أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 56297
تحميل: 7048


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56297 / تحميل: 7048
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستجيد قول أبي العيص بن حرام بن عبد الله بن قتادة بن جابر بن ربيعة بن كابية(١) المازني رضي الله عنه.

وكم من صاحب قد بان عنّي

رميت بفقده وهو الحبيب(٢)

فلم أبد الّذي تحنو ضلوعي

عليه، وإنّني لأنا الكئيب

مخافة أن يراني مستكينا

عدوّ أو يساء به قريب

فيشمت كاشح ويظنّ أنّي

جزوع عند نائبة تنوب

فبعدك شدّت الأعداء طرفا

إلي ورابني دهر مريب

معنى، شدّت الأعداء طرفا، أي نظرت إلي نظرا شديدا(٣) فظهر الغضب في عيونها -

وأنكرت الزّمان وكلّ أهلي

وهرّتني لغيبتك الكليب

يقال: كلب وكليب مثل عبد وعبيد -

وكنت تقطّع الأبصار دوني

وان وغرت من الغيظ القلوب

ويمنعني من الأعداء أنّي

وإن رغموا لمخشي مهيب

فلم أر مثل يومك كان يوما

بدت فيه النّجوم فما تغيب

وليل ما أنام به طويل

كأنّي للنّجوم به رقيب

وما يك جائيا لا بدّ منه

إليك فسوف تجلبه الجلوب

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (حارثة).

(٢) الأبيات في لباب الآداب ٤٠٧، ٤٠٨ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات.

(٣) ف: (شزرا).

٢٢١

مجلس آخر

[٧١]

تأويل آية :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ؛ [البقرة: ٧٢، ٧٣].

فقال: كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكره(١) البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغي أن يتقدّمه، لأنه إنما أمر بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل، فكيف أخّر ذكر السبب عن المسبب، وبنى الكلام بناء يقتضي أنه كان بعده؟

ولم قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ، والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا؟ وكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد! وإلى أي شيء وقعت الإشارة بقوله تعالى:

( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؟.

الجواب، قيل له: أما قوله تعالى؛( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ففيه وجهان:

أولهما أن تكون هذه الآية - وإن أخّرت - فهي مقدّمة في المعنى على الآية التي ذكرت فيها البقرة؛ ويكون التأويل:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) فسألتم موسى فقال: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فأخر المقدم وقدم المؤخر؛ ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير.

ومثله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ) [الكهف: ١، ٢].

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بعد ذكر البقرة).

٢٢٢

وقال الشاعر:

إنّ الفرزدق صخرة ملمومة

طالت - فليس تنالها - الأوعالا(١)

أراد: طالت الأوعال فليس تنالها.

ومثله:

طاف الخيال وأين منك لماما!

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

أراد: طاف الخيال لماما وأين هو منك!

والوجه الثاني أن يكون وجه تأخير قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) أنه علّق بما هو متأخر في الحقيقة، وواقع بعد ذبح البقرة، وهو قوله تعالى:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؛ لأن الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنما هو بعد الذبح؛ فكأنه تعالى قال:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولأنكم قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) أمرناكم أن تضربوه ببعضها، لينكشف أمره. فأما إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها؛ فيقول أحدهم: فعلت بنو تميم كذا، وقتل بنو فلان فلانا؛ وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة؛ ومنه قراءة من قرأ:( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة: ١١١]؛ بتقديم المفعولين على الفاعلين؛ وهو اختيار الكسائي وأبي العباس ثعلب؛ فيقتل بعضهم ويقتلون؛ وهو أبلغ في وصفهم، وأمدح لهم، لأنهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدلّ على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم.

وقد قيل: إنه كان القاتلان اثنين، قتلا ابن عم لهما، وإن الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع؛ كما قال تعالى:( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) [الأنبياء: ٧٩]؛ يريد داود وسليمان

____________________

(١) البيت في شرح شواهد سيبويه للأعلم (٢: ٣٥٦).

٢٢٣

عليهما السلام؛ والوجه الأول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له، ولأن أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا.

ومعنى فَادَّارَأْتُمْ فتدارأتم؛ أي تدافعتم، وألقى بعضكم القتل على بعض؛ يقال: دارأت فلانا إذا دافعته وداريته، إذا لاينته، ودريته إذا ختلته؛ ويقال: ادّرأ القوم إذا تدافعوا.

