موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 33316
تحميل: 5993


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33316 / تحميل: 5993
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (1) ، وقال عز وجل: ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (2) .

فليس هذا الكفر والانحراف قدراً اضطرارياً أو وضعاً جبرياً، يجب الاعتراف به والخضوع لتيّاره، بل هو مهلةٌ لهم وفسحةٌ في حياة حضارتهم، حتى يستكملوا انحرافهم ويتمرّسوا في ظلمهم وتتمّ الحجّة الدامغة عليهم.. فإذا أراد الله تعالى تنفيذ وعده العظيم، أخذهم بذنوبهم وألبَسَهم نفس اللباس الذي كانوا يضطهدون به المؤمنين: لباس الجوع والخوف، وأورَث الأرض لعباده الصالحين يتبوّأون فيها حيث يشاؤون، تحت راية المهدي (عليه السلام)، ولنعم عقبى المتّقين.

أقول: ومثل هذا الشكل من البيان بجميع مفاهيمه، ممّا يختصُّ به الإمام العسكري (عليه السلام)، ولم يكن ليصدر عن أحد من آبائه (عليهم السلام) لمدى البُعد الزمَني بين عصورهم وعصر الغيبة، وإنّما يصدره الإمام العسكري بصفته الإمام الأخير، فيما قبل عصر الغيبة، والمخطّط المباشر لها والمسؤول الأكبر عن تطبيق مستلزماتها، ممّا يستدعي التفصيل والتأكيد أكثر من ذي قبل بطبيعة الحال.

النقطة الثانية: من موقفه (عليه السلام) تجاه الغيبة:

احتجابه عن الناس، إلاّ عن خاصّة أصحابه، وإيكال تبليغ الأحكام والتعليمات إلى أُسلوب المكاتبات والتوقيعات بينه وبين أصحابه، وإزجاء حاجاتهم بواسطة عدد من خاصّته.

____________________

(1) السورة 16 – 112.

(2) السورة 2 – 178.

٢٢١

لأنّه (عليه السلام) كان يعلم أنّ المنهج العام لابنه المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى سيسير على هذا النسَق، وهو احتجاب شخص الإمام مع إيصال التعليمات بواسطة الخاصّة، وهو أمر – كما قلنا – قد يبدو غريباً على الأذهان إذا بدأه المهدي (عليه السلام) بدون سابقة، ولعلّ مضاعفات غير محمودة تنتج من استغراب الناس من ذلك. إذن فلابدّ من اتخاذ منهجٍ خاص لتهيئة الذهنية العامّة لاستساغة هذا الأُسلوب وحسن تقبّله.

أمّا جعل الوكلاء وإيصاء الناس بالرجوع إليهم في مسائلهم ومشاكلهم، فهو ممّا اعتاد عليه الناس ردحاً من الزمن، تحت ظلّ آبائه (عليهم السلام)، فإنّه لم يكن يمكن الارتباط بالبلاد البعيدة ذات القواعد الشعبية المُوالية، إلاّ عن هذا الطريق، وانّما تنحصر المشكلة في الاحتجاب ومخاطبة الناس - على طول الخط – عن طريق المكتبات وقبض الأَموال – على الدوام – عن طريق الوكلاء وهو الأمر الذي ينبغي تهيئة الذهنيّة العامّة له وزرعه في المجتمع من جديد.

وكان قد بدأ بالتخطيط لذلك - بعض الشيء - الإمام الهادي (عليه السلام)، ليكون تعوّدهم على هذا المسلك تدريجيّاً بطيئاً موافقاً للفهم العام لدى الناس، روى المسعودي (1) أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) كان يحتجب عن كثير من مواليه إلاّ عن عدد قليل من خواصه، وحين أفضى الأمر إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، كان يتكلّم مِن

____________________

(1) إثبات الوصية ص 262 وانظر منتهى الآمال ج 3 ص 565.

٢٢٢

وراء الستار مع الخواص وغيرهم، إلاّ في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان.

ونحن في حدود التاريخ الذي استعرضناه، قد نجد في عبارة المسعودي شيئاً من المبالغة، بعد أنْ وجدنا الإمام العسكري، يذهب إلى دار السلطان (البلاط) كل اثنين وخميس ويزور الوزير عُبيد الله بن خاقان ويزور أصحابه في السجن.. ونحو ذلك، إلاّ أنّنا إلى جانب ذلك، حملنا من تاريخه (عليه السلام) فكرةً واضحة، عن سيره على هذا المخطّط واتّصاله بأصحابه عن طريق الكتب والمراسلات، حتى اعتاد أصحابه على ذلك وأصبح المفروض عند مواليه، أنّ الاتصال به والسؤال منه لا يكون إلاّ عن طريق المراسلة، وقد مرّت بنا كثير من الشواهد على ذلك.

