أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى19%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64531 / تحميل: 9547
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستجيد قول أبي العيص بن حرام بن عبد الله بن قتادة بن جابر بن ربيعة بن كابية(١) المازني رضي الله عنه.

وكم من صاحب قد بان عنّي

رميت بفقده وهو الحبيب(٢)

فلم أبد الّذي تحنو ضلوعي

عليه، وإنّني لأنا الكئيب

مخافة أن يراني مستكينا

عدوّ أو يساء به قريب

فيشمت كاشح ويظنّ أنّي

جزوع عند نائبة تنوب

فبعدك شدّت الأعداء طرفا

إلي ورابني دهر مريب

معنى، شدّت الأعداء طرفا، أي نظرت إلي نظرا شديدا(٣) فظهر الغضب في عيونها -

وأنكرت الزّمان وكلّ أهلي

وهرّتني لغيبتك الكليب

يقال: كلب وكليب مثل عبد وعبيد -

وكنت تقطّع الأبصار دوني

وان وغرت من الغيظ القلوب

ويمنعني من الأعداء أنّي

وإن رغموا لمخشي مهيب

فلم أر مثل يومك كان يوما

بدت فيه النّجوم فما تغيب

وليل ما أنام به طويل

كأنّي للنّجوم به رقيب

وما يك جائيا لا بدّ منه

إليك فسوف تجلبه الجلوب

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (حارثة).

(٢) الأبيات في لباب الآداب ٤٠٧، ٤٠٨ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات.

(٣) ف: (شزرا).

٢٢١

مجلس آخر

[٧١]

تأويل آية :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ؛ [البقرة: ٧٢، ٧٣].

فقال: كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكره(١) البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغي أن يتقدّمه، لأنه إنما أمر بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل، فكيف أخّر ذكر السبب عن المسبب، وبنى الكلام بناء يقتضي أنه كان بعده؟

ولم قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ، والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا؟ وكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد! وإلى أي شيء وقعت الإشارة بقوله تعالى:

( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؟.

الجواب، قيل له: أما قوله تعالى؛( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ففيه وجهان:

أولهما أن تكون هذه الآية - وإن أخّرت - فهي مقدّمة في المعنى على الآية التي ذكرت فيها البقرة؛ ويكون التأويل:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) فسألتم موسى فقال: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فأخر المقدم وقدم المؤخر؛ ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير.

ومثله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ) [الكهف: ١، ٢].

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بعد ذكر البقرة).

٢٢٢

وقال الشاعر:

إنّ الفرزدق صخرة ملمومة

طالت - فليس تنالها - الأوعالا(١)

أراد: طالت الأوعال فليس تنالها.

ومثله:

طاف الخيال وأين منك لماما!

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

أراد: طاف الخيال لماما وأين هو منك!

والوجه الثاني أن يكون وجه تأخير قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) أنه علّق بما هو متأخر في الحقيقة، وواقع بعد ذبح البقرة، وهو قوله تعالى:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؛ لأن الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنما هو بعد الذبح؛ فكأنه تعالى قال:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولأنكم قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) أمرناكم أن تضربوه ببعضها، لينكشف أمره. فأما إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها؛ فيقول أحدهم: فعلت بنو تميم كذا، وقتل بنو فلان فلانا؛ وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة؛ ومنه قراءة من قرأ:( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة: ١١١]؛ بتقديم المفعولين على الفاعلين؛ وهو اختيار الكسائي وأبي العباس ثعلب؛ فيقتل بعضهم ويقتلون؛ وهو أبلغ في وصفهم، وأمدح لهم، لأنهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدلّ على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم.

وقد قيل: إنه كان القاتلان اثنين، قتلا ابن عم لهما، وإن الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع؛ كما قال تعالى:( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) [الأنبياء: ٧٩]؛ يريد داود وسليمان

____________________

(١) البيت في شرح شواهد سيبويه للأعلم (٢: ٣٥٦).

٢٢٣

عليهما السلام؛ والوجه الأول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له، ولأن أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا.

ومعنى فَادَّارَأْتُمْ فتدارأتم؛ أي تدافعتم، وألقى بعضكم القتل على بعض؛ يقال: دارأت فلانا إذا دافعته وداريته، إذا لاينته، ودريته إذا ختلته؛ ويقال: ادّرأ القوم إذا تدافعوا.

والهاء في قوله:( فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) تعود إلى النفس، وقيل: إنها تعود على القتلة، أي اختلفتم في القتلة؛ لأن قَتَلْتُمْ تدل على المصدر؛ والقتلة من المصادر، تدل عليها الأفعال، ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.

فأما قوله تعالى:( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) فالإشارة وقعت به إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة؛ لأنه روي أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان!

ونبّه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات؛ لأنهم قالوا:( أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) ؛ [الإسراء: ٤٩]؛ فأخبرهم الله تعالى بأنّ الّذي أنكروه واستبعدوه هيّن عليه، غير متعذر في اتساع قدرته.

وكان مما ضرب تعالى لهم من الأمثال، ونبّههم عليه من الأدلة ذكر المقتول الّذي ضرب ببعض البقرة فقام حيا. وأراد تعالى: أنني إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة، ويئس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم، ورددته حيا مخاطبا باسم قاتله؛ فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزني ولا يتعذر عليّ. وهذا بين لمن تأمله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن الشعر المشهور بالجودة في ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول

٢٢٤

نهشل بن(١) حرّي يرثي أخاه مالكا:

ذكرت أخي المخوّل بعد يأس(٢)

فهاج عليّ ذكراه اشتياقي

فلا أنسى أخي ما دمت حيّا

وإخواني بأقرنة العناق(٣)

يجرّون الفصال إلى النّدامى

بروض الحزن من كنفي أفاق(٤)

ويغلون السّباء إذا أتوه

بضمر الخيل والشّول الحقاق(٥)

إذا اتّصلوا وقالوا: يالغوث!

وراحوا في المحبّرة الرّقاق(٦)

أجابك كلّ أروع شمّري

رخي البال منطلق الخناق(٧)

أناس صالحون نشأت فيهم

فأودوا بعد إلف واتساق

مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم

ولكن لا محالة من لحاق(٨)

كذي الإلف الّذي أدلجن عنه

فحنّ ولا يتوق إلى متاق(٩)

____________________

(١) هو نهشل بن حري بن ضمرة بن ضمرة، شاعر شريف مشهور مخضرم، بقي إلى أيام معاوية، وكان مع علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين؛ وهو يومئذ رئيس بني حنظلة، وكانت رايتهم معه؛ ورثاه نهشل بمراث كثيرة. (وانظر الشعر والشعراء ٦١٩ - ٦٢١).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: رواية أبي محمد الأسود: بعد هدء).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (العناق، بفتح العين وكسرها: موضع).

(٤) (أفاق: موضع في بلاد يربوع.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (السباء في الأصل: شراء الخمر، وأراد هاهنا نفس الخمر؛ وعلى هذا قول لبيد:

* أغلى السّباء بكلّ ادكن عاتق*

والشول: جمع شائلة؛ وهي الناقة التي خف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، والحقاق: الضوامر، يعني أنهم يبيعون الخيل والإبل ويشترون بها الخمر.

(٦) المحبرة: الثياب المنقشة.

(٧) الأروع: الّذي يعجبك حسنه وجماله، والشمري: الماضي في الأمور؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (دارمي).

(٨) حاشية الأصل: (نسخة س: (لا محالة في لحاق)، ورواية الأسود (في لحاقي).

(٩) في حاشيتي الأصل، ف من نسخة: (كذا الإلف).

