موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء ١

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)0%

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 663

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 663
المشاهدات: 33317
تحميل: 5993


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 663 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33317 / تحميل: 5993
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى)

موسوعة الإمام المهدي (عج) (تاريخ الغيبة الصغرى) الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام المهدي (ع) أثناء غيبته، إذ لو لم يكن موجوداً انقطعت الحجة وحصلت الفترة.

الأمر الثالث: أنه (ع) ذخر الله (عَزَّ وجَلَّ) لمستقبل الإسلام، وأعده لنشر الحق وطي الباطل، وإعلاء الدين وإطفاء الضلال. وهذه هي الأطروحة الحقة لمستقبل المجتمع المسلم عند ظهور المهدي. وهو المراد من الحديث النبوي (ع): (أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) .

الأمر الرابع: الإشارة إلى أنه يعيش أمداً طويلاً، يقدره الله (عَزَّ وجَلَّ) لأجل تنفيذ الوعد الكبير.

الأمر الخامس: الدعاء له بأن ينجيه الله (عَزَّ وجَلَّ) من كيد الأعداء، وشر المعتدين.

وذلك لغرضين:

أولهما : استجابة الله تعالى لهذا الدعاء، وتحقق هذا المطلوب الكبير، لأجل ادخاره ليومه الموعود.

ثانيهما : إعطاء التوجيه للقارئ أو الداعي، بأن يتمنّى سلامة الإمام المهدي (ع) من الأعداء وبغي الظالمين وشر الكائدين، فيدعو الله تعالى بذلك، وهو لا شك يجيب دعاه.

الأمر السادس: أن للمهدي (ع) القابلية الكاملة لقيادة المجتمع الإسلامي ودحر الأعداء وإقامة العدل الإلهي الكامل، وهو المستفاد من قوله: (اللَّهُم نور بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة) .

٥٨١

الأمر السابع: أنه (عليه السلام) بعد ظهوره يجدّد ما محي من الدين بفعل طول الزمن أو تبديل المنحرفين والظالمين، وما غيّر من أحكام القرآن، حتى يعود العدل الإسلامي الصحيح والدين الإلهي (على يديه: غضاً جديداً خالصاً مخلصاً، لا شك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه).

الأمر الثامن: إظهار أقصى الحرمة والعقوبة، في معاداته أو إنكار حقه أو مناوأته، سواء في حال غيبته أو بعد ظهوره، ويشمل ذلك: الخروج على تعاليم دينه وعصيان أوامر شريعته، فإن مخالفة الدين مخالفة له، ومناوأته مناوأة له، بطبيعة الحال.

فهذه هي الأمور الأساسية في دعوته الكبرى أثناء غيبته وبعد ظهوره (عجَّل الله فرجه).

يبقى أمران آخران واردان فيما ورد، من كلماته (عليه السلام)، لا بد من ذكرهما ومعرفة الوجه فيهما:

الأمر الأول: ما ورد في كلامه (عليه السلام) مع إبراهيم بن مهزيار، وكلامه (ع) مع علي بن إبراهيم بن مهزيار، من أن أباه الإمام العسكري (ع) أمره بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيه، وأن لا يسكن من الجبال إلاَّ وعرها، ومن البلاد إلاَّ عفرها. وعلَّل ذلك في حديثه مع إبراهيم بن مهزيار: (بأن لكل ولي من أولياء الله عدواً مقارعاً وضداً منازعاً). وفي حديثه مع علي بن إبراهيم

٥٨٢

بقوله: (والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي. فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي بالخروج) (1) . وكلاهما يعني الحذر من الأعداء والاتقاء من شرهم والابتعاد من كيدهم أثناء غيبته؛ توصلاً لحفظه لأجل تنفيذ اليوم الموعود.

وقد سبق أن قلنا إن للإمام المهدي (ع) غنى عن ذلك، بجهل الناس بشكله ونوعية حياته وعمله ومكانه، وقد أصبح هذا الأمر في الأزمة الأخيرة واضحاً، لوضوح استحالة تعرّف أي شخص على حقيقته ما لم يشأ هو ذلك.

