موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 33319
تحميل: 5993


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33319 / تحميل: 5993
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إلى جانبه... إن المعتمد لا ينطلق في جوابه من حيث انطلق جعفر في اعتراضه... وإنما ينطلق من منطلق الوفد نفسه.. من الحقيقة الواضحة بأن الوكيل لا يستطيع التصرف إلاَّ في حدود إذن موكِّله، وحيث ذكر هؤلاء أنهم غير مأذونين بتسليم المال إلاَّ بعد الدلالة وإقامة الحجة، إذن فلا بأس بعدم تسليمهم المال.

ومن هنا قال المعتمد: القوم رُسُل، وما على الرسل إلاَّ البلاغ المبين. فبهت جعفر ولم يرد جواباً. إنه يسمع من المعتمد لأول مرة ما لم يكن متوقّعاً.. إنه قول منصف، إلاَّ أن جعفر ليأسف أن يكون قول المنصف دائماً، ضد مخططه.

ثم يطلب القوم من الخليفة أن يأمر لهم شخصاً يدلهم على الطريق، حتى يخرجون من البلدة، فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها.

وإذ يصبحون في خارج البلدة، ويحدث ما لم يكن في الحسبان... أنهم جاءوا إلى هذه البلدة يحملون الأموال إلى الإمام (عليه السلام)... ومن غير المنطقي أن يرجعوا إلى بلدهم آيسين و يعلنوا عدم وجود الإمام، فتبقى الأمة في حيرة وضلال، مع أن الحجة المهدي موجود وقادر على الاتصال بهم وإفهامهم ما هو الحق، إن ذلك لن يكون بادرة حسنة في منطق الدعوة الإلهية.

إذن، فلا بد من الاتصال بهذا الوفد، وإقامة الحجة عليه وإفهامه وجود إمامه.. على الطريقة المتبعة مع سائر الموالين.. ليكون هذا الوفد لساناً للحق في بلاده، ونقطة انطلاق إلى القواعد الشعبية الموالية، وستكون مقابلة هذا الوفد للإمام المهدي

٣٢١

(ع) ثاني اتصال له بالناس في يوم وفاة أبيه، وكان الأول هو صلاته عليه (السلام الله عليهما).

يرسل المهدي (ع) خادمه إلى خارج البلدة، ويعطيه المفتاح الرئيسي لإفهام هذا الوفد الحائر ما هو الحق. فيأمره بأن يتبعهم ويناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم.. ويلقنها إياه، ويخرج الخادم خارج البلدة، ويصيح بهم بأسمائهم، قائلاً لهم: أجيبوا مولاكم.

وهنا يجد القوم أن هذا الخادم قد علم الغيب فيخطر لهم احتمال أنه هو الإمام.. غافلين عن إمكان التعلم لأي أحد إذا وجد الفرصة المناسبة، فيبادرونه قائلين: أنت مولانا؟ فقال الخادم: معاذ الله، أنا عبد مولاكم. فسيروا إليه، واستصحبهم معه حتى وصلوا إلى دار الإمام العسكري (عليه السلام). فدخلوا فوجدوا الإمام المهدي قاعداً على سرير كأنه قمر، عليه ثياب خضر. فسلموا عليه فرد عليهم السلام. ثم قال (عليه السلام): (جملة المال كذا وكذا ديناراً، حمل فلان كذا، وحمل فلان كذا) .. ولم يزل يصف، حتى وصف الجميع، ثم وصف ثيابهم ورحالهم وما كان معهم من الدواب، فخرّوا سُجَّداً لله عزّ وجلّ لِمَا عرّفهم، وقبَّلوا الأرض بين يديه، وسألوه عما أرادوا، فأجابهم، فحملوا إليه الأموال.

وهنا، وأمام ذلك الوفد القُمِّي، يفتح الإمام المهدي (عليه السلام) باب التاريخ الجديد: تاريخ الغيبة الصغرى، تاريخ الوكالة والسفارة، وهو تاريخ سوف يعيشه الناس سبعين عاماً من الدهر على ما سنسمع..