والهاء في قوله:( فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) تعود إلى النفس، وقيل: إنها تعود على القتلة، أي اختلفتم في القتلة؛ لأن قَتَلْتُمْ تدل على المصدر؛ والقتلة من المصادر، تدل عليها الأفعال، ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.

فأما قوله تعالى:( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) فالإشارة وقعت به إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة؛ لأنه روي أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان!

ونبّه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات؛ لأنهم قالوا:( أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) ؛ [الإسراء: ٤٩]؛ فأخبرهم الله تعالى بأنّ الّذي أنكروه واستبعدوه هيّن عليه، غير متعذر في اتساع قدرته.

وكان مما ضرب تعالى لهم من الأمثال، ونبّههم عليه من الأدلة ذكر المقتول الّذي ضرب ببعض البقرة فقام حيا. وأراد تعالى: أنني إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة، ويئس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم، ورددته حيا مخاطبا باسم قاتله؛ فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزني ولا يتعذر عليّ. وهذا بين لمن تأمله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن الشعر المشهور بالجودة في ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول

٢٢٤

نهشل بن(١) حرّي يرثي أخاه مالكا:

ذكرت أخي المخوّل بعد يأس(٢)

فهاج عليّ ذكراه اشتياقي

فلا أنسى أخي ما دمت حيّا

وإخواني بأقرنة العناق(٣)

يجرّون الفصال إلى النّدامى

بروض الحزن من كنفي أفاق(٤)

ويغلون السّباء إذا أتوه

بضمر الخيل والشّول الحقاق(٥)

إذا اتّصلوا وقالوا: يالغوث!

وراحوا في المحبّرة الرّقاق(٦)

أجابك كلّ أروع شمّري

رخي البال منطلق الخناق(٧)

أناس صالحون نشأت فيهم

فأودوا بعد إلف واتساق

مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم

ولكن لا محالة من لحاق(٨)

كذي الإلف الّذي أدلجن عنه

فحنّ ولا يتوق إلى متاق(٩)

____________________

(١) هو نهشل بن حري بن ضمرة بن ضمرة، شاعر شريف مشهور مخضرم، بقي إلى أيام معاوية، وكان مع علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين؛ وهو يومئذ رئيس بني حنظلة، وكانت رايتهم معه؛ ورثاه نهشل بمراث كثيرة. (وانظر الشعر والشعراء ٦١٩ - ٦٢١).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: رواية أبي محمد الأسود: بعد هدء).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (العناق، بفتح العين وكسرها: موضع).

(٤) (أفاق: موضع في بلاد يربوع.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (السباء في الأصل: شراء الخمر، وأراد هاهنا نفس الخمر؛ وعلى هذا قول لبيد:

* أغلى السّباء بكلّ ادكن عاتق*

والشول: جمع شائلة؛ وهي الناقة التي خف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، والحقاق: الضوامر، يعني أنهم يبيعون الخيل والإبل ويشترون بها الخمر.

(٦) المحبرة: الثياب المنقشة.

(٧) الأروع: الّذي يعجبك حسنه وجماله، والشمري: الماضي في الأمور؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (دارمي).

(٨) حاشية الأصل: (نسخة س: (لا محالة في لحاق)، ورواية الأسود (في لحاقي).

(٩) في حاشيتي الأصل، ف من نسخة: (كذا الإلف).

٢٢٥

أرى الدّنيا ونحن نعيث فيها

مولّية تهيّأ لانطلاق

أعاذل قد بقيت بقاء قيس

وما حي على الدّنيا بباق

[هبطت السّيلحين وذات عرق

وأوردت المطي على حذاق](١)

كأنّ الشّيب والأحداث تجري

إلى نفس الفتى فرسا سباق

فإما الشّيب يدركه وإما

يلاقي حتفه فيما يلاقي

فإن تك لمّتي بالشّيب أمست

شميط اللّون واضحة المشاق(٢)

فقد أغدو بداجية أراني

بها المتطلّعات من الرّواق(٣)

الداجية: اللمّة السوداء. وأراني: (أفاعل)، من المراناة -

إلي كأنّهنّ ظباء قفر(٤)

برهبي، أو بباعجتي فتاق(٥)

يرامضن(٦) الحبال لغير وصل

وليس حبال وصلي بالرّماق

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عنه الجعائل مستذاق

القين: الحداد، والجعائل: جمع جعالة وهي أجرته، وأراد أن القين إذ عدم الجعالة رحل ولم يستقرّ في مكان -

كجلب السّوء يعجب من رآه

ولا يشفي الحوائم من لماق

الجلب: الغيم الّذي لا مطر فيه، والحوائم: العطاش، ولماق: شيء قليل -

فلا يبعد مضائي في الموامي

وإشرافي العلاية وانصفاقي(٧)

____________________

(١) ورد هذا البيت في ف وحاشية الأصل، من رواية الأسود. والسيلحين، وذات عرق، وحذاق: مواضع.

