أمالي المرتضى الجزء ١

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 679

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 679
المشاهدات: 281319
تحميل: 9172


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 679 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 281319 / تحميل: 9172
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويقال(١) : إنه أخذ قوله:

* أحلى الرجال من النساء مواقعا* البيت

من قول الأعشى:

وأرى الغواني لا يواصلن امرأ

فقد الشّباب وقد يصلن الأمردا(٢)

ولمنصور النّمري مثله:

كرهن من الشّيب الّذي لو رأينه

بهنّ رأين الطّرف عنهنّ أزورا

ونحوه قول الآخر:

أرى شيب الرّجال من الغواني

كوقع مشيبهنّ من الرّجال

وقال أبو تمام:

شاب رأسي وما رأيت مشيب ال

رّأس إلاّ من فضل شيب الفؤاد(٣)

وكذاك القلوب في كلّ بؤس

ونعيم طلائع الأجساد

طال إنكاري البياض وإن عمّـ

رت شيبا أنكرت لون السّواد(٤)

زادني شخصه بطلعة ضيم

عمّرت مجلسي من العوّاد

نال رأسي من ثغرة الهمّ لما

لم ينله من ثغرة الميلاد(٥)

ومعنى هذا البيت الأخير أن (الثغر) هي الفرجة والثّلمة تكون في الشيء؛ ولذلك سمّي كل بلد جاور عدوا ثغرا؛ كأن معناه مكشوف للعدو. ويجوز أن يكون أصله من ثغر الإنسان، لأنه أول ما يقابلك من أسنانه، وأول ما يظهر عند الكلام، وأول ما يسقط فيرى مثلوما، فيشبّه الثّغر الّذي هو البلد؛ يقال اثّغر الصبي واتّغر؛ وتسمى تلك الفرجة في موضع

____________________

(١) الموازنة: ٣٠.

(٢) ديوانه: ١٥١؛ والرواية: (وأرى الغواني).

(٣) ديوانه: ٧٥.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (ولو عمرت شيئا) أي تعميرا، وهي رواية الديوان.

(٥) حاشية الأصل: يروى: (من ثغرة الهم ما لم* تشتمله).

٦٤١

السن ثغرة وفي كل موضع منفرج؛ ومنه ثغرة النّحر.

وأراد بقوله:

* نال رأسي من ثغرة الهم لما*

أي وجد الشيب من الهم فرجة دخل على رأسي منها؛ لأن الهمّ يشيب لا محالة.

وقوله:

* ما لم ينله من ثغرة الميلاد*

أراد بثغرة الميلاد الوقت الّذي يهجم عليه فيه الشّيب من عمره؛ لأنه يجد السبيل في ذلك الوقت إلى الحلول برأسه؛ فجعله ثغرة من هذا الوجه؛ فأراد أن الشيب حلّ برأسه من جهة همومه وأحزانه لما لم يبلغ السن التي توجب حلوله به من حيث كبره.

ورأيت الآمدي يطعن على قوله:

* عمرت مجلسي من العوّاد*

ويقول: خ خ لا حقيقة لذلك ولا معنى، لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحدا جاءه عواد يعودونه من المشيب؛ ولا أن أحدا أمرضه الشّيب، ولا عزّاه المعزون عن الشباب؛ وهذا من الآمدي قلة نقد للشّعر وضعف بصيرة بدقيق معانيه التي يغوص عليها حذاق الشعراء؛ ولم يرد أبو تمام بقوله:

* عمرت مجلسي من العوّاد*

العيادة الحقيقية التي يغشي فيها العوّاد مجالس المرضى وذوي الأوجاع، وإنما هذه استعارة وتشبيه وإشارة إلى الغرض خفيّة؛ فكأنه أراد أنّ شخص الشيب لما زارني كثر المتوجعون لي، والمتأسفون على شبابي، والمتوحشون(١) من مفارقته؛ فكأنهم في مجلسي عوّاد لي، لأن من شأن العائد للمريض أن يتوجّع ويتفجع.

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (والمتفجعون).

٦٤٢

وكنى بقوله:

* عمرت مجلسي من العوّاد*

عن كثرة من تفجع له وتوجّع من مشيبه؛ وهذا من أبي تمام كلام في نهاية البلاغة والحسن؛ وما المعيب إلا من عابه وطعن عليه؛ ونحن نذكر في المجلس الآتي بمشيئة الله ما للبحتري في هذا المعنى إن شاء الله.

٦٤٣

[٤٧]

مجلس آخر [المجلس السابع والأربعون:]

تأويل آية:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) ؛ [النحل: ١٠].

فقال: إذا كان الشجر ليس ببعض للماء كما كان الشراب بعضا له؛ فكيف جاز أن يقول:

( وَمِنْهُ شَجَرٌ ) بعد قوله:( مِنْهُ شَرابٌ ) ؟ وما معنى( تُسِيمُونَ ) ؟ وهل الفائدة في هذه اللفظة هي الفائدة في قوله:( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) ؛ [آل عمران: ١٤]، وقوله:( وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ) [هود: ٨٢، ٨٣]؟.

الجواب، قلنا في قوله تعالى:( وَمِنْهُ شَجَرٌ ) وجهان:

أحدهما أن يكون المراد منه سقى شجر، وشرب شجر؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه؛ وذلك كثير في لغة العرب، ومثله قوله تعالى:( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ) [البقرة: ٩٣]، أي حبّ العجل.