٣٢٢

فيأمر الوفد أن لا يحمل إلى سر مَن رأى بعدها شيئاً من المال، وأنه ينصب لهم ببغداد رجلاً تحمل إليه الأموال وتخرج منه التوقيعات.. ويخرج الوفد (1) .

وبقي جعفر يجتر حقده.. إنه يعلم مَن هو المقصود بهذه الأموال، فما هو بالبعيد عن بيانات أبيه وأخيه، وقد رأى المهدي (ع) في هذا اليوم وهو يدفعه عن الصلاة.. إذن، فهو المقصود بالأموال. وستصل إليه حين يشاء. وما دام المعتمد، معتمده من أول الأمر، بعد أن باع ضميره للسلطات وتمرغ في أوحال الانحراف، فمن المنطقي في نظره أن يشكو وفد القميين، مرة أخرى، إلى الخليفة... إنه سيقول له: إنهم دفعوا المال إلى المهدي. وسوف لن تكون هذه الشكوى ضد الوفد نفسه، بعد أن وقف المعتمد إلى جانبهم، بل ستكون ضد المهدي نفسه، وتتضمن بكل صراحة تأليباً للسلطات عليه.

وتجد السلطات بغيتها القصوى وهدفها الأعلى الذي كانت ولا تزال تجد في طلبه فلا تقع عليه، إنه الآن رهن يديها وقريب المتناول منها... أليس عمه الآن يعرب عن وجوده ويدل على نشاطه.. إنها ستقبض عليه.. وبذلك تستطيع أن تتخلص من الوجود الرهيب الذي يقض مضاجعها ويملؤها رعباً وفرَقاً؛ لأنه سوف يبدّل ظلمها عدلاً، ويحوّل جورها قسطاً.

____________________

(1) انظر: إكمال الدين (المخطوط).

٣٢٣

يفكّر المعتمد بذلك بمنطق المصلحة العليا والمهمة التي يمليها عليه المُلك، والجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في دولته، ويمليها عليه هذا العدد الضخم من القواد والوزراء والقضاة والعاملين في الدولة، ويمليها عليه سائر المحسوبين والمنسوبين إلى الدولة، والموالين لها، والسائرين في خطها بشكل وآخر. فيأتي كل ذلك في ذهنه ضخماً مجللاً مهماً، لا يمكنه التخلّي عنه بحال من الأحوال.. وأي فشل ذريع وفضيحة كبرى سوف تناله وتنال دولته لو حصل ذلك.. ولا يمكن أن يحوّل احترامه للإمام العسكري (ع) والإيمان بعدالة قضيته دون ذلك، ودون المبادرة إليه بكل حزم وشدة.

ومن هنا نرى المعتمد حيت يستمع لكلام جعفر، ووشايته بالمهدي (ع)، يرسل الخيل والرجال إلى دار الإمام الحسن العسكري (ع ) ، فيكسبونه ويفحصون في كل غرفه ودهاليزه، فلا يجدون شيئاً. وليتهم يكتفون بذلك، وإنما اشتغلوا بالنهب والسلب والغارة على ما رأوا من متاع الدار.

وبينما هم مشغولون بالنهب، يتحيّن الإمام المهدي فرصة غفلتهم، ويخرج من الباب،

تقول الرواية:

وهو يومئذ لابن ست سنين - وقد عرفنا أنه ابن خمس سنين - فلم يره أحد منهم حتى غاب (1) . إنهم لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون، وأي شخص سوف يجدون، فالفكرة غامضة في أذهانهم بعيدة عن مخيّلتهم.. فلن يكن من البعيد،

____________________

(1) الخرائج والجرائح، ص164

٣٢٤

أن لا يلتفتوا وهم في نشوة السلب والنهب، إلى وجود صبي يخرج من بين أيديهم، بكل بساطة وبلا ضوضاء.

ولا يجد هؤلاء الرجال في الدار، بعد أن تبعثر أصحابها وتشتت شملها، إلاَّ الجارية صقيل أم المهدي (عليه السلام)، فيقبضون عليها ويرفعونها إلى الجهات الحاكمة.