إن أفضل أسلوب للاختفاء هو جعل الحياة بسيطة واضحة عادية، ليس فيها أي شيء ملفت للنظر، تسير كما تسير حياة أي فرد آخر. وأما تعقيد الهارب الحياة على نفسه، وتضييق السبل والدخول في مواقف صعبة والأماكن الحرجة، فإنها لا تزيده إلاَّ خطراً، ولا تقرّبه إلاَّ من الشر؛ فإن عيون السلطات والأعداء تحوم دائماً حول الأماكن الشاذة التي قد يسكنها الهاربون، والحياة المعقدة التي قد يتخذها الفارون. فتخليص النفس من هيئة الهارب وحياته، وإسباغ الحياة الطبيعية عليها، أفضل طريق للنجاة في أغلب الأحيان.

ولكننا - على أي حال - إذا التفتنا إلى العلة لمذكورة لذلك، وهو الحذر من الأعداء والاتقاء من كيد المعاندين والمنحرفين، عرفنا أن هذا الحذر متى توقّف على ذلك، كان ذلك ضرورياً لا محالة،

____________________

(1) الغيبة ص161

٥٨٣

أعني أن الحياة الطبيعية وإن كانت في الغالب هي السبيل الأفضل لنجاة الهارب، إلاَّ أنها - لا محالة - ليست دائماً كذلك. فإذا واجه الهارب ظرفاً لا تكتب فيه النجاة إلاَّ بالفرار إلي البراري والشعاب، كان ذلك ضرورياً جزماً.

ومن هنا يمكن أن يكون أمر الإمام العسكري لولده باختيار أقاصي الأرض ووعرها مكاناً له، مقيداً بقرينة التعليل، بما إذا كان هناك حاجة إلى ذلك. وأما إذا لم يحتج إلى ذلك، ولم يكن حضوره المواسم والحواضر والاتصال بالسفراء والاختلاط بالناس خطر، كان ذلك ممكناً له لا محالة، إن لم يكن ضرورياً له لممارسة نشاطه الاعتيادي الذي عرفناه.

الأمر الثاني: ما قاله (ع) برواية الشيخ بسنده عن الآودي، الذي عرفناه فيما سبق: (أن الأرض لا تخلو من حجة، ولا يبقى الناس في فترة، أكثر من تيه بني إسرائيل، وقد ظهر أيام خروجي) (1) .

ونحوه قال لبعض مواليه: (وإن تحبس نفسك على طاعة ربك، فإن الأمر قريب إن شاء الله تعالى) (2) .

وهذا المعنى بظاهره مقطوع العدم، بعد أن مضى على ذلك التاريخ ما يزيد على الألف عام، ولم يظهر الإمام المهدي (ع). ومعه لا بد من المصير إلى رفض هذه الأخبار أو إلى تأويلها.

____________________

(1) الغيبة ص152.

(2) الغيبة ص154.

٥٨٤

أما الرفض فله مجال واسع، وذلك: بأن ندعي: أن العبارات التي تدل على قرب الظهور، مدسوسة في هذه الأحاديث سهواً أو عمداً. وهذا - كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ - لا يعني طرح مجموع الخبر.

ويقرّب ذلك: أن خبر الآودي رواه الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) بدون هذه الزيادة (1) . على أن هذين الخبرين في أنفسهما ليسا صحيحين بحسب القواعد، وفيهما رواة مجاهيل.

وأما التأويل، فله أيضاً بعض المجال، وذلك بأن يقال: بأن المهدي (ع) استعمل المجاز في كلامه، لأجل رفع معنويات أصحابه ومواليه. وإشعارهم بضرورة الانتظار في كل وقت، خاصة في مثل قوله (ع): (وإن تحبس نفسك على طاعة ربك، فإن الأمر قريب).

ووجه المجاز، هو: أن يكون الزمان من حين صدور هذا الكلام إلى حين ظهور قيامه (ع) بدولة الحق يعتبر قليلاً، تجاه ما قاسته البشرية خلال عمرها المديد من آلام الظلم والحيف والاستبداد.