٢٢٥

أرى الدّنيا ونحن نعيث فيها

مولّية تهيّأ لانطلاق

أعاذل قد بقيت بقاء قيس

وما حي على الدّنيا بباق

[هبطت السّيلحين وذات عرق

وأوردت المطي على حذاق](١)

كأنّ الشّيب والأحداث تجري

إلى نفس الفتى فرسا سباق

فإما الشّيب يدركه وإما

يلاقي حتفه فيما يلاقي

فإن تك لمّتي بالشّيب أمست

شميط اللّون واضحة المشاق(٢)

فقد أغدو بداجية أراني

بها المتطلّعات من الرّواق(٣)

الداجية: اللمّة السوداء. وأراني: (أفاعل)، من المراناة -

إلي كأنّهنّ ظباء قفر(٤)

برهبي، أو بباعجتي فتاق(٥)

يرامضن(٦) الحبال لغير وصل

وليس حبال وصلي بالرّماق

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عنه الجعائل مستذاق

القين: الحداد، والجعائل: جمع جعالة وهي أجرته، وأراد أن القين إذ عدم الجعالة رحل ولم يستقرّ في مكان -

كجلب السّوء يعجب من رآه

ولا يشفي الحوائم من لماق

الجلب: الغيم الّذي لا مطر فيه، والحوائم: العطاش، ولماق: شيء قليل -

فلا يبعد مضائي في الموامي

وإشرافي العلاية وانصفاقي(٧)

____________________

(١) ورد هذا البيت في ف وحاشية الأصل، من رواية الأسود. والسيلحين، وذات عرق، وحذاق: مواضع.

(٢) حاشية الأصل: (شبه الشعر بالمشاقة؛ وهي الكتان غير المغزول).

(٣) الرواق: الخيمة.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (نفر).

(٥) رهبى: موضع. والباعجان: مثنى باعجة؛ وهي متسع الوادي. وفتق: موضع أيضا.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة س: (يوامضن)، ونسخة الأسود (يوامقن).

(٧) العلاية: ما علا من الأرض. والانصفاق: الانصراف.

٢٢٦

وغبراء القتام جلوت عنّي(١)

بعجلى الطّرف سالمة المآقي

وقد طوّفت في الآفاق حتى

سئمت النّصّ بالقلص العتاق(٢)

وكم قاسيت من سنة جماد

تعضّ اللّحم ما دون العراق(٣)

إذا أفنيتها بدّلت أخرى

أعدّ شهورها عدّ الأواقي

وأفنتني الشّهور وليس تفنى

وتعداد الأهلّة والمحاق

وما سبق الحوادث ليث غاب

يجرّ لعرسه جزر الرّفاق

[كميت تعجز الحلفاء عنه

كبغل المرج حطّ من الزّناق](٤)

[تنازعه الفريسة أم شبل

عبوس الوجه فاحشة العناق](٤)

ولا بطل تفادي الخيل منه

فرار الطّير من برد بعاق(٥)

[كريم من خزيمة أو تميم

أغرّ على مساعفة مزاق](٦)

[فذلك لن تخاطأه المنايا

فكيف يقيه طول الدهر واق]

***

وأحسن حارثة بن بدر الغداني في قوله:

ياكعب ما راح من قوم ولا ابتكروا

إلاّ وللموت في آثارهم حادي

ياكعب ما طلعت شمس ولا غربت

إلاّ تقرّب آجالا لميعاد

ولأبي العتاهية في هذا المعنى:

إذا انقطعت عني من العيش مدّتي

فإنّ بكاء الباكيات قليل(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: نسخة الأسود (نفضت).

(٢) النص: أرفع السير.

(٣) العراق: العظام التي يقشر عنها معظم اللحم وتبقى عليه بقية.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: والزنقة: المضيق في الجبل، وجمعه زناق).

(٥) البعاق: المندفع.

(٦) تكملة من رواية الأسود في حاشيتي الأصل، ف. والمساعفة: المساعدة، والمزاق: المسرعة التي تمزق الهواء.

(٧) هذه الأبيات في حماسة ابن الشجري ١٤٢، مع اختلاف في الترتيب وعدد الأبيات.

٢٢٧

سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي

ويحدث بعدي للخليل خليل

أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى

وكلّ غني في العيون جليل

وليس الغنى إلا غنى زيّن الفتى

عشيّة يقري أو غداة ينيل

ولم يفتقر يوما وإن كان معدما

جواد ولم يستغن قطّ بخيل

إذا مالت الدّنيا إلى المرء رغّبت

إليه، ومال النّاس حيث يميل

أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليل

وإنّي وإن أصبحت بالموت موقنا

فلي أمل دون اليقين طويل(١)

وقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى:

أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد

لها، ومتى حدّثت نفسك فاصدق

أرى علل الأشياء شتّى ولا أرى التـ

جمّع إلاّ غاية للتّفرّق(٢)

أرى العيش ظلاّ توشك الشّمس نقله

فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق(٣)

أرى الدّهر غولا للنّفوس وإنما

يقي الله في بعض المواطن من يقي

فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى

وعرّج على الباقي فسائله لم بقي

ولم أر كالدّنيا خليلة صاحب

محبّ متى تحسن بعينيه تعنق(٤)

تراها عيانا وهي صنعة واحد

فتحسبها صنعي لطيف وأخرق

وقد قيل إن السبب في خروج البحتري عن بغداد في آخر أيامه كان هذه الأبيات؛ لأن بعض أعدائه شنّع عليه بأنه ثنوي من حيث قال:

* فتحسبها صنعي لطيف وأخرق*

وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد، فخاف على نفسه فقال لابنه أبي الغوث: قم يابنيّ حتى نطفئ عنا هذه الثائرة بخرجة نلمّ فيها ببلدنا؛ فخرج ولم يعد.

____________________

(١) لم أعثر على هذه الأبيات في ديوانه؛ وهي في مجموعة المعاني ٥، ٦ مع اختلاف في الرواية.

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، مجموعة المعاني: (علة للتفرق).

(٣) مق، أي تحامق.

(٤) مجموعة المعاني، د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تطلق).

٢٢٨

وأحسن أيضا غاية الإحسان في قوله:

أغشى الخطوب فإمّا جئن مأربتي

فيما أسيّر أو أحكمن تأديبي(١)

إن تلتمس أخلاف الخطوب(٢) وإن

تلبث مع الدّهر تسمع بالأعاجيب

وفي قوله:

متى تستزد فضلا من العمر تغترف

بسجليك من شهد الخطوب وصابها(٣)

تشذّبنا(٤) الدّنيا بأخفض سعيها

وغول الأفاعي بلّة من لعابها

يسرّ بعمران الدّيار مضلّل

وعمرانها مستأنف من خرابها

ولم أرتض الدّنيا أوان مجيئها

فكيف ارتضائيها أوان ذهابها!

أفول لمكذوب عن الدّهر زاغ عن

تخيّر آراء الحجى وانتخابها

سيرديك أو يثويك أنّك محلس

إلى شقّة يبكيك بعد مآبها(٥)

وهل أنت في مرموسة طال أخذها

من الأرض إلا حفنة من ترابها(٦)

وجدت الآمدي يروي في هذا البيت (أنك محبس) بالباء؛ وتفسير ذلك أنّ المعنى أنك موقوف إلى أن تصير إلى هذا؛ من قولك: أحبست فرسا في سبيل الله، وأحبست دارا؛ أي أي وقفتها. والرواية المشهورة: (أنك مجلس) باللام؛ والمعنى أنك متهيئ للرحيل ومتخذ حلسا.

والحلس: هو الكساء الّذي يوضع تحت الرحل؛ وهذا أشبه بالمعنى الّذي قصده البحتري؛ وأولى بأن يختاره؛ مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه.

____________________

(١) ديوانه ١: ٦٩.

(٢) في الديوان: (الأمور).

(٣) ديوانه: ١: ٤٧، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (شهد الأمور).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (تسيرنا).

(٥) محلس: مقيم. والشقة: الطريقة.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حثوة).

٢٢٩

مجلس آخر

[٧٢]

تأويل آية :( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٨٩، ١٩٠].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الشرك على الأنبياء؛ لأنه لم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء عليهما السلام؛ فيجب أن يكون قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) فِيما آتاهُما يرجع إليهما.