ومن هنا تبدأ المحنة الأساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة، تلك المحنة التي واجهتها بكل صمود وإخلاص وإيمان، واستطاعت - برغم الضغط الحكومي - أن تخرج ظافرة في المعركة، وأن لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر، وقد أوجب الله تعالى عليه كتمانه، وأبقت ولدها محجوباً مصوناً من الاعتداء.

إنهم - أولاً - طالبوها بالصبي، فأنكرته. ومعناه أنها ادعت أنها لم تلد، وأنه لا وجود لهذا الصبي على وجه الأرض.. إنها تخبر بما لا تعتقد.. ولكنه كذب جائز، بل واجب في الشريعة الإسلامية. فإننا نعرف أن الكذب يكون جائزاً في ما إذا كان سبباً في إصلاح ذات البين، ويكون واجباً فيما إذا توقف عليه إنقاذ نفس محترمة من الموت أو ما دونه من أنواع التنكيل الشديد.. وهو الآن كذلك بالنسبة إلى ولدها المهدي (ع). فكيف إذا توقّف على هذا الكذب البسيط مستقبل الإسلام وسعادة البشرية وقيام المهدي بدولة الحق.

وتزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في إخفاء ولدها، وتأخذ الحيطة له، فتدّعي أن لها حملاً. ويقع كلامها في ذهن الحكّام موقعاً محتملاً.

٣٢٥

فإننا عرفنا أن الدولة كانت تنتظر ولادة المهدي (عليه السلام) من الإمام العسكري (عليه السلام)، وها قد انتهت حياته ولم تر له ولداً. فهو إذن، إما موجود في الخارج، أو محمول في الأرحام. وحيث لا تكون الدولة مسبوقة بوجوده في الخارج، وهي قد جرّدت حملة التفتيش ولم تجده.. إذن فهو حمل.. ومن المحتمل أن يكون هذا الحمل الذي تدّعيه هو المهدي المطلوب، فحسبهم أن يراقبوا هذه الجارية إلى حين ولادته.

ومن هنا وقعت هذه الجارية تحت المراقبة الشديدة المستمرة، حيث جعلوها بين نساء المعتمد ونساء الموفق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب.. وهن نساء أعلى رجال لدولة. ولا زالوا يتعاهدون أمرها في كل وقت ويراعونها، وطالت المدة ولم يحصلوا على شيء. وبقيت الجارية على هذه الحال حتى واجهت الدولة مشكلات أساسية في المجتمع، واضطرت إلى خوض الحروب في عدة جبهات، فاشتغلوا بذلك عن هذه الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين.

وتعد الرواية أربع حوادث رئيسية شغلت الدولة (1) ، وكلها حقائق راهنة نسمعها في التاريخ العام:

إحداها: اقتراب يعقوب بن الليث الصفَّار من العاصمة، بعد أن

____________________

(1) قالت الرواية: إلى أن دهمهم أمر الصغار، وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم من سر مَن رأى، وأمر أصحاب الزنج بالبصرة، وغير ذلك. انظر إكمال الدين (المخطوط) مع سائر تفاصيل القبض على أم المهدي (عليه السلام).

٣٢٦

كان يمارس نشاطه في الأطراف. فإنه بعد أن استولى على بلاد فارس، ونازل الحسن بن زيد العلوي فيها في وقعات عديدة، شعر المعتمد في سنة 262 بالعجز عن يعقوب بن الليث، فكتب إليه بولاية خراسان وجرجان، فأبى يعقوب ذلك حتى يوافي باب الخليفة، فخاف المعتمد. فتحول من سامراء إلى بغداد. وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وبذلك تحولت جبهة القتال من فارس إلى بغداد. وتحوَّل معاندوا الصفَّار من الحسن بن زيد وغيره من حكام الأطراف، إلى الخليفة نفسه.

وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس، فنزل واسط، فتقدّم المعتمد وقصده يعقوب. فتقدّم المعتمد أخاه الموفّق بجمهرة الجيش، واستطاع الموفّق أن يهزم الصفَّار، فاستبيح عسكره وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف. وعاد الصفَّار بنفسه منهزماً إلى فارس (1) .