وعلى أي حال، فهذه هي الخطوط العامة للأطروحة الكاملة التي يذكرها الإمام المهدي (ع) لبعض مَن يقابله من الناس. وقد عرفنا مفصَّلاً أن الإمام المهدي كان يقضي حوائج الناس، ويحل مشاكلهم ويدبّر أمرهم عن طريق سفرائه الموكلين بهذا الأمر. ومن هنا لم تكن هناك حاجة واضحة وكبيرة لأن يتصدى

____________________

(1) انظر: المصدر (المخطوط).

٥٨٥

لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم بنفسه عند مقابلته، ما عدا ما قد يراه من المصلحة أحياناً.

وما يتصور تعلّق المصلحة فيه من ذلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: حل المشاكل الفكرية والعقائدي.

ثانيهما: حل المشاكل المالية، وبذل العطايا لبعض الموالين.

ثالثها: حل المشاكل الأخرى كالعائلية والاجتماعية وغيرها.

وأما القسم الأول، فالمهم فيه ما سمعناه قبل قليل من عرض الأطروحة الحقة على الآخرين. وحيث يكون الهدف الأساسي من المقابلة مكرّساً حول ذلك، لا يبقى بعده أمر ذي بال.

وأما القسم الثاني: فسيأتي الحديث عنه، في حقل قادم عند عرض الشئون المالية للإمام المهدي (ع).

وأما القسم الثالث: فلم نجد له نقلاً تاريخياً يطابقه. إذن، فحل المهدي (ع) للمشاكل العائلية والاجتماعية وغيره، كان مكرّساً عن طريق السفراء بما فيه الكفاية، ولا حاجة للقيام به أثناء المقابلة، التي ينبغي أن تكرس لغرض آخر أعمق وأهم.

الهدف الخامس: ممازجة الناس ومحادثتهم وتزريق التعليمات والتوجيهات إليهم..

بحسب ما هو المصلحة في كل وقت. وتعليمهم بعض الأدعية والأذكار.

فمن ذلك: ما سمعناه من رواية الآودي أنه كان يظهر في كل سنة يوماً لخواصه، فيحدثهم ويحدثونه. وذلك في حدود عام الثلاثمئة

٥٨٦

كما سبق.

ومن ذلك: أنه (عليه السلام) في عام 293 بعد طوافه حول الكعبة، خرج إلى جماعة، لم يكن فيهم مخلص غير محمد بن القاسم على ما سنسمع، فإنهم بينما هم جلوس إذا قاموا له هيبة له، وجلس متوسطاً فيهم. ثم التفت يميناً وشمالاً، ثم قال: (أتدرون ما كان أبو عبد الله (عليه السلام) يقول في دعاء الإلحاح؟) ، قال: (كان يقول: اللَّهُم إني أسألك باسمك الذي به تقوم السماء، وبه تقوم الأرض، وبه تفرق بين الحق والباطل، وبه تجمع المتفرق وتفرق بين المجتمع، وبه أحصيت عدد الرمال وزنة الجبال وكيل البحار: أن تصلِّي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي من أمري فرجاً).

ثم نهض ودخل الطواف. قال الراوي: فقمنا لقيامه، حتى إذا انصرف وأنسينا أن نذكر أمره وأن نقول من هو وأي شيء هو؟ إلى الغد في ذلك الوقت، فخرج علينا من الطواف، فقمنا له كقيامنا بالأمس، وجلس في مجلسه متوسطاً، فنظر يميناً وشمالاً، وقال: أتدرون ما كان يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد صلاة الفريضة، فقلنا: وما كان يقول؟ قال: (كان يقول: إليك رفعت الأصوات وعنت الوجوه وضعت الرقاب، واليك التحاكم في الأعمال...) إلى آخر الدعاء.

ثم نظر بعد هذا الدعاء يميناً وشمالاً فقال: أتدرون ما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في سجدة الشكر؟ فقلنا: وما كان يقول؟..

٥٨٧

فذكر لهم نص دعاء آخر. ثم قام ودخل الطواف. فقاموا لقيامه.

وهكذا جاءهم في اليوم الثالث، ونظر يميناً وشمالاً، وعلّمهم نص دعاء آخر لعلي بن الحسين. قال الراوي: ثم نظر يميناً وشمالاً، ونظر إلى محمد بن القاسم من بيننا،فقال: يا محمد بن القاسم أنت على خير إن شاء الله تعالى. وكان محمد بن القاسم يقول بهذا الأمر. ثم قام ودخل الطواف فما بقي منا أحد إلاَّ وقد ألهم ما ذكره من الدعاء.. إلى آخر الرواية (1) .