الجواب، قلنا: كما أنّ ذكر آدم وحواء قد تقدّم، فقد تقدم ذكر غيرهما في قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) ، ومعلوم أنّ المراد بذلك جميع ولد آدم، وقد تقدم ذكر ولد آدم في قوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) ؛ والمعنى: فلما آتاهما ولدا صالحا، والمراد بهذا الجنس دون الواحد؛ وإن كان اللفظ لفظ واحد؛ والمعنى: فلما آتاهما جنسا من الأولاد صالحين؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) إلى ولدهما؛ وقد تقدم ذكرهما.

فإن قيل: إنما وجب رده إلى آدم وحواء لأجل التثنية في الكلام؛ ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما.

قلنا: إن جعل هذا ترجيحا في رجوعه إليهما جاز أيضا أن يجعل قوله في آخر الآية:

( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد. ويجوز أن يكون أشير في التثنية إلى الذكور والإناث من ولد آدم أو إلى جنسين منهم؛ فحسنت التثنية لذلك

٢٣٠

على أنه إذا تقدم في الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الأحكام، وعلم بالدليل استحالة تعلّقه بأحد الأمرين وجب ردّه إلى الآخر.

وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه الشرك لم يجز عود الكلام إليه، فوجب عوده إلى المذكورين من ولده.

وذكر أبو على الجبائي ما نحن نورده على وجهه، قال: إنما عنى(١) الله تعالى بهذا أنه تعالى خلق بني آدم(١) من نفس واحدة؛ لأن الإضمار في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ إنما عنى به بني آدم، والنفس الواحدة التي خلقهم منها هي آدم؛ لأنه خلق حواء من آدم؛ ويقال: إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه(٢) ؛ فرجعوا جميعا إلى أنهم خلقوا من آدم؛ وبيّن ذلك بقوله:( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) ؛ لأنه عنى به أنّه خلق من هذا النفس زوجها، وزوجها هو حواء.

وعنى بقوله:( فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) ، وحملها(٣) هو حبلها منه في ابتداء الحمل؛ لأنه في ذلك الوقت خفيف عليها.

وعنى بقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أنّ مرورها بهذا الحمل، وتصرّفها به كان عليها سهلا لخفّته؛ فلما كبر الولد في بطنها ثقل ذلك عليها، فهو معنى قوله: أَثْقَلَتْ؛ وثقل عليها عند ذلك المشي والحركة.

وعنى بقوله:( دَعَوَا الله رَبَّهُما ) أنهما دعوا عند كبر الولد في بطنها فقالا: لئن آتيتنا ياربّ نسلا صالحا لنكوننّ من الشاكرين لنعمتك علينا؛ لأنهما أراد أن يكون لهما أولاد تؤنسهما في الموضع الّذي كانا فيه؛ لأنهما كانا فردين مستوحشين؛ فكان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس؛ فلما آتاهما نسلا صالحا معافى، وهم الأولاد الذين كانوا يولدون لهما لأن حواء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى فيقال: إنها ولدت في خمسمائة بطن ألف ولد.

____________________

(١ - ١) حاشية ف (من نسخة): (إنما عنى الله تعالى خلق بني آدم).

(٢) م: (ويقال من طينته).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وأن حملها).

٢٣١

وعنى بقوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ) (١) أي أن هذا النسل الصالح الّذي هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما(١) من نعمة؛ وأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله عزّ وجلّ من الأصنام والأوثان، ولم يعن بقوله: جَعَلا آدم وحواء عليها السلام؛ لأن آدم لا يجوز عليه الشرك بالله لأنه نبي من أنبيائه، ولو جاز الشرك والكفر على الأنبياء لما جاز أن يثق أحدنا بما يؤديه إليه الأنبياء عن الله عز وجل؛ لأن من جاز عليه الكفر جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره؛ فصحّ بهذا أنّ الإضمار في قوله: جَعَلا إنما يعني به النسل.

وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية؛ لأنهم كانوا ذكرا وأنثى، فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل إخباره عنهما كالإخبار عن الاثنين إذا كانا صنفين.

وقد دلّ على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى في آخر الآية:( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فبيّن عز وجل أنّ الذين جعلوا للّه شركاءهم جماعة، فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة، فقال: يُشْرِكُونَ؛ مضى كلام أبي عليّ.

وقد قيل في قوله تعالى:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) مضافا إلى الوجه المتقدم - الّذي هو أنه أراد بالصلاح الاستواء في الخلقة والاعتدال في الأعضاء - وجه آخر؛ وهو أنّه لو أراد الصلاح في الدين لكان الكلام أيضا مستقيما؛ لأن الصالح في الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه، فيكون في حال صالحا، وفي آخر مشركا؛ وهذا لا يتنافى.

وقد استشهد في جواز الانتقال من خطاب إلى غيره، ومن كناية عن مذكور إلى مذكور سواه؛ ليصحّ ما قلناه من الانتقال من الكناية عن آدم وحوّاء إلى ولدهما بقوله تعالى:

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ) ، فانصرف عن مخاطبة الرسول عليه السلام إلى مخاطبة المرسل إليهم، ثم قال:( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) ، يعني الرسول عليه السلام، ثم قال:( وَتُسَبِّحُوهُ ) ، [الفتح: ٩]؛ وهو يعني مرسل الرسول؛ فالكلام

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، والمثبت عن د، ف.

٢٣٢

واحد متّصل بعضه ببعض، والخطاب منتقل من واحد إلى غيره؛ ويقول الهذلي(١) :

يالهف نفسي كان جدّة خالد

وبياض وجهك للتّراب الأعفر

ولم يقل: وبياض وجهه.

وقال كثيّر:

أسيء بنا، أو أحسني لا ملومة

لدينا، ولا مقليّة إن تقلت(٢)

فخاطب ثمّ ترك الخطاب. وقال آخر:

فدى لك يافتى وجميع أهلي

وما لي إنّه منه أتاني(٣)

ولم يقل: منك أتاني.

ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أنّ الخطاب في جميعها غير متعلّق بحواء وآدم، ويجعل الهاء في تَغَشَّاها، والكناية في( دَعَوَا الله رَبَّهُما وآتاهُما صالِحاً ) راجعتين إلى من أشرك؛ ولم يتعلق بآدم وحواء من الخطاب إلا قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) ؛ لأن الإشارة في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلى الخلق عامة، وكذلك قوله تعالى:( وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) ، ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ، فخاطب الجماعة بالتسيير في البر والبحر، ثم خص راكب البحر بقوله تعالى:( وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ؛ [يونس: ٢٢] كذلك الآية أخبرت عن جملة البشر؛ وأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها، وهما آدم وحواء عليهما السلام ثمّ عاد الذكر إلى الّذي سأل الله تعالى ما سأل؛ فلما أعطاه إياه ادعى الشّركاء في عطيته.

قال: وجائز أن يكون عنى بقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) المشركين؛ خصوصا إذ كان كلّ بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها.

____________________

(١) هو أبو كبير، والبيت من قصيدة له في شعر الهذليين ٢: ١٠١.

(٢) أمالي القالي ٢: ١٠٩.

(٣) حاشية الأصل: (فدى وفداء كلاهما صحيح، فإذا قلت فدى فهو مقصور من الممدود).

٢٣٣

ويجوز أن يكون المعنى في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة؛ وهذا يجيء كثيرا في القرآن وفي كلام العرب؛ قال الله تعالى:

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ؛ [النور: ٤] أي فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة.

وقال عز وجل:( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) ؛ [الروم: ٢١] فلكل نفس زوج منها أي من جنسها.

( فَلَمَّا تَغَشَّاها ) ، أي تغشّي كلّ نفس زوجها.( حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) وهو ماء الفحل.