وبالرغم من أن المعتمد كان قد عقد للموفَّق لحرب صاحب الزنج منذ عام 258، وخرج بنفسه لتشييعه كما سمعنا. إلاَّ أننا نرى الموفّق، إلى حين منازلته للصفَّار، لم ينازل الزنج منازلة فعالة، وإنما كانت تلك المهمة ملقاة على عاتق قواد آخرون في الدولة، ولم ينازله الموفق، إلاَّ بعد أن ظهر عجز الآخرين واندحارهم، في زمن متأخر جداً.

ثانيهما: خروج هؤلاء الحكام، المعتمد والموفّق، من سامراء إلى بغداد كما سمعنا.

ثالثهما: موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان، الوزير، الذي استوزره

____________________

(1) انظر: الكامل، ج6، ص7 - 8، والعبر في خبر مَن غير، ج2، ص 24.

٣٢٧

المعتمد من حين تسلّمه للحكم عام 256، وكان له مع الإمام العسكري (عليه السلام) وأخيه جعفر موقفاً محموداً، فقد حصل موته فجأة بسبب سقوطه عن دابته في الميدان، فسال دماغه من منخريه وأذنه، فمات لوقته وذلك عام 263 (1) .

رابعهما: مشاكل صاحب الزنج.

وقد حملنا عنه في الفصل الأول فكرة منفصلة، وقد كان ذلك إلى ذلك الحين يحاول سبق الزمن في التخريب والقتل والإحراق، وإبادة الجيوش التي تنازله واستباحة الأموال والنساء كما عرفنا.

ولعلَّنا نستطيع أن نضع أيدينا على سبب آخر، لانشغال الدولة عن أم المهدي (عليه السلام)، هو موت ابن أبي الشوارب، قاضي القضاة عام 261 (2) الذي عرفنا أنها سلِّمت إلى نسائه.

وعلى أي حال، فنفهم من ذلك أن أم المهدي (ع)، بقيت تحت رقابة الدولة أكثر من عام، بل أكثر من عامين؛ لأننا عرفنا أن إلقاء القبض عليها كان بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، بمدة غير طويلة، نتيجة لوشاية جعفر... إذن فقد تم ذلك خلال شهر ربيع الأول من عام 260.

على حين أن هذه الحوادث التي دهمت الدولة، وقع أولها - وهو موت ابن أبي الشوارب - عام 261، وكانت واقعة الصفار عام 262،

____________________

(1) انظر الكامل ج6 ص15، وأنظر الطبري أيضاً.

(2) الكامل ج6 ص21.

٣٢٨

وموت الوزير عام 263. والمظنون أن حادثة الصفَّار، بما أوجبته من خروج المعتمد والموفق من سامراء، كانت هي السبب الرئيسي في خروجها من الأسر. وقد وقعت بالتحديد خلال شهر جمادى الثانية من عام 262 (1) فتكون أم المهدي (عليه السلام)، قد بقيت في الأسر عامين وما يزيد على الشهرين.

ومن هنا تعرف أن المقصود الأساسي من حجزها ومراقبتها ليس هو البحث عن جنينها أو انتظار ولادتها، وإلاَّ كان يكفي للتأكد من ذلك أن تمضي عدة أشهر فقط، وإنما كان المقصود هو اضطهادها وعزلها عن مجتمعها أولاً، واحتمال اتصال ولدها بها خلال هذه المدة، لو كان موجوداً ثانياً. إلاَّ أن مخططهم باء بالفشل الذريع.

تعليق على الأحداث:

أودّ في ختام هذا الفصل أن أشير إلى عدة نقاط مهمة، عسى أن تتجلى بعض جوانب الغموض فيما عرفنا من التاريخ:

النقطة الأولى: إن غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)، ليس لها مبدأ معين نستطيع أن نشير إليه، وإنما الأمر هو الذي عرفناه من وجود الإمام (عليه السلام) من حين ولادته، في جو من الكتمان والحذر والاحتجاب، وحرص والده (عليه السلام) على المحافظة البالغة عليه، وعدم وصول خبره إلى السلطة أو مَن يدور في فلكها أو مَن يلين أمامها، ولم يكن يعرض ولده إلاَّ على الخاصة من أصحابه كما عرفنا.

