موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 33323
تحميل: 5996


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33323 / تحميل: 5996
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ذلك الأموال إليه ولا أطالبه بالقبوض (1) .

وإنما امتنع السفراء عن دفع الوصولات باعتبار صعوبة الوقت وكان السيف يقطر دماً في زمان المعتضد كما سبق أن سمعنا، وكان ما يحمل إليه من ألأموال لا يقف مَن يحمله على خبر أبي جعفر . ولا على حاله . بل ينفذه إليه كما ينفذ التجار إلى أصحابهم على يد مَن يثقون به. وكان يقال للفرد: امض إلى موضع كذا فسلّم ما معك، من غير أن يشعر بشيء ولا يدفع إليه كتاب، لئلاَّ تطَّلع السلطات عليه (2) .

ومن هنا نستطيع أن نعرف الوصلات لم تدفع إلاَّ لفترة قليلة نسبياًَ من عهد الغيبة الصغرى، حيث بدأ المعتضد خلافته عام 279، أي بعد تسعة عشر عاماً من مبدئها، والمظنون أنها لم تُدفع بعد ذلك خلال الخمسين عاماً التالية إلى نهاية هذه الفترة.

فهذا هو حال قبض الأموال من قبل وكلاء المهدي وسفرائه.

ثم لا يهمّنا أن نفكّر في أن هذه الأموال هل تبقى لدى السفراء أم تدفع إلى المهدي (ع)؛ لأنها - على أي حال - تكون تحت إشرافه ورهن تعليماته، فإنها إن دفعت إليه مباشرة فهو غاية المطلوب.. وإن بقيت في يد السفارة، فلا مانع منه، فإن يد الوكيل كيَد الأصيل.

وعلى أيِّ حال، فمن المؤكَّد - عادة - وصول جملة من الأموال إلى الإمام المهدي (ع) مباشرة، بل ظاهر بعض الروايات أن وظيفة

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص226.

(2) المصدر السابق: ص180.

٤٨١

السفير في قبضه للأموال هو إيصالها إليه (ع) (1)

وبهذه الأموال كان المهدي (ع) يزجي حاجته الشخصية، ويوزّع منها على عدد من مواليه، عند مقابلته شخصياً أو بدون ذلك. وكان (عليه السلام) لا يجيز رد المال الذي أعطاه، ويعتبره أمراً ينبغي الاستغفار منه (2) . وتكون من هذه الأموال قيمة الأكفان التي يدفعها إلى مواليه والأموال التي يعطيها كأجرة للحمّال والدفَّان (3) ، وما كان يجريه لبعض مواليه جرياً على ما كان عودَّهم عليه أبوه العسكري (4) .

وأما توزيع السفراء للمال، فهو - في التاريخ الخاص - نادر الوجود، مع العلم أنه كان مما يحدث جزماً؛ لوجوب إيصال الأموال والحقوق الشرعية إلى مستحقيها شرعاً، أو صرفها في سبيل الله والمصالح الإسلامية العامة. وقد عرفنا الظروف التي أوجبت الكتمان والحذر، وفهمنا الخطر الذي كان يحيق بالسفراء لو أنهم وزَّعوا الموال علناً. ولا ينبغي أن ننسى بهذا الصدد الكلام الذي سمعناه عن السفير الأول، وعن حال عائلة الإمام المهدي (عليه السلام): (وليس أحد يجب أن يتعرَّف عليهم أو أن ينيلهم شيئاً).

فالتوزيع كان يقع سرياً للغاية، بعيداً عن أعين الدولة، ولا يصرِّح به إلاَّ نادراً، ومن هنا لم تصلنا أخباره. ولعل الأغلب هو توزيع

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص178.

(2) الإرشاد: ص333.

(3) انظر: الغيبة للشيخ الطوسي ص193، ومنتخب الأثر ص396.

(4) الغيبة للشيخ الطوسي: ص219.

٤٨٢

الأموال على الأسلوب التجاري، أي يعطي لفرد بصفته دائناً مثلاً؛ حتى لا يكون مثاراً للشك لا لدى السلطات.