(٢) حاشية الأصل: (شبه الشعر بالمشاقة؛ وهي الكتان غير المغزول).

(٣) الرواق: الخيمة.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (نفر).

(٥) رهبى: موضع. والباعجان: مثنى باعجة؛ وهي متسع الوادي. وفتق: موضع أيضا.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة س: (يوامضن)، ونسخة الأسود (يوامقن).

(٧) العلاية: ما علا من الأرض. والانصفاق: الانصراف.

٢٢٦

وغبراء القتام جلوت عنّي(١)

بعجلى الطّرف سالمة المآقي

وقد طوّفت في الآفاق حتى

سئمت النّصّ بالقلص العتاق(٢)

وكم قاسيت من سنة جماد

تعضّ اللّحم ما دون العراق(٣)

إذا أفنيتها بدّلت أخرى

أعدّ شهورها عدّ الأواقي

وأفنتني الشّهور وليس تفنى

وتعداد الأهلّة والمحاق

وما سبق الحوادث ليث غاب

يجرّ لعرسه جزر الرّفاق

[كميت تعجز الحلفاء عنه

كبغل المرج حطّ من الزّناق](٤)

[تنازعه الفريسة أم شبل

عبوس الوجه فاحشة العناق](٤)

ولا بطل تفادي الخيل منه

فرار الطّير من برد بعاق(٥)

[كريم من خزيمة أو تميم

أغرّ على مساعفة مزاق](٦)

[فذلك لن تخاطأه المنايا

فكيف يقيه طول الدهر واق]

***

وأحسن حارثة بن بدر الغداني في قوله:

ياكعب ما راح من قوم ولا ابتكروا

إلاّ وللموت في آثارهم حادي

ياكعب ما طلعت شمس ولا غربت

إلاّ تقرّب آجالا لميعاد

ولأبي العتاهية في هذا المعنى:

إذا انقطعت عني من العيش مدّتي

فإنّ بكاء الباكيات قليل(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: نسخة الأسود (نفضت).

(٢) النص: أرفع السير.

(٣) العراق: العظام التي يقشر عنها معظم اللحم وتبقى عليه بقية.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: والزنقة: المضيق في الجبل، وجمعه زناق).

(٥) البعاق: المندفع.

(٦) تكملة من رواية الأسود في حاشيتي الأصل، ف. والمساعفة: المساعدة، والمزاق: المسرعة التي تمزق الهواء.

(٧) هذه الأبيات في حماسة ابن الشجري ١٤٢، مع اختلاف في الترتيب وعدد الأبيات.

٢٢٧

سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي

ويحدث بعدي للخليل خليل

أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى

وكلّ غني في العيون جليل

وليس الغنى إلا غنى زيّن الفتى

عشيّة يقري أو غداة ينيل

ولم يفتقر يوما وإن كان معدما

جواد ولم يستغن قطّ بخيل

إذا مالت الدّنيا إلى المرء رغّبت

إليه، ومال النّاس حيث يميل

أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليل

وإنّي وإن أصبحت بالموت موقنا

فلي أمل دون اليقين طويل(١)

وقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى:

أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد

لها، ومتى حدّثت نفسك فاصدق

أرى علل الأشياء شتّى ولا أرى التـ

جمّع إلاّ غاية للتّفرّق(٢)

أرى العيش ظلاّ توشك الشّمس نقله

فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق(٣)

أرى الدّهر غولا للنّفوس وإنما

يقي الله في بعض المواطن من يقي

فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى

وعرّج على الباقي فسائله لم بقي

ولم أر كالدّنيا خليلة صاحب

محبّ متى تحسن بعينيه تعنق(٤)

تراها عيانا وهي صنعة واحد

فتحسبها صنعي لطيف وأخرق

وقد قيل إن السبب في خروج البحتري عن بغداد في آخر أيامه كان هذه الأبيات؛ لأن بعض أعدائه شنّع عليه بأنه ثنوي من حيث قال:

* فتحسبها صنعي لطيف وأخرق*

وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد، فخاف على نفسه فقال لابنه أبي الغوث: قم يابنيّ حتى نطفئ عنا هذه الثائرة بخرجة نلمّ فيها ببلدنا؛ فخرج ولم يعد.