فَمَرَّتْ بِهِ أي مارت، والمور: التردّد. والمراد تردّد هذا الماء في رحم هذه الحامل.( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) أي ثقل حملها؛ أي بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما. دَعَوَا الله أي الرجل والمرأة لمّا استبان حمل المرأة فقالا:( لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) أي أعطاهما ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه،( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقال قوم: معنى( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) أي طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطّلبتين وتكون الهاء في قوله: لَهُ راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى. ويجري مجرى قول القائل: طلبت مني درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر؛ أي طلبت آخر مضافا إليه.

وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكونا قوله: جَعَلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام.

٢٣٤

مجلس آخر

[٧٣]

تأويل آية :( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ؛ [الصافات: ٩٥، ٩٦].

فقال: أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنه خالق لأعمال العباد، لأن ما هاهنا بمعنى (الّذي) ؛ فكأنه قال: خلقكم وخلق أعمالكم.

الجواب، قلنا: قد حمل أهل الحق هذه الآية على أنّ المراد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما؛ مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها.

قالوا: وغير منكر أن يريد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) ذلك؛ كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله:

( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) لأنه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الّذي هو فعل لكم؛ بل أراد ما تفعلون فيه النّحت؛ وكما قال تعالى في عصا موسى عليه السلام:( تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) [الأعراف: ١١٧]( وتَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) ؛ [طه: ٦٩]؛ وإنما أراد تعالى أنّ العصا تلقف الحبال التي أظهروا سحرهم فيها، وهي التي حلتها صنعتهم وإفكهم؛ فقال:( ما صَنَعُوا وما يَأْفِكُونَ ) وأراد ما صنعوا فيه، وما يأفكون فيه؛ ومثله قوله تعالى:( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ) ، [سبأ: ١٣]؛ وإنما أراد المعمول فيه دون العمل؛(١) وهذا الاستعمال أيضا سائغ(١) شائع؛ لأنهم يقولون: هذا الباب عمل النّجار. وفي الخلخال: هذا من عمل الصائغ؛ وإن كانت الأجسام التي أشير إليها ليست أعمالا؛ وإنما عملوا فيها؛ فحسن إجراء هذه العبارة.

فإن قيل: كلّ الّذي ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع؛ لأن العمل في

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (وهذا في الاستعمال).

٢٣٥

الحقيقة لا يجري إلا على فعل الفاعل دون ما يفعل فيه؛ وإن استعير في بعض المواضع.

قلنا: ليس نسلّم لكم أنّ الاستعمال الّذي ذكرناه على سبيل المجاز؛ بل يقول: هو المفهوم الّذي لا يستفاد سواه، لأن القائل إذا قال: هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنّه عمل فيه، وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله: هذا من عمل فلان: هذا مما حلّه عمل فلان؛ فالأول أولى بأن يكون حقيقة.

وليس ينكر أن يكون الأصل في الحقيقة ما ذكروه، ثم انتقل بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه؛ وصار أخصّ به، ومما لا يستفاد من الكلام سواه؛ كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحدّ والاعتبار في المفهوم من الألفاظ إلا ما يستقرّ عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الأصل؛ فوجب أن يكون المفهوم والظاهر من الآية ما ذكرناه.

على أنا لو سلّمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه:

منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه، ولا يسوغ سواه.

ومنها ما تقتضيه الأدلة القاطعة الخارجة عن الآية؛ فمن ذلك أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم، والتوبيخ لأفعالهم والإزراء على مذاهبهم، فقال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ومتى لم يكن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) المراد تَعْمَلُونَ فيه؛ ليصير تقدير الكلام: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها، والله خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تفعلون فيها التخطيط والتصوير؛ لم يكن للكلام معنى، ولا مدخل في باب التوبيخ. ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) والله خلقكم وخلق عبادتكم؛ فأي وجه للتقريع! وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من أن يكون لوما وتوبيخا؛ إذا خلق عبادتهم للأصنام؛ فأي وجه للومهم عليها وتقريعهم بها! على أن قوله عز وجلّ:( خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) بعد قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره تعالى؛ فلا بدّ أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ومؤثرا في المنع من عبادة غير الله. فلو أفاد قوله: ما تَعْمَلُونَ نفس العمل

٢٣٦

الّذي هو النحت دون المعمول فيه لكان لا فائدة في الكلام؛ لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت؛ وإنما كانوا يعبدون محل النحت؛ ولأنه كان لا حظّ في الكلام للمنع من عبادة الأصنام. وكذلك إن حمل قوله تعالى: ما تَعْمَلُونَ على أعمال أخر ليست نحتهم، ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم؛ فلم يبق إلا أنه أراد: أنه خلقكم وما تعملون فيه النحت، فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم!

فإن قيل: لم زعمتم أنه لو كان الأمر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظّ في باب المنع من عبادة الأصنام؟ وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك؟(١) ؛ كما أن ما ذكرتموه(١) أيضا لو أريد لكان وجها؛ وهو أن من خلقنا وخلق الأفعال فينا لا يكون إلا الإله القديم، الّذي تحقّ له العبادة، وغير القديم - كما يستحيل أن يخلقنا - يستحيل أن يخلق فينا الأفعال على الوجه الّذي يخلقها القديم تعالى؛ فصار لما ذكرناه تأثير.

قلنا: معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للأول والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموه ممّا لا يقتضي أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه؛ وأنه لا شيء أدلّ على المنع من عبادة الأصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق.

ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى في موضع آخر:( أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٩١، ١٩٢] فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا، ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم؛ وهذا واضح.

على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلّق بالأول لم يسغ حمله على ما ادعوه؛ لأن فيه عذرا لهم في الفعل الّذي عنّفوا به وقرّعوا من أجله؛ وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم؛ ويذمّهم بما ينزّههم على ما تقدم.

____________________

(١ - ١) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة ش (وإن كان ما ذكرتموه).

٢٣٧

على أنا لا نسلّم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة؛ لأن من جملة أفعالهم القبائح، ومن فعل القبائح لا يكون إلها، ولا تحقّ له العبادة؛ فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا بانفراده في العبادة.

على أن إضافته العمل إليهم بقوله: تَعْمَلُونَ يبطل تأويلهم الآية؛ لأنه لو كان تعالى خالقا له(١) لم يكن عملا لهم؛ لأن العمل إنما يكون لمن يحدثه ويوجده، فكيف يكون عملا لهم والله خلقه! وهذه مناقضة، فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا.

على أن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) يقتضي الاستقبال؛ وكل فعل لم يوجد فهو معدوم.

ومحال أن يقول تعالى: إني خالق للمعدوم!

فإن قالوا: اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به المضي؛ فكأنه قال: والله خلقكم وما عملتم!

قلنا: هذا عدول منكم عن الظاهر الّذي ادّعيتم أنكم متمسكون به؛ وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا؛ بل نحن أحق؛ لأنا نعدل عنه لدلالة؛ وأنتم تعدلون بغير حجة.

فإن قالوا: فأنتم أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم، وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضي.

قلنا: لا نحتاج نحن في تأويلنا إلى ذلك؛ لأنا إذا حملنا قوله تعالى:( وَما تَعْمَلُونَ ) على الأصنام المعمول فيها - ومعلوم أن الأصنام موجودة قبل عملهم فيها - فجاز أن يقول تعالى:

إني خلقتها؛ ولا يجوز أن يقول: إني خلقت ما سيقع من العمل في المستقبل.

على أنه تعالى لو أراد بذلك أعمالهم؛ لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما يريدون؛ لأن الخلق هو التقدير والتدبير؛ وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدّره ودبّره؛ ألا ترى أنهم يقولون: خلقت الأديم؛ وإن لم يكن الأديم فعلا لمن يقال

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: (لها).

٢٣٨

ذلك فيه! ويكون معنى خلقه لأفعال العباد أنه مقدر لها، ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء.