والوجه الآخر أن يكون المراد: ومن جهة الماء شجر، ومن سقيه وإنباته شجر؛ فخذف الأول وخلفه الثاني؛ كما قال عوف بن الخرع:

أمن آل ليلى عرفت الدّيارا

بجنب الشّقيق خلاء قفارا(١)

أراد: من ناحية آل ليلى.

____________________

(١) المفضليات ٤١٢ (طبعة المعارف)، والرواية هناك:

أمن آل مي عرفت الدّيارا

بحيث الشقيق خلاء قفارا

والشقيق: ماء لبني أسيد بن عمرو بن تميم.

٦٤٤

وقال زهير:

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم

بحومانة الدّرّاج فالمتثلّم(١)

أراد: من ناحية أم أوفى.

وقال أبو ذؤيب:

أمنك البرق أرقبه فهاجا

فبتّ إخاله دهما خلاجا(٢)

وقال أيضا:

أمنك برق أبيت اللّيل أرقبه

كأنّه في عراض الشّام مصباح(٣)

وقال الجعدي:

لمن الدّيار عفون بالتّهطال

بقيت على حجج خلون طوال

أراد بقيت على مرّ حجج، وتكرار حجج.

فأما قوله تعالى:( فِيهِ تُسِيمُونَ ) فمعناه ترعون، وترسلون أنعامكم؛ يقال: أسام الإبل يسيمنا أسامة؛ إذا أرعاها وأطلقها فرعت منصرفة حيث شاءت؛ وسوّمها أيضا يسوّمها من ذلك؛ وسامت هي إذا رعت؛ فهي تسوم، وهي إبل سائمة؛ ويقال: سمتها إذا قصرتها على مرعى بعينه؛ وسمتها الخسف؛ إذا تركتها على غير مرعى؛ ومنه قيل لمن أذلّ واهتضم:

سيم فلان الخسف؛ وسيم خطّة الضّيم؛ قال الكميت بن زيد في الإسامة التي هي الإطلاق في الرّعي(٤) :

____________________

(١) أول المعلقة، ديوانه: ٤. الدمنة آثار الناس وما سودوا من الرماد وغيره. ولم تبين: لم تكلم. وحومانة الدراج والمتثلم: موضعان.

(٢) ديوان الهذليين ١: ١٦٤؛ وفي حاشيتي الأصل، ف: (شبه السحاب بإبل سود، وصوت الرعد بحنينها؛ ولم يذكر السحاب إلا أن البرق دل عليه، وخلاج: جمع خلوج؛ وهي الناقة التي خلج ولدها؛ وهو فعول في معنى مفعول، كالركوب والحلوب).

(٣) ديوان الهذليين ١: ٤٧، واللسان (عرض)؛ وعراض الشام نواحيه؛ الواحد عرض.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (المرعى).

٦٤٥

راعيا كان مسجحا ففقدنا

ـه وفقد المسيم هلك السّوام(١)

وقال آخر:

وأسكن ما سكنت ببطن واد

وأظعن إن ظعنت فلا أسيم(٢)

وذهب قوم إلى أنّ السّوم في البيع من هذا؛ لأن كل واحد من المتبايعين يذهب فيما يبيعه من زيادة ثمن أو نقصانه إلى ما يهواه، كما تذهب سوائم المواشي حيث شاءت.

وقد جاء في الحديث: (لا سوم قبل طلوع الشّمس) فحمله قوم على أن الإبل وغيرها لا تسام قبل طلوع الشّمس؛ لئلا تنتشر وتفوت الراعي ويخفى عليه مقاصدها.

وحمله آخرون على أنّ السوم قبل طلوع الشّمس في البيوع مكروه، لأن السّلعة المبيعة تستتر عيوبها أو بعضها، فيدخل ذلك في بيوع الغرر المنهي عنها.

فأما الخيل المسوّمة، فقد قيل: إنها المعلمة بعلامات؛ مأخوذ من السّيماء وهي العلامة.

وروي عن الحسن البصري في قوله تعالى:( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) قال: سوّم نواصيها وأذنابها بالصوف.

وقيل أيضا: إن المسوّمة هي الحسان.

وروي عن مجاهد في قوله تعالى:( وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ) قال: هي المطهّمة الحسان.

وقال آخرون: بل هي الراعية؛ روي ذلك عن سعيد بن جبير؛ وكلّ يرجع إلى أصل واحد، وهو معنى العلامة، لأن تحسين الخيل يجري مجرى العلامة فيها؛ التي تعرف بها وتتميز لمكانها؛ وقد قيل: إن السّوم من الرّعي يرجع إلى هذا المعنى أيضا، لأن الراعي يجعل في المواضع التي يرعاها علامات أو كالعلامات بما يزيله من نباتها، ويمحوه من آثارها؛ فكأن الأصل في الكلّ متفق غير مختلف.

____________________

(١) مسجحا: رفيقا سهلا، وفي م: (مسيما)

(٢) د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ما ظعنت).

٦٤٦

وقال لبيد في التسويم الّذي هو التعليم:

وغداة قاع القرنتين أتينهم

رهوا يلوح خلالها التسويم(١)

أراد التعليم.

وأما قوله في الملائكة:( مُسَوِّمِينَ ) ؛ فالمراد به المعلمين، وكذلك قوله تعالى:( حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً ) أي معلمة؛ وقيل: إنه كان عليها كأمثال الخواتيم.