____________________

(١) لم أعثر على هذه الأبيات في ديوانه؛ وهي في مجموعة المعاني ٥، ٦ مع اختلاف في الرواية.

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، مجموعة المعاني: (علة للتفرق).

(٣) مق، أي تحامق.

(٤) مجموعة المعاني، د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تطلق).

٢٢٨

وأحسن أيضا غاية الإحسان في قوله:

أغشى الخطوب فإمّا جئن مأربتي

فيما أسيّر أو أحكمن تأديبي(١)

إن تلتمس أخلاف الخطوب(٢) وإن

تلبث مع الدّهر تسمع بالأعاجيب

وفي قوله:

متى تستزد فضلا من العمر تغترف

بسجليك من شهد الخطوب وصابها(٣)

تشذّبنا(٤) الدّنيا بأخفض سعيها

وغول الأفاعي بلّة من لعابها

يسرّ بعمران الدّيار مضلّل

وعمرانها مستأنف من خرابها

ولم أرتض الدّنيا أوان مجيئها

فكيف ارتضائيها أوان ذهابها!

أفول لمكذوب عن الدّهر زاغ عن

تخيّر آراء الحجى وانتخابها

سيرديك أو يثويك أنّك محلس

إلى شقّة يبكيك بعد مآبها(٥)

وهل أنت في مرموسة طال أخذها

من الأرض إلا حفنة من ترابها(٦)

وجدت الآمدي يروي في هذا البيت (أنك محبس) بالباء؛ وتفسير ذلك أنّ المعنى أنك موقوف إلى أن تصير إلى هذا؛ من قولك: أحبست فرسا في سبيل الله، وأحبست دارا؛ أي أي وقفتها. والرواية المشهورة: (أنك مجلس) باللام؛ والمعنى أنك متهيئ للرحيل ومتخذ حلسا.

والحلس: هو الكساء الّذي يوضع تحت الرحل؛ وهذا أشبه بالمعنى الّذي قصده البحتري؛ وأولى بأن يختاره؛ مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه.

____________________

(١) ديوانه ١: ٦٩.

(٢) في الديوان: (الأمور).

(٣) ديوانه: ١: ٤٧، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (شهد الأمور).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (تسيرنا).

(٥) محلس: مقيم. والشقة: الطريقة.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حثوة).

٢٢٩

مجلس آخر

[٧٢]

تأويل آية :( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٨٩، ١٩٠].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الشرك على الأنبياء؛ لأنه لم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء عليهما السلام؛ فيجب أن يكون قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) فِيما آتاهُما يرجع إليهما.

الجواب، قلنا: كما أنّ ذكر آدم وحواء قد تقدّم، فقد تقدم ذكر غيرهما في قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) ، ومعلوم أنّ المراد بذلك جميع ولد آدم، وقد تقدم ذكر ولد آدم في قوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) ؛ والمعنى: فلما آتاهما ولدا صالحا، والمراد بهذا الجنس دون الواحد؛ وإن كان اللفظ لفظ واحد؛ والمعنى: فلما آتاهما جنسا من الأولاد صالحين؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) إلى ولدهما؛ وقد تقدم ذكرهما.

فإن قيل: إنما وجب رده إلى آدم وحواء لأجل التثنية في الكلام؛ ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما.

قلنا: إن جعل هذا ترجيحا في رجوعه إليهما جاز أيضا أن يجعل قوله في آخر الآية:

( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد. ويجوز أن يكون أشير في التثنية إلى الذكور والإناث من ولد آدم أو إلى جنسين منهم؛ فحسنت التثنية لذلك

٢٣٠

على أنه إذا تقدم في الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الأحكام، وعلم بالدليل استحالة تعلّقه بأحد الأمرين وجب ردّه إلى الآخر.

وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه الشرك لم يجز عود الكلام إليه، فوجب عوده إلى المذكورين من ولده.

وذكر أبو على الجبائي ما نحن نورده على وجهه، قال: إنما عنى(١) الله تعالى بهذا أنه تعالى خلق بني آدم(١) من نفس واحدة؛ لأن الإضمار في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ إنما عنى به بني آدم، والنفس الواحدة التي خلقهم منها هي آدم؛ لأنه خلق حواء من آدم؛ ويقال: إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه(٢) ؛ فرجعوا جميعا إلى أنهم خلقوا من آدم؛ وبيّن ذلك بقوله:( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) ؛ لأنه عنى به أنّه خلق من هذا النفس زوجها، وزوجها هو حواء.