وليس يمتنع أن يقال: إنه خالق للأعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الإبهام وفهم المراد؛ فهذا كله تقتضيه الآية. ولو لم يكن في الآية شيء مما ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله:

وَما تَعْمَلُونَ على خلق نفس الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك، ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدّالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا، وإن تصرفنا محدث بنا، ولا فاعل له سوانا؛ وكل هذا واضح بين(١) .

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإني لأستحسن لبعض نساء بني أسد قولها:

ألم ترنا غبّنّا ماؤنا

زمانا، فظلنا نكدّ البئارا(٢)

فلمّا عدا الماء أوطانه

وجفّ الثّماد فصارت حرارا(٣)

وضجّت إلى ربّها في السّماء(٤)

رءوس العضاه تناجي السّرارا

وفتّحت الأرض أفواهها

عجيج الجمال وردن الجفارا(٥)

لبسنا لدى عطن ليلة

على اليأس آتا بنا والخمارا(٦)

وقلنا: أعبروا النّدى حقّه

وصبر الحفاظ، وموتوا حرارا(٧)

____________________

(١) ف: (واضح بين بحمد الله).

(٢) الكد هنا: انتزاع السائل.

(٣) الثماد: بقايا الماء في الحوض والحفر، جمع ثمد. والحرار: جمع حرة، وهي حجارة سوداء.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (بخط عبد السلام البصري:

* وعجّت عجيجا إلى ربّها*

(٥) الجفار: جمع جفرة، وهي البئر الواسعة.

(٦) الآتاب: جمع إتب؛ وهو برد أو ثوب يؤخذ فيشق في وسطه، ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير جيب ولا كمين.

(٧) موتوا حرارا؛ أي جودوا بأنفسكم. وفي حاشية الأصل: (نسخة س: وجدت بخط المرتضى رضي الله عنه: (في مجموع أكثره بخط الرضي رضي الله عنه: حرار: جمع حرة).

٢٣٩

فإنّ النّدى لعسى مرّة

يردّ إلى أهله ما استعارا

فبتنا نوطّن أحشاءنا

أضاء لنا عارض فاستطارا(١)

وأقبل يزحف زحف الكسير

سياق الرعاء البطاء العشارا

تغنّي وتضحك حافاته

خلال الغمام وتبكي مرارا

كأنّا تضيء لنا حرّة

تشدّ إزارا وتلقي(٢) إزارا

فلمّا خشينا بأن لا نجاء

وألاّ يكون قرار قرارا

أشار إليه امرؤ فوقه

هلمّ، فأمّ(٣) إلى ما أشارا

***

وأنشد أبو هفّان لولاّدة المهزميّة(٤) :

لولا اتّقاء الله قمت بمفخر

لا يبلغ الثّقلان فيه مقامي

بأبوّة في الجاهليّة سادة

بذّوا العلى أمراء في الإسلام

جادوا فسادوا مانعين أذاهم

لنداهم، بذل(٥) على الأقوام

قد أنجبوا في السّؤددين(٦) وأنجبوا

بنجابة الأخوال والأعمام

قوم إذا سكتوا تكلّم مجدهم

عنهم؛ فأخرس دون كلّ كلام

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش (فبينا)، وبخط المرتضى رضي الله عنه: (نوطد أحسابنا).

(٢) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: وترخي).

(٣) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: فصار).

(٤) حاشية الأصل: (قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي رحمه الله: هو أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي. وأبو هفان، بكسر الهاء).

(٥) بذل: جمع بذول، أي باذلون.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي الأبوة والأمومة).

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

اندفعت المطالبة عنه ، وبرئ المشتري من الحقّين ؛ لأنّ البائع قد ثبت بالبيّنة أنّه قبض ، والآذن قد ثبت أنّ وكيله - وهو البائع - قد قبض.

ولو شهد له الشريك الآذن ، لم تُقبل شهادته في نصيبه ؛ لأنّه لو ثبت ذلك لطالَب المشهود عليه بحقّه ، وذلك جرّ نفعٍ ظاهر ، فلا تُقبل ؛ للتهمة.

وهل تُقبل شهادته في نصيب البائع؟ قال بعض علمائنا : نعم(١) .

وللشافعيّة قولان مبنيّان على أنّ الشهادة إذا رُدّت في بعض ما شهدت به ؛ للتهمة ، فهل تردّ في الباقي؟(٢) .

ولو لم يكن للمشتري بيّنة بالقبض ، كان القولُ قولَ البائع مع يمينه ؛ لأنّه منكر ، والأصل عدم القبض ، فيحلف البائع أنّه لم يقبض ، فإذا حلف أخذ نصيبه من المشتري ، ولا يشاركه الآذن ؛ لإقراره أنّ البائع قبض أوّلاً ما هو الحقّ ، ويزعم أنّ الذي قبضه ثانياً بيمينه ظلم ، فلا يستحقّ مشاركته فيه ، فإن نكل البائع عن اليمين رُدّت اليمين على المشتري ، فإذا حلف أنّه أقبض البائع جميع الثمن انقطعت المطالبة عنه ، ولو نكل المشتري أيضاً أُلزم بنصيب البائع.

وقال بعض الشافعيّة : لا يُلزم بنصيب البائع أيضاً ؛ لأنّا لا نحكم بالنكول(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّ هذا ليس حكماً بالنكول ، وإنّما هو مؤاخذة له بإقراره بلزوم المال بالشراء ابتداءً.

____________________

(١) لم نهتد إلى القائل به ، وراجع المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٤١ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٣٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦١

فإذا انفصلت(١) [ خصومة ](٢) البائع و(٣) المشتري فلو جاء الشريك الآذن وطالَب البائعَ بحقّه ؛ لزعمه أنّه قبض جميع الثمن ، فعليه البيّنة ، ويُقدَّم قول البائع مع اليمين أنّه لم يقبض إلّا نصيبه بعد الخصومة الجارية بينهما ، فإن نكل البائع حلف الآذن وأخذ منه نصيبه ، ولا يرجع البائع به على المشتري ؛ لأنّه يزعم أنّ شريكه ظَلَمه بما فَعَل ، ولا يمنع البائعَ من الحلف نكولُه عن اليمين في الخصومة مع المشتري ؛ لأنّها خصومة أُخرى مع خصمٍ آخَر.

هذا إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري وتبعتها خصومة الشريكين ، وأمّا إن تقدّمت خصومة الشريكين فادّعى الذي لم يبع قبضَ الثمن على البائع وطالَبه بحقّه وأنكر البائع ، قُدّم قوله مع اليمين ، وكان على الشريك الآذن البيّنة بأنّ البائع قبض الثمن ، ولا تُقبل شهادة المشتري له بحالٍ البتّة ؛ لأنّه يدفع عن نفسه ، فإن فُقدت البيّنة حلف البائع على أنّه ما قبض ، فإن نكل حلف الآذن على أنّه قبض ، وأخذ نصيبه من البائع.

ثمّ إذا انفصلت الخصومة بين الشريكين ، فلو طالَب البائع المشتري بحقّه ، وادّعى المشتري الأداءَ ، فعليه البيّنة ، فإن لم تكن بيّنة حلف البائع ، وقبض حقّه ، فإن نكل حلف المشتري وبرئ ، ولا يمنع البائعَ من أن يحلف ويطلب من المشتري حقَّه نكولُه في الخصومة الأُولى مع شريكه.

وللشافعيّة وجهٌ : إنّه يمنع ؛ بناءً على أنّ يمين الردّ كالبيّنة أو كإقرار المدّعى عليه؟ إن كانت كالبيّنة فكأنّه قامت البيّنة على قبضه جميعَ الثمن ،

____________________

(١) في « خ » : « انقضت » بدل « انفصلت ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حكومة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في « ث ، خ ، ر » : « مع » بدل « و».

٣٦٢

وإن كانت كالإقرار فكأنّه أقرّ بقبض جميع الثمن ، وعلى التقديرين يمنع عليه مطالبة المشتري(١) .