***

[طائفة من أشعار البحتري في ذم الشيب والتألم من فقد الشباب]

قال سيدنا أدام الله علوّه: ونعود إلى ما كنا وعدنا به من ذكر ما للبحتري في ذمّ الشيب والتألم من فقد الشباب؛ فمن ذلك قوله(٢) :

وكنت أرجّي في الشّباب شفاعة

فكيف لباغي حاجة بشفيعه(٣)

مشيب كنثّ السّرّ عي بحمله

محدّثه، أو ضاق صدر مذيعه(٤)

تلاحق حتّى كاد يأتي بطيئه

لحثّ اللّيالي قبل أتي سريعه

وما أحسن هذا من كلام! وأبلغه وأطبعه(٥) !

____________________

(١) ديوانه: ١: ١٠٤ وفي حاشية الأصل: (بعد هذا البيت:

بكتائب رجح تعوّد كبشها

نطح الكباش كأنهنّ نجوم

والقرنتان: موضع، ورها في السير رهوا أي رفق، قال القطامي:

يمشين رهوا، فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل

(٢) ديوانه ٢: ٩٠، والشهاب: ١٣، وفي حاشيتي الأصل، ف: (يقول: كنت أرجي أن يكون الشباب شفيعي. ويجوز أن يكون المعنى: كنت أرجي في شبابي شفاعة إلى الحسان من طراوتي وحسني).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (يعني أنه جد محتاج إلى الشفيع؛ ولكنه ولى وذهب).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كبث السر). وفيهما أيضا: (أي أنه كان كالسر تبرم به صاحبه فأفشاه).

(٥) ذكر المرتضى في الشهاب تعليقا على هذه الأبيات: (وهذا والله أبلغ كلام وأحسنه وأحلاه وأسلمه وأجمعه لحسن اللفظ وجودة المعنى؛ وما أحسن ما شبه تكاثر الشيب وتلاحقه بيت السر عن ضيق صدر صاحبه وإعيائه بجمله وعجزه عن طيه! ويشبه بعض الشبه قوله:

* تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه*

 -

٦٤٧

وقال أيضا:

ردّي عليّ الصّبا إن كنت فاعلة

إنّ الصّبا ليس من شأني ولا أربي(١)

جاوزت حدّ الشّباب النّضر ملتفتا

إلى بنات الصّبا يركضن في طلبي(٢)

والشّيب مهرب من جارى منيّته

ولا نجاء له من ذلك الهرب

والمرء لو كانت الشّعرى له وطنا

صبّت عليه صروف الدّهر من كثب(٣)

وقال أيضا:

لابس من شبيبة أم ناض

ومليح من شيبة أم راضي(٤)

وإذا ما امتعضت من ولع الشّـ

ـيب برأسي لم يثن ذاك امتعاضي(٥)

ليس يرضى عن الزّمان مروّ

فيه إلاّ عن غفلة أو تغاض(٧)

والبواقي من اللّيالي وإن خا

لفن شيئا فمشبهات المواضي(٦)

ناكرت لمتي وناكرت منها

سوء هذي الأبدال والأعواض

____________________

 - قولي من أبيات:

سبق احتراسي من أذاه بطيئه

حتى تجلّلني، فكيف عجوله!

وفي البيت لمحة بعيدة من بيت البحتري وليس بنظير له على التحقيق؛ ومعنى البيت الّذي يخصني أدخل في الصحة والتحقيق؛ لأنني خبرت بأن بطيء الشيب سبق وغلب احتراسي وحذري؛ فكيف عجوله! ومن سبقه البطيء كيف لا يسبقه السريع! والبحتري قال: إن البطيء كاد أن يسبق السريع؛ وهذا على ظاهره لا يصح؛ لأنه يجعل البطيء هو السريع؛ بل أسرع منه؛ لكن المعنى: أنه متداول متواتر فيكاد البطيء له يسبق السريع؛ وهذا في غاية الملاحة).

(١) ديوانه ١: ٢٩، ٣٠، والشهاب: ١٤.

(٢) حاشية الأصل: (في نسخة س:

قرأت في شعره على شيخي: إلى بنات الردى).

(٣) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (من صبب) أي حدور؛ وهو الموضع الّذي ينحدر فيه). وفي م: (ويروى: حطت عليه صروف الدهر من كثب).

(٤) ناض: خالع، ومليح: مشفق؛ يخاطب نفسه فيقول: ألا بس أنت برد الشباب أم خالعه؟.

(٥) في م: (لم يغن ذاك) وفي الديوان: (لم يعد).

(٦) مروّ: مفكر.

(٧) د؛ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (مشبهات)؛ وفي حاشية الأصل: (ويروى: شبيه بالمواضي وهو أحسن. قال س: فمشبهات، لا بأس به، والّذي حسن الفاء طول الكلام وإن الشرطية فيه).

٦٤٨

شعرات أقصّهنّ ويرجعـ

ـن رجوع السّهام في الأغراض(١)

وأبت تركى الغديّات والآ

صال حتّى خضبت بالمقراض(٢)

غير نفع إلاّ التّعلّل من شخـ

ص عدوّ لم يعده إبغاضي

ورواء المشيب كالبخص في عيـ

ني فقل فيه في العيون المراض(٣)

طبت نفسا عن الشّباب وما سوّ

د من صبغ برده الفضفاض

فهل الحادثات ياابن عويف

تاركاتي ولبس هذا البياض!