فنرى المهدي (عليه السلام)، هنا لا يتعرّض إلاَّ لتعليم الدعاء والخشوع لله (عَزَّ وجَلَّ). وهو أمل مطلوب في الدين ومتسالم عليه بين سائر المسلمين، مخلصهم ومنحرفهم على السواء. وبذلك تجنّب شر الجماعة غير المخلصين الموجودين في ضمن هؤلاء الناس، ولم يحصل منهم إلاَّ على الاحترام و التقدير والتصديق به والانفعال بأقواله وأدعيته.

ولكن المهدي (عليه السلام) في نفس الوقت يحاول أن يحلل ذلك بالدعوة إلى الحق الذي يراه، من حيث لا يشعر الآخرون، فيروي الأدعية عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، ويشير إلى المخلص المؤمن به الموجود ضمن هذه الجماعة ويقول له أمام الجميع: (أنت على خير إن شاء الله تعالى) ليفسح المجال للآخرين بالتفكير الجدي أنه بماذا أصبح هذا الرجل على خير دونهم.

وهو في كل ذلك يتكلم كفرد اعتيادي، ليس له أي ميزة على

____________________

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.

٥٨٨

الآخرين، سوى هذا العلم الذي يحمله والروايات التي يقولها. وبذلك استطاع أن يدعو إلى الإسلام الحق، ومن دون أن يقع في خطر أو أن يتوجه إليه نقد.

يبقى أن تعرف أنه (عليه السلام) حين كان يكثر من النظر إلى اليمين والشمال، إنما كان يريد التأكد من موقفه وعدم وجود ما يدل عليه أو مَن يعرفه أو مَن يشكِّل عليه خطراً بشكل من الأشكال، في حديثه هذا. لا أنه كان خائفاً بالفعل، وإلاّ لكان في غنى عن مواجهة هؤلاء الجماعة بمثل هذا القول.

ولم يكن ذلك الموقف مقتضياً التصريح بشخصيته، أو عرض شيء من تعاليمه أو فلسفة غيبته أو أطروحة عمله، وما ذلك إلاَّ لوجود المنحرفين غير المخلصين من هذه لجماعة... وإنما عرفوا أنه هو المهدي بعد أيام ببعض القرائن التي كانت لديهم (1) .

***

فهذه هي الأهداف العامة الأساسية التي كان المهدي (ع) يتوخّاها في مقابلاته للآخرين.

وأما الهدف السادس والأخير، وهو قبض المال ممّن حمل إليه المال، فقد عرفنا مثاله من تسليم وفد القميين المال إليه من أول يوم من وفاة أبيه. ومورد تفصيل الكلام فيه هو الحقل الخاص بالأمور المالية للإمام المهدي.

____________________

(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.

٥٨٩

تبقى هناك أهداف خاصة كان المهدي يتوخّاها من وراء بعض المقابلات، تندرج تحت عنوانين رئيسين، عرفنا أمثلتهما فيما سبق فلا حاجة إلى إفاضة الكلام فيها.

أحدهما: إجابة شخص لأصرّ على السفير الثاني (رضي الله عنه) إن يوفّر له فرصة المقابلة مع الإمام المهدي (ع). وهذا هو الذي رأى المهدي (ع) بزي التجّار (1) كما سبق أن سمعنا.

ثانيهما: تأنيب شخص منحرف عن انحرافه وسوء عمله، ولذلك عدة أمثلة، فمنها موقفاه مع عمّه جعفر بن علي الذي عرفناهما في القسم الأول من هذا التاريخ، وموقفه مع محمد بن علي بن بلال الذي عرفناه مدّعياً للسفارة زوراً، إذ أشرف عليه المهدي (عليه السلام) من علوِّ داره وأمره بدفع ما عنده من الأموال إلى العمري.

ووراء هذه الأهداف العريضة، أمور ضمنية قد يتعرّض لها المهدي في كلامه أو يستهدفها في عمله، عند مقابلته مع الآخرين. إلاَّ أنها حيث كانت صغيرة الحجم كثيرة العدد، فلا حاجة إلى إطالة المقام ببيانها.