وضعّفه باقي الشافعيّة ؛ لأنّ اليمين إنّما تجعل كالبيّنة أو كالإقرار في حقّ المتخاصمين وفيما فيه تخاصمهما لا غير ، ومعلومٌ أنّ الشريك إنّما يحلف على أنّه قبض نصيبه ، فإنّه الذي يطالب به ، فكيف تؤثّر يمينه في غيره!؟(٢) .

وعلى ضعفه فقد قال الجويني : [ القياس ](٣) طرده فيما إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري ونكل البائع وحلف المشتري اليمينَ المردودة حتى يقال : تثبت للّذي لم يبع مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد خصومةٍ ؛ لكون يمين الردّ بمنزلة البيّنة أو الإقرار(٤) .

مسألة ١٧٩ : لو باع الشريك - المأذون له في البيع - العبدَ ، ثمّ اختلف الشريكان‌ ، فادّعى البائع على الآذن بأنّه قبض الثمن بأسره من المشتري ، فأنكر الآذن القبضَ ، وصدّق المشتري المدّعي ، فإن كان الآذن في البيع مأذوناً له في القبض للثمن من جهة البائع ، برئ المشتري من حصّة البائع ؛ لأنّه قد اعترف بأنّ وكيله قد قبض.

ثمّ تُفرض حكومتان كما تقدّم.

فإن تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فالقول قول الذي لم يبع في عدم القبض ، فيحلف ويأخذ نصيبه ويسلّم إليه المأخوذ.

وإن تخاصم البائع والذي لم يبع ، حلف الذي لم يبع ، فإن نكل‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦٣

حلف البائع ، وأخذ منه نصيبه ، ولا رجوع له على المشتري.

ولو شهد البائع للمشتري على القبض ، لم تُقبل ؛ لأنّه يشهد لنفسه على الذي لم يبع.

وإن لم يكن الآذن في البيع مأذوناً له في القبض من جهة البائع ، لم تبرأ ذمّة المشتري عن شي‌ءٍ من الثمن.

أمّا عن حقّ الذي لم يبع : فلأنّه منكر للقبض ، والقول قوله في إنكاره مع اليمين.

وأمّا عن حقّ المباشر للبيع : فلأنّه لم يعترف بقبضٍ صحيح.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون البائع مأذوناً من جهة الذي لم يبع في القبض ، أو لا يكون هو مأذوناً أيضاً.

فإن كان مأذوناً ، فله مطالبة المشتري بنصيبه من الثمن ، ولا يتمكّن من مطالبته بنصيب الذي لم يبع ؛ لأنّه لـمّا أقرّ بقبض الذي لم يبع نصيب نفسه فقد صار معزولاً عن وكالته.

ثمّ إذا تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فعلى المشتري البيّنة على القبض ، فإن لم تكن بيّنة فالقول قول الذي لم يبع.

فإذا حلف ، ففي مَنْ يأخذ حقّه منه للشافعيّة وجهان :

قال المزني منهم : إن شاء أخذ تمام حقّه من المشتري ، وإن شاء شارك البائع في المأخوذ ، وأخذ الباقي من المشتري ؛ لأنّ الصفقة واحدة ، وكلّ جزءٍ من الثمن شائع بينهما ، فإن أخذ بالخصلة الثانية لم يبق مع البائع إلّا ربع الثمن(١) .

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٣ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب =

٣٦٤

و [ يفارق ](١) هذا ما إذا كان الذي لم يبع مأذوناً في القبض حيث لا يشاركه البائع فيما أخذه من المشتري ؛ لأنّ زعمه أنّ الذي لم يبع ظالمٌ فيما أخذه ، فلا يشاركه فيما ظلم به(٢) .

وقال آخَرون منهم ابن سريج : ليس له إلّا أخذ حقّه من المشتري ، ولا يشارك البائع فيما أخذه ؛ لأنّ البائع قد انعزل عن الوكالة بإقراره : إنّ الذي لم يبع قَبَض حقَّه ، فما يأخذه بعد الانعزال يأخذه لنفسه خاصّةً(٣) .

وقال آخَرون : إنّه وإن انعزل فالمسألة تحتمل وجهين بناءً على أنّ مالكَي السلعة إذا باعاها صفقةً واحدة هل ينفرد أحدهما بقبض حصّته من الثمن؟ فيه وجهان :

أحدهما : لا ، بل إذا انفرد بأخذ شي‌ءٍ شاركه الآخَر فيه ، كما أنّ الحقّ الثابت للورثة لا ينفرد بعضهم باستيفاء حصّته منه ، ولو فَعَل شاركه الآخَرون فيه ، وكذا لو كاتبا عبداً صفقةً واحدةً ، لم ينفرد أحدهما بأخذ حقّه من النجوم.

والثاني : نعم ، كما لو باع كلّ واحدٍ منهما نصيبَه بعقدٍ مفرد ، بخلاف الميراث والكتابة ، فإنّهما لا يثبتان في الأصل بصفة التجزّي ؛ إذ لا ينفرد‌

____________________

= - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ - ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يقارب ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٤٤ ، الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ - ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٥

بعض الورثة ببعض أعيان التركة ، ولا تجوز كتابة البعض من العبد ، فلذلك لم يجز التجزّي في القبض(١) .

ولو شهد البائع للمشتري على أنّ الذي لم يبع قد قبض الثمن ، فعلى قول المزني لا تُقبل شهادته ؛ لأنّه يدفع بها شركة صاحبه فيما أخذه(٢) ، وعلى قول ابن سريج تُقبل(٣) .

وإن لم يكن البائع مأذوناً في القبض ، قال بعض الشافعيّة : للبائع مطالبة المشتري بحقّه هنا ، وما يأخذه يسلم له ، وتُقبل هنا شهادة البائع للمشتري على الذي لم يبع(٤) .

وقال آخَرون : ينبغي ثبوت الخلاف في مشاركة صاحبه فيما أخذه ، ويُخرَّج قبول الشهادة على الخلاف(٥) .

مسألة ١٨٠ : لو غصب واحد نصيبَ أحد الشريكين بأن نزّل نفسه منزلته‌ ، فأزال يده ولم يُزل يدَ صاحبه الآخَر ، بل استولى على العبد ومَنَع أحدَهما الانتفاع به دون الآخَر ، فإنّه يصحّ من الذي لم يغصب نصيبه بيع نصيبه ، ولا يصحّ من الآخَر بيع نصيبه ، إلّا من الغاصب ، أو ممّن يتمكّن من انتزاعه من يد الغاصب.

ولو باع الغاصب والذي لم يغصب نصيبه جميعَ العين في عقدٍ واحد ، صحّ في نصيب المالك ، ووقف نصيب الآخَر إن أمضاه المغصوب منه صحّ ، وإلّا فلا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٢ و ٣) الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٦

وقالت الشافعيّة : يصحّ في نصيب مَنْ لم يغصب منه ، ويبطل في الآخَر ، ولا يُخرَّج على الخلاف في تفريق الصفقة عندهم ؛ لأنّ الصفقة تتعدّد بتعدّد البائع(١) .

ومنهم مَنْ قال : يبنى القول في نصيب المالك على أنّ أحد الشريكين إذا باع نصفَ العبد مطلقاً ينصرف إلى نصيبه أو يشيع؟ وجهان ، فإن قلنا : ينصرف إلى نصيبه ، صحّ بيع المالك في نصيبه ، وإن قلنا بالشيوع ، بطل البيع في ثلاثة أرباع العبد ، وفي ربعه قولان.

ولا يُنظر إلى هذا البناء فيما إذا باع المالكان معاً وأطلقا ، ولا يُجعل كما إذا أطلق كلّ واحدٍ منهما بيعَ نصف العبد ؛ لأنّ هناك تناول العقد الصحيح جميعَ العبد(٢) .

مسألة ١٨١ : قد بيّنّا(٣) أنّ شركة الأبدان باطلة ، سواء اشترك العمل أو اختصّ بأحدهما وتقبّل الآخَر.