فهذا تختلج في صدره مسألتان يريد الكتاب – الكتابة – بهما إليه (عليه السلام) (1) وأبو هاشم الجعفري يكتب إليه شاكياً ضيّق الحبس وكِلَب الحديد (2) ، والإمام يكتب إلى أصحابه مبشّراً لهم ومحذّراً بموت المعتز (3) أكثر مِن مرّة، وبموت المهتدي (4) أيضاً ومُخبراً لهم عن موت الزبيري (5) ، ويكتب لهم عن رأيه في صاحب الزنج وعن وصفه لقضاء المهدي القائم في دولته، ويعطي لمحمّد بن إبراهيم خمسمِئة درهم ولأبيه

____________________

(1) الإرشاد ص 323.

(2) المصدر ص 322.

(3) انظر مثلا – كشف الغمّة ج 3 ص 207.

(4) المصدر ج 3 ص 204.

(5) كشف الغمّة ج 3 ص 207.

٢٢٣

ثلاثمئة من وراء الباب بواسطة غلامه (6) ، وقد سبَق أنْ سمعنا كلّ ذلك وشواهده أكثر من أنْ تُحصى.

ولأجل ذلك يدخل عليه أحمد بن إسحاق، وهو من خاصّته، فيطلب إليه أنْ يكتب لينظر إلى خطّه فيعرفة عند وروده ليكون آمناً من التدنيس والتزوير، فيكتب له الإمام (عليه السلام) في ورقة، ثمّ يلفت نظره إلى احتمال تغير القلَم في كتاباته (عليه السلام)، قائلاً: (يا أحمد، إنّ الخطّ سيختلف عليك ما بين القلَم الغليظ والقلم الدقيق، فلا تشكن) (2) .

وكان غاية أمَل جمهور مواليه في رؤيته (عليه السلام).. هو الجلوس في الطريق، في وقت مروره ذاهباً إلى البلاط وراجعاً منه، فمِن ذلك ممّا سمِعناه مِن مجيء الوفد من الأهواز ومقابلته في الطريق حين رجوع موكب المعتمد من توديع الموفّق حين خروجه لحرب الزنج.

وسمِعنا عن ذلك الشخص الذي أثّرت فيه شبهة الثنوية، فلقيه الإمام في طريق رجوعه من زيارة البلاط وأشار إليه بسبابته: أحد أحد.

ويجلس شخص من الموالين للإمام (عليه السلام)، في أحد الشوارع فيرى الإمام مارّاً حين خروجه من منزله قاصداً مجلس الخليفة، فيفكر في نفسه أنّه لو صاح الآن بأعلى صوته مُعلناً بالحق الذي يعتقدة مصرّحاً بإمامة هذا الإمام على البشر أجمعين، فماذا سوف يحدث؟!

____________________

(1) المناقب ج 3 ص 537.

(2) المناقب ج 3 ص 533.

٢٢٤

قال الراوي: فقلت في نفسي: ترى إنْ صحْتُ: أيّها الناس، هذا حجّةٌ الله عليكم، فاعرفوه، يقتلوني؟.. فلمّا دنا منّي أومأ بإصبعه السبابة على فيه أنْ اسكت، ثمّ يراه هذا الرجل فيما يرى النائم محذّراً له من القتل وموجباً عليه الكتمان قائلاً: (إنّما هو الكتمان أو القتل، فاتقِ الله على نفسك) (1) .

وممّا يندرج في هذا الصدد إفهامه (عليه السلام) لأحدٍ أصحابه وهو راكبٌ في الطريق.. بالإشارة أنّه يُرزق ولداً ولكنّه ليس بذكَر.. فولَدت زوجته ابنة ً(2) ، وذلك العبّاسي الذي يجلس للإمام على قارعة الطريق ويشكو له الحاجة ويحلف له: أنّه ليس عنده درهم فما فوقه ولا غطاء ولا عشاء، قال: فقال: (تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مِئتيّ دينار، وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، يا غلام، أعطه ما معك) ، فأعطاني مئةَ دينار (3) .

إذَن فالإمام (عليه السلام) كان سائراً على طبقَ مخطّط الاحتجاب، تعويداً لأصحابه وقواعده الشعبية على فكرة الغيبة وأُسلوبها، ورفعاً لاستغرابهم الذي كان سيحدث لو لم يكن هذا المخطّط.

ولعلّنا نستطيع – بهذا الصدد – أنْ نحمل فكرةً واضحةً من أنّ فكرة غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هي بذاتها بكرة احتجاب أبيه، وأنّ أُسلوبهما في قيادتهما واحد من الناحية الكيفيّة لا يختلف.