وعنى بقوله:( فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) ، وحملها(٣) هو حبلها منه في ابتداء الحمل؛ لأنه في ذلك الوقت خفيف عليها.

وعنى بقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أنّ مرورها بهذا الحمل، وتصرّفها به كان عليها سهلا لخفّته؛ فلما كبر الولد في بطنها ثقل ذلك عليها، فهو معنى قوله: أَثْقَلَتْ؛ وثقل عليها عند ذلك المشي والحركة.

وعنى بقوله:( دَعَوَا الله رَبَّهُما ) أنهما دعوا عند كبر الولد في بطنها فقالا: لئن آتيتنا ياربّ نسلا صالحا لنكوننّ من الشاكرين لنعمتك علينا؛ لأنهما أراد أن يكون لهما أولاد تؤنسهما في الموضع الّذي كانا فيه؛ لأنهما كانا فردين مستوحشين؛ فكان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس؛ فلما آتاهما نسلا صالحا معافى، وهم الأولاد الذين كانوا يولدون لهما لأن حواء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى فيقال: إنها ولدت في خمسمائة بطن ألف ولد.

____________________

(١ - ١) حاشية ف (من نسخة): (إنما عنى الله تعالى خلق بني آدم).

(٢) م: (ويقال من طينته).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وأن حملها).

٢٣١

وعنى بقوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ) (١) أي أن هذا النسل الصالح الّذي هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما(١) من نعمة؛ وأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله عزّ وجلّ من الأصنام والأوثان، ولم يعن بقوله: جَعَلا آدم وحواء عليها السلام؛ لأن آدم لا يجوز عليه الشرك بالله لأنه نبي من أنبيائه، ولو جاز الشرك والكفر على الأنبياء لما جاز أن يثق أحدنا بما يؤديه إليه الأنبياء عن الله عز وجل؛ لأن من جاز عليه الكفر جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره؛ فصحّ بهذا أنّ الإضمار في قوله: جَعَلا إنما يعني به النسل.

وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية؛ لأنهم كانوا ذكرا وأنثى، فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل إخباره عنهما كالإخبار عن الاثنين إذا كانا صنفين.

وقد دلّ على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى في آخر الآية:( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فبيّن عز وجل أنّ الذين جعلوا للّه شركاءهم جماعة، فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة، فقال: يُشْرِكُونَ؛ مضى كلام أبي عليّ.

وقد قيل في قوله تعالى:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) مضافا إلى الوجه المتقدم - الّذي هو أنه أراد بالصلاح الاستواء في الخلقة والاعتدال في الأعضاء - وجه آخر؛ وهو أنّه لو أراد الصلاح في الدين لكان الكلام أيضا مستقيما؛ لأن الصالح في الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه، فيكون في حال صالحا، وفي آخر مشركا؛ وهذا لا يتنافى.

وقد استشهد في جواز الانتقال من خطاب إلى غيره، ومن كناية عن مذكور إلى مذكور سواه؛ ليصحّ ما قلناه من الانتقال من الكناية عن آدم وحوّاء إلى ولدهما بقوله تعالى:

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ) ، فانصرف عن مخاطبة الرسول عليه السلام إلى مخاطبة المرسل إليهم، ثم قال:( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) ، يعني الرسول عليه السلام، ثم قال:( وَتُسَبِّحُوهُ ) ، [الفتح: ٩]؛ وهو يعني مرسل الرسول؛ فالكلام

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، والمثبت عن د، ف.

٢٣٢

واحد متّصل بعضه ببعض، والخطاب منتقل من واحد إلى غيره؛ ويقول الهذلي(١) :

يالهف نفسي كان جدّة خالد

وبياض وجهك للتّراب الأعفر

ولم يقل: وبياض وجهه.

وقال كثيّر:

أسيء بنا، أو أحسني لا ملومة

لدينا، ولا مقليّة إن تقلت(٢)

فخاطب ثمّ ترك الخطاب. وقال آخر:

فدى لك يافتى وجميع أهلي

وما لي إنّه منه أتاني(٣)

ولم يقل: منك أتاني.

ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أنّ الخطاب في جميعها غير متعلّق بحواء وآدم، ويجعل الهاء في تَغَشَّاها، والكناية في( دَعَوَا الله رَبَّهُما وآتاهُما صالِحاً ) راجعتين إلى من أشرك؛ ولم يتعلق بآدم وحواء من الخطاب إلا قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) ؛ لأن الإشارة في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلى الخلق عامة، وكذلك قوله تعالى:( وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) ، ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ، فخاطب الجماعة بالتسيير في البر والبحر، ثم خص راكب البحر بقوله تعالى:( وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ؛ [يونس: ٢٢] كذلك الآية أخبرت عن جملة البشر؛ وأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها، وهما آدم وحواء عليهما السلام ثمّ عاد الذكر إلى الّذي سأل الله تعالى ما سأل؛ فلما أعطاه إياه ادعى الشّركاء في عطيته.

قال: وجائز أن يكون عنى بقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) المشركين؛ خصوصا إذ كان كلّ بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها.

____________________

(١) هو أبو كبير، والبيت من قصيدة له في شعر الهذليين ٢: ١٠١.

(٢) أمالي القالي ٢: ١٠٩.

(٣) حاشية الأصل: (فدى وفداء كلاهما صحيح، فإذا قلت فدى فهو مقصور من الممدود).

٢٣٣

ويجوز أن يكون المعنى في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة؛ وهذا يجيء كثيرا في القرآن وفي كلام العرب؛ قال الله تعالى:

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ؛ [النور: ٤] أي فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة.

وقال عز وجل:( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) ؛ [الروم: ٢١] فلكل نفس زوج منها أي من جنسها.

( فَلَمَّا تَغَشَّاها ) ، أي تغشّي كلّ نفس زوجها.( حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) وهو ماء الفحل.

فَمَرَّتْ بِهِ أي مارت، والمور: التردّد. والمراد تردّد هذا الماء في رحم هذه الحامل.( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) أي ثقل حملها؛ أي بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما. دَعَوَا الله أي الرجل والمرأة لمّا استبان حمل المرأة فقالا:( لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) أي أعطاهما ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه،( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقال قوم: معنى( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) أي طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطّلبتين وتكون الهاء في قوله: لَهُ راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى. ويجري مجرى قول القائل: طلبت مني درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر؛ أي طلبت آخر مضافا إليه.

وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكونا قوله: جَعَلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام.

٢٣٤

مجلس آخر

[٧٣]

تأويل آية :( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ؛ [الصافات: ٩٥، ٩٦].

فقال: أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنه خالق لأعمال العباد، لأن ما هاهنا بمعنى (الّذي) ؛ فكأنه قال: خلقكم وخلق أعمالكم.

الجواب، قلنا: قد حمل أهل الحق هذه الآية على أنّ المراد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما؛ مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها.

قالوا: وغير منكر أن يريد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) ذلك؛ كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله:

( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) لأنه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الّذي هو فعل لكم؛ بل أراد ما تفعلون فيه النّحت؛ وكما قال تعالى في عصا موسى عليه السلام:( تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) [الأعراف: ١١٧]( وتَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) ؛ [طه: ٦٩]؛ وإنما أراد تعالى أنّ العصا تلقف الحبال التي أظهروا سحرهم فيها، وهي التي حلتها صنعتهم وإفكهم؛ فقال:( ما صَنَعُوا وما يَأْفِكُونَ ) وأراد ما صنعوا فيه، وما يأفكون فيه؛ ومثله قوله تعالى:( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ) ، [سبأ: ١٣]؛ وإنما أراد المعمول فيه دون العمل؛(١) وهذا الاستعمال أيضا سائغ(١) شائع؛ لأنهم يقولون: هذا الباب عمل النّجار. وفي الخلخال: هذا من عمل الصائغ؛ وإن كانت الأجسام التي أشير إليها ليست أعمالا؛ وإنما عملوا فيها؛ فحسن إجراء هذه العبارة.

فإن قيل: كلّ الّذي ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع؛ لأن العمل في

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (وهذا في الاستعمال).

٢٣٥

الحقيقة لا يجري إلا على فعل الفاعل دون ما يفعل فيه؛ وإن استعير في بعض المواضع.

قلنا: ليس نسلّم لكم أنّ الاستعمال الّذي ذكرناه على سبيل المجاز؛ بل يقول: هو المفهوم الّذي لا يستفاد سواه، لأن القائل إذا قال: هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنّه عمل فيه، وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله: هذا من عمل فلان: هذا مما حلّه عمل فلان؛ فالأول أولى بأن يكون حقيقة.