فلو قال واحد لآخَر : أنا أتقبّل العمل وأنت تعمل والأُجرة بيننا بالسويّة أو على نسبة أُخرى ، لم يصح عند علمائنا - وبه قال زفر(٤) - ولا يستحقّ العامل المسمّى ، بل له أُجرة المثل.

وقال أحمد : تصحّ الشركة ؛ لأنّ الضمان يستحقّ به الربح بدليل شركة الأبدان ، وتقبّل العمل يوجب الضمان على المتقبّل ، ويستحقّ به الربح ،

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، البيان ٦ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٢ - ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٣) في ص ٣١٢ ، المسألة ١٤٢.

(٤) المغني ٥ : ١١٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧.

٣٦٧

فصار كتقبّله المالَ في المضاربة ، والعمل يستحقّ به العامل الربح كعمل المضاربة ، فينزَّل منزلة المضاربة(١) .

والحكم في الأصل ممنوع.

مسألة ١٨٢ : الربح في شركة الأبدان على نسبة العملين ، لا على الشرط الذي شرطاه‌ ، عند علمائنا ؛ لأنّ الشركة باطلة على ما تقدّم(٢) بيانه.

وقال أحمد : إنّها صحيحة ، والشركة على ما اتّفقوا عليه من مساواةٍ أو تفاضلٍ ، ولكلٍّ منهما المطالبة بالأُجرة ، وللمستأجر دفعها إلى كلّ واحدٍ منهما ، وإلى أيّهما دفع برئ منها ، وإن تلفت في يد أحدهما من غير تفريطٍ فهي من ضمانهما معاً ؛ لأنّهما كالوكيلين في المطالبة ، وما يتقبّله كلّ واحدٍ منهما من عملٍ فهو من ضمانهما يطالب به كلّ واحدٍ منهما ، ويلزمه عمله ؛ لأنّ هذه الشركة لا تنعقد إلّا على الضمان ، ولا شي‌ء منها تنعقد عليه الشركة حال الضمان ، فكأنّ الشركة تتضمّن ضمان كلّ واحدٍ منهما عن الآخَر ما يلزمه.

ولو أقرّ أحدهما بما في يده ، قُبِل عليه وعلى شريكه ؛ لأنّ اليد له ، فيُقبل إقراره بما فيها ، ولا يُقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدَيْنٍ عليه(٣) .

وهذا كلّه عندنا باطل.

ولو عمل أحدهما دون صاحبه ، فالكسب للعامل خاصّةً عندنا ، وإن حصل من الآخَر سفارة فله أُجرته عليها.

وقال أحمد : إذا عمل أحدهما خاصّةً ، كان الكسب بينهما على‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٣ و ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧ و ١٨٨.

(٢) في ص ٣١٢ - ٣١٣ ، المسألة ١٤٢.

(٣) المغني ٥ : ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٨.

٣٦٨

ما شرطاه ، سواء ترك العمل لمرضٍ أو غيره ، ولو طالَب أحدهما الآخَر أن يعمل معه ، أو يقيم مقامه مَنْ يعمل ، فله ذلك ، فإن امتنع فللآخَر الفسخ(١) .

وهو باطل عندنا على ما سلف(٢) .

ولو كان لقصّارٍ أداةٌ ولآخَر بيتٌ ، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما ، جاز ، والأجر بينهما على ما شرطاه ، عند أحمد ؛ لأنّ الشركة وقعت على عملهما ، والعمل يستحقّ به الربح في الشركة ، والآلة والبيت لا يستحقّ بهما شي‌ء(٣) .

وعندنا أنّ هذه الشركة باطلة ، وقد سلف(٤) .

مسألة ١٨٣ : إذا كانت الشركة باطلةً ، قسّما الربح على قدر رؤوس أموالهما‌ ، ويرجع كلٌّ منهما على الآخَر بأجر عمله - وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٥) - لأنّ المسمّى يسقط في العقد الفاسد ، كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشتري ، والنماء فائدة مالهما ، فيكون تابعاً للأصل ، كالثمرة.

والرواية الأُخرى لأحمد : إنّهما يقتسمان الربح على ما شرطاه ، ولا يستحقّ أحدهما على الآخَر أجر عمله ، وأجراها مجرى الصحيحة ؛ لأنّه عقد يصحّ مع الجهالة ، فيثبت المسمّى في فاسده ، كالنكاح(٦) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٤ و ١١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٩.

(٢) في ص ٣٤٠ - ٣٤١ ، المسألة ١٦١.

(٣) المغني ٥ : ١١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٩١.

(٤) في ص ٣٤٥ ، المسألة ١٦٥.

(٥) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٦ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٦ / ٧٢١ ، البيان ٦ : ٣٣٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

(٦) المغني ٥ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

٣٦٩

إذا عرفتَ هذا ، فلو كان مال كلّ واحدٍ منهما متميّزاً ، وكان ربحه معلوماً ، كان لكلٍّ ربحُ ماله ، ولا يشاركه الآخَر فيه.

ولو ربح في جزءٍ منه ربحاً متميّزاً وباقيه مختلطاً ، كان له تمام ما تميّز(١) من ربح ماله ، وله بحصّة باقي ماله من الربح.

مسألة ١٨٤ : ليس لأحد الشريكين أن يكاتب الرقيق ، ولا يعتق على مالٍ ولا غيره ، ولا يزوّج الرقيق‌ ؛ لأنّ الشركة منعقدة على التجارة ، وليست هذه الأنواع تجارةً ، لا سيّما تزويج العبد ؛ فإنّه محض ضررٍ.

وليس له أن يُقرض ولا يحابي ؛ لأنّه تبرّع.

وليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربةً ؛ لأنّ ذلك يُثبت في المال حقوقاً ، ويستحقّ غير المالك ربحه ، وليس له ذلك إلّا بإذن ربّ المال.

وليس له أن يمزج مال الشركة بماله ، ولا مال غيره ؛ لأنّه تعيّب في المال.

وليس له أن يستدين على مال الشركة ، فإن فَعَل فربحه له ، وعليه خسرانه.

وقال بعض العامّة : إذا استدان شيئاً ، لزم الشريكين معاً ، وربحه لهما وخسرانه عليهما ؛ لأنّ ذلك تملّك مالٍ بمالٍ ، فأشبه الصرف(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه أدخل في الشركة أكثر ممّا رضي الشريك أن يشاركه فيه ، فلم يجز ، كما لو ضمّ إلى مال الشركة شيئاً من ماله ، ويفارق الصرف ؛ لأنّه بيع وإبدال عينٍ بعينٍ ، فهو كبيع الثياب بالدراهم.

____________________

(١) في « ج » والطبعة الحجريّة : « يتميّز ».

(٢) المغني ٥ : ١٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٣.

٣٧٠

وليس له أن يُقرّ على مال الشركة ، فإن فَعَل لزم في حقّه دون صاحبه ، سواء أقرّ بدَيْنٍ أو عينٍ ؛ لأنّ شريكه إنّما أذن له في التجارة ، والإقرار ليس منها.

ولو أقرّ بعيبٍ في عينٍ باعها أو أقرّ الوكيل على موكّله بالعيب ، لم يُقبَل ، خلافاً لأحمد(١) .

ولو أقرّ بقبض ثمن المبيع أو أجر المكاري والحمّال وأشباه ذلك ، فالأقرب : القبول ؛ لأنّه من توابع التجارة ، فكان له ذلك كتسليم المبيع وأداء ثمنه.

ولو رُدّت السلعة عليه بعيبٍ ، قَبِلها ، أو أعطى أرشها.

ولو حطّ من الثمن شيئاً أو أسقط دَيْناً لهما عن [ غريمهما ](٢) لزم في حقّه ، وبطل في حقّ شريكه ؛ لأنّ ذلك تبرّع ، والتبرّع يمضى في حصّته دون شريكه.