الحقل الرابع:

تصرفه في الشئون المالية

من قبض وتوزيع، في غيبته الصغرى عن طريق غير السفراء

____________________

(1) انظر تفصيل الحادثة في كتاب غيبة الشيخ الطوسي ص164.

٥٩٠

الأربعة.. إما عن طريق المقابلة معه، أو بدون ذلك. أما السفراء الأربعة فقد عرفنا حالهم تفصيلاً فيما سبق.

كان أول مال قبضه الإمام المهدي (عليه السلام)، هو المال الذي حمله إليه وفد القميين الذي ورد إلى سامراء، في اليوم الأول لوفاة الإمام العسكري (عليه السلام).

ثم إنه (عليه السلام) لم يشأ أن يستمر على ذلك، بل أعلن منذ ذلك الحين تنصيبه سفيراً في بغداد لقبض الأموال وإخراج التوقيعات. واستمر السفراء على القبض لسائر الأموال التي ترد من سائر الأطراف الإسلامية، كما سبق.

وكان السفراء في السنوات الأولى للغيبة الصغرى، يحوّلون بعض الأموال إلى سامراء، حيث كان يسكن المهدي (ع) في تلك الفترة، فكان يتم إخراج التعاليم بشأنها من المهدي (ع) عن طريق بعض الوكلاء الخاصين (1) ، وكان يسوءه رد المال الذي كان يعطيه لمواليه ويعتبره خطأً موجباً الاستغفار (2) .

وأما فيما بعد ذلك من الزمان، فيتم الكلام فيه في عدة نقاط:

النقطة الأولى: أن المهدي (ع) كان يطالب عن طريق سفرائه بتوقيعاته، بدفع الأموال التي في أيدي الناس له، ولا يجوز لهم التخلُّف أو التقصير، ولا في درهم واحد.

____________________

(1) البحار ج13 ص79

(2) انظر الإرشاد ص333 وأعلام الورى ص419

٥٩١

فمن ذلك: التوقيع الذي ورد على الشيخ محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ابتداءً، لم يتقدمه سؤال منه، نسخته:

(بسم الله الرحمن الرحيم

لعنه الله والملائكة والناس أجمعين على مَن استحل من أموالنا درهماً) (1) .

وقوله - في توقيع آخر -: (وأمّا المتلبّسون بأموالنا، فمَن استحل شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران) (2) .

ومن توقيع آخر: (وأمّا ما سألت عنه من أمر مَن يستحل ما في يده من أموالنا ويتصرّف فيه تصرّفه في ماله من غير أمرنا، فمَن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه يوم القيامة. وقد قال النبي (ص): المستحل من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب). فمَن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا، وكانت لعنة الله عليه لقوله عَزَّ وجَلَّ: ( أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ).

إلى غير ذلك من النصوص.

نستطيع أن نفهم من ذلك أمرين:

الأمر الأول: أنه كان للمهدي (عليه السلام) أموال لدى الناس وفي ذممهم، متكوِّنة من تلك الأموال التي هي للإمام الشرعي في نظر الإسلام، كالأنفال والخمس والخراج. وحيث يرى المهدي (ع) ثبوت الإمامة لنفسه، فهو يرى ملكيته لهذه الأموال، وكونه أحق بها من أي شخص آخر من الحكَّام والمحكومين معاً.

____________________

(1) الاحتجاج ص ج2

(2) المصدر ص283

٥٩٢

ومطالبة الإمام المهدي (ع) بهذه الأموال في واقعه، مطالبة بتطبيق هذه الأحكام الإسلامية بوجوب دفع هذه إلى الإمام (ع)، ويكون الخارج على هذا القانون، عاصياً لله (عَزَّ وجَلَّ) و للإمام ومستحقاً للعقاب.

ولعلنا نستطيع أن نفهم من مجموع الأخبار الواردة في هذا الصدد بالنسبة إلى الوكلاء والسفراء، أن تجاراتهم كانت على الأغلب بأموال الإمام نفسه، لا بأموالهم الشخصية، وإن كانوا على ذلك من ظاهر الحال. ومن هنا كان بإمكانهم أن يستعملوا ما يقبضوه من الموالين من أموال الإمام في التجارة، بإذن الإمام (عليه السلام). وتكون الأرباح للإمام (ع)، أو بينهما بنسبة معينة، حسب الاتفاق.

