أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 56302
تحميل: 7049


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56302 / تحميل: 7049
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وليس الّذي استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر، لأن النسيان قد يخص شيئا دون شيء، ويتعلّق بجهة دون جهة، وهذا أمر متعارف، فلا ينكر أن ينسى الإنسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه، ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره، متكلّما فيه بأبلغ الكلام وأحسنه، بل ربما كان الحصر والذّهاب عن القصد يحميان القريحة، ويوقدان الفكرة، ويبعثان على أحسن الكلام وأبرعه، ليكون ذلك هربا من العي وانتفاء من اللّكنة.

ومن أحسن ما روي من الكلام وأبرعه في حال الحصر والانقطاع عن المقصود من الكلام ما أخبرني به أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم.

قال المرزباني: وأخبرنا ابن دريد مرة أخرى قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قالا: صعد خالد بن عبد الله القسري(١) يوما المنبر بالبصرة فأرتج عليه، فقال: (أيها الناس، إن الكلام - وقال أبو حاتم: إن هذا القول - يجيء أحيانا، ويذهب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويعزّ عند عز وبه طلبه، وربما كوبر فأتى، وعولج فأبطأ وقال ابن الكلبي: ربما طلب فأبى، وعولج فقسا - فالتّأتي لمجيئه أصوب من التعاطي لأبيّه). ثم نزل. فما رؤي حصر أبلغ منه.

وقال أبو حاتم: (والتّرك لأبيّه أفضل من التعاطي لمجيئه، وتجاوزه عند تعززه أولى من طلبه عند تنزّحه؛ وقد يختلج من الجريء جنانه، ويرتج على البليغ لسانه)، ثم نزل.

وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزباني على وجه آخر قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي قال: كان خالد بن عبد الله القسري حين ولاّه هشام بن عبد الملك يكثر الخطب والتبالغ، فقدم واسطا، فصعد المنبر فحاول الخطبة فأرتج عليه، فقال: (أيها الناس، إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيعز عند عزوبه طلبه؛ ويتسبب عند مجيئه سببه، وربما كوثر فأبى، وعوسر فقسا، والتأتّي لمجيئه أسهل من التعاطي لأبيه؛ وتركه عند تعزّزه(٢) أحمد من طلبه

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (القسري: منسوب إلى قسر، وهي قرية من قرى العرب).

(٢) ف: (تعذره).

١٠١

عند تنكّره، فقد يرتج على اللسن لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا ينشأ إذا امتنع، ومن لم تمكن له الخطوة، فخليق أن تعنّ له النّبوة).

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثني أبو العباس المنصوري قال: صعد أبو العباس السفّاح المنبر فأرتج عليه فقال: (أيها الناس، إنما اللسان بضعة من الإنسان، يكلّ إذا كلّ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح، ونحن أمراء الكلام، منّا تفرعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنّا لا نتكلم هذرا؛ ولا نسكت إلا معتبرين).

ثم نزل.

فبلغ ذلك أبا جعفر فقال: للّه هو! لو خطب بمثل ما اعتذر لكان من أخطب الناس.

وهذا الكلام يروى لداود بن علي.

وبهذا الإسناد عن محمد بن الصباح عن قثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه قال: أراد أبو العباس السفّاح يوما أن يتكلم في أمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه، وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه، فقال داود بن عليّ بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

إن أمير المؤمنين، الّذي قلّده الله سياسة رعيته عقل من لسانه عند ما تعهّد من بيانه، ولكل مرتق بهر، حتى تنفّسه العادات، فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم، ورغد عيشكم).

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنا عبد الله بن إسحاق بن سلاّم قال: صعد عثمان بن عفان المنبر فأرتج عليه فقال: (أيها الناس، سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عي نطقا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال).

وروى محمد بن يزيد النحوي هذا الكلام بعينه عن زياد بن يزيد بن أبي سفيان(١) وقد

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يزيد بن أبي سفيان) ؛ وفيهما أيضا. (يزيد بن أبي سفيان يقال له: يزيد الخير؛ واستعمله أبو بكر على الشام، ثم أقره عمر بعده؛ ومات بالشام وهو عامل عمر في طاعون عمواس في سنة ثماني عشرة؛ فولى عمر أخاه معاوية ما كان يليه، ولا عقب له).

١٠٢

خطب على بعض منابر الشام وإن عمرو بن العاص لما بلغه كلامه قال: هنّ مخرجاتي من الشام؛ استحسانا لكلامه.