____________________

(1) على ما يظهر عن ابن الأثير في الكامل ج6، ص8.

٣٢٩

وبقي نفس هذا المعنى ساري المفعول بعد وفاته (عليه السلام)، متمثّلاً في حرص المهدي (ع) نفسه وحرص سفرائه وأصحابه في الكتمان والحذر. ومن الملاحظ في سيرة الإمام المهدي (ع) أنه كلَّما كان الزمان يمر كان يحجب نفسه عن أصحابه أكثر، فإنهم كلما اعتادوا على مقدار من الاحتجاب زادهم شيئاً قليلاً، وهكذا. وهذا هو الملاحظ من حين ولادته في زمان أبيه إلى آخر غيبته الصغرى حين بدات الغيبة الكبرى، وبدأ الاحتجاب التام إلاَّ بإذن الله عزَّ وجلَّ.

وسوف نناقش في مستقبل البحث، الخرافة القائلة بأن بدأ الغيبة كان من حين نزول المهدي (عليه السلام) إلى السرداب، تلك الخرافة التي نفخ فيها جملة من المفكرين وضخّمها عدد من المؤرّخين، واعتبروها من المآخذ على عقيدة الإمامية في المهدي. وسنرى أن رواية واحدة مجهولة السند واردة في ذلك، على أننا لو اعتبرناها إثباتاً تاريخياً، فهي تنص على أنه خرج من السرداب أمام الجلاوزة الذين كبسوا على الدار على ما سنسمع.

مضافاً إلى أن الاعتقاد بذلك متضمِّن لمفهوم خاطئ كاذب.. وهو أن المهدي (ع) وقبل نزوله إلى السرداب لم يكن محتجِباً، وكان من المتيسر لكل الناس أن يروه، وكانت حادثة السرداب هي الحد الفاصل بين الظهور والاحتجاب. وقد عرفنا بكل وضوح وتفصيل بطلان ذلك وعدم قيامه على أساس، وقد حملنا فكرة كافية عن حرص والده على حجبه وإخفائه، فلم يكن لحادثة السرداب أي أثر.

٣٣٠

على أننا سنعرف أن هذه الحادثة لا تصلح - من حيث وجودها التاريخي لو صحت - أن تكون مبدأ للغيبة، فإننا سنعرف أنها وقعت بفعل المعتضد العباسي، وقد استُخلف عام 279، أي بعد وفاة الإمام العسكري (ع) وبدء عصر الغيبة الصغرى.. عصر إمامة المهدي (ع) وقيادته للمجتمع بواسطة السفراء... بتسعة عشر عاماً، فاسمع واعجب!!

النقطة الثانية: إن الإمام المهدي (عليه السلام)، بدأ بنفسه عصر سفارته ووكالته، المسمّى بعصر الغيبة الصغرى، حيث استطاع أن يتصل بالمجتمع، متمثّلاً بوفد القُمِّيين، ويصرّح لهم (شفوياً) بتنصيبه للسفير حين يكون الناس على بينة من أمرهم في نشاطهم وتصرفهم وأموالهم، وتكون الحجة قائمة، في هذا النص القانوني، على صدق السفارة والسفير.

ولم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الجماهير الوالية، بعد أن كان نظام الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، إذ يوعز إلى الوفد بحمل المال إلى وكيله في بغداد. لا يسمي لهم شخصاً معيناً يكون هو الوكيل، وذلك لعدم حاجتهم إليه. باعتبار أن هذا المال الذي كانوا يحملونه قد وصل إلى الإمام نفسه، وسوف لن يحملوا مالاً

٣٣١

آخر قبل مضي عام من الزمن تقريباً، فان الوفد من كل بلد يكون عادة قي كل عام مرة، فإذا جاءوا حينئذ فسوف يستطيعون التعرّف عليه والسؤال عن اسمه وسوف يدلهم الكثيرون عليه.

إذن، فغاية ما يستطيع هذا الوفد أن يبلغه الآن إلى جماهير الموالين في سامراء وقم وغيرهم من المدن، هو أن يعطيهم أصل فكرة الوكالة، وضرورة الرجوع إلى الوكيل في بغداد، وعدم لزوم البحث عن مقابلة المهدي (ع) بنفسه.