الأمر الثاني: أن هذه الحدية الكاملة من قبل المهدي (عليه السلام) في المطالبة بالأموال التي ترجع إليه، يمكن فهمهما على مستويين رئيسيين:

المستوى الأول: المستوى العام بالنسبة إلى سائر الناس الذين تشتغل ذممهم بشيء من أموال الإمام.

ونحن إذا نظرنا بهذا المستوى، نجد أن غمط أموال الإمام - لولا الدافع الإيماني القوي - من أسهل الأشياء. فليس على الشخص المنحرف، الذي لا يريد أن يدفع إلى المهدي (عليه السلام) أمواله، أي حسيب أو رقيب، بعد ما عرفناه من غيبة المالك الحقيقي، وتخفّي نوّابه وستر هذه الصفة فيهم إلى أكبر حد مستطاع، وعدم توفّر السلطة التنفيذية لديهم لاقتضاء الأموال المغدورة.

إذن، فلا بد من إيجاد دافع إيماني شرعي لدى الفرد المسلم بدفع ما

٥٩٣

يملكه الإمام (ع) في ذمته، وعدم جواز التخلّف عنه، وذلك للحد من التيار العام القاضي بدفع هذه الأموال إلى السلطات الحاكمة دون الإمام.

المستوى الثاني: المستوى الخاص، حين تتعلق المصلحة الاجتماعية الإسلامية بالعفو وعدم المطالبة بالأموال، فإنه (عليه السلام) كان يعطف في توقيعاته موارد العفو والتحليل على موارد التحريم، لكي يفهم الآخرون بأن الغرض من المطالبة هو الوصول إلى المصلحة الإسلامية، دون الحرص على الأموال. فمتى اقتضت المصلحة العفو وغض النظر كان ذلك نافذاً.

فمن ذلك قوله (عليه السلام) في أحد توقيعاته: (وأما المتلبّسون بأموالنا، فمَن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس، فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه من حلٍّ إلى وقت ظهور أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث) (1) . ونعرف من التعليل بطيب الولادة أن المحلَّل هو خصوص خمس الجواري المملوكات المجلوبات عن طريق الفتح الإسلامي، لا كل الخمس، وهو ما يذهب إليه الفقهاء عادة.

ومن ذلك قوله في توقيع آخر: (وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر وتقرّباً إليكم. فلا يحل لأحد أن يتصرف من مال غيره بغير إذنه. فكيف يحل ذلك من مالنا؟!

____________________

(1) الإحتجاج ص283 وما بعده.

٥٩٤

مَن فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومَن أكل من أموالنا شيئاً، فإنما يأكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً. وأما ما سالت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم بها ويعمرها، ويؤدي مَن دخلها خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لمَن جعله صاحب الضيعة قيِّماً عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره. وأما ما سألت عنه من الثمار من أموالنا يمر به المار فيتناول منه ويأكل، وهل يحل له ذلك، فإنه يحل له أكله ويحرم عليه حمله) (1) .

النقطة الثانية: أنه كان للمهدي (عليه السلام) بواسطة أمواله العامة علاقات مالية خاصة يمثّلها نوّابه الأربعة وغيرهم، تجاه كل مَن له علاقة مالية في تجاراتهم أو حق شرعي في ذمته. وكان (عليه السلام) يأمر باقتضاء هذه الأموال، وقد يعطي وصلاً بقبضها، ومن هنا ينفتح الكلام في أمرين:

الأمر الأول: أمره (عليه السلام) باقتضاء أمواله ودفعها إليه.

فمن ذلك ما يرويه بعض مواليه عن نفسه قائلاً: كان للناحية عليَّ خمسمئة دينار، فضقت بها ذرعاً. ثم قلت: لي حوانيت اشتريتها بخمس مئة وثلاثين ديناراً قد جعلتها للناحية بخمسمئة دينار، ولم أنطق بذلك. فكتب - يعني الإمام المهدي (ع) - إلى محمد بن جعفر - وهو

____________________

(1) الاحتجاج ص299 ج2 وما بعده.