وروى محمد بن يزيد النحوي قال: بلغني أن رجلا صعد المنبر أيام يزيد - وكان واليا على قوم - فقال لهم: (أيها الناس، إني إلاّ أكن فارسا طبّا بهذا القرآن فإن معي من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خلفا منه، وما أساء القائل أخو البراجم(١) حيث يقول:

وما عاجلات الطّير يدنين للفتى

رشادا، ولا من ريثهنّ يخيب(٢)

وربّ أمور لا تضيرك ضيرة

وللقلب من مخشاتهنّ وجيب(٣)

ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه

على حادثات الدّهر حين تنوب(٤)

وفي الشّكّ تفريط، وفي الحزم قوّة

ويخطي الفتى في حدسه ويصيب(٥)

فقال له رجل من كلب: إنّ هذا المنبر لم ينصب للشعر، بل ليحمد الله عليه ويصلّي على النبي صلّى الله عليه وآله وللقرآن، فقال: أما لو أنشدتكم شعر رجل من كلب لسرّكم، فكتب إلى يزيد بذلك فعزله، وقال: قد كنت أرى أنك جاهل، ولم أحسب أنّ الحمق بلغ بك هذا كلّه، فقال له: أحمق منّي من ولاّني.

____________________

(١) الأبيات في الكامل ٣: ٢٠١ - بشرح المرصفي؛ ونسبها إلى ضابئ بن الحارث البرجمى؛ وقبلها:

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

(٢) رواية الكامل:

وما عاجلات الطّير تدنين من الفتى

نجاحا ولا عن ريبهنّ يخيب

قال المبرد في شرح البيت:" يقول: إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا عنه، ولا إذا أبطأت خاب؛ فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه إنما له ما قدّر له؛ والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به؛ والسانح ما أراك ميامنه فأمكن الصائد، والبارح ما أراك مياسره فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له".

(٣) المخشاة كالمخشية: مصدر خشية يخشاه، ووجيب القلب:

خفقانه واضطرابه.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (حيث تنوب).

(٥) وبعده:

ولست بمستبق صديقا ولا أخا

إذا لم تعدّ الشيء وهو يريب

١٠٣

وكان يزيد بن المهلب(١) ولى ثابت قطنة بعض قرى خراسان، فصعد المنبر فحصر فنزل وهو يقول:

فإلاّ أكن فيكم خطيبا فإنني

بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس؛ فبلغ ذلك حاجب(٢) الفيل فقال:

أبا العلاء لقد لاقيت معضلة

يوم العروبة من كرب وتحنيق

أما القران فلا تهدى لمحكمه

ولم تسدّد من الدّنيا بتوفيق

لمّا رمتك عيون النّاس هبتهم

وكدت تشرق لمّا قمت بالريق

تلوى اللّسان إذا رمت الكلام به

كما هوى زلق من حالق نيق(٣)

وروي أن بعض خلفاء بني العباس - وأظنه الرشيد - صعد المنبر ليخطب، فسقطت ذبابة على وجهه فطردها، فعادت فحصر وأرتج عليه، فقال: أعوذ بالله السميع العليم:( ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج: ٧٣]، ثم نزل، فاستحسن ذلك منه.

ومما يشاكل هذه الحكاية ما حكاه عمرو بن بحر الجاحظ قال:" كان(٤) لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار لم ير الناس حاكما قطّ [و لا زمّيتا](٥) ، ولا ركينا(٦) ، ولا وقورا، ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الّذي ضبط وملك؛ وكان يصلي الغداة

____________________

(١) الخبر في الأغاني ١٣: ٤٧ - ٤٨.

(٢) اسمه حاجب بن دينار المازني؛ ذكره الجاحظ في الحيوان ١: ١٩١، والبيتان ٢: ١٨٣.

(٣) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (من جانبي نيق). ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف أيضا: (من جانب النيق)، والنيق: أعلى الجبل.

(٤) الحيوان ٣: ٣٤٣، ونقله الثعالبي في ثمار القلوب ٣٩٦ - ٣٩٧.

(٥) زيادة من م؛ وهي توافق ما في الحيوان والزميت، كسكيت العظيم الوقار.

(٦) الركين: الرزين.

١٠٤

في منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه، فيحتبي ولا يتّكئ، ولا يزال منتصبا لا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا تحلّ حبوته(١) ، ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة؛ فلا يزال كذلك؛ حتى يقوم لصلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة العصر، ثم يرجع إلى مجلسه(٢) ، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى مجلسه(٣) ، بل كثيرا ما يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهد والشروط والوثائق، ثم يصلي العشاء(٤) وينصرف، لم يقم في تلك الولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب، وكذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وشتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يدا(٥) ، ولا يشير برأسه؛ وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز؛ ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة.

فبينما هو ذات يوم كذلك، وأصحابه حوله(٦) وفي السّماطين(٧) بين يديه إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال السكوت والمكث، ثم تحوّل إلى مؤق(٨) عينه؛ فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضّته، ونفاذ خرطومه؛ كما رام الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه؛ أو يذبّ بإصبعه؛ فلما طال عليه ذلك من الذباب وأوجعه وأحرقه وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل عنه أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح؛ فتنحى ريثما سكن جفنه.