ومن هذا النادر ما دفعه الشيخ ابن روح (رضي الله عنه) من المئة درهم إلى أحدهم مع حنوط وأكفان (1) حتى لا يكون ملفتاً للنظر. والطريف في هذا الصدد أن الأموال التي كان يوزّعها المهدي (عليه السلام) لمَن شاهده وغيرهم، بحسب نقلها في التاريخ، أكثر جداً مما وردنا توزيعه عن طريق السفراء، وسيأتي التعرُّض لذلك في الفصل الخامس الخاص بالمهدي (ع).

النقطة السادسة: الجهاد العلمي للسفراء.

حول المناقشات العقائدية وحلول المشاكل العلمية التي كان يقوم بها السفراء، سواء من ذلك ما كان لتوجيه أصحابهم وصقل أفكارهم، أو لأجل الاحتجاج ضد الشبهات التي يثيرها الآخرون، والدفاع عن الحق بلسان مخلِص سليم.

ونحن في هذا الصدد لا بد أن نعرض صفحاً عن أمرين لهما محلُّهما في الفصلين الآتيين من هذا التاريخ:

أحدهما: المناقشات والتوجيهات الفقهية والعقائدية والاجتماعية الصادرة على أيدي السفراء من الإمام المهدي، فإن ذلك يعتبر من أعمال المهدي نفسه وسيأتي التعرُّض له في الفصل الخامس من هذا التاريخ.

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص193.

٤٨٣

ثانيهما: مناقشة السفراء لمدَّعي السفارة أو الوكالة عن المهدي يزوراً، فإن هذا مما نذكره عن قريب في الفصل الآتي.

تبقى بين يدينا التوجيهات والمناقشات التي يذكرها أحد السفراء الأربعة من عند أنفسهم، باعتبار ما يعرفونه من الحق، في حدود تعاليم الإمام المهدي ومسلكهم العام.

يندرج في ذلك ما سمعناه عن السفير الأول في النهي عن التصريح باسم المهدي، والشكوى من جور السلطات وسطوتهم، وقد سبق أن سمعناه أكثر من مرة.

وللشيخ ابن روح مناقشات عديدة، فمن ذلك مناقشته لبعض المتكلمين المعروف بترك الهروي، في فضل الزهراء على سائر بنات النبي (ص)، حتى قال الهروي: فما رأيت أحداً تكلّم وأجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز من جوابه (1) .

ومن ذلك مناقشاته لرجل حول مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) بيَد أعداء الله (عَزَّ وجَلَّ)، وقد أجاب بجواب مطوّل وأكّد فيه أن حكمة الله (عَزَّ وجَلَّ) قد جرت في أن أنبياءه وأولياءه يكونون في حال غالبين وأخرى مغلوبين، وفي حال قاهرين وأخرى مقهورين. ولو جعلهم (عَزَّ وجَلَّ) في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله (عَزَّ وجَلَّ)، ولَمَا عُرِف فضل صبرهم على البلاء والاختبار.

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص239.

٤٨٤

ولكن جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم؛ ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين، في حال العافية وظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين، غير شامخين ولا متجبِّرين.. إلى آخر كلامه.

وحين شك الراوي في أن هذا الكلام هل قاله من عنده أم هو من تعاليم الإمام المهدي (ع). قال له ابن روح: يا محمد بن إبراهيم لأن أخر من السماء فتخطَّفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة (صلوات الله وسلامه عليه) (1) .

ومن تعاليمه أيضاً (رضي الله عنه) ما قاله لأحمد بن محمد الصفواني: أن يحيى بن خالد سمَّم موسى بن جعفر (عليه السلام) في إحدى وعشرون رطبة وبها مات، وأن النبي (ص) والأئمة (ع) ما ماتوا إلاَّ بالسيف أو السم، وقد ذكر عن الرضا (ع) أنه سم وكذلك ولُده وولدُ ولدِه (2) .

انظر كيف بتّ (رضي الله عنه)، في هذه المسألة التي كانت ولا زالت محل الخلاف بين المسلمين عموماً، والمؤرِّخين خصوصاً، من أن النبي (ص) هل مات مسموماً أولاً، فقد جزم ابن روح بكونه (ص) مات مسموماً، ليس هو فقط، بل عدد من الأئمة (ع) أيضاً. والباقون ماتوا

____________________

(1) انظر: الغيبة للشيخ الطوسي ص199، والاحتجاج ص288.