٥٩٥

أحد الوكلاء -: (اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمئة دينار التي لنا عليه) (1) .

فتراه (عليه السلام) يأمر وكيله بقبض الحوانيت، دلالة على كفاية دفعها إلى الناحية، وفاءً لِمَا في ذمة محمد بن هارون تجاهها.. إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل.

الأمر الثاني: إعطاؤه الوصول التي تدين قبض الأموال.

فمن ذلك: أن محمد بن الحسن الكاتب المروزي وجّه إلى حاجز الوشا - وهو أحد الوكلاء - مئتي دينار، وكتب إلى الغريم - يعني المهدي (ع) - بذلك، فخرج الوصول (2) .

ومن ذلك: ما تحدّث به أحدهم، فقال: اجتمع عندي خمسمئة درهم ينقص عشرون درهماً، فلا أحب أن ينقص هذا المقدار، فوزنت من عندي عشرين درهماً و دفعتها إلى الأسدي - وهو أحد الوكلاء - ولم أكتب بخبر نقصانها، وأني أتممها من مالي. فورد الجواب: (قد وصلت الخمسمئة التي لك فيها عشرون) .

وتسمية المهدي (ع) بالغريم، دليل واضح على إيمان قواعده الشعبية بأنه دائن لهم بحقوق أموال، وأنهم مرتبطون به مالياً إلى جانب ارتباطهم العقائدي.

النقطة الثالثة: أن المهدي (عليه السلام) قد يستقل أحياناً بالإيعاز

____________________

(1) غيبة الشيخ الطوسي ص171

(2) المصدر نفسه ص257

٥٩٦

بدفع المال إلى شخص دون توسيط سفرائه.

كالذي سبق أن سمعناه في أبي سورة، المدعو بمحمد بن الحسن بن عبد الله التميمي، إذ رافقه المهدي (عليه السلام) من سفره من كربلاء إلى الكوفة، وحوّله على علي بن يحيى الرازي ليقبض المال الذي عنده، وأعطاه صفته والدلالة على حقيقته من طرف خفي (1) .

فهذه بعض التصرّفات المالية التي كان يقوم بها المهدي (ع)، فإذا ضمناها إلى ما عرفناه من التصرفات المالية للسفراء الأربعة، وعرفنا أنه ليس كل ما حدث في تلك الفترة التي نؤرَّخ لها قد نقل في التاريخ ووصل إلينا، كما سبق أن بيَّنا في مقدمة هذا التاريخ.. عرفنا مدى السعة والشمول الذي كان عليه النشاط الاقتصادي للإمام المهدي (عليه السلام)، بالرغم من خفائه وعزلته.

الحقل الخامس:

حَلُّه للمشكلات العامة والخاصة

كان (عليه السلام) - وهو في غيبته - قائداً فذاً، يشعر بالآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية، ويتجاوب معهم فكراً وعملاً بما تقتضيه مصلحتهم ومصلحة الإسلام.

____________________

(1) انظر تفصيل الحادثة في الغيبة ص163 وانظر ص181 أيضاً.

٥٩٧

فكان (عليه السلام) يَبُتُّ بالأمور الخاصة والعامة، ويذلِّل مشاكلها عن طريق ما يعرفه من حال المجتمع والأفراد. ويتمثّل ذلك في عدة نقاط:

النقطة الأولى: استعراضه للمشكلات العامة ومحاولته حل بعضها.

وهنا لا بد أن نفهم أمرين:

الأمر الأول: أنه ليس من الصعب على الإمام المهدي (ع)، بالرغم من غيبته وتخفّيه، أن يكون على مستوى الأحداث العامة في المجتمع. فإننا إما أن ننظر إليه كإمام عالم بالغيب بتعليم من الله عَزَّ وجَلَّ، كما دلت عليه سائر الدلالات السابقة، وإما أن نجرّد منه شخصاً عادياً من بشريته، قائداً في مسئوليته.

أما على الفرض الأول - وهو كونه إماما عالماً بالغيب - فمن الواضح اطلاعه على الأحداث العامة وإن لم يكن يعيش غمارها، فضلاً عما إذا كان يعيش فيها على ما سبق أن عرفناه.