ثم عاد إلى موقفه(٩) ثانيا، أشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه في مكان قد كان أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد

____________________

(١) الحبوة، بالفتح وتضم: أن يجمع الرجل بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.

(٢) الحيوان: (لمجلسه).

(٣) الحيوان: (إلى محله).

(٤) في ثمار القلوب: (العشاء الأخيرة).

(٥) الحيوان: (يده).

(٦) م: (حواليه) ؛ وهي رواية الحيوان.

(٧) السماط: الصف.

(٨) المؤق: طرف العين مما يلي الأنف.

(٩) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (موقه)

١٠٥

في شدة الحركة(١) في تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ جهده(٢) ، وبلغ مجهوده، فلم يجد بدّا من أن يذبّ عنه بيده، ففعل ذلك وعيون القوم إليه يرمقونه، كأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بمقدار ما ردّ يده، وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه؛ فألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن ذلك كلّه بعين من حضر من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألجّ(٣) من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمت أني كنت عند الناس من أرصن الناس، وقد غلبني وفضحني أضعف خلق الله، ثم تلا قول الله تعالى:( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) ".

____________________

(١) الحيوان: (في فتح العين وتتابع الفتح).

(٢) م: (صبره). وهي رواية الحيوان وثمار القلوب.

(٣) في الثمار: (ألح)، بالحاء.

١٠٦

مجلس آخر

[٥٩]

تأويل آية :( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ؛ [البقرة: ٤٩].

فقال: ما تنكرون أن يكون في هذه الآية دلالة على إضافة الأفعال التي تظهر من العباد إليه تعالى، من وجهين: أحدهما أنه قال بعد ما تقدم من أفعالهم ومعاصيهم:( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) فأضافها إلى نفسه، والثاني أنه أضاف نجاتهم من آل فرعون إليه فقال:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ ) ، ومعلوم أنهم هم الذين ساروا حتى نجوا؛ فيجب أن يكون ذلك السير من فعله على الحقيقة حتى تصح الإضافة.

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( وَفِي ذلِكُمْ ) فهو إشارة إلى ما تقدّم ذكره من إنجائه لهم من المكروه والعذاب: وقد قال قوم: إنه معطوف على ما تقدّم من قوله تعالى:

( يابَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) ؛ [البقرة: ٤٧]، والبلاء هاهنا الإحسان والنعمة.

ولا شك في أن تخليصه لهم من ضروب المكاره التي عددها الله نعمة عليهم وإحسان إليهم؛ والبلاء عند العرب قد يكون حسنا، ويكون شيئا، قال الله تعالى:( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) [الأنفال: ١٧]؛ ويقول الناس في الرجل إذا أحسن القتال والثبات في الحرب: قد أبلى فلان، ولفلان بلاء؛ والبلوى أيضا قد يستعمل في الخير والشر؛ إلا أن أكثر ما يستعملون البلاء الممدود في الجميل والخير، والبلوى المقصور في السوء

١٠٧

والشر، وقال قوم: أصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر؛ لأن الاختبار والامتحان قد يكون في الخير والشر جميعا، كما قال تعالى:

( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ) ؛ [الأعراف: ١٦٨]، يعني اختبرناهم، وكما قال تعالى:

( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) ؛ [الأنبياء: ٣٥]، فالخير يسمى بلاء، والشر يسمى بلاء؛ غير أن الأكثر في الشر أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاء وبلاء؛ وقال زهير في البلاء الّذي هو الخير:

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو(١)

فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعمة التي يختبر بها عباده. وكيف يجوز أن يضيف تعالى ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الأبناء وغيره إلى نفسه، وهو قد ذمّهم عليه، ووبّخهم! وكيف يكون ذلك من فعله؛ وهو تعالى قد عدّ تخليصهم منه نعمة عليهم! وكان يجب على هذا أن يكون إنما نجاهم من فعله تعالى بفعله، وهذا مستحيل لا يعقل ولا يحصل؛ على أنّه يمكن أن ترد قوله: ذلِكُمْ إلى ما حكاه عن آل فرعون من الأفعال القبيحة؛ ويكون المعنى: في تخليته بين هؤلاء وبينكم، وتركه منعهم من إيقاع هذه الأفعال بكم بلاء من ربّكم عظيم؛ أي محنة واختبار لكم.

والوجه الأول أقوى وأولى، وعليه جماعة من المفسرين.

وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن في قوله تعالى:( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، قال: نعمة عظيمة؛ إذ أنجاكم من ذلك؛ وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس والسّدّيّ ومجاهد وغيرهم.