(2) الغيبة للشيخ الطوسي: ص239.

٤٨٥

بالسيف على أيدي أعداء الله ورسوله.

ولعلك لاحظت معي أن أمثال هذه المناقشات مما لا ينافي مع جو التقية والحذر، الذي كان يسلكه السفراء على العموم، والشيخ ابن روح على الخصوص؛ إذ ليس في هذه المسائل (فتوى رسمية) للدولة، أو وجهة نظر خاصة لعلماء العامة، ينبغي التحرُّز من مناقشتها ومجابهتها.

ولكننا لا زلنا نذكر: أن الثقافة المعطاة منه (رضي الله عنه) ليست هي دائماً الثقافة التي تتفق مع خطه واعتقاده، بل قد يمتزج بها غيرها، لو اقتضى ذلك مصالح عمله كسفير مؤد لواجبه تجاه إمامه ومجتمعه.

ولعل أهم مثال لذلك، ما سمعناه فيما سبق مختصراً، ونذكره الآن تفصيلاً، من أنه تناظر في بعض مجالس العامة اثنان، فزعم أحدهما أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (ص) ثم عمراً ثم علي، وقال الأخر: بل علي أفضل من عمر. فزاد الكلام بينهما. فقال: ابن روح (رضي الله عنه): الذي اجتمعت عليه الصحابة هو تقديم الصديق ثم الفاروق، ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي، وأصحاب الحديث على ذلك، وهو الصحيح عندنا.

فجعل علياً أمير المؤمنين (ع) دون عثمان في الفضل بحسب ظاهر كلامه، وهو ما لم يكن مقصوداً لكلا المتناقشين، وإنما اختلفا في تفضيله على عمر مع اتفاقهم على تفضيله على سائر البشر بعده.

وحيث كان يعلم الراوي - الذي يسمع هذا الكلام - أن هذا مخالف

٤٨٦

لخطه وبعيد عن اعتقاده فوقع عليه الضحك، ولم يستطع أن يمنع نفسه، رغم محاولته، حتى خشي أن يفتضح، فقفز خارجاً عن المجلس.

وانتبه إليه ابن روح وعرف قصده، فبادر إليه بعد خروجه من المجلس، وقصده في داره، فطرق عليه الباب، وأنَّبه على ضحكه، وقال له: يا أبا عبد الله - أيدك الله - لمَ ضحكت؟! أفأردتَ أن تهتف بي كأن الذي قلته عندك ليس بحق. قال الراوي: فقلت له: كذلك هو عني، فقال لي: اتق الله أيها الشيخ، فإني لا أجعلك في حل، تستعظم هذا القول مني؟ فقلت: يا سيدي، رجل يرى بأنه صاحب الإمام ووكيله، يقول ذلك القول لا يتعجَّب منه و [ لا ] يضحك من قوله هذا!! فقال لي: وحياتك لئن عدت لأهجرنك. وودعني وانصرف (1) .

فأنت ترى أن المناقشة بين هذا الرجل وابن روح، قائمة على تخيّل الراوي المناقضة بين مسلك ابن روح وبين كلامه. والفرد إنما يكون وكيلاً للإمام وسفيراً عنه مع الانسجام مع خطه وإخلاصه له، دون ما إذا كان مُظهِراً لغير ما يبطن، ولهذا أظهر الرجل التشكيك - جدلاً - بالسفارة.. لا باعتبار كونه معتقداً لهذا التشكيك كما هو معلوم.

وكان كلام ابن روح منصبَّاً على التأكيد من طرف خفي على الانسجام بين خطه الأصلي وكلامه، وأنَّ ما قاله إنما هو باعتبار

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي: ص237.

٤٨٧

الإخلاص له والالتزام به، باعتبار المصالح التي يستطيع أن ينالها والمشاكل التي يذللها بمثل هذا الكلام.. وتوجيهات الإمام المهدي (ع) المتعلقة بذلك، وهو معنى قوله: كأن الذي قلته عندك ليس بحق، والله العالم.

