة كحلّ العقال(٣)

قال: فنكت بقلمه ساعة ثم قال:

ولربّ نازلة يضيق بها الفتى

ذرعا وعند الله منها مخرج(٤)

كملت فلما استحكمت حلقاتها

فرجت وكان يظنّها لا تفرج

فعجب من جودة بديهته.

وأخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد الكاتب قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الراوية قال: كنت بالأهواز أيام الواثق، وإبراهيم بن العباس يلي معونتها وخراجها، فوصفت له بالأدب فأمر بإحضاري، فلما دخلت عليه قرّب مجلسي وقال: تسلّف(٥) أنس المطاولة؛ فإن الاستمتاع لا يتمّ إلاّ به، فانبسطت وتساءلنا عن الأشعار، فما رأيت أحدا قطّ أعلم بالشعر منه، فقال لي: ما عندك في قول النابغة:

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة):* فلا حمد الله مستبصر*

(٢) حاشية الأصل: (في قعدد) تتعلق بقسيمك، والقعدد: الأقرب إلى الأب الأكبر، وفلان أقعد من فلان نسبا إذا كان أقرب إلى الأب الأكبر.

(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت؛ وهو في شعراء النصرانية: ٢٠٣، واللسان (فرج). والفرجة؛ بالفتح مصدر؛ وبالضم اسم، والرواية بالفتح.

(٤) ديوانه: ١٧١.

(٥) حاشية الأصل: تسلف؛ أي خذه سلفا؛ يعني أنك ستنبسط إلى بعد المطاولة؛ فخذ ذلك سلفا وانبسط).

٥١٥

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب(١)

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب

فقلت: أراد تفضيله على الملوك، فقال: صدقت، ولكن في الشعر خب ء(٢) ، وهو أنه اعتذر إلى النعمان من ذهابه إلى آل جفنة إلى الشام، ومدحه لهم، وقال: إنما فعلت هذا لجفائك بي، فإذا صلحت لي لم أرد غيرك، كما أنّ من أضاءت له الشمس لم يحتج إلى ضوء الكواكب؛ فأتى بمعنيين: بهذا، وبتفضيله، قال: فاستحسنت ذلك منه.

وكان إبراهيم بن العباس من أصدق الناس لأحمد بن أبي دؤاد، فعتب على ابنه أبي الوليد من شيء قدّمه، ومدح أباه وأحسن في التخلّص كلّ الإحسان فقال:

عفّت مساو تبدّت منك واضحة

على محاسن بقّاها أبوك لكا(٣)

لئن تقدّم أبناء الكرام به

لقد تقدّم أبناء اللّئام بكا

ولإبراهيم:

تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذي الغضا

ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها(٤)

قريبة عهد بالحبيب وإنما

هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها

تطلّع من نفسي إليك نوازع

عوارف أنّ اليأس منك نصيبها

وأخذ هذا من قول ذي الرّمة:

إذا هبّت الأرواح من نحو جانب

به آل مي هاج شوقي هبوبها(٥)

هوى تذرف العينان منه، وإنما

هوى كلّ نفس حيث كان حبيبها

ولإبراهيم:

دنت بأناس عن تناء زيارة

وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها(٦)

وإنّ مقيمات بمنقطع اللّوى

لأقرب من ليلى وهاتيك دارها

____________________

(١) ديوانه: ١٣.

(٢) الخبء: ما خبىء واستتر، كالخبيء.

(٣) ديوانه: ١٦٢.

(٤) ديوانه: ١٣٩.

(٥) ديوانه: ٦٥ - ٦٦.

(٦) ديوانه: ١٤٥، وفي حاشية الأصل: (يروى البيتان لمحمد بن عبد الملك الزيات).

٥١٦

 وأخذ ذلك من قول النظار الفقعسيّ:

يقولون هذي أم عمرو قريبة

دنت بك أرض نحوها وسماء

ألا إنّما بعد الحبيب وقربه

إذا هو لم يوصل إليه سواء

ووجدت بعض أهل الأدب يظنّ أن إبراهيم بن العباس سبق إلى هذا المعنى في قوله:

كن كيف شئت وأنّى تشا

وأبرق يمينا وأرعد شمالا(١)

نجا بك لؤمك منجى الذّباب

حمته مقاذيره أن ينالا(٢)

حتى رأيت مسلم بن الوليد قد سبق إلى هذا المعنى، فأحسن غاية الإحسان فقال:

أمّا الهجاء فدقّ عرضك دونه

والمدح عنك كما علمت جليل(٣)

فاذهب فأنت طليق عرضك إنّه

عرض عززت به وأنت ذليل

____________________

(١) ديوانه: ١٦٣.

(٢) من نسخة بحاشية الأصل: (مقاذره).

(٣) ملحقات ديوانه: ٢٤٢.

٥١٧

[٣٧]

مجلس آخر [المجلس السابع والثلاثون:]

تأويل آية:( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى حاكيا عن يوسفعليه‌السلام :( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ) ، [يوسف: ٣٣].

فقال: إذا كانت المحبة عندكم هي الإرادة، فهذا تصريح من يوسفعليه‌السلام بإرادة المعصية؛ لأن حبسه في السجن، وقطعه عن التصرف معصية من فاعله؛ وقبيح من المقدم عليه؛ وهو في القبح يجري مجرى ما دعى إليه من الزنا. وقوله من بعد:( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) يدل على أنّ امتناعه من القبيح(١) مشروط بمنعهنّ وصرفهنّ(١) عن كيده؛ وهذا بخلاف مذهبكم، لأنكم تذهبون إلى أنّ ذلك لا يقع منه؛ صرف النّسوة عن كيده، أو لم يصرفهنّ.