وأما على الفرض الثاني، حيث تفرض عليه مسئولياته أن يكون مواكباً للأحداث، شاعراً بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية.. فإن له طريقين رئيسيين يمكن أن يقترنا ويمكن أن يفترقا في الاطلاع على الأحداث.

الطريق الأول: اختلاطه المباشر بالناس، وممازجته معهم، بشكل لا يشعرون بهويَّته وحقيقته، فإننا سبق أن عرفنا أنه مجهول العنوان والاسم من حيث انطباقه على الشخص. وليس مختفياً جسماً عن الناس

٥٩٨

كما قد تقول به الأفكار غير المبرهنة.

وقد رأينا صوراً عن ممازجته للناس ومحادثته معهم، تارة بعنوانه الصريح وحقيقته، وأخرى بغيره، بحسب ما كان يرى من المصلحة باختلاف الزمان والمكان. ومعه يكون - بطبيعة الحال - مطّلعاً بشكل تفصيلي وكبير على سائر الأحداث، ومشاطراً للأمة الإسلامية بالأحاسيس، بل يكون مشاركاً بالعمل على رفع تلك الأمة وتحقيق آمالها، في حدود المصلحة والإمكان.

الطريق الثاني: استقصاؤه للأخبار عن طريق سفرائه الأربعة وغريهم ممّن كانوا يحظون بمقابلته، على ما عرفنا، فإنه من المؤكد أن قسماً مهماً من الأحاديث التي يقولها المهدي (ع) للآخرين، مما سمعناه ومما لم نسمعه، وخاصة سفراؤه المسئولون عن قيادة قواعده الشعبية بالنيابة عنه، تتضمن التوجيهات الاجتماعية والنقد للأوضاع العامة وتشخيص الوظيفة الإسلامية تجاهها.. على المستوى العالي الذي يراه المهدي (ع) مناسباً مع مخاطبيه.

بل من المستطاع القول: إن المهدي (ع) يعطي توجيهاته وتثقيفه العام للمجتمع والأفراد، وإن كان مجهول العنوان. فإنه إذ يجالس الناس أو يساكنهم أو يرافقهم في طريق أو سفر، وإن لم يعرفوه، يحاول باستمرار أن يعطيهم من هداه توجيهه بالنحو الذي ينفع الفرد والمجتمع معاً، ويكون طريقاً إلى تذليل المشاكل ورفع الآلام، بالنحو الذي تقتضيه المصلحة.

٥٩٩

وهذا هو الباب الواسع الذي يفسِّر لنا الحديث الوارد عنه (عليه السلام) بأن فائدته حال غيبته كالشمس إذا غيَّبها السحاب. وبه نستطيع أن نفهم أحد الخطوط الرئيسية في غيبته الصغرى على ما سنعرض له بالتفصيل من هذا التاريخ والتاريخ القادم.

الأمر الثاني: أننا سنرى أن المشكلات العامة التي تصدّى المهدي لحلها، ذات مسار معين يمت إلى حل مشكلات قواعده الشعبية بشكل رئيسي. ولا نكاد نجده متعرضاً لحل مشكلة من نوع آخر في المجتمع المسلم أو الدولة.

فإن المشكلات العامة التي يتصور وقوعها في المجتمع المسلم، ذات ثلاثة مسارات:

المسار الأول: مشكلات الدعوة الإسلامية. وهو ما يقع في الحدود الإسلامية وفي الفتح الإسلامي من صعوبات وعقبات تجاه الكافرين.

المسار الثاني: مشكلات الجهاز الحاكم ومن يمت له بصلة. وهو ما يقع بين القواد وأمراء الأطراف وبين الخليفة أو بينهم أنفسهم، من مشكلات وحروب، وعلى رأسها مشكلات الخوارج والقرامطة، على ما عرفناه في الفصل الخاص بالتاريخ العام لهذه الفترة.

المسار الثالث: المشكلات التي تحدث في القواعد الشعبية التي تمت إلى الإمام المهدي (ع) بصلة الولاء. بسبب الضغط والإرهاب والمطاردة التي قوم بها الحكَّام ومن إليهم تجاههم.

٦٠٠