ثم أنه (رضي الله عنه) أكد على ذلك، وهدَّد الرجل بهجرانه؛ لئلاَّ يكون هذا الرجل وأمثاله عائقاً أمام مسالك ابن روح ومصالحه وتطبيقات أوامر إمامه، فقد يسبّب له خرقاً كبيراً في المجتمع قد تترتّب عليه من الأضرار وتنتفي من المصالح ما لا سبيل إلى تداركه.

* * *

فهذا هو مهم الكلام في أعمال السفراء ونشاطهم ومسالكهم العامة، وبه ينتهي القسم الثاني من هذا الفصل الثالث، وبه ينتهي هذا الفصل، والحمد لله رب العالمين.

٤٨٨

الفصل الرابع:

السفارات المزوَّرة عن المهدي (ع)

ابتليت السفارة عن الإمام المهدي (ع) والسفراء، بعد أعوام قلائل من أول عهدهم، بدعاوى السفارة كذباً وزوراً، طمعاً في ابتزاز الأموال والتزعّم على الناس.

مناشئ التزوير:

السفارة الكاذبة في واقعها تشويه منحرف لمفهوم السفارة الصادقة العادلة، ومن هنا جاءت متأخّرة عنها بسنوات؛ وذلك: لأنّ القواعد الشعبية الموالية في زمان الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وإن كانت قد اعتادت على وجود السفراء عن الإمام عند احتجابه عن الناس تمهيداً للغيبة الصغرى، كما عرفنا، إلاّ أنّه من المحتمل أساساً للفرد العادي - لو التفت إلى ذلك - أن يحتجب الإمام المهدي (ع) عن

٤٨٩

قواعده الشعبية، ولا يوكل عنه شخص على الإطلاق، وإنّما ثبت عزمه (عليه السلام) على التوكيل خلال هذه الفترة، عن طريق تصريحه هو (عليه السلام) وتصريح أبيه العسكري (عليه السلام) وأعمال السفراء في إثبات وكالتهم، وقد استعرضنا كل ذلك بالتفصيل. فإذا ثبت عزمه (عليه السلام) على إيجاد الوكالة أو السفارة عنه. انفتح باب إمكان دعوى السفارة الكاذبة وتزوير الدعوى بالاتصال بالمهدي، خاصة بعد معلومية أنّ الاتصال به سرٌ لا يمكن لأحد الإطلاع عليه أو السؤال عن مكانه وزمانه. فتكون دعوى الاتصال به سراً بمكان من الإمكان، ولن يُمنى المزوّر بصعوبة وإحراج من هذه الجهة. يعضده في ذلك عدّة أُمور:

إحداها: ضعف الإيمان وسوء الإخلاص وقابليته للانحراف.

ثانيهما: الطمع بالأموال التي يحصل عليها عن هذا الطريق. إذ يتخيّل المزوّر أنّ الحقوق الشرعية التي تُدفع إلى السفير الصادق ستُدفع إليه.

ثالثها: فسح المجال للشهرة الاجتماعية والتقدّم بين الناس، والتحكّم في القواعد الشعبية الموالية للإمام (عليه السلام)، وإصدار الأوامر والنواهي بزعم أنّه صادر عنه (عليه السلام).

ولا يهم بعد ذلك، أن نفهم أنّ مدّعي السفارة الكاذبة، هل كان يعتقد ضمناً بكذب السفير الصادق، كما صرّح به الشلمغاني بالنسبة إلى السفير الثاني، على ما سنسمع، أو كان المزوّر يعتقد بكذب فكرة

٤٩٠

السفارة أساساً، إذن فلا فرق في نظره بينه وبين ذلك السفير، فكما ادعى غيره السفارة يمكن له أيضاً ذلك. أو كان المزوّر يعتقد بصدق السفارة وصدق السفير، ولكنّه كان طامعاً بالمصالح الشخصية التي أشرنا إليها، فأدعى السفارة تقديماً لمصالحه الشخصية على المصالح الدينية شخصية واجتماعية. لا يهمّنا إثبات مثل هذه الاتجاهات لمدعي السفارة، بعد ثبوت كذبهم في الدعوى، على أي أساس كان.