وقال أيضا:

تعيب الغانيات عليّ شيبي

ومن لي أن أمتّع بالمعيب!(٤)

ووجدي بالشّباب وإن تولّى

حميدا دون وجدي بالمشيب

وقال أيضا:

أرأيته من بعد جثل فاحم

جون المفارق بالنّهار خضيبا(٥)

فعجبت من حالين خالف فيهما

صرف الزّمان وما رأيت عجيبا

____________________

(١) حاشية الأصل: (من شأن الغرض أن تنزع السهام منه ثم تعود إليه في الحال).

(٢) قال المرتضى في الشهاب تعليقا على هذا البيت والّذي قبله: (قوله: خضبت بالمقراض في غاية الملاحة والرشاقة. ومعنى قوله: رجوع السهام في الأغراض أنه لا يملك ردا لطلوع الشيب في شعره ولا تلافيا لحلوله، فيجري في ذلك مجرى رجوع السهام إلى الغرض في أنه لا يملك مرسل السهم صده عنه ولا رده عن إصابته. ويمكن في ذلك وجه آخر؛ وإن كان الأول أشف؛ وهو أن يريد بالأغراض المقاتل والمواضع الشريفة من الأعضاء؛ فكأنه يشبه رجوع الشيب بعد قصه له وطلوعه في شدة إيلامه وإيجاعه بإصابة السهام للمقاتل والفرائص.

ويحتمل وجها آخر؛ وهو أن السهام تنزع من الأغراض، ثم ترجع بالرمي إليها أبدا، فأشبهت في ذلك الشيب في قصه ثم طلوعه ورجوعه إلى موضعه).

(٣) حاشية الأصل: الرؤاء يهمز ولا يهمز؛ فإذا لم يهمز كان من الري وإذا همز كان من الرؤية).

والبخص: لحم نانئ فوق العينين أو تحتهما كهيئة النفخة. وفي حاشية الأصل أيضا: (مثله لابن الرومي:

إذا شنئت عين الفتى عيب نفسه

فعين سواه بالشناءة أجدر

(٤) ديوانه: ٢: ٨٤.

(٥) ديوانه: ١: ٧٥. الجثل من الشعر: الكثير. والجون هنا: الأسود؛ وهو من الأضداد، يطلق على الأسود والأبيض. وفي حاشية الأصل: (جعل النهار خضابا لأنه شيء قد شاع وتمرن عليه).

٦٤٩

إنّ الزّمان إذا تتابع خطوه

سبق الطّلوب وأدرك المطلوبا

وقال أيضا:

رأت فلتات الشّيب فابتسمت لها

وقالت: نجوم لو طلعن بأسعد(١)

أعاتك ما كان الشّباب مقرّبي

إليك، فألحي الشّيب إذ كان مبعدي

وقال أيضا:

عنت كبدي قسوة منك ما إن

تزال تجدّد فيها ندوبا(٢)

وحمّلت عندك(٣) ذنب المشيـ

ب حتى كأني ابتدعت المشيبا

ومن يطّلع شرف الأربعين

يحيى من الشّيب شخصا(٤) غريبا

قال المرتضىرضي‌الله‌عنه : ولي في هذا المعنى:

قلن لما رأين وخطا من الشّيـ

ب برأسي أعيا على مجهودي

كسنا بارق تعرّض وهنا

في حواشي بعض اللّيالي السّود

أبياض مجدّد من سواد

كان قدما! لا مرحبا بالجديد

يالحاكنّ من رماكنّ بالحسـ

ن لتقهرننا بغير جنود

ليس بيضي مني فأجزى عليهـ

نّ صدودا أو ليس فيكنّ سودي

قلّ ما ضرّكنّ من شعرات

كنّ يوما على الوقار شهودي

وقال البحتري أيضا:

خلّياه وجدّة اللهو مادا

م رداء الشّباب غضّا جديدا

____________________

(١) الشهاب: ١٧.

(١) ديوانه ١: ١٨٢، الشهاب: ١٩.

(٢) ديوانه ١: ٥١، والشهاب: ١٨ عنت: قصدت والندوب: آثار الجراحات. وفي حاشية الأصل: (نسخة ج: ما تزال هو حسن؛ لتكون عروض البيت محذوفة؛ والقصيدة بأسرها محذوفة العروض إلا البيت المصرع في أولها؛ وإذا روعيت: (ما إن تزال) فالعروض سالمة، فعولن).

(٣) حاشية الأصل: (س: روي (حملت عبدك)؛ كأنه تصحيف، ولكنه حسن).

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (يروى: زورا).

٦٥٠

إنّ أيّامه من البيض بيض

ما رأين المفارق السّود سودا

وقال أيضا:

ترك السّواد للابسيه وبيّضا

ونضا من السّتين عنه ما نضا(١)

وشآه أغيد في تصرّف لحظه

مرض أعلّ به القلوب وأمرضا(٢)

وكأنّه وجد الصّبا وجديده

دينا دنا ميقاته أن يقتضى

أسيان أثرى من جوى وصبابة

وأساف من وصل الحسان وأنفضا(٣)

وقال أيضا:

هل أنت صارف شيبة إن غلّست

في الوقت أو عجلت عن الميعاد(٤)

جاءت مقدّمة أمام طوالع

هذي تراوحني وتلك تغادي

وأخو الغبينة تاجر في لمة

يشري جديد بياضها بسواد(٥)

لا تكذبنّ فما الصبا بمخلّف

لهوا ولا زمن الصّبا بمعاد

____________________

(١) ديوانه ٢: ٧٠، الشهاب: ١٩. وفي حاشية الأصل: (أي خلع إتيان الستين عليه المسرة والنشاط).