فأما إضافة النّجاة إليه وإن كانت واقعة بسيرهم وفعلهم؛ فلو دلّ على ما ظنّوه لوجب إذا قلنا: إنّ الرسول أنقذنا من الشّكّ، وأخرجنا من الضلالة إلى الهدى، ونجّانا من الكفر أن يكون فاعلا لأفعالنا.

وكذلك قد يقول أحدنا لغيره: أنا نجيتك من كذا وكذا، واستنقذتك وخلصتك،

____________________

(١) ديوانه: ١٠٩؛ والرواية فيه: (رأى الله بالإحسان.. )، وهي رواية الأصمعي.

١٠٨

ولا يريد أنّه فعل بنفسه فعله. والمعنى في ذلك ظاهر؛ لأن ما وقع بتوفيق الله تعالى ودلالته وهدايته ومعونته وألطافه قد يصح إضافته إليه فعلى هذا صحت إضافة النجاة إليه تعالى.

ويمكن أيضا أن يكون مضيفا لها من حيث ثبّط عنهم الأعداء، وشغلهم عن طلبهم؛ وكل هذا يرجع إلى المعونة؛ فتارة تكون بأمر يرجع إليهم، وتارة بأمر يرجع إلى أعدائهم.

فإن قيل: كيف يصحّ أن يقول:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ ) فيخاطب بذلك من لم يدرك فرعون ولا نجا من شره؟

قلنا: ذلك معروف مشهور في كلام العرب؛ وله نظائر؛ لأن العربي قد يقول مفتخرا على غيره: قتلناكم يوم عكاظ(١) وهزمناكم؛ وإنما يريد أنّ قومي فعلوا ذلك بقومك.

قال الأخطل يهجو جرير بن عطية:

ولقد سما لكم الهذيل فنالكم

بإراب حيث يقسّم الأنفالا(٢)

في فيلق يدعو الأراقم لم تكن

فرسانه عزلا ولا أكفالا(٣)

ولم يلحق جرير الهذيل؛ ولا أدرك اليوم الّذي ذكره؛ غير أنّه لما كان يوم من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه؛ فكذلك خطاب الله تعالى بالآية إنما توجّه إلى أبناء من نجّى من آل فرعون وأحلافهم. والمعنى: وإذ نجينا آباءكم وأسلافكم؛ والنعمة على السلف نعمة على الخلف.

***

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (عكاظ: سوق للعرب معروفة كانوا يجتمعون فيها فيتفاخرون).

(٢) ديوانه ٤٨ وفي حاشيتي الأصل، ف: (الهذيل بن هبيرة التغلبي، وكان غزا بني رباح يوم إراب؛ وإراب اسم ماء).

(٣) الأراقم: قبائل معروفة، والعزل: الضعفاء والأكفال: جمع كفل، وهو الّذي لا يثبت على ظهور الخيل؛ ومثله قول الشاعر:

ما كنت تلقى في الحروب فوارسي

ميلا إذا ركبوا ولا أكفالا

١٠٩

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن أحسن الشعر في تعوّد الضيافة والأنس بها والاستمرار عليها قول حاتم بن عبد الله الطائي:

إذا ما بخيل القوم هرّت كلابه

وشقّ على الضّيف الغريب عقورها(١)

فإني جبان الكلب، بيتي موطّا

جواد إذا ما النّفس شحّ ضميرها

وإنّ كلابي مذ أقرّت(٢) وعوّدت

قليل على من يعترينا هريرها

أراد بقوله:

* قليل على من يعترينا هريرها*

أنها لا تهرّ جملة؛ ولذلك نظائر كثيرة، ومثله قوله تعالى:( فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ ) ؛ [البقرة: ٨٨] ومثل قوله: (فإني جبان الكلب) معنى ولفظا قول الشاعر:

وما يك في من عيب فإني

جبان الكلب مهزول الفصيل(٣)

وإنما أراد أني أوثر الضيف بالألبان ففصالي مهازيل.

ومثل اللفظ والمعنى(٤) قول أبي وجزة:

وآل الزّبير بنو حرّة

مروا بالسّيوف الصّدور الجنافا(٥)

____________________

(١) ديوانه: ١١٠؛ والفاضل والمفضول ٤٠ - ٤١، وفي د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بخيل الناس) ؛ وهي راية الديوان.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أقرت) ؛ بالفتح.

(٣) كتاب الصناعتين ٣٥١. والحيوان ١: ٣٨٤، والحماسة بشرح المرزوقي ١٦٥٠ من غير عزو.

(٤) من أبيات ستة مذكورة في الأغاني ١٢: ٢٥٢ (طبع دار الكتب المصرية)؛ وكان أبو وجزة متقطعا إلى آل الزبير؛ وإلى عبد الله بن عروة بن الزبير خاصة، وكان يفضل عليه ويقوم بأمره؛ ثم بلغه أن أبا وجزة أتى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فمدحه ووصله؛ فاطرحه عبد الله بن عروة، وأمسك يده عنه؛ فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير ويستعطف ابن عروة؛ وهو يشيح عنه إلى أن قال فيه هذه الأبيات، فرضي عنه وعاد إلى صلته.