يبقي هناك عدة اتجاهات للمزوّر قد تخطر في الذهن، يحسن التعرض لها ومناقشتها:

الاتجاه الأول: أن يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً ويأمره بتبليغ بعض التعليمات، ثم يكذبه وينفي سفارته بلسان سفير آخر. وهذا غير محتمل أساساً؛ لِمَا نعتقده في الإمام المهدي (ع) من العصمة التي هي في حقيقتها عمق في العدالة والإخلاص والإيمان، ومعه يكون أجل وأعظم من أن يقوم بمثل هذا التغرير والغدر؛ فإنّ مثل هذا العمل غدر بمثل هذا السفير المفروض، وتعزيز الجهل بالنسبة إلى القواعد الشعبية الموالية.. وكلاهما ظلم يجلّ عنه المعصوم ويتنزّه.

الاتجاه الثاني: أن يرسل الإمام المهدي (عليه السلام) سفيراً على أساس الدوام والاستمرار، ويكون السفير في مبدأ أمره عادلاً صادقاً، ولكن هذا السفير لقلّة إخلاصه وضعف إيمانه، يتأثّر بالأموال والمغريات فيصبح منحرفاً وتظهر منه العقائد والأعمال الباطلة؛ فيعلن الإمام

٤٩١

المهدي (ع) على يد سفير آخر عزله عن السفارة ولعنه.

وهذا ممّا لم يحدث بالخارج، وإنّما الذي حدث أنّ الشلمغاني كان وكيلاً عن السفير ابن روح فعزله السفير بعد انحرافه، على ما سنسمع، ولم يكن سفيراً للمهدي بحال. على أنّ هذا غير ممكن أساساً، بحسب ما عرفناه من سياسة الإمام المهدي (ع) في تعيين السفراء، من أنّ السفارة موقف دقيق وخطر، فلابد أن يكون شخص السفير بمرتبة من الإخلاص بحيث لو كان المهدي (عليه السلام) تحت ذيله عنه لما كشفه، وهذه المرتبة من الإخلاص لا يحتمل توفّرها بالنسبة إلى مَن ينحرف بعد ذلك ويفسد حاله عقيدةً وسلوكا ً.

فإنّ الفسق بعد الإيمان، لا يكون إلاّ من نقطة ضعف مركوزة في نفس الفرد، ناشئة من تقصيراته وسوء اختياره. ومن الصعب جداً، بل غير الممكن عادة، أن نتصوّر شخصاً مؤمناً حقاً من دون أن يشوب إيمانه وإخلاصه نقص أو تقصير... ثم ينحرف انحرافاً كبيراً بحيث يكون مستحقّاً للعنة والتشنيع.

إذن، فالشخص القابل للانحراف في مستقبل أمره، لا يكون قابلاً للسفارة أساساً، وضعف الإيمان أمر لا يخفى على الفرد الواعي، فضلاً عن الإمام المهدي (ع). إذن، فكيف يرسله سفيراً؟ وخاصة أنّه من المحتمل أن يكشف عن المهدي (ع) ويدل السلطات عليه بعد الانحراف. وهذا خطر، كان يخطط الإمام دائماً للتقصّي عنه والتحذّر منه.

على أنّه لو كان الفرد سفيراً في مبدأ أمره، لأمكن أن يتلقّى

٤٩٢

من تعاليم المهدي (ع) وتوجيهاته، ما يصون به إيمانه من الانحراف وعقيدته من الإسفاف. وقد عرفنا كيف كان السفراء الصادقون يتلقّون العلوم والتوجيهات منه (عليه السلام)، لأجل تكميلهم وتعميق ثقافتهم الإسلامية بغضّ النظر عن المصالح العامة.

الاتجاه الثالث: أن يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً في قضايا معينة وأزمات محددة، لا على أساس الدوام والاستمرار. وهذا ما يحتمل حدوثه، وهو في واقعه من السفارة الصادقة، لا من الكاذبة، وهذه السفارة تنتهي بأداء العمل الموكَل إلى الفرد، ولا تستتبع الانحراف بعدها على أي حال.