____________________

(1) انظر الخرايج والجرايح ص 59.

(2) انظر كشف الغمّة ج 3 ص 216.

(3) الإرشاد ص 323 والإعلام ص 352 وكشف الغمّة ج 3 ص 203.

٢٢٥

نعم، غيبة المهدي، من الناحية الكمّية أشدّ من احتجاب أبيه وأكثر حذَراً وأبعد عن الناس، فالإمام العسكري (عليه السلام) كان يراه جملةٌ من الناس من أصحابه وغيرهم عند زيارته للبلاط، على حين أنّ المهدي (عليه السلام) لا يراه إلاّ أقل القليل على طول التاريخ، كما أنّ الإمام العسكري توفّيَ ودفِن بمشهد ومرأى من الجميع، على حينِ ضمن المخطّط الإلهي طول العمر لابنه المهدي (عليه السلام)، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) معروف الشكل والهيئة لدى الناس، وأمّا الحجّة في غيبته الكبرى، من دون أنْ تحمل إيّ فكرةٍ عن شكل المهدي وسحنته وهيئته وجسمه.. إلى غير ذلك من الفروق.

النقطة الثالثة: اتخاذه نظام الوكلاء:

ليس الإمام العسكري (عليه السلام) أوّل مَن سنّ هذا النظام وإنّما كان موجوداً في زمان أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) وما قبله، وكان ذلك أحدَ الطرق الرئيسيّة لاتصالهم (عليهم السلام) بقواعدهم الشعبية وقضائهم لحوائجهم، واتصال القواعد الشعبية بهم، وإرسال الأموال والحقوق الإسلامية إليهم.

وحيثُ اتخذ الإمام العسكري (عليه السلام) مسلَك الاحتجاب الذي عرفناه كان إلى نظام الوكالة أقرَب وله ألزم، واتخذه بشكلٍ يشمل أكثر الأُمور أو جميعها، ممّا يتّصل بأُمور المجتمع حتى في داخل المدينة التي يسكنها الإمام (عليه السلام) نفسها، فكانت عامّة اتصالاته وتوقيعاته والأموال التي تصل إليه، ما عدا القليل.. يتمّ عن طريق الوكلاء.

٢٢٦

وأعلى وأهمّ مَن يندرج في هذه القائمة لمدى وثاقته وعِظَم شأنه: عثمان ين سعيد العمري الزيّات أو السمّان، الذي سيصبح الوكيل الأوّل لولده المهدي (عليه السلام)، وإنّما يقال له السمّان؛ لأنّه كان يتّجر السمن تغطيةً على هذا الأمر، يعني على نشاطه في مصلحة الإمام (عليه السلام)، وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد (عليه السلام) ما يجب عليهم في الإسلام مِن الأموال، نفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه، ويحمله إلى أبي محمّد (عليه السلام) تقيّةً وخوفاً، وحمايةً للمال عن أنظار الحاكمين؛ لأنّهم إذا عرفوه صادروه، كما سمِعنا ما فعله المتوكّل في الأموال التي علِم وصولها إلى الإمام الهادي (عليه السلام).

وقد أثنى الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام) على السمّان ثناءً عاطراً، كقول الإمام الهادي فيه: (هذا أبو عمر والثقةُ الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاهُ فعنّي يؤدّيه) (1) وقوله: (العمري ثقتي، فما أدّى فعنّي يؤدّي، وما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقةُ المأمون) (2) .

وقول الإمام العسكري (عليه السلام) فيه: (هذا أبو عمر والثقةُ الأمين، ثقة الماضي، وثقتي في المحيى والممات، فما قاله فعنّي يقوله وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه) (3) .

وقوله في العمري وابنه محمّد بن عثمان: (العمري

____________________

(1) غيبة الشيخ الطوسي 215.

(2) المصدر ص 219.

(3) المصدر ص 215.

٢٢٧

وابنه ثقتان، فما أدّيا فعنّي يؤدّيان، وما قالا فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما؛ فإنّهما الثقتان المأمونان) ، قال أبو العبّاس الحميري: فكنّا كثيراً ما نتذاكر هذا القول، ونتواصف جلالة محلِّ أبي عمرو (1) .

وهذا الرجل الجليل وابنه، سوف يكونان وكيلين عن الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الصغرى، ولنْ يكون ذلك نشازاً على الأذهان، بعد أنْ كانا بهذه المنزلة والرفعة عند أبيه وجده (عليهما السلام) وعند الجماهير الموالية لهما.