(٥) بعده.

سل الجرد عنهم وأيامها

إذا امتعطوا المرهفات الخفافا

امتعطوا: سلوا؛ ومنه ذئب أمعط، منسل من شعره -.

١١٠

يموتون والقتل من دأبهم

ويغشون يوم السّيوف السّيافا(١)

وأجبن من صافر كلبهم

وإن قذفته حصاة أضافا

يقول: أدركوا بسيوفهم ثاراتهم؛ فكأنهم شفوا وغر قلوبهم، وأزالوا ما كان فيها من الأحقاد.

ومعنى (مروا) استخرجوا كما ترى الناقة إذا أردت أن تحلبها لتدرّ. والجانف: المائل.

ثم قال: وإن مات بعضهم على فراشه فإن أكثرهم يموت مقتولا؛ لشجاعتهم وإقدامهم، فلذلك قال: (والقتل من دأبهم).

وجعل كلبهم جبانا لكثرة من يغشاهم ويطرقهم من النّزّال والأضياف فقد ألفتهم كلابهم وأنست بهم؛ فهي لا تنبحهم. وقيل أيضا: إنها لا تهرّ عليهم؛ لأنها تصيب مما ينحر لهم وتشاركهم فيه. ومعنى:

* وإن قذفته حصاة أضافا*

أي أشفق؛ وهذا تأكيد لجبنه؛ ويقال: أضاف الرجل من الأمر إذا أشفق منه.

ومعنى (وأجبن من صافر كلبهم) قد تقدم ذكره في الأمالي.

ومثله في المعنى:

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل(٢)

وقال المرار بن المنقذ العدوي:

أعرف الحقّ ولا أنكره

وكلابي أنس غير عقر(٣)

____________________

(١) رواية الأغاني:

يموتون والقتل داء لهم

ويصلون يوم السّياف السّيافا

وبعده:

إذا فرج القتل عن عيصهم

أبى ذلك العيص إلا التفافا

مطاعيم تحمد أبياتهم

إذا قنّع الشاهقات الطّخافا

قنعت: غطى رأسها. والطخاف: السحاب المرتفع.

(٢) البيت لحسان؛ ديوانه ٨٠.

(٣) من قصيدة مفضلية (٨٢ - ٩٣، طبعة المعارف).

١١١

لا ترى كلبي إلاّ آنسا

إن أتى خابط ليل لم يهرّ(١)

كثر النّاس فما ينكرهم

من أسيف يبتغي الخير وحرّ

الأسيف: العبد هاهنا -

وقال آخر:

إلى ماجد لا ينبح الكلب ضيفه

ولا يتأدّاه احتمال المغارم(٢)

معنى (يتأداه) يثقله؛ وأراد أن يقول: يتأوّده؛ فقلب.

وقال ابن هرمة:

وإذا أتانا طارق متنوّر

نبحت فدلّته عليّ كلابي(٣)

وفرحن إذ أبصرنه فلقينه

يضربنه بشراشر الأذناب(٤)

وإنما تفرح به، لأنها قد تعودت إذا نزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم.

ومثله له:

ومستنبح تستكشط الرّيح ثوبه

ليسقط عنه، وهو بالثّوب معصم(٥)

عوى في سواد اللّيل بعد اعتسافه

لينبح كلب، أو ليفزع نوّم(٦)

فجاوبه مستسمع الصّوت للقرى

له مع إتيان المهبّين مطعم

____________________

(١) خابط ليل: ضيف يسير على غير هدى.

(٢) البيت في اللسان (أود) من غير نسبة.

(٣) البيتان في الخزانة ٤: ٥٨٤.

(٤) حاشية الأصل: (شراشر الذنب: ذباذبه؛ وهي ما تدلى من شعر ذنبه)، ويقال: شرشر الكلب؛ إذا ضرب بذنبه.

(٥) حماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٤ - ١٣٦ - ١٣٧، والحيوان ١: ٣٧٧، والفاضل للمبرد ٣٧ - ٣٨، من غير عزو، والخزانة ٤: ٥٨٤. وكشط واستكشط بمعنى، والمعصم: المستمسك بالشيء.

(٦) الاعتساف: السير على غير هدى.

١١٢

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا

يكلّمه من حبّه، وهو أعجم

أراد بقوله: (فجاوبه مستسمع الصوت) أنه جاوبه كلب. والمهبّون: الموقظون له ولأهله وهم الأضياف؛ وإنما كان له معهم مطعم، لأنه ينحر لهم ما يصيب منه.