الاتجاه الرابع: أن نتصوّر أنّ مدّعي السفارة كاذباً، لا يعلم بكذب نفسه، بل يتخيّل نفسه صادقاً؛ وذلك: أنّه استطاع أحد المحتالين الماكرين أن يُخيّل له أنّه هو المهدي، فيجتمع به في الخفاء ويعطيه التعاليم ويقبض منه الأموال بزعم كونه هو المهدي. ويبقى السفير معتقداً بصحّة سفارته، وهو كاذب في الحقيقة، وخاصة وهو لم يشاهد الإمام المهدي (عليه السلام) قبل ذلك، ولم يحمل من شخصه أي فكرة سابقة، إلاّ أنّ هذا وإن كان محتملاً في حق بعض البسطاء مبدئياً، لعدّة أيام أو لعدّة أشهر مثلاً، ولكن مثل هذا التزوير غير قابل للبقاء؛ لأنّ هذا السفير المغرّر به، سينكشف له خلال الزمان ما في صاحبه الماكر من هفوات ونقص وقصور.. بحيث يثبت لديه أنّه ليس مهديّاً، بل رجل ماكر محتال.

٤٩٣

وإذا لم ينتبه انتبه الناس إلى ذلك، وخاصة العلماء الموالين لخط الأئمّة (عليهم السلام) ومفكّريهم ومبرّزيهم.. فإنّنا لا ننسى بهذا الصدد الأجوبة والبراهين والحجج التي اعتاد الناس صدورها من السفراء الأربعة، وكانوا يتطلّبونها من كل مدع للسفارة، فإذا عجز السفير أو عجز صاحبه عن إقامة الحجّة، ثبت تزويره لا محالة. على أنّ مثل هذه السفارة، بل كل سفارة كاذبة، تكون مبتورة الأول عادة، غير منصوص عليها من قِبل شخص سابق قام الدليل على صدقه، وإنّما تكون قائمة فقط على أساس زعم المدّعي، على حين عرفنا كيف أنّ السفارة الصادقة منصوص عليها من قِبل الإمام المهدي (ع) وأبيه العسكري (ع).. مضافاً إلى نص بعضهم على بعض، وما ظهر على أيديهم من الحجج والبراهين.

التسلسل التاريخي للتزوير:

بدأ التزوير على ما يدل عليه تاريخنا الخاص، في عهد السفير الثاني الشيخ محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه). وأمّا أبوه السفير الأول، فقد كان أقوى وأسمى من أن يعارضه معارض، بعد تاريخه المجيد مع الإمامين العسكريين الماضيين (عليهما السلام)، وثناؤهما العاطر عليه، وأداؤه لمختلف أنواع الجهاد في عهدهما وبموجب توجيهاتهما وتعاليمهما، فلن يكون للظنون أن تحوم وللمطامح أن تطمح لمعارضته أو مضايقته، فإنّها ستُجابه بالنقد والإنكار من كل جانب.

٤٩٤

كما أن الظرف لم تكن لتساعد على دعوى السفارة؛ فإن الغيبة الصغرى لا زالت في أولها، وتتبع السلطات ومطاردتهم للمهدي (ع) ولكل مَن يمت إليه بصلة قوية، وعائلته يتسكعون في الطرقات لا يجرؤ أحد على التعرف عليهم أو الاقتراب منهم، وقد كانت سفارة عثمان بن سعيد جهاداً كبيراً وتضحية عظمى، فكيف يعرّض الشخص نفسه للمطاردة والخطر تلقائياً بانتحال السفارة؟!

على أن التزوير لا يكاد يحتمل وجوده قبل أن يعتاد الناس على هذا النحو من السفارة عن الإمام المهدي، وهذا الاعتياد يحتاج في تحقُّقه إلى زمن بطبيعة الحال، تعيشه القواعد الشعبية تجاه السفارة الصادقة، وهو ما لم يتحقق في أول الغيبة الصغرى، وخلال الأعوام القليلة التي قضاها عثمان بن سعيد في السفارة.

وقد توفّر المزوّرون خلال الفترة الطويلة التي قضاها السفير الثاني في سفارته. وتاريخنا الخاص وإن لم يضع الحروف على النقاط من حيث تواريخ التزوير وعدد من جهاته، على ما سنسمع، إلاَّ أنه - على أي حال - يدل على بدء السفارة الكاذبة في زمن هذا السفير. فقد ادعى السفارة زوراً عن الإمام المهدي (عليه السلام) في زمان أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)، عدة أشخاص:

أولهم: أبو محمد الشريعي. قال الراوي: وأظن اسمه كان الحسن، وهو أول مَن أدعى مقاماً لم يجعله الله فيه (1) . و محمد بن نصير النميري ، ادعى ذلك

____________________

(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص244.