وأما اسم الوكيل وتعيينه في عثمان بن سعيد العمري، فهذا ما يحتاج إلى بيان آخر. وفي الحق أنه قد صدرت فيه عدة بيانات، بعضها من فم الإمام العسكري (ع)، وبعضها من المهدي (ع) نفسه، على ما سنسمع في القسم الثاني من هذا التاريخ.

النقطة الثالثة: إن مركز الثقل والإدارة السياسية للقواعد الشعبية الموالية اجتماعياً واقتصادياً، ستنتقل - بإيعاز من الإمام المهدي (عليه السلام) - من سامراء إلى بغداد، بالرغم من بقاء سامراء عاصمة للخلافة العباسية ما دام المعتمد في الحياة تسعة عشر عاماً أخرى وتنتهي بانتهاء حياته عام 279، ثم ينتقل مركز الثقل في الخلافة أيضاً إلى بغداد مع بدأ خلافة المعتضد بن الموفق بن المتوكل في ذلك العام.

إن الوكيل - منذ الآن - سيمارس نشاطه في بغداد، وستحمل الأموال إليه هناك، وتخرج التوقيعات منه. وفي ذلك ما لا يخفى من البعد عن الرقابة المباشرة للسلطات عن الاحتكاك الدائم بالطبقة الأرستقراطية

٣٣٢

في العاصمة، من القواد الأتراك وغيرهم ممّن يمثّل خط الدولة على طوله.

ولئن كان الإمامان العسكريان قد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في سامراء، وسياسة التقريب من البلاط، و الدمج في حاشية الخليفة.. وكان الإمامان لا يريدان إعلان الاحتجاج وإثارة النزاع.. لئن كان ذلك، فهو أمر خاص بحياتهما. وأما بعد أن ذهبا إلى ربهما العظيم صامدين صابرين، وآلت الإمامة إلى المهدي (عليه السلام)، وهو الثائر على الظلم والطغيان، فقد آن لهذه السياسات المنحرفة أن تنتهي، ولهذا المخطّط الحكومي أن يقف عند حده، ينبغي لوكلاء المهدي (عليه السلام) أن يواجهوا الجمهور متخلّصين من هذا العبء، متحرّرين من هذا الاضطهاد؛ حتى يستطيعوا أن يمارسوا عملهم بشكل أفضل وبحرية أوسع. وبخاصة أن مواقفهم - بصفتهم وكلاء عن المهدي - تجعل موقفهم دقيقاً حرجاً تجاه السلطة، ويزيد حراجة فيما إذا كانوا يمارسون عملهم في سامراء.

على أننا ينبغي أن لا نبالغ في الحرية التي سيكتسبونها عند البُعد عن العاصمة، إنها حرية نسبية، بمعنى أن حالهم في بغداد أحسن بقليل، وإخفاء نشاطهم أسهل. ولكن الخط العام الذي كانت - ولا زالت - تمشي عليه الحكومة موجود أيضاً، وهو مطاردة الجمهور الموالي ومراقبته وإبعاده عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالحجز والضيق بمعناه العام، لا تختلف فيه بغداد عن سامراء شيء.

وهذه الحرية النسبية التي سيكتسبها الوكلاء في بغداد، ستبقى

٣٣٣

سارية المفعول، ما دامت بغداد بعيدة عن العاصمة، وأن تسعة عشر عاماً يمر على ذلك، كفيل بترسيخ الوكلاء اجتماعياً، والتفاف الجماهير الموالية حولهم، بحيث لن يكون لانتقال العاصمة إلى بغداد تارة أخرى، أهمية ضد نشاطهم كالأهمية التي ستكون فيما لو انتقلت العاصمة مع بدء عصر الوكالة، أو وجدت الوكالة في قلب العاصمة.. وهذا كله يجري في النطاق الخاص.