وأراد بقوله:

* يكلّمه من حبّه وهو أعجم*

بصبصته وتحريكه ذنبه.

وأما قوله: (ليفزع نوّم) فإنما أراد ليعين(١) نوم، يقال: فزعت لفلان إذا أعنته(٢) .

ومعنى (عوى في سواد الليل) أنّ العرب تزعم أنّ ساري الليل إذا أظلم عليه وادلهمّ فلم يستبن محجة، ولم يدر أين الحلّة وضع وجهه على(٣) الأرض، وعوى عواء الكلب لتسمع(٤) ذلك الصوت الكلاب إن كان الحي قريبا منه فتجيبه، فيقصد الأبيات. وهذا معنى قوله أيضا: (ومستنبح)، أي ينبح نبح الكلاب(٥) .

____________________

(١) حاشية الأصل، ف (من نسخة): (ليغيث).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أغثته).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (مع الأرض).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لتستمع).

(٥) حاشية الأصل: (مما يناسب هذا الفن قول امرأة من بني عامر ترثي رجلا:

أيا شجرات الواد من يضمن القرى

إذا لم يكن بالواد عمرو بن عامر

فتى جعفري كان غير ميامن

طريق الندى عنه وغير مياسر

ولكن إليه قصد كلّ محصّب

صبور على مستصعبات الجرائر

ومستنبح تزهى الصّبا عنه ثوبه

تقلّبه الأرواح بين الدياجر

يجاوبه كلبان، والليل مسدف

يكادان يبتدّانه بالشراشر

يكادان من وجد به وتملق

يقولان: أهلا بالمكلّ المسافر

قولها (يبتدانه)، أي يأتيانه من جانبيه يتبصبصان ويقال: السبعان يبتدان الرجل ابتدادا، أي يأتيانه، والرضيعان يبتدان أمهما، ولا تقل: فلانة يبتدها ابنها حتى يكونا اثنين).

١١٣

وقال الفرزدق:

وداع بلحن الكلب يدعو ودونه

من اللّيل سجفا ظلمة وغيومها(١)

دعا وهو يرجو أن ينبّه إذ دعا

فتى كابن ليلى حين غارت نجومها

ابن ليلى، يعني أباه غالبا -

بعثت له دهماء ليست بلقحة(٢)

تدرّ إذا ما هبّ نحسا عقيمها

معنى (بعثت له دهماء) أي رفعتها على أثافيّها؛ ويعني بالدهماء القدر. واللّقحة: الناقة؛ وأراد أن قدره تدرّ إذا هبت الريح عقيما لا مطر فيها -

كأنّ المحال(٣) الغرّ في حجراتها

عذارى بدت لمّا أصيب حميمها

أراد أن قطع اللحم لا تستتر منها(٤) بشيء؛ كما لا تستتر العذارى اللواتي أصيب حميمهنّ فيظهرن حواسر -

غضوبا كحيزوم النعامة أحمشت

بأجواز خشب زال عنها هشيمها(٥)

الأجواز: الأوساط، وأوسط الخشب أصلبه وأبقى نارا -

محضرة لا يجعل السّتر دونها

إذا المرضع العوجاء جال يريمها

البريم: الحقاب(٦) ؛ وإنما يجول من الهزال والجهد والطوى. والعوجاء: التي قد اعوجّت من الطوى.

وقال الأخطل في الضيف:

دعاني بصوت واحد فأجابه

مناد بلا صوت، وآخر صيّت(٧)

____________________

(١) ديوانه: ٨٠٣؛ والرواية فيه:

وداع بنبح الكلب يدعو ودونه

غياطل من دهماء داج بهيمها

(٢) الديوان: (بناقة).

(٣) المحال: القطع.

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فيها).

(٥) هذا البيت والّذي يليه لم يذكرا في الديوان.

(٦) الحقاب: شيء محلى تشده المرأة على وسطها.

(٧) الخزانة ٤: ٥٨٤.

١١٤

ذكر ضيفا عوى بالليل والصّدى من الجبل يجيبه؛ فذلك معنى قوله: (بصوت واحد)، وقوله: (فأجابه مناد بلا صوت)، يعني نارا رفعها له فرأى سناها فقصدها، والآخر الصيّت الكلب، لأنه أجاب دعواه.

ومثله:

وساري ظلام مقفعلّ وهبوة

دعوت بضوء ساطع فاهتدى ليا

يعني نارا رفعها ليقصده طرّاق الليل. والمقفعلّ: المنتفض(١) من شدة البرد.

وأنشد محمد بن يزيد:

ومستنبح تهوى مساقط رأسه

إلى كلّ شخص فهو للصّوت أصور(٢)

حبيب إلى كلب الكرام مناخه

بغيض إلى الكوماء، والكلب أعذر(٣)

دعته بغير اسم: هلمّ إلى القرى

فأسرى يبوع الأرض شقراء تزهر

معنى (أصور) مائل؛ أراد أنه يميل رأسه إلى كلّ شخص يتخيل له يظنه إنسانا.