٤٩٥

الأمر بعد الشريعي (1) ، و أحمد بن هلال الكرخي (2) ، و أبو طاهر محمد بن علي بن بلال البلالي (3) ، و أبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخي أبي جعفر العمري (رضي الله عنه)، و إسحاق الأحمر (4) ، و رجل يعرف بالياقطاني (5) .

وقد كان بعضهم صالحين في مبدأ أمرهم، ومن أصحاب الإمامين الهادي والعسكري، فانحرفوا وسلكوا مسلك التزوير، فجابههم العمري (رضي الله عنه) بكل قوة وانتصر عليهم، وخرجت من المهدي التواقيع والبيانات بلعنهم والبراءة منهم، والتأكيد على كذب سفارتهم وسوء سريرتهم.

وأما الشيخ الحسين بن روح السفير الثالث، فقد ابتلي بأشدهم تأثيراً، وأوسعهم أصحاباً: محمد بن الشلغماني العزاقري (6) . وكان في مبدأ أمره مؤمناً مستقيماً، بل وكيلاً لابن روح، ثم ظهر انحرافه وسقم عقيدته على ما سيأتي تفصيله.

وأخرهم في دعوى السفارة الكاذبة - على ما يظهر من عبارة الشيخ الطوسي (7) - أبو دلف الكاتب ، حيث كان على ذلك إلى ما بعد

____________________

(1) الغيبة للشيخ لطوسي ص244.

(2) المصدر ص245.

(3) المصدر والصفحة.

(4) البحار ج13 ص79.

(5) المصدر والصفحة.

(6) غيبة الشيخ الطوسي ص248.

(7) المصدر ص255.

٤٩٦

وفاة السمري السفير الرابع. قال الراوي: فلَعناه وبرئنا منه؛ لأن عندنا أن كل مَن ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل.

بقي شخص ممن نسبت إليه دعوى السفارة، هو الحسين بن منصور الحلاَّج ، المعروف بمذهبه الصوفي، وله في هذه الدعوى مكاتبة مع أبي سهل ابن إسماعيل بن علي النوبختي.. كشفه فيها أبو سهل وأفحمه. ولم يعيِّن تاريخ هذه المكاتبة، إلاَّ أنها كانت - على المظنون، في زمن الحسين بن روح.

فهؤلاء الذين قامت حركة التزوير على أيديهم، فلا بد من التعرُّض إليهم، في حدود ما دل عليه تاريخنا.. معتمدين نفس الترتيب الذي ذكرناه في تعدادهم، فإنه يرجع إلى ناحية تسلسلهم في تاريخ دعوى السفارة في الجملة:

أولهم : أبو محمد الشريعي. قال الراوي: أظن اسمه كان الحسن، وكان أصحاب أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام)، ثم أصبح من أصحاب الحسن بن علي العسكري (عليه السلام). ثم إنه انحرف، وكان أول مَن ادعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلاً له، وكذب على الله تعالى وعلى حججه (عليهم السلام)، ونسب إليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء، فلعنته الشيعة وتبرَّأت منه.

وخرج توقيع الإمام (ع) بلعنه والبراءة منه. ثم ظهر منه القول

٤٩٧

بالكفر والإلحاد (1) . هذا ما قاله التاريخ، ولم يزد.

ثانيهم: محمد بن نصير النميري الفهري (2) ، كان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، فانحرف وافتتن، وأصبح يستخدم اسم صحبته للإمام العسكري (ع)، هذا العنوان العظيم الذي يعرف الناس شأنه وجلالته، في الربح المادي والمنفعة الشخصية.