وقد عرفنا ما لأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري وأحمد بن إسحاق الأشعري، مِن عِظَم قدرهم لدى الإمام العسكري (عليه السلام) ووثاقتهم عنده، وكانا يمارسان أعمال الوكالة عنده أيضاً كما تدلّ عليه بعض الروايات، ومن وكلائه أيضاً محمّد بن أحمد بن جعفر، وجعفر بن سهيل الصيقل (2) .

وسنجد أنّ نظام الاحتجاب والوكلاء هو الذي سيكون ساري المفعول في الغيبة الصغرى، بعد أنْ اعتاد الناس عليه، في مسلك الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، وخاصّةً الحسن الأخير (عليه السلام).

____________________

(1) المصدر ص 215 و 219.

(2) مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 525.

٢٢٨

هل مات الإمام مقتولاً؟

لم يبقَ لدينا الآن ممّا يدخل ضِمن غرضنا من تاريخ الإمام الحسن العسكري، إلاّ التعرّض لوفاته، وهذا ما نُرجئه إلى الفصل القادم فإنّه ألصَق به كما سيأتي.

وإنّما الذي نودّ الإشارة إليه، هو أنّه هل من المستطاع القول أنّ الأئمّة (عيهم السلام) جميعاً ماتوا مستشهدين على أيدي خُلفاء زمانهم، وبتسبيبٍ من قِبلهم.. بحيث إنّ الإمام الهادي (عليه السلام) قتله المعتز والإمام العسكري (عليه السلام) قتله المعتمد... أو لا يمكن ذلك، وقد يمكن القول – لو أنكرناه –: إنّ الإمام مات حتفَ أنفه.

وما يمكن به إثبات استشهاد الإمام أحد وجوه ثلاثة محتملة:

الوجه الأوّل: الاستناد إلى ما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد) (1) ، فجميع الأئمّة (عليهم السلام) إنّما يخرجون مِن الدنيا بالقتل أو الشهادة، وليس فيهم من يموت حتف أنفه.

والقاتل لهم على طول الخط.. هو الحكّام الذين كانوا دائماً على حذَر من الأئمّة (عليهم السلام)، ومن نشاطهم الإسلامي؛ لأنّهم (عليهم السلام) كانوا يمثّلون دائماً جبهةَ المعارضة الصامدة ضدّ الانحراف الأساسي عن تعاليم الإسلام، الذي تمثّله الخلافة الأموية والعبّاسية، ومِن ثمّ تُنسب وفاة كلّ إمام – مع عدَم وجودِ إثباتٍ تاريخي آخر – إلى الخليفة الذي توفّي في

____________________

(1) إعلام الورى ص 349.

٢٢٩

عصره، فالامام الهادي (عليه السلام) توفّي في عصر المعتز، قد قتله المعتز أو تسبّب إلى موته بالسمّ بشكلٍ من الأشكال، والإمام العسكري الذي توفّي في عصر المعتمد، قد قتله المعتمد وتسبّب إلى ذلك بالسمّ من طرفٍ خفيّ.

وعلى هذا الوجه اعتمد جملةٌ من علمائنا قدّس الله أرواحهم، قال الطبرسي (1) : وذهب كثيراً من أصحابنا إلى أنّه – يعني الإمام العسكري (عليه السلام) – مضى مسموماً، وكذلك أبوه وجدَه وجميع الأئمّة (عليهم السلام)، خرجوا من الدنيا بالشهادة، ثم ذكر الطبرسي استشهادهم بالحديث المنقول عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ثمّ قال: والله أعلم بحقيقة ذلك.

أقول : وهذا يتوقّف على صحّة هذا الحديث وثبوته، ولعلّ في اعتماد علمائنا عليه ما يرجّح ثبوته.. والله العلم.

الوجه الثاني: الانطلاق من الفكرة القائلة: بأنّ الإمام المعصوم (عليه السلام)، خلقه الله تعالى، كاملاً في بنيته الجسميّة وتركيبه البدني، معتدلاً من جميع الجهات، ولا يُمكن أنْ يصيبه الموت أو التلَف إلاّ بعارضٍ خارجي، من قتلٍ ونحوه، وأمّا لو لَم يحدث عليه حادث فإنّه قابل للبقاء أبد الدهر دون هرَمٍ ولا موت.

واستنتجوا من هذه الفكرة ثلاث نتائج:

النتيجة الأُولى: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لابدّ وأنْ

____________________

(1) إعلام الورى ص 349.

٢٣٠

تكون وفاته مسبّبة عن القتل؛ فإنّه لم يكن قابلاً للموت التلقائي، وخاصّةً في مثل العمر الذي مات فيه، واختلفوا في سبب قتله، فقال جمهور إخواننا أهل السنّة: إنّ السمّ الذي أكله في الذراع الذي قدّمته له اليهودية، أثّر فيه بعد عدّة سنوات، وقال بعضُ الخاصّة: إنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مات نتيجةً لعملٍ تخريبيٍّ مباشر، من قِبل بعض المنافقين.