ومعنى: (حبيب إلى قلب الكرام) المعنى الّذي تقدم

ومعنى: (بغيض إلى الكوماء) إلى الناقة لأنها تنحر له.

وقوله: (دعته شقراء بغير اسم) يعني نارا رأى ضوءها فقصدها؛ فكأنها دعته.

وقال ابن هرمة وقد نزل به ضيف:

فقلت لقيني ارفعاها وحرّقا

لعلّ سنا ناري بآخر تهتف(٤)

وفي معنى قوله: (بغيض إلى الكوماء) قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله:

وأبيك حيرا إنّ إبل محمّد

عزل تناوح أن تهبّ شمال

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (المتقبض).

(٢) حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦٤٥.

(٣) ف: (أبصر) ؛ وهي رواية الحماسة. وفي حاشية الأصل: (أعذر، أي أمعن في كونه معذورا في الحب).

(٤) القين: الخادم.

١١٥

وإذا رأين لدى الفناء غريبة

ذرفت لهنّ من الدّموع سجال

وترى لها زمن الشّتاء على الثّرى

رخما، وما تحيا لهنّ فصال

أراد أبيك الخير، فلما طرح الألف واللام نصب. والعزل: التى لا سلاح معها؛ وسلاح الإبل سنامها(١) وأولادها؛ وإنما جعلوا ذلك كالسلاح لها من حيث كان صاحبها إذا رأى سمنها وحسن أجسامها، ورأى أولادها تتبعها نفس بها على الأضياف فامتنع من نحرها، فلما كان ذلك صادّا عن الذبح، ومانعا منه جرى مجرى السلاح لها؛ فكأنه يقول: هذه الإبل وإن كانت ذوات سلاح؛ من حيث كانت شحيمة سمينة فهي كالعزل إذ كان سلاحها لا يغني عنها شيئا، ولا يمنع من عقرها.

ومعنى: (تناوح) يقابل بعضها بعضا، أي هنّ مدفآت بأسنمتها وأوبارها لا تبالي بهبوب الشمال، ولا يدخل بعضها في بعض من البرد.

وقوله:

* وإذا رأين لدى الفناء غريبة*

أي إذا نزل ضيف فعقل ناقته التي جاء عليها وهي الغريبة علمن أنه سينحر بعضهم لا محالة؛ فلذلك تذرف دموعهن.

وقوله:

وترى لها زمن الشّتاء على الثرى

رخما .....

فقد قيل فيه: إنه أراد به أن يهب فصالهن فتبقى ألبانهن على الأرض كهيئة الرّخم.

وحكي عن ابن عباس أنه قال: الرّخم: قطع العلق من الدم.

وعندي أن المعنى غير هذين جميعا؛ وإنما أراد أنها تنحر وتعقر فتسقط الرّخم على موضع عقرها وبقايا دمائها وأشلائها؛ فهذا معنى قوله، لا ما تقدّم.

____________________

(١) د، ف: (سمنها).

١١٦

وقال آخر في معنى سلاح الإبل يمدح بني عوذ بن غالب من عبس(١) ؛

جزى الله عني غالبا خير ما جزى

إذا حدثان الدّهر نابت نوائبه(٢)

إذا أخذت بزل المخاض سلاحها

تجرّد فيها متلف المال كاسبه(٣)

أراد أن سمنها وحسنها وتمامها لا يمنعني(٤) من عقرها للأضياف.

ومثله:

إذا البقل في أصلاب شول ابن مسهر

نما لم يزده البقل إلاّ تكرّما

إذا أخذت شول البخيل رماحها

دحا برماح الشّول حتّى تحطّما

وقوله: (أخذت رماحها) من المعنى المتقدم.

وقال مسكين الدارمي:

فقمت ولم تأخذ إلى رماحها

عشاري، ولم أرجب(٥) عراقبها عقرا

لم أرجب: لم أكبر ذلك ولم يعظم عليّ، وسمّي رجب رجبا من ذلك؛ لأنه شهر معظّم.

وقالت ليلى الأخيلية:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (قيس).

(٢) من أبيات أربعة في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦٦٦ - ١٦٦٧؛ وبعده:

فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت

عليّ، وموج قد علتني غواربه

إذا قلت عودوا عاد كلّ شمردل

أشمّ من الفتيان جزل مواهبه

إذا أخذت ...

(٣) البزل: جمع بازل؛ وهو المتناهي قوة وشبابا. والمخاض: النوق الحوامل.

(٤) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يمنعه).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (ولم أحفل).