(٢) شآه: غلبه، وفي م: (سباه).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أسوان)، وهو الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه.

(٤) ديوانه ١: ١٤٤، الشهاب ٢٠ - ٢١.

(٥) قال المرتضى في الشهاب تعليقا على هذا البيت: ووجدت الآمدي قد نزل في معنى قوله:

* يشري جديد بياضها بسواد*

لأنه قال: معنى يشري يبيع؛ وأراد: أن الغبين من باع جديد بياضه بالسواد، وأراد بالسواد الخضاب؛ فكأنه ذم الخضاب. والأمر بخلاف ما ذكره، وما جرى للخضاب ذكر، ولاها هنا موضع للكناية عنه؛ ومعنى: (يشري) هاهنا يبتاع؛ لأن قولهم: شريت يستعمل في البائع والمبتاع جميعا؛ وهذا من الأضداد، نص أهل اللغة على هذا في كتبهم؛ فكأنه شهد بالغبن لمن يبتاع الشيب بالشباب ويتعوض عنه به؛ وإنما ذهب على الآمدي أن لفظة (يشري) تقع على الأمرين المضادين؛ فتمحل ذكر الخضاب الّذي لا معنى له هاهنا).

٦٥١

وأرى الشّباب على غضارة حسنه

وكماله عددا من الأعداد(١)

وقال أيضا:

أيعود الشّباب أم ما تولّى

منه في الدّهر دولة ما تعود(٢)

لا أرى العيش والمفارق بيض

أسوة العيش والمفارق سود

وأعدّ الشّقي جدّا ولو أء

على غنما حتى يقال سعيد

من عدته العيون وانصرفت عنـ

ـه التفاتا إلى سواه الخدود

وقال أيضا:

قدك مني فما جرى السّقم إلاّ

في ضلوع على جوى الحبّ تحنى(٣)

لو رأت حادث الخضاب لأنّت

وأرنّت من احمرار اليرنّا(٤)

كلف البيض بالمعمّر قدرا

حين يكلفن والمصغّر سنّا(٥)

يتشاغفن بالغرير المسمّى

من تصاب دون الجليل المكنّى(٦)

____________________

(١) قال المرتضى في الشهاب أيضا: (وقال الآمدي في قوله: عددا من الأعداد) أنه أراد:

عددا قليلا؛ وقد أصاب في ذلك؛ إلا أنه ما ذكر ساعده ووجهه؛ والعرب تقول في الشيء القليل إنه معدود؛ إذا أرادوا الإخبار عن قلته؛ قال الله تعالى:( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ) وقال جل اسمه في موضع آخر:( وَاذْكُرُوا الله فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ) وأظنهم ذهبوا في وصف القليل بأنه معدود من حيث كان العد والحصر لا يقع إلا على القليل والكثير؛ ولكثرته لا ينضبط ولا ينحصر).

(٢) ديوانه ١: ٢٠٨، الشهاب: ١٨؛ وبرده: جمع برد؛ وهو كساء مربع مخطط.

(٣) ديوانه ٢: ٢٩٠، الشهاب: ١٩.

(٤) اليرنا، بضم الياء وفتحها، مقصورة مشددة النون، واليرناء، بالضم والمد: الحناء؛ ويرنأ صبغ به، كحناء؛ وهو من غريب الأفعال.

(٥) في حاشية الأصل ف: الكلف: المحبة؛ وهذا كما قال أبو الشيص:

شيئان لا تصبو النساء إليهما

حلل المشيب وحلة الإنفاض

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الكبير).

٦٥٢

وقال أيضا:

أخي إنّ الصّبا استمرّ به

سير الليالي فأنهجت برده(١)

تصدّعني الحسان مبعدة

إذ أنا لا قربه ولا صدده

شيب على المفرقين بارضه

يكثرني أن أبينه هدده(٢)

تطلب مني الشّباب ظالمة

بعيد خمسين حين لا تجده

لا عجب إن مللت خلّتنا

فافتقد الوصل منك مفتقده

من يتطاول على مطاولة الـ

عيش تقعقع من ملّة عمده

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ورأيت الآمدي قد أخطأ في معنى البيت الأخير، لأنه قال: خ خ معنى (تقعقع من ملّة عمده) أي عظامه، يجيء لها صوت إذا قام وقعد من كبره وضعفه قال: خ خ وقوله: (من ملّة) أي من تملّى العيش؛ يريد طوله ودوامه؛ ومنه تملّيت حبيبك والأمر بخلاف ما توهمه، ومعنى (تقعقع من ملّة عمده) أنّ من تطاول عمره تعجّل ترحّله وانتقاله عن الدنيا؛ وكنى عن ذلك بتقعقع العمد؛ وهذا مثل معروف للعرب، يقولون: (من يتجمّع يتقعقع عمده)؛ يريدون أنّ التجمّع داعي التفرق؛ وأنّ الاجتماع يعقب ويورث ما يدعو إلى الانتقال الّذي يتقعقع معه العمد.