وأما السلطات الحاكمة، فسون لن تكون مسبوقة بذلك؛ لِمَا يحيط كل نشاط يقوم به الوكلاء من السرية والرمزية، بشكل يشبه من بعض الوجوه ما رأيناه من الإمامين العسكريين (عليهم السلام). على أنه من المستطاع القول بأن الوكلاء أضيق من الإمامين (ع) نشاطاً، وأقل منهما رمزية، وإن كانوا أكثر منهما سرية وتستّراً، وقد أوجبت هذه السرية تعذّر تطبيق تلك السياسة القديمة على الوكلاء، من قبل السلطات، بطبيعة الحال.

وأما على المستوى الحكومي، فالحملة ضد المهدي (عليه السلام) ستبقى سارية المفعول عشرين عاماً على أقل تقدير، حتى بعد الانتقال إلى بغداد، ولا تسأم الحكومة من ذلك ولا تيأس.. وإن أسقطت وجوده القانوني وميراثه عن نظر الاعتبار. وبالطبع، فإنه مما يحدد عزمها ويثيرها، ما يبلغها بشكل مباشر عن نشاط الوكلاء، وما ترى من اعتقاد الجمهور الموالي بوجود المهدي (عليه السلام) وغيبته، ونيابة هؤلاء السفراء عنه (عليه السلام)، ولكنها لن تستطيع النجاح، وسيحالفها الفشل.. إلى آخر الخط.

٣٣٤

النقطة الرابعة: إننا سبق أن عرفنا عدة حوادث ولم نعرف تاريخها المحدّد:

منها: توسّل جعفر بن علي بالوزير عبيد الله بن خاقان، على أن يجعل له مرتبة أخيه (عليه السلام).

ومنها: توسّله بالمعتمد لتنفيذ نفس الغرض.

ومنها: وقوف المهدي (عليه السلام) تجاه أطماع جعفر حين مطالبته بالإرث.

ومنها: وقوفه (عليه السلام) مطالباً تنفيذ وصية جدته.

ومن المؤسف أننا لا نستطيع الوصول إلى التحديد المنضبط لهذه الأمور، فإنه من مناطق الفراغ في التاريخ على أي حال. وإنما غاية ما نتوخّاه هو الالتفات إلى ما تقتضيه طبيعة الأشياء في ترتيب هذه الحوادث.

المظنون أن أُولى هذه الحوادث وقوعاً، هو مطالبة جعفر بن علي بالإرث، فإن مناقشات الإرث تقع عادة في غضون الأيام الأولى من وفاة المورِّث، وخاصة إذا كان أحدهم حريصاً ومستعداً للمناقشة والجدل، كجعفر نفسه.

وأما توسّله إلى السلطات، فقد كان بعد أن مضت مدة كافية، ثبت فيها بالتجربة عند جعفر بأن مخططه قد فشل، وأن إمامته قد رفضت لدى كل مَن اتصل به من جماهير الموالين وشيوخهم، وهذا ما يحتاج إلى بعض الزمان حتى يتمخض الجدل الذي قام بين الموالين حول إثبات ذلك أو رفضه: ونشر الموقف الذي اتخذه المهدي (عليه السلام) تجاه عمه بينهم.

وحيث كانت السلطات هي الركيزة الأساسية لجعفر في مخطّطه

٣٣٥

فقد لجأ إليها، مبتدئاً بالوزير ومنتهياً بالخليفة، لعلها تستطيع أن تفرض جعفر على الموالين فرضاً، وقد عرفنا ما واجهه من عجز السلطات ورفضها لطلبه.

وعلى أي حال فمَن المستطاع القول أن هذه الحوادث الثلاث جميعاً، قد حدثت خلال الأشهر الأولى المتعقبة لوفاة الإمام العسكري (عليه السلام) في نفس عام 260.

وأما وفاة الجدة (رضي الله عنها)، فهو متأخر عن مطالبته بالإرث، كما تدل عليه الرواية نفسها (1) ، ولكنه على أي حال غير محدّد الموعد، فلعله كان في نفس السنة، ولعله كان في العام الذي يليه. وعلى أي حال، فقد حصلت وفاتها في غضون ممارسة جعفر لنشاطه وإصراره على دعواه، قبل أن ييأس من تنفيذ مخطّطه ويرفع يده عنه ويتوب.