الجواب، قلنا: أما قوله:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ففيه وجهان من التأويل:

أولهما أنّ المحبّة متعلقة في ظاهر الكلام بما لا يصحّ في الحقيقة أن يكون محبوبا مرادا؛ لأنّ السجن إنما هو الجسم، والأجسام لا يجوز أن يريدها؛ وإنما يريد الفعل فيها، أو المتعلّق بها؛ والسجن نفسه(٢) ليس بطاعة ولا معصية، وإنما الأفعال فيه قد تكون طاعات ومعاصي بحسب الوجوه التي يقع عليها؛ وإدخال القوم يوسفعليه‌السلام الحبس، أو إكراههم له على دخوله معصية منهم؛ وكونه فيه وصبره على ملازمته، والمشاقّ التي تناله باستيطانه طاعة منه وقربة، وقد علمنا أنّ ظالما لو أكره مؤمنا على ملازمة بعض المواضع، وترك

____________________

(١ - ١) د، ف: (مشروط بمنعهم وصرفهم).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (وحده).

٥١٨

التصرّف في غيره لكان فعل المكره حسنا، وإن كان فعل المكره قبيحا. وهذه الجملة تبيّن ألاّ ظاهر في الآية(١) يقتضي ما عنده؛ وأنه لا بدّ من تقدير محذوف يتعلق بالسّجن؛ وليس لهم أن يقدّروا ما يرجع إلى الحابس من الأفعال؛ إلاّ ولنا أن نقدّر ما يرجع إلى المحبوس؛ وإذا احتمل الكلام الأمرين، ودلّ الدليل على أنّ النبيعليه‌السلام لا يجوز أن يريد المعاصي والقبائح اختصّ المحذوف المقدّر بما يرجع إليه مما ذكرناه، وذلك طاعة لا لوم على مريده ومحبّه.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقول:( السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، وهو لا يحبّ ما دعوه جملة؛ ومن شأن هذه اللفظة أن تدخل بين ما وقع(٢) فيه اشتراك في معناها؛ وإن فضّل البعض على البعض؟

قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة في مثل هذا الموضع؛ وإن لم يكن في معناها اشتراك على الحقيقة، ألا ترى أنّ من خيّر بين ما يحبه وما يكرهه جائز أن يقول: هذا أحبّ إلي من هذا، وإن لم يجز مبتدئا أن يقول من غير أن يخيّر: هذا أحبّ إلي من هذا، إذا كان لا يحبّ أحدهما جملة!

وإنما يسوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر؛ من حيث كان المخيّر بين الشيئين لا يخيّر بينهما إلاّ وهما مرادان له، أو مما يصحّ أن يريدهما، فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما ليس هذه صفته، والمجيب على(٣) هذا متى قال: كذا أحبّ إلي من كذا كان مجيبا على ما يقتضيه موضوع التخيير، وإن لم يكن الأمران يشتركان في تناول محبته.

وما يقارب ذلك قوله تعالى:( قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) ؛ [الفرقان: ١٥]، ونحن نعلم ألاّ خير في العقاب؛ وإنما حسن ذلك لوقوعه موقع التوبيخ والتقريع على اختيار

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (للآية).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (يقع).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (عن هذا).

٥١٩

المعاصي على الطاعات، وأنهم ما ركبوا المعاصي وآثروها على الطاعات إلاّ لاعتقادهم(١) أنّ فيها خيرا ونفعا، فقيل: أذلك خير على ما تظنونه وتعتقدونه، أم كذا وكذا؟

وقد قال قوم في قوله تعالى:( أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ ) إنما حسن ذلك لاشتراك الحالين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع، كما قال تعالى:( خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) ؛ [الفرقان: ٢٤]، ومثل هذا يتأتّى في قوله تعالى:( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ ) لأنّ الأمرين - يعني المعصية ودخول السجن - مشتركان في أنّ لكل منهما داعيا، وعليه باعثا، وإن لم يشتركا في تناول المحبة، فجعل اشتراكهما في داعي المحبة اشتراكا في المحبة نفسها وأجرى اللّفظ على ذلك.

ومن قرأ هذه الآية بفتح السين فالتأويل أيضا ما ذكرناه؛ لأن (السّجن) المصدر، فيحتمل أن يريد: أنّ سجني لهم نفسي، وصبري على حبسهم أحبّ إلي من مواقعة المعصية؛ ولا يرجع بالسجن إلى فعلهم بل إلى فعله.

والوجه الثاني أن يكون معنى( أَحَبُّ إِلي ) أي أهون عندي وأسهل عليّ؛ وهذا كما يقال لأحدنا في الأمرين يكرههما معا: إن فعلت كذا وإلا فعل بك كذا وكذا؛ فيقول: بل كذا أحبّ إلي، أي بمعنى أسهل وأخفّ، وإن كان لا يريد واحدا منهما؛ وعلى هذا الجواب لا يمتنع أن يكون إنما عنى فعلهم به دون فعله، لأنه لم يخبر عن نفسه بالمحبة التي هي الإرادة؛ وإنما وضع أَحَبُ موضع أخف، والمعصية قد تكون أهون وأخفّ من أخرى.

وأما قوله:( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) فليس المعنى فيه على ما ظنّه السائل؛ بل المراد: متى لم تلطف لي ممّا يدعوني إلى مجانبة المعصية، ويثنيني إلى تركها ومفارقتها صبوت؛ وهذا منهعليه‌السلام على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، والتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجا من كيدهنّ؛ ولا شبهة في أن النبيعليه‌السلام إنما يكون

____________________

(١) حاشية ف (من نسخة): (لاعتقادتهم).

٥٢٠