والآمدي على كثرة ما يدعيه من التنقيب والتنقير على علوم العرب إن كان لم يعرف هذا المثل ومعناه فهو طريف، وإن كان قد سمعه وجهل أنّ معنى بيت البحتري يطابقه فهو أطرف.

فأما قوله: (من ملّة) فإنما أراد به من ملل؛ وملّة (فعلة) من الملل، وكيف يكون

____________________

(١) ديوانه: ١: ١٤٥، الشهاب: ٢٠.

(٢) حاشية الأصل: (البارض: النبت أول ما يبدو من البهمى، وهو شوك. أبينه: أزيله. يكثرني: يغلبني بالكثرة).

٦٥٣

من تملّى العيش، ولم يسمع في تملّيت (ملّة)! وهذا خطأ على خطأ(١) .

وقال البحتري:

ما كان شوقي ببدع يوم ذاك ولا

دمعي بأوّل دمع في الهوى سفحا(٢)

ولمة كنت مشغوفا بجدّتها

فما عفا الشّيب لي عنها ولا صفحا

وقال أيضا:

وما أنس لا أنس عهد الشّباب

وعلوة إذ عيّرتني الكبر(٣)

كواكب شيب علقن الصّبا

فقلّلن من حسنه ما كثر

وإني وجدت ولا تكذبنّ

سواد الهوى في بياض الشّعر

ولا بدّ من ترك إحدى اثنتـ

ين إمّا الشّباب وإما العمر

قال الآمدي: خ خ وعليه في قوله:

ولا بدّ من ترك إحدى اثنتـ

ين إمّا الشّباب وإما العمر

معارضة، وهو أن يقال له: إنّ من مات شابا فقد فارق الشباب وفاته العمر أيضا، فهو تارك لهما معا، ومن شاب فارق الشباب، وهو مفارق للعمر لا محالة؛ فهو أيضا تارك لهما جميعا.

____________________

(١) وعاد المرتضى فبسط هذا النقد مرة ثانية في كتابه الشهاب فقال: خ خ وقد نبهنا في كتاب الغرر على هفوة الآمدي في قول البحتري: (تقعقع من ملّة عمده)؛ لأنه ظن أن معناه أن عظام الكبير المسن يجيء لها صوت إذا قام وقعد، وتسمع لها قعقعة؛ وما سمعنا بهذا الّذي ظنه في وصف ذوي الأسنان والكبر؛ والمعنى أظهر من أن يخفى على أحد؛ لأنه أراد: من عمر وأسن وطاول العيش تعجل رحيله وانتقاله عن الدنيا؛ وكنى عن ذلك بتقعقع العمد؛ لأن ذوي الأطناب والخيام إذا انتقلوا من محل إلى غيره وقوضوا عمد خيامهم، وسارت بها الإبل سمعت لها قعقعة، ومن أمثال العرب المعروفة: (من يتجمع يتقعقع عمده)، يريدون أن التجمع يعقب التفرق والرحيل الّذي تتقعقع معه العمد. ومعنى قوله: (من ملة) يريد من السأم والملال دون ما ظنه الآمدي من أنه تملى العيش.

(٢) ديوانه ١: ١١٤.

(٣) ديوانه ١: ٢١٩.

٦٥٤

خ خ وقوله: (إما وإمّا) لا نوجب إلا إحداهما قال: خ خ والعذر للبحتري أن يقال: إنّ من مات شابا فقد فارق الشباب وحده لأنّه لم يعمّر، فيكون مفارقا للعمر ألا ترى أنهم يقولون:

عمّر فلان إذا أسنّ، وفلان لم يعمّر إذا مات شابا، ومن شاب وعمّر ثم مات لم يكن مفارقا للشباب في حال موته؛ لأنه قد قطع أيام الشباب، وتقدمت مفارقته له، وإنما يكون في حال موته مفارقا للعمر وحده، فإلى هذا ذهب البحتري، وهو صحيح ولم يرد بالعمر المدّة القصيرة التي يعمّرها الإنسان، وإنما أراد بالعمر هاهنا الكبر، كما قال زهير:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمتته، ومن تخطئ يعمّر فيهرم(١)

قالرضي‌الله‌عنه : وما رأيت أشدّ تهافتا في الخطأ منه فيما يفسّره ويتكلم عليه من شعر هذين الرجلين! ومعنى البيت غير ما توهّمه؛ وهو أظهر من أن يخفى؛ حتى يحتاج فيه إلى هذا التّغلغل والتعسّف؛ وإنما أراد البحتري أن الإنسان بين حالين: إما أن يفارق الشباب بالشّيب، أو العمر بالموت؛ فمن مات شابا - وإن كان قد خرج من العمر، وخرج بخروجه عن سائر أحوال الحياة من شباب وشيب وغيرهما - فإنه لم يفارق الشباب وحده؛ وإنما فارق العمر الّذي فارق بمفارقته الشباب وغيره. وقسمة الرجل تناولت أحد الأمرين: إمّا مفارقة الشباب وحده بلا واسطة - ولن يكون ذلك إلاّ بالشّيب - أو مفارقة العمر بالموت. وتلخيص كلامه: أنه لا بدّ للحي من شيب أو موت، فكأن الشيب والموت متعاقبان؛ والبحتري إنما جعل قوله: (العمر) مقام الحياة والبقاء، وإنما قال: (العمر) لأجل القافية؛ مع أنه منبئ عن مراده؛ ولو أنّه قال: ولا بدّ من ترك الحياة أو ترك الشباب لقام مقام قوله: (العمر).