وليس ينكر أن يكون الأصل في الحقيقة ما ذكروه، ثم انتقل بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه؛ وصار أخصّ به، ومما لا يستفاد من الكلام سواه؛ كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحدّ والاعتبار في المفهوم من الألفاظ إلا ما يستقرّ عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الأصل؛ فوجب أن يكون المفهوم والظاهر من الآية ما ذكرناه.

على أنا لو سلّمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه:

منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه، ولا يسوغ سواه.

ومنها ما تقتضيه الأدلة القاطعة الخارجة عن الآية؛ فمن ذلك أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم، والتوبيخ لأفعالهم والإزراء على مذاهبهم، فقال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ومتى لم يكن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) المراد تَعْمَلُونَ فيه؛ ليصير تقدير الكلام: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها، والله خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تفعلون فيها التخطيط والتصوير؛ لم يكن للكلام معنى، ولا مدخل في باب التوبيخ. ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) والله خلقكم وخلق عبادتكم؛ فأي وجه للتقريع! وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من أن يكون لوما وتوبيخا؛ إذا خلق عبادتهم للأصنام؛ فأي وجه للومهم عليها وتقريعهم بها! على أن قوله عز وجلّ:( خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) بعد قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره تعالى؛ فلا بدّ أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ومؤثرا في المنع من عبادة غير الله. فلو أفاد قوله: ما تَعْمَلُونَ نفس العمل

٢٣٦

الّذي هو النحت دون المعمول فيه لكان لا فائدة في الكلام؛ لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت؛ وإنما كانوا يعبدون محل النحت؛ ولأنه كان لا حظّ في الكلام للمنع من عبادة الأصنام. وكذلك إن حمل قوله تعالى: ما تَعْمَلُونَ على أعمال أخر ليست نحتهم، ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم؛ فلم يبق إلا أنه أراد: أنه خلقكم وما تعملون فيه النحت، فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم!

فإن قيل: لم زعمتم أنه لو كان الأمر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظّ في باب المنع من عبادة الأصنام؟ وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك؟(١) ؛ كما أن ما ذكرتموه(١) أيضا لو أريد لكان وجها؛ وهو أن من خلقنا وخلق الأفعال فينا لا يكون إلا الإله القديم، الّذي تحقّ له العبادة، وغير القديم - كما يستحيل أن يخلقنا - يستحيل أن يخلق فينا الأفعال على الوجه الّذي يخلقها القديم تعالى؛ فصار لما ذكرناه تأثير.

قلنا: معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للأول والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموه ممّا لا يقتضي أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه؛ وأنه لا شيء أدلّ على المنع من عبادة الأصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق.

ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى في موضع آخر:( أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٩١، ١٩٢] فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا، ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم؛ وهذا واضح.

على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلّق بالأول لم يسغ حمله على ما ادعوه؛ لأن فيه عذرا لهم في الفعل الّذي عنّفوا به وقرّعوا من أجله؛ وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم؛ ويذمّهم بما ينزّههم على ما تقدم.

____________________

(١ - ١) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة ش (وإن كان ما ذكرتموه).

٢٣٧

على أنا لا نسلّم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة؛ لأن من جملة أفعالهم القبائح، ومن فعل القبائح لا يكون إلها، ولا تحقّ له العبادة؛ فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا بانفراده في العبادة.

على أن إضافته العمل إليهم بقوله: تَعْمَلُونَ يبطل تأويلهم الآية؛ لأنه لو كان تعالى خالقا له(١) لم يكن عملا لهم؛ لأن العمل إنما يكون لمن يحدثه ويوجده، فكيف يكون عملا لهم والله خلقه! وهذه مناقضة، فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا.

على أن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) يقتضي الاستقبال؛ وكل فعل لم يوجد فهو معدوم.

ومحال أن يقول تعالى: إني خالق للمعدوم!

فإن قالوا: اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به المضي؛ فكأنه قال: والله خلقكم وما عملتم!

قلنا: هذا عدول منكم عن الظاهر الّذي ادّعيتم أنكم متمسكون به؛ وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا؛ بل نحن أحق؛ لأنا نعدل عنه لدلالة؛ وأنتم تعدلون بغير حجة.

فإن قالوا: فأنتم أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم، وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضي.