النتيجة الثانية: إنّ الأئمّة (عليهم السلام) جميعاً، ماتوا بسببِ القتل، ضرباً بالسيف أو تناولاً للسم، فما كان من تلك الأسباب معروفاً وثابتاً تاريخياً، كان مؤيّداً لهذه الفكرة التي انطلقنا منها، وما لَم يكن له إثباتٌ تاريخي، صارت هذه الفكرة إثباتاً له.

النتيجة الثالثة: إنّ الحجّة المهدي المنتظر (عليه السلام)، حيث إنّه لم يُصَب بحادثٍ تخريبيٍّ يودي بحياته، فهو باقٍ في الحياة، وسوف تستمرّ حياته ما دام لم يُصَب بسوء، وأمّا موته بعد ظهوره وقيامه بدولة الحق، فيكون بالقتل أيضاً، على ما ورَد في رواياتنا، على ما سنذكره في محلّه من بحوثنا الآتية (1) .

بل إنّ بقاء الحجّة المهدي، طوال هذه المئات من السنين، يكفي إثباتاً لهذه الفكرة، عند مَن يريد أنْ يأخذ بمدلولها؛ فإنّه (عليه السلام) إمامٌ معصوم، وكلّ إمام معصوم غير قابل للموت والفناء إلاّ بعارضٍ خارجيٍّ كالقتل، ومن هنا لا يكون (عليه السلام) قابلاً للموت مهما طال الزمن، بعد إحراز عدم طروِّ شيءٍ من الحوادث عليه.

____________________

(1) في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة.

٢٣١

والذي أودّ أنْ أُشير إليه: إنّ هذه الفكرة، لا تنافي قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، ولا تكون هذه الآية دليلاً على بطلانها؛ لأنّ الآية تُعرِب عن موتِ كلِّ حيّ، وهو ما يتحقّق في الخارج حتى للمعصومين (عليهم السلام) قبل يوم القيامة على أيّ حال، وليس المدّعى فيهم الخلود أو ضرورة الحياة، وإنما المدعى هو وجود قابليّة الحياة لدى المعصوم ما لم يحدِث حادث يوجب الموت، ومعه يكون تطبيق هذه الآية بالنسبة إلى المعصومين هو طرو الحوادث الني توجب الوفاة.

وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الفكرة تحتاج إلى إثبات، ولم أجِد في حدود تتبّعي، نصّاً في الكتاب أو السنّة يدلّ عليها، لكن قد يُستدلّ لها بالرواية التي ذكرناها في الوجه الأوّل: (ما منّا إلاّ مقتول أو شهيد )، إذا كان المستفاد منها عدم إمكان موتهم إلاّ بطريق الشهادة والقتل.

كما قد يُستشهد لهذه الفكرة بما رُوي عن الإمام العسكري (عليه السلام) مِن قوله: (ولسنا كالناس فنتعَب كما يتعبون) (1) ، باعتبار أنّ ذلك إنّما هو لأجل توفّر القوّة البدنية بشكلٍ غير متوفّر في سائر الناس، ولازمُ ذلك أنّ الناس بقواهم العاديّة يكونون قابلين للموت، وأمّا إذا كانت هذه القوّه العُليا موجودة فيكون فيها مقتضى الحياة، ولا تكون قابلةً للموت إلاّ بمؤثّرٍ خارجي وحادثٍ طارئ.

الوجه الثالث: لاستشهاد الأئمّة (عليهم السلام)، وهو وجهٌ خاص بالمتأخّرين منهم (عليه السلام).

____________________

(1) المناقب ج 2 ص 534 ورجال الكشّي ص 481.

٢٣٢

وذلك: نظراً إلى أنّ الإمام الجواد والإمام الهادي والإمام العسكري (عليهم السلام)، لم يُكتَب لهم أنّ يُعمّروا، بل وافتهم المنيّةُ وهم في إبّان شبابهم على اختلاف أعمارهم، فالإمام الجواد كان له يومَ قُبِض خمسٌ وعشرون سنة وأشهِر (1) ، والإمام الهادي له إحدى وأربعون سنة (2) ، والإمام العسكري له ثمانٌ وعشرون سنة (3) على ما عرفنا من تاريخ ولادته ووفاته.

والغالب حتى في الفرد العادي، هو أنْ يُعمّر أكثر من ذلك، خاصّةً في الإمامين: الجواد والعسكري (عليهما السلام)، بل إنّ في عصرنا الحاضر من الشباب في هذا العمر مَن يعتبر نفسه غير خارجٍ من دور الطفولة بعد!! ولو سألته عمّا بقيَ لديه من العمر لم يُشكُّ في كونه خمسون أو ستّون سنة على أقلِّ تقدير.