١١٧

ولا تأخذ الكوم الحياد سلاحها

لتوبة في قرّ الشّتاء الصنابر(١)

لا أخون الصّديق ما حفظ العه

د، ولا تأخذ السّلاح لقاحي

ومثله:

وقال النمر بن تولب:

أزمان لم تأخذ إلى سلاحها

إبلي بجلّتها ولا أبكارها(٢)

ابتزّها ألبانها ولحومها

فأهين ذاك لضيفها ولجارها

وقال مضرّس بن ربعي الأسدي:

وما نلعن الأضياف إن نزلوا بنا

ولا يمنع الكوماء منّا نصيرها

ومعنى: (لا نلعنهم)، أي لا نبعدهم، واللعين: البعيد. ونصيرها هاهنا:

ما يمنع من عقرها من حسن وتمام وولد وما جرى مجرى ذلك. والنصير والسلاح في المعنى واحد.

____________________

(١) حماسة ابن الشجري: ٨٤؛ من أبيات ترثي فيها توبة بن الحمير الخفاجي، ورواية البيت هناك:

ولا تأخذ الكوم المخاض سلاحها

لتوبة في صرّ الشتاء الصّنابر

والصنابر: جمع صنبر؛ وهو البرد الشديد.

(٢) البيت في اللآلي ٦٣٢. والجلة: المسان.

١١٨

مجلس آخر

[٦٠]

تأويل آية :( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) ؛ [الكهف: ٢٣].

فقال: ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون جميع ما نفعله يشاؤه ويريده؟

لأنه لم يخصّ شيئا من شيء؛ وهذا بخلاف مذهبكم. وليس لكم أن تقولوا: إنه خطاب للرسول عليه وآله السلام خاصة؛ وهو لا يفعل إلا ما يشاؤه الله؛ لأنه قد يفعل المباح بلا خلاف؛ ويفعل الصغائر عند أكثركم؛ فلا بد من أن يكون في أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم، ولأنه أيضا تأديب لنا، كما أنه تعليم له عليه السلام؛ ولذلك يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله.

الجواب، قلنا: تأويل هذه الآية مبني على وجهين:

أحدهما أن نجعل حرف الشرط الّذي هو (إن) متعلقا بما يليه وبما هو متعلّق به في الظاهر من غير تقدير محذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن إنك تفعل إلا ما يريد الله.

وهذا الجواب ذكره الفراء، وما رأيته إلا له. ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا؛ مع مع أنه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل. وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية، ولا سؤال للقوم علينا.

وفي هذا الوجه ترجيح(١) لغيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر، ولم نقدّر محذوفا، وكلّ جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (المعنى أن الله تعالى ينهى أن يقول أحد إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله؛ لأن الله تعالى لا يشاء جميع ما يفعلونه؛ وكأنه تعالى نهاهم عن تعليق أفعالهم بمشيئة الله عز وجل. وهو حسن).

١١٩

والجواب الآخر أن نجعل (أن) متعلقة بمحذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: (إن شاء الله) ؛ لأن من عاداتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع، واختصار الكلام إذا طال وكان في الموجود منه دلالة على المفقود.

وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما سئلنا عنه، فنقول: هذا تأديب من الله تعالى لعباده، وتعليم لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة؛ حتى يخرج من حد القطع.

ولا شبهة في أن ذلك مختصّ بالطاعات، وأنّ الأفعال القبيحة خارجة عنه؛ لأن أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول: إني أزني غدا إن شاء الله، أو أقتل مؤمنا، وكلهم يمنع من ذلك أشدّ المنع؛ فعلم سقوط شبهة من ظن أن الآية عامّة في جميع الأفعال.

وأما أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب فإنه ذكر في تأويل هذه الآية ما نحن ذاكروه بعينه، قال" إنما عنى بذلك أنّ من كان لا يعلم أنه يبقى إلى غد حيا فلا يجوز أن يقول: إني سأفعل غدا كذا وكذا، فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدري، لعله سيموت ولا يفعل ما أخبر به؛ لأن هذا الخبر إذا(١) لم يوجد مخبره على ما أخبر به(١) فهو كذب؛ وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الأمراض، أو لا يحدث(٢) ذلك بأن يبدو له هو في ذلك، فلا يأمن أن يكون خبره كذبا في معلوم الله عز وجل؛ وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به؛ ولا يسلم خبره هذا من الكذب إلا بالاستثناء الّذي ذكره الله تعالى؛ فإذا قال: إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله، فاستثنى في مصيره مشيئة الله أمن أن يكون خبره في هذا كذبا؛ لأن الله إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأه إلى ذلك؛ وكان المصير منه لا محالة؛ فإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا؛ وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد؛ لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى".

____________________

(١ - ١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إذا لم يوجد مخبر على ما أخبر به المخبر).

(٢) م: (لا يوجد ذلك).

١٢٠