فكتب الإمام العسكري كتاباً شديد اللهجة ضده وضد شخص آخر يدعى بابا القمي، ويسمَّى الحسن بن محمد، يكشف فيه انحرافهما ويظهر البراءة منهما، ويقول مخاطباً أحد أصحابه: (أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي، فأبرأ منهما. فإني محذّرك وجميع مواليَّ، وإني ألعنهما، عليهم لعنة الله. مستأكلين، يأكلان في الفتنة ركساً) .. إلى آخر بيانه (عليه السلام) (3) .

وكان يدعي أنه رسول نبي، وأن علي بن محمد الهادي أرسله، وكان يقول بالتناسخ، ويغلو في أبي الحسن الهادي ويقول فيه بالربوبية، ويقول بإباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في

____________________

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص244.

(2) المصدر ص244.

(3) الكشِّي ص438.

(4) المصدر والصفحة.

٤٩٨

أدبارهم، ويزعم أن ذلك من التواضع والإخبات والتذلل في المفعول به، وأنه من الفاعل إحدى الشهوات والطيبات، وأن الله لا يحرِّم شيئاً من ذلك. رآه بعض الناس وغلام له على ظهره، قال الراوي: فليقته فعاتبته على ذلك، فقال إن هذا من اللذات، وهو من التواضع لله وترك التجبر (1) .

وتبعه في أقواله جماعة، سموا بالنميرية، ذكروا أن منهم: محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات (2) ،وهو لا محالة، والد علي بن محمد بن موسى بن الفرات الذي وزر بعد ذلك للمقتدر المعاصر لسفارة ابن روح، استوزره عام 299 (3) ، وبقي على ما يزيد على الثلاث سنين في الوزارة. فمن هذا يظهر كيف تؤيِّد السلطات خط الانحراف الداخلي عن الأئمة (عليهم السلام)، بنحو خفي لا يكاد يُلتفت إليه.

وعلى أي حال، فإنه حين اعتل محمد بن نصير النميري العلة التي توفِّي فيها، قيل له - وهو مثقل اللسان - لمَن الأمر من بعدك؟ فقال بلسان ضعيف ملجلج: أحمد. فلا يدروا مَن هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق. فقالت فرقة: إنه أحمد ابنه. وفرقة قالت: هو

____________________

(1) انظر: غيبة الشيخ الطوسي ص244 وما بعدها. رجال الكشِّي ص438، بلفظ مقارب ونحوه في: فرق الشيعة.

(2) فرق الشيعة: ص93.

(3) المروج، ج4، ص213.

٤٩٩

أحمد بن موسى بن الفرات "وهو أخو علي بن محمد بن موسى وزيرالمقتدر"، وفرقة قالت: إنه أحمد بن أبي الحسين بن بشر بن يزيد. فتفرّقوا فلا يرجعون إلى شيء (1) .

ثالثهم: أحمد بن هلال الكرخي (2) العبرتائي (3) ، ولد عام 180 للهجرة وتوفِّي عام 267 (4) ، أي أنه عاصر الإمام الرضا (عليه السلام) ومن بعده حتى الإمام العسكري (عليه السلام) الذي توفِّي عام 260 كما عرفنا. وعاصر الغيبة الصغرى لمدة سبع سنوات ادعى خلالها الوكالة على المهدي. له كتاب يوم وليلة، كتاب نوادر، يرويه النجاشي في رجاله عنه بسنده إليه (5) ، اتخذ مسلك الصوفية وحج أربعاً وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه، لقيه أصحابنا في العراق وكتبوا عنه (6) . ذمه الإمام العسكري على ما روي عنه (7) ، وبعده تبّنى المهدي (عليه السلام) التحذير منه، فكتب إلى قوامه بالعراق (8) : (احذروا الصوفي المتصنِّع) ، وورد على القاسم بن العلا، نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال.

____________________

(1) انظر: غيبة الشيخ ص245، وفرق الشيعة ص94، ورجال الكشِّي ص438.

(2) انظر: الغيبة للشيخ الطوسي ص245.

(3) انظر: رجال النجاشي ص65، ورجال الكشِّي ص449.

(4) انظر: رجال النجاشي ص65.

(5) انظر: المصدر ص65.

(6) رجال الكشِّي ص449.

(7) انظر:: رجال النجاشي ص65.

(8) يعني: وكلاؤه والقائمون بأمره اجتماعياً.

٥٠٠