إذن، فلماذا توفّي هؤلاء الأئمّة بهذا العمر القصير؟ ليس لذلك إلاّ أحد سببين:

أحدهما: المرَض.

والآخر: القتل من قِبل السلطات.

أمّا المرَض، فهو غيرُ محتمَل لأحدِ أُمورٍ ثلاثة:

الأمر الأوّل: إنّه غيرُ منقول عن الإمام الجواد والإمام الهادي (عليهما السلام)، وإنّما نُقِل قي الإمام العسكري (عليه السلام) أنّه كان معتلاًّ قبل وفاته، على ما سوف نقول في حينه، ولكنّنا لم نُحرِز أنّ هذه العلّة مستقلّة عن الفعل التخريبي من قِبل السلطات، إذ لعلّها ناشئة من السمّ المدفوع إليه، وهذا الاحتمال لا دافعَ له، وهو المقصود.

____________________

(1) الإرشاد ص 307.

(2) المصدر ص 314.

(3) المصدر ص 325.

٢٣٣

الأمر الثاني: إنّه إذا كان المرَض القتل في إبّان الشباب محتملاً في واحدٍ بعينه، فهو غير محتمل في ثلاثة، كلّهم يموتون صدفةً بسببِ مرضٍ يُصيبهم في زهرة العمر، من دون سببٍ مشترك أو علّةٍ وراثيّةٍ ونحو ذلك.

الأمر الثالث: القاعدة التي أُعطيت في الوجه الثاني: القائلة بأنّ جسم الإمام غير قابل للتلَف إلاّ بعارضٍ خارجي، ولا أقلّ من احتمالهما، فإذا بطل احتمال المرض، غير المستند إلى التخريب، بأحَد هذه الوجوه أو جميعها، تعيّن السبب الآخر للموت وهو وفاته شهيداً بيَد السلطات الحاكمة يومئذٍ، إذ ليس هناك سببٌ آخر محتمل، كسقوط شيءٍ عليه أو وقوعه من شاهق أو قتله بيدِ لصٍّ مثلاً، فإنّ كلّ ذلك ممّا لم يقل به أحد.

وكلّنا يعرف شأن السلطات الحاكمة يومئذٍ، فإنّنا بعد أنْ نحمل فكرةً مفصّلةً عن ذلك، مِن وقوف الأئمّة (عليهم السلام) موقف المعارضة ضدّ انحرافات الحكّام، ومن الحقد الوراثي عند الحكّام ضدّ الخطِّ الذي يُمثّله الأئمّة (عليهم السلام)، وكانت كلُّ مصادر القوّة والسلاح ونفوذُ الحكم بيد الخُلفاء، ولم يكن بيَد الأئمّة ولا أصحابهم شيء، وإنّما كانوا يمثّلون دور المعارضة بشكلٍ أعزَل لا يُراد به إلاّ العدل الإسلامي ورضاء الله عزّ وجل.

أقول : ولعلّ هذا الوجه الثالث على استشهاد الأئمّة هو أقرَب هذه الوجوه إلى الوجدان؛ فإنّه يورِث القطع بنتيجته، وهي استشهاد الأئمّة

٢٣٤

(عليهم السلام) بيد السلطات الحاكمة، سَواء كان السبب المباشر لذلك هو الخليفة نفسه، باعتبار كونه المسؤول الرئيسي في المحافظة على كيان الخلافة العبّاسية، أم غيره من صنائعه أو المسيطرين عليه، كبعض المَوالي والأتراك، أو القوّاد أو القضاة.

* * *

وأمّا إذا لم تتم عند أحد هذه الوجوه، وتوخّينا الإثبات الخاص على كلّ إمامٍ بمفرده أنّه مقتولٌ أو شهيد ، فسوف لنْ يسعفنا التاريخ بطائل، حتى إنّ الشيخ المفيد في الإرشاد يقول عن الإمام الجواد (عليه السلام): وقيل أنّه مضى مسموماً، ولم يثبت بذلك عندي خبَر (1) .

وأمّا الإمام الهادي (عليه السلام) فنجد بعض مَن تعرّض لوفاته يذكر أنّه: قيل أنّه مات مسموماً، كابن الجوزي في تذكرته (2) ، والمسعودي في المروج (3) ، وقال عنه الطبرسي: إنّه استشهد (4) ، وقال ابن شهر آشوب: إنّه استشهد مسموماً، وأضاف وقال ابن بابويه: وسمّه المعتمد (5) ، أقول: وهذا غيرُ محتمل لما عرفنا من أنّ الإمام الهادي (عليه السلام) توفّيَ في أيّام المعتز قبل خلافة المعتمد بسنتين، وذلك في عام 254هـ واستخلف المعتمد عام 256 هـ.