قلنا: لا نحتاج نحن في تأويلنا إلى ذلك؛ لأنا إذا حملنا قوله تعالى:( وَما تَعْمَلُونَ ) على الأصنام المعمول فيها - ومعلوم أن الأصنام موجودة قبل عملهم فيها - فجاز أن يقول تعالى:

إني خلقتها؛ ولا يجوز أن يقول: إني خلقت ما سيقع من العمل في المستقبل.

على أنه تعالى لو أراد بذلك أعمالهم؛ لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما يريدون؛ لأن الخلق هو التقدير والتدبير؛ وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدّره ودبّره؛ ألا ترى أنهم يقولون: خلقت الأديم؛ وإن لم يكن الأديم فعلا لمن يقال

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: (لها).

٢٣٨

ذلك فيه! ويكون معنى خلقه لأفعال العباد أنه مقدر لها، ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء.

وليس يمتنع أن يقال: إنه خالق للأعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الإبهام وفهم المراد؛ فهذا كله تقتضيه الآية. ولو لم يكن في الآية شيء مما ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله:

وَما تَعْمَلُونَ على خلق نفس الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك، ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدّالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا، وإن تصرفنا محدث بنا، ولا فاعل له سوانا؛ وكل هذا واضح بين(١) .

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإني لأستحسن لبعض نساء بني أسد قولها:

ألم ترنا غبّنّا ماؤنا

زمانا، فظلنا نكدّ البئارا(٢)

فلمّا عدا الماء أوطانه

وجفّ الثّماد فصارت حرارا(٣)

وضجّت إلى ربّها في السّماء(٤)

رءوس العضاه تناجي السّرارا

وفتّحت الأرض أفواهها

عجيج الجمال وردن الجفارا(٥)

لبسنا لدى عطن ليلة

على اليأس آتا بنا والخمارا(٦)

وقلنا: أعبروا النّدى حقّه

وصبر الحفاظ، وموتوا حرارا(٧)

____________________

(١) ف: (واضح بين بحمد الله).

(٢) الكد هنا: انتزاع السائل.

(٣) الثماد: بقايا الماء في الحوض والحفر، جمع ثمد. والحرار: جمع حرة، وهي حجارة سوداء.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (بخط عبد السلام البصري:

* وعجّت عجيجا إلى ربّها*

(٥) الجفار: جمع جفرة، وهي البئر الواسعة.

(٦) الآتاب: جمع إتب؛ وهو برد أو ثوب يؤخذ فيشق في وسطه، ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير جيب ولا كمين.

(٧) موتوا حرارا؛ أي جودوا بأنفسكم. وفي حاشية الأصل: (نسخة س: وجدت بخط المرتضى رضي الله عنه: (في مجموع أكثره بخط الرضي رضي الله عنه: حرار: جمع حرة).

٢٣٩

فإنّ النّدى لعسى مرّة

يردّ إلى أهله ما استعارا

فبتنا نوطّن أحشاءنا

أضاء لنا عارض فاستطارا(١)

وأقبل يزحف زحف الكسير

سياق الرعاء البطاء العشارا

تغنّي وتضحك حافاته

خلال الغمام وتبكي مرارا

كأنّا تضيء لنا حرّة

تشدّ إزارا وتلقي(٢) إزارا

فلمّا خشينا بأن لا نجاء

وألاّ يكون قرار قرارا

أشار إليه امرؤ فوقه

هلمّ، فأمّ(٣) إلى ما أشارا

***

وأنشد أبو هفّان لولاّدة المهزميّة(٤) :

لولا اتّقاء الله قمت بمفخر

لا يبلغ الثّقلان فيه مقامي

بأبوّة في الجاهليّة سادة

بذّوا العلى أمراء في الإسلام

جادوا فسادوا مانعين أذاهم

لنداهم، بذل(٥) على الأقوام

قد أنجبوا في السّؤددين(٦) وأنجبوا

بنجابة الأخوال والأعمام

قوم إذا سكتوا تكلّم مجدهم

عنهم؛ فأخرس دون كلّ كلام

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش (فبينا)، وبخط المرتضى رضي الله عنه: (نوطد أحسابنا).

(٢) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: وترخي).

(٣) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: فصار).

(٤) حاشية الأصل: (قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي رحمه الله: هو أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي. وأبو هفان، بكسر الهاء).

(٥) بذل: جمع بذول، أي باذلون.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي الأبوة والأمومة).

٢٤٠