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني عليّ بن محمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد الله قال: من معاني ابن الرومي التي فتقها قوله يذمّ من جعل مصيبة غيره منسية له مصيبته، وعاب

____________________

(١) من المعلقة، ديوانه: ٢٩؛ خبط عشواء؛ أي تسير على غير قصد؛ يقال: عشا يعشو عشا إذا أصابه العشا؛ وهو السير على غير بصر.

٦٥٥

من تعلّل بالتأسّي بما نال غيره، وهو يرثي شبابه، وأحسن:

ياشبابي وأين منّي شبابي!

آذنتني أيّامه بانقضاب(١)

لهف نفسي على نعيمى ولهوي!

تحت أفنانه اللّدان الرّطاب

ومعزّ عن الشباب مؤسّ

بمشيب اللّدات والأصحاب

قلت لما انتحى يعدّ أساه(٢)

من مصاب شبابه كمصاب

ليس تأسو كلوم غيري كلومي

ما به ما به، وما بي ما بي

ولابن الرومي:

لهفي على الدّنيا وهل لهفة

تنصف منها إن تلهّفتها!(٣)

قبحا لها قبحا على أنها

أقبح شيء حين كشّفتها

وقد يعزّيني شباب مضى

ومدّة للعيش أسلفتها

فكّرت في خمسين عاما مضت

كانت أمامي ثم خلّفتها

أجهلتها إذ هي موفورة

ثم مضت عنّي فعرّفتها

ففرحة الموهوب أعدمتها

وترحة المسلوب ألحفتها

لو أنّ عمري مائة هدّني

تذكّري أنّي تنصّفتها

وله في هذا المعنى، وقد تقدمت هذه الأبيات في الأمالي السالفة، وقد أحسن في معناها كلّ الإحسان:

كفى بسراج الشّيب في الرأس هاديا

إلى من أضلّته المنايا لياليا(٤)

أمن بعد إبداء المشيب مقاتلي

لرامي المنايا تحسبيني ناجيا!

غدا الدّهر يرميني فتدنو سهامه

لشخصي أخلق أن يصبن سواديا

وكان كرامي اللّيل يرمي ولا يرى

فلمّا أضاء الشّيب شخصي رمانيا

____________________

(١) ديوانه، الورقة ٤٢

(٢) أساة: جمع أسوة؛ وهو القدوة

(٣) ديوانه، الورقة ٤٤

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لمن قد أضلته).

٦٥٦

[٤٨]

مجلس آخر [المجلس الثامن والأربعون:]

تأويل آية:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) ؛ [آل عمران: ١٢٨].

فقال: كيف جاءت أَوْ بعد ما لا يجوز أن يعطف عليه؟ وما الناصب لقوله تعالى:

( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) وليس في الكلام ما يقتضي نصبه؟

الجواب، قلنا: قد ذكر في ذلك وجوه:

أوّلها أن يكون قوله:( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) معطوفا على قوله:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً ) والمعنى أنه تعالى عجّل لكم هذا النصر، ومنحكم به ليقطع طرفا من الذين كفروا، أي قطعة منهم، وطائفة من جمعهم أو يكبتهم؛ أي يغلبهم ويهزمهم بكم فيخيّب سعيهم، ويكذّب فيكم ظنونهم، أو يعظهم ما يرون من تظاهر آيات الله تعالى، الموجبة لتصديق نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيتوبوا ويؤمنوا، فيقبل الله تعالى ذلك منهم، ويتوب عليهم، أو يكفروا بعد قيام الحجج، وتأكيد البينات والدلائل، فيموتوا أو يقتلوا كافرين؛ فيعذبهم الله باستحقاقهم في النار؛ ويكون على هذا الجواب قوله تعالى:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) معطوفا على قوله تعالى:( وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) ؛ أي ليس لك ولا لغيرك من هذا النصر شيء؛ وإنما هو من الله تعالى.

والجواب الثاني أن يكون أَوْ بمعنى (حتى)، أو (إلاّ أنّ)؛ والتقدير: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم؛ أو إلا أن يتوب عليهم، كما قال امرؤ القيس:

٦٥٧

بكى صاحبي لما رأى الدّرب دونه

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا(١)

فقلت له: لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا

أراد: إلاّ أن نموت

وهذا الجواب يضعّف من طريق المعنى؛ لأن لقائل أن يقول: إنّ أمر الخلق ليس إلى أحد سوى الله تعالى قبل توبة العباد وعقابهم بعد ذلك؛ فكيف يصحّ أن يقول: ليس لك من الأمر شيء إلاّ أن يتوب عليهم أو يعذبهم؛ حتى كأنه إذا كان أحد الأمرين كان إليه من الأمر شيء!

ويمكن أن ينصر ذلك بأن يقال: قد يصحّ الكلام إذا حمل على المعنى؛ وذلك أن قوله:

( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) معناه: ليس يقع ما تريده وتؤثره من إيمانهم وتوبتهم، أو ما تريده من استئصالهم وعذابهم، على اختلاف الرواية في معنى الآية وسبب نزولها؛ إلاّ بأن يلطف الله لهم في التوبة فيتوب عليهم أو يعذبهم؛ وتقدير الكلام: ليس ما تريده من توبتهم أو عذابهم بك، وإنما يكون ذلك بالله تعالى.