وعرفنا أنّ الإمام الذي توفّيَ في

____________________

(1) انظر ص 307.

(2) ص 375.

(3) ص 86 ج 5.

(4) إعلام الورى ص 339.

(5) المناقب ص 506 ج 3.

٢٣٥

أيّام خلافة المعتمد هو الإمام العسكري (عليه السلام)، إذن فهذا النقل سهو، أمّا مِن ابن بابويه أو من ابن شهر آشوب رضي الله تعالى عنهما.

وأمّا المفيد في الإرشاد والأربلي في كشف الغمّة وابن خلكان في تاريخه، وسائر مؤلّفي التاريخ العام ممّن تعرّض لوفاة الإمام الهادي، كابن الأثير، وأبي الفداء، وابن الوردي وابن العماد، فلَم يذكروا لوفاته سبباً.

ونفس هذا الموقف يقفه هؤلاء جميعاً بالنسبة إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، يُضاف إليهم ابن الجوزي فإنّه أيضاً لم يُصرّح هنا بشيء، وقال ابن شهر آشوب: ويقال إنّه استشهد (1) ، وأمّا الطبرسي فقد عرفنا موقفه من ذهاب كثير من الأصحاب إلى أنّه (عليه السلام) ذهب مسموماً للحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان تعليق الطبرسي على ذلك قوله: والله أعلم بحقيقة الحال. ممّا يدلّ على عدَم تأكّده منه، على أقلِّ تقدير، وعلى أيّ حال فإنّه إنْ أعوَزَنا التاريخ، كفانا ما أثبتناه من القرائن العامّة على ذلك، والله من وراء القصد.

____________________

(1) المناقب ج 3 ص 536.

٢٣٦

الفصل الرابع :

في تَاريخ الإمَام المهْدي (عليه السلام)

خِلالْ حـَيَاة أبيَه

وهذا الفصل في حقيقته مكمّلٌ للقسم الأوّل من الكتاب، ولتاريخ الإمام العسكري (عليه السلام) بالذات، حيث يعرض إلى موقفه (عليه السلام) من ولده مفصلاً، ثمّ إلى وفاته (عليه السلام) وإلى النتائج التي ترتّبت على ذلك، حيث يبدأ تاريخ الغيبة الصغرى الذي نعقد له القسم الثاني الآتي إنْ شاء الله تعالى.

عرضٌ عام:

تَميّزنا بوضوح خلال سيرنا التاريخي، الظروف التي عاشها الإمامين العسكريّين (عليهما السلام) وولد فيها الإمام المهدي (عليه السلام)، فالبلَد سامرّاء عاصمة الدولة العبّاسية يومذاك، وأبوه وجدّه (عليهما السلام)، قد قُهِرا من قِبَل السلطات على الإقامة في سامرّاء تطبيقاً لسياسة التقريب إلى البلاط.. التي عرفناها.

وهما (عليهما السلام) يتكفّلان الإصلاح الإسلامي مهما وسعهما الأمر، ويُمثّلان جانب المعارضة الصامدة أمَام انحراف الحكّام عن الخطّ الرسالي

٢٣٧

الذي جاء به نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم)... بالشكل الذي لا يتنافى مع سياسة الملاينة، التي اتخذاها تجاه الدولة، وهما يقومان في عين الوقت بالرعاية العامّة لمصالح أصحابها ومواليهما، في شؤونهم العامّة دائماً والخاصّة في كثير من الأحيان، ويكون النشاط في الغالب سرّياً مُحاطاً بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، ويختصّ الصريح منه بالخاص من الأصحاب الذين تعرف منهم قوّة الإرادة والصمود أمام ضغط الحكّام.

والإمامين (عليهما السلام) يقبضان الأموال ويوزّعانها بحسَب الإمكان عن طريق الوكلاء المنتشرين لهم في مختلف بقاع البلاد الإسلامية، والوفود ترِد بين حينٍ وآخر - من المُوالين لهم في الأطراف - حاملةً المال والمسائل مِن بلادهم؛ لأجل تسليمها وتبليغها للإمام (عليه السلام).