النقطة الخامسة: إنه لا بد لنا من أجل حفظ الحقيقة والموضوعية في البحث؛ أن نذكر من أشرنا إليه قبل قليل، وهو أن جعفر بعد أن مضى عليه زمان يمارس النشاط العدائي للإمام المهدي وعائلته، والممالئ للسلطات الحاكمة، أيِسَ من نجاحه، وسيطر عليه الحق؛ فكبح جماح نفسه، وترك عمله، ورفع اليد عن سلوكه المنحرف، وتاب إلى الله من ذنوبه. وعندئذٍ يخرج التوقيع من الإمام المهدي (عليه السلام) في العفو عنه والتجاوز عن تقصيره، تطبيقاً لقوله تعالى: ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ

____________________

(1) انظر: الإكمال الدين (المخطوط).

٣٣٦

وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (2) .

يخرج هذا التوقيع بواسطة السفير الثاني: محمد بن عثمان بن سعيد العمري، جواباً على سؤال في ضمن عدة استفتاءات تقدم بها إسحاق بن يعقوب إلى الإمام المهدي (عليه السلام) بواسطة هذا السفير. وكتب الإمام (عليه السلام) فيما يخص جعفر قائلاً: (وأما سبيل عمي جعفر وولْده، فسبيل أخوة يوسف (عليه السلام)) (3) يشير بذلك إلى عفو الله تعالى عن إخوة يوسف (عليه السلام) (4) ، بعد أن كانوا قد ناصبوه العداء وغرّروا به على ما تحدّث القرآن، ثم عفا عنهم حين اعتذروا و ( قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (4) .

وهذا البيان من الإمام المهدي (عليه السلام) يدل على العفو عن جعفر، لنفس السبب الذي عفى به عن أخوة يوسف، وهو اعتذارهم ورجوعهم إلى الحق وتوبتهم عما فعلوه.

ومن المؤسف أن لا يكون تاريخ هذا البيان معروفاً بالتحديد، وإنما غاية ما نعرفه هو خروجه بواسطة الوكيل الثاني للإمام المهدي (عليه

____________________

(1) 5/39.

(2) 20/82.

(3) انظر: الإكمال (المخطوط). تاريخ سامراء، ج2، ص249 عن الاحتجاج. وفي الاحتجاج، ج2، ص283، ط النجف، عام 1386: (وسبيل ابن عمي جعفر) وهو خطأ تورَّطت فيه المطبعة.

(4) 12/91 - 92.

٣٣٧

السلام): محمد بن عثمان العمري المتوفّى عام 305 (1) . وأما تاريخ تولّيه الوكالة بعد أبيه، فمجهول؛ لجهالة تاريخ وفاة أبيه عثمان بن سعيد على ما سنسمع. ومن هنا لا نستطيع أن نحدِّد مقدار الزمان الذي استمر جعفر يمارس نشاطه فيه. ولا الزمان الذي تاب فيه وصدر عنه العفو، غير أنه كان قبل سنة 305، وهو تاريخ مديد غير محدَّد، وهذا من فجوات التاريخ المؤسِفة، وعلى الله قصد السبيل.

خاتمة هذا القسم:

استطعنا في هذا القسم الأول أن نحيط بالمهم من الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، هذه الظروف التي انبثقت فيها الغيبة الصغرى. كما أحطنا بالمهم من تاريخ الإمام المهدي (عليه السلام) بحسب ما ورد في تاريخنا الخاص، في ولادته ونشأته في زمان أبيه، وما نتج عن ذلك بشكل مباشر بعد وفاة أبيه.

وبذلك ينتهي القسم الأول من هذا التاريخ، وهو في واقعه قسم تمهيدي؛ لِمَا كُرِّس له هذا التاريخ: من ذكر للغيبة الصغرى والإحاطة بخطوطها العامة، وأساليب الإمام (عليه السلام) في تدبير أمور مواليه وقيادتهم، وهذا ما نتعرَّض له خلال القسم الثاني.

____________________

(1) انظر: الاحتجاج (الهامش)، ج2، ص282 عن خلاصة العلاّمة. وانظر الخلاصة: القسم الأول، ص 149.

٣٣٨

القسم الثاني:

تاريخ الغيبة الصغرى

من عام 260 إلى عام 329

٣٣٩

٣٤٠