والجواب الثالث أن يكون المعنى: ليس لك من الأمر شيء أو من أن يتوب الله عليهم؛ فأضمر (من) اكتفاء بالأولى، وأضمر (أن) بعدها لدلالة الكلام عليها واقتضائه لها، وهي مع الفعل الّذي بعدها بمنزلة المصدر؛ وتقدير الكلام: ليس لك من الأمر شيء ومن توبتهم وعذابهم.

ووجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على هذا الجواب ويستبعده، قال: لأنّ الفعل لا يكون محمولا على إعراب الاسم الجامد، الّذي لا تصرّف له على إضمار (أن) مع الفعل لأنه ليس من كلام العرب: (عجبت من أخيك ويقوم)، على معنى: (عجبت من أخيك ومن

____________________

(١) ديوانه: ١٠٠. الدرب: باب السّكّة الواسع؛ وهو هنا كل مدخل إلى الروم فهو درب؛ وصاحبه عمرو بن قميئة الشاعر؛ وكان رفيق امرئ القيس في رحلته.

٦٥٨

أن يقوم)، لأن أخاك اسم جامد محض، لا يعطف عليه إلاّ ما شاكله. وقال: وهذا إذا يستقيم ويصلح في ردّ الفعل على المصدر، كقولهم: (كرهت غضبك وأن يغضب أبوك)؛ على معنى: (كرهت غضبك وأن يغضب أبوك)، فيطرد هذا في المصادر، لأنها تتأوّل ب (أن) فيقول النحويون: (يعجبني قيامك)، وتأويله: (يعجبني أن تقوم)، قال: والاسم الجامد لا يمكن مثل هذا فيه.

وليس الّذي ذكره ابن الأنباري مستبعدا، وإن لم يضعف هذا الجواب إلاّ من حيث ذكر فليس بضعيف؛ وذلك أن فيما امتنع منه مثل الّذي أجازه؛ لأنه قد أجاز ذلك في المصادر، وإن لم يجزه في غيرها.

وقوله تعالى:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ) فيه دلالة الفعل، لأنّ (الأمر) مصدر أمرت أمرا؛ فكأنه تعالى قال: ليس لك من أن آمرهم أو تأمرهم شيء، ولا من أن يتوبوا، وجرى ذلك مجرى قولهم: (كرهت غضبك ويغضب أبوك)، في رد الفعل على المصدر؛ والوجه الأول أقوى الوجوه؛ والله أعلم بمراده.

تأويل خبر [ (لا تناجشوا ولا تدابروا ...:]

إن سأل سائل عن الخبر الّذي يرويه أبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا تناجشوا ولا تدابروا، كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه).

الجواب، قيل له: أما النّجش فهو المدح والإطراء، قال نابغة بني شيبيان يذكر الخمر:

وترخّي بال من يشربها

ويفدّى كرمها عند النّجش(١)

أي عند مدحها، ومنه النّجش في البيع؛ وهو مدح السلعة والزيادة في ثمنها من غير إرادة لشرائها؛ بل ليقتدي بالزائد في زيادته غيره؛ وأصل النجش استخراج الشيء والتنقير عنه، قال بعض الفقعسيين:

____________________

(١) ديوانه: ٨٦.

٦٥٩

أجرس لها ياابن أبي كباش(١)

فما لها الليلة من إنفاش(٢)

غير السّرى وسائق نجّاش

أسمر مثل الحيّة الخشخاش

والنّجاش: هو المستثير لسيرها، والمستخرج لما عندها منه، ومعنى: أجرس لها، أي أحد لها لتسمع الحداء فتسير، وهو مأخوذ من الجرس وهو الصوت؛ ومعنى:

الإنفاش، أراد أنها لا تترك ترعى ليلا، والنفش أن ترعى الإبل ليلا، وقد أنفشتها إذا أرسلتها بالليل ترعى.

والخشخاش: الخفيف الحركة السريع التقلّب.

والنجش في البيوع يرجع معناه إلى هذا أيضا؛ لأن الناجش يستثير بزيادته في الثمن، ومدحه السلعة الزيادة في ثمنها؛ فيكون معنى الخبر على هذا: لا تناجشوا، أي لا يمدح أحدكم السلعة فيزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها ليسمعه غيره فيزيده.

وقد يجوز أيضا أن يريد بذلك: لا يمدح أحدكم صاحبه من غير استحقاق ليستدعي منفعته، ويستثير فائدته؛ وهذا المعنى أشبه بأن يكون مرادهعليه‌السلام ، لأن قوله: (ولا تدابروا) أشدّ مطابقة له.

ومعنى: (لا تدابروا) أي لا تهاجروا ويولّي كلّ واحد صاحبه دبر وجهه، قال الشاعر:

وأوصى أبو قيس بأن تتواصلوا

وأوصى أبوكم، ويحكم! أن تدابروا(٣)

فكأنه قالعليه‌السلام : لا تتمادحوا وتتواصلوا بالمدح الّذي ليس بمستحق، ولا تهاجروا وتتقاطعوا.

____________________

(١) اللسان (جرس)؛ وفي حاشية الأصل: (صوت الجرس؛ وروى ابن السكيت: (أجرش)، وأنكروا عليه: أجرشت الشيء إذا لم تنعم دقه).

(٢) حاشية الأصل: (نفشت الإبل: تفرقت في المرعى، وأنفشتها أنا، أي ليس لها الليلة استراحة).

(٣) اللسان (دبر)، من غير نسبة.

٦٦٠