وأمّا السلطات، بما فيهم الخليفة نفسه، على اختلاف شخصه وبما فيهم الأتراك والمَوالي، وخاصّةً القوّاد منهم، وكذلك العبّاسيون بشكلٍ عام وعلى رأسهم الموفّق طلحة بن المتوكّل، وكذلك الوزراء والقضاة كابن أبي دؤاد وابن أكثَم وابن أبي الشوارب وغيرهم.. كلّ هؤلاء يمثّل خطّاً واحداً من الناحية السياسية والاجتماعية، أساسه الانتفاع المصلحي من الدولة القائمة المتمثّلة بالخلافة العبّاسية، والحرص عليها أشدّ الحرص، حفاظاً على مصالحهم ومنافعهم، فكان ذلك موجِباً لحذَر السلطات الدائم والتوجّس المستمر، من كلّ قولٍ أو فعل يصدر من الإمام (عليه السلام) أو من أحد أصحابه.. فكان السجن والأغلال هو النهاية الطبيعية لكلِّ مَن يفكّر في ولاء الإمام، أو التعامل

٢٣٨

الاجتماعي معه.

بل إنّ الأمر ليشتدّ ويتأزّم أحياناً فينتهي الأمر إلى إلقاء القبض على الإمام نفسه، ومِن المعلوم أنّ إلقاء القبض على القائد، هو سجنٌ لكلِّ مبادئه ومُثُله وقواعده الشعبية وتحدٍّ لها، ويبقى الإمام مسجوناً مدّةً، ثمّ يخرج ليُسجن مرّةً ثانية.

وكانت السلطات تُحاول جاهدةً عزل القواعد الشعبية، للإمام عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكان الفرد منهم يُعاني الخوف والفقر والمرَض، من دون أنْ يجد ناصراً أو معيناً سوى أدعية إمامه (عليه السلام) وقلوب إخوانه.

على أنّنا عرفنا أنّ الإمام لم يكن مُريداً الاستيلاء على السلطة في ذلك المجتمع المنحرف.. وإنّما كان غاية همّه رعاية مصالح أصاحبه وإدارة شؤونهم.. وكان هذا النشاط هو الذي يثير السلطات وينفّرها، منظمّاً إلى وهمِها الخاطئ باحتمال أخذ الإمام بحقّه الذي يعتقده مشروعاً في الاستيلاء على السلطة.. فكانت تبذل الجهود الجبّارة ضدّ ذلك.

وقد استطاع الإمامان (عليهما السلام)، بالرغم من كلِّ ذلك ومن سياسة المراقبة والتقريب إلى البلاط.. أنْ يخفيا نشاطهما ويسترا الأموال والواردة إليهما والصادرة عنهما والتعاليم التي تبلّغ من قِبلهما، وبذلك استطاعا أنْ يأمنا قسطاً كبيراً من العذاب الذي كان يصيبهما وأصحابهما لولا ذلك، وأنْ يُحقّقا كثيراً من المصالح التي كانت ممّا يُحال دونهما بغير ذلك.

٢٣٩

على أنّ السلطات بمختلف طبَقات حكّامها وموظّفيها وأهل الأمر النافذ فيها، وعلى تفاوتهم في التعصّب أو حُسن التفكير.. كانوا يعرفون في قرار قلوبهم وداخل نفوسهم، حقّ الإمام ويحترمونه بالغ الاحترام ويعتبرونه خير خلقِ الله في عصره؛ بما له من العبادة والعِلم والأخلاق والنسَب.. لا يختلف في ذلك المُوالون عن غيرهم، ولا الخلفاء عمّن سِواهم، وبخاصّةً المعتمد الذي رأيناه – في إبّان إحساسه بالضعف – يأتي إلى الإمام العسكري (عليه السلام) بنفسه، ويتوسّل إليه أنْ يدعو له بالبقاء في الخلافة مدّة عشرين عام.. فيُجيبه الإمام إلى طلبه ويدعو له.

وهذا الخليفة العبّاسي هو الذي عاصر أيّام الإمام المهدي (عليه السلام) من أوّلها، وتوفّيَ الإمام العسكري (عليه السلام) في أيّامه، وهو الذي تصدّى للفحص عن تركة الإمام ووَرَثته ومراقبة الحوامل من نِسائه على ما سنذكر.. وكل ذلك يدلّ على أنّه يعرف الحقّ ويَخاف منه.. ويَفرَق مِن فكرة المهدي ووجوده؛ لعِلمه أنّه الإمام القائم بالحق، الساحق للانحراف والمنحرفين من الحكّام والمحكومين.

وقد كانت أفكار المسلمين وبخاصّة المُوالين للأئمّة (عليهم السلام)، مليئةً بالاعتقاد بوجود المهدي (عليه السلام)؛ للتبليغ المستمر المتواتر مُنذ زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلى زمان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، يتعاضد في ذلك سائر المذاهب الإسلامية، ففي عين الوقت الذي يبلّغ الإمامان العسكريّان (عليهما السلام) عن ولدهما المهدي (عليه السلام)، يكتب البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في صِحاحهم أخباره

٢٤٠