ولو كان لهما دَيْنٌ حالّ فأخّر أحدهما حصّته من الدَّيْن ، جاز - وبه قال أبو يوسف ومحمّد(٣) - لأنّه أسقط حقّه من التعجيل ، فصحّ أن ينفرد به أحدهما ، كالإبراء.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز(٤) .

مسألة ١٨٥ : قد بيّنّا أنّ الشركة تتضمّن نوع وكالةٍ ، ولا يتعدّى الشريك حدّ الوكالة ، فليس له أن يبيع نَسْأً.

____________________

(١) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « غيرهما ». والمثبت كما في المغني ٥ : ١٣١.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

٣٧١

وإذا اشترى بجنس ما عنده دَفَعه ، وإن اشترى بغير جنسه لم يكن له أن يستدين الجنس ويصرفه في الثمن ؛ لأنّا منعناه من الاستدانة ، لكن له أن يبيع بثمنٍ من النقد الذي عيّنه ويدفع.

وليس له أن يودع إلّا مع الحاجة ؛ لأنّه ليس من الشركة ، وفيه غرور ، أمّا مع الحاجة فإنّه من ضرورة الشركة ، فأشبه دفع المتاع إلى الحمّال ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثانية : يجوز ؛ لأنّه عادة التجّار ، وقد تدعو الحاجة إلى الإيداع(١) .

والعادة لا تقضي على الشرع ، والحاجة مسوّغة كما قلنا.

وليس له أن يوكّل فيما يتولّاه بنفسه ، كالوكيل.

وفي إحدى الروايتين عن أحمد : الجواز(٢) .

فإن وكّل أحدهما بإذن صاحبه جاز ، وكان لكلٍّ منهما عزله.

وليس لأحدهما أن يرهن بالدَّيْن الذي عليهما إلّا بإذن صاحبه أو مع الحاجة.

وعن أحمد روايتان(٣) .

وليس لأحدهما السفر بالمال المشترك إلّا بإذن صاحبه. والأقرب : إنّ له الإقالة ؛ لأنّها إمّا بيعٌ عند جماعةٍ من العامّة(٤) ، وهو يملك البيع ، أو فسخٌ عندنا ، وهو يملك الفسخ ، ويردّ بالعيب ، كلّ ذلك مع المصلحة.

ولو قال له : اعمل برأيك ، جاز أن يعمل كلّ ما يصلح في التجارة من الإبضاع والمضاربة بالمال والمشاركة وخلطه بماله والسفر والإيداع والبيع نسيئةً والرهن والارتهان والإقالة ونحو ذلك ؛ لأنّه فوّض إليه الرأي في‌

____________________

(١ - ٣) المغني ٥ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٢.

(٤) راجع ج ١٢ - من هذا الكتاب - ص ١١٧ ، الهامش (٣)

٣٧٢

التصرّف الذي تقتضيه الشركة ، فجاز له كلّ ما هو من التجارة ، فأمّا ما يكون تمليكاً بغير عوضٍ - كالهبة والحطيطة لغير فائدةٍ والقرض والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجه - فلا يفعله إلّا بإذنه ؛ لأنّه إنّما فوّض إليه العمل برأيه في التجارة ، وليس ذلك منها.

ولو أخذ أحد الشريكين مالاً مضاربةً ، فربحه له دون صاحبه ؛ لأنّه يستحقّ ذلك في مقابلة عمله ، وليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه.

مسألة ١٨٦ : قد بيّنّا أنّ الشركة من العقود الجائزة لكلٍّ منهما فسخها والرجوع في الإذن والمطالبة بالقسمة‌ ؛ لأنّ الإنسان مسلّط على ماله ، فكان له المطالبة بإفرازه من مال غيره وتمييزه عنه ، وليس لأحدهما مطالبة الآخَر بإقامة رأس المال ، بل يقتسمان الأعواض إذا لم يتّفقا على البيع ، ولا يصحّ التأجيل في الشركة.

ولو كان بعض المال في أيديهما والآخَر غائب عنهما فاقتسما الذي في أيديهما والغائب عنهما ، صحّت في المقبوض ، دون الغائب [ عن ](١) الناس ؛ لأنّ الباقرعليه‌السلام سُئل عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ومنه غائب عنهما ، فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كلّ واحدٍ منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخَر ، قال : « ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بماله!؟ »(٢) .

وسأل [ عبد الله بن سنان ](٣) الصادقَعليه‌السلام : عن رجلين بينهما مال منه‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « على ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) التهذيب ٧ : ١٨٥ - ١٨٦ / ٨١٨.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والطبعة الحجريّة : « معاوية بن عمّار » وهو في سند الحديث ٨٢٠ من التهذيب ٧ : ١٨٦ ، والمثبت من المصدر.

٣٧٣

دَيْنٌ ومنه عينٌ ، فاقتسما العين والدَّيْن فتوى(١) الذي كان لأحدهما من الدَّيْن أو بعضه وخرج الذي للآخَر [ أيردّ ](٢) على صاحبه؟ قال : « نعم ، ما يذهب بماله!؟ »(٣) .

مسألة ١٨٧ : لو كان لرجلين دَيْنٌ بسببٍ واحد إمّا عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره ، فقبض أحدهما منه شيئاً ، فللآخَر مشاركته فيه - وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل(٤) - لما تقدّم(٥) في المسألة السابقة في رواية [ عبد الله بن سنان ](٦) عن الصادق(٧) .

ولأنّ تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدَّيْن في الذمّة من غير رضا الشريك ، وهو باطل ، فوجب أن يكون المأخوذ لهما والباقي بينهما.

ولغير القابض الرجوعُ على القابض بنصفه ، سواء كان باقياً في يده أو أخرجه عنها ، وله أن يرجع على الغريم ؛ لأنّ الحقّ ثبت في ذمّته لهما على وجهٍ سواء ، فليس له تسليم حقّ أحدهما إلى الآخَر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشي‌ءٍ ؛ لأنّ حقّه ثابت في أحد المحلّين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقّه من الآخَر.

وليس للقابض منعه من [ الرجوع على ](٧) الغريم بأن يقول : أنا‌

____________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يراد ». والمثبت من المصدر.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٦ / ٨٢١.

(٤) المغني ٥ : ١٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨١.

(٥) آنفاً.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « معاوية بن عمّار ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٧) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٣٧٤

أُعطيك نصف ما قبضت ، بل الخيرة إليه من أيّهما شاء قبض ، فإن قبض من شريكه شيئاً رجع الشريك على الغريم بمثله.

وإن هلك المقبوض في يد القابض ، تعيّن حقّه فيه ، ولم يضمنه للشريك ؛ لأنّه قدر حقّه فيما تعدّى بالقبض ، وإنّما كان لشريكه مشاركته ؛ لثبوته في الأصل مشتركاً.

ولو أبرأ أحد الشريكين الغريمَ من حقّه ، برئ منه ؛ لأنّه بمنزلة قبضه منه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ ؛ لأنّه لم يقبض شيئاً من حقّ الشريك.

ولو أبرأ أحدهما من جزءٍ مشاع ، سقط من حقّه ، وبسط ما يقبضانه من الغريم على النسبة ، فلو أبرأ أحدهما الغريمَ من عُشْر الدَّيْن ثمّ قبضا من الدَّيْن شيئاً ، قسّماه على قدر حقّهما في الباقي ، للمُبرئ أربعة أتساعه ، ولشريكه خمسة أتساعه.

وإن قبض(١) نصف الدَّيْن ثمّ أبرأ أحدهما من عُشْر الدين كلّه ، نفذت البراءة في خُمس الباقي ، وما بقي بينهما على ثمانية ، للمُبرئ ثلاثة أثمانه ، وللآخَر خمسة أثمانه ، فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا.

ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدَّيْن ثوباً ، قال بعض العامّة : كان للآخَر إبطال الشراء ، فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل البيع ، لم يلزمه(٢) ذلك(٣) .

وإن أجاز البيع ليملك [ نصف ] الثوب جاز ، ويبنى على بيع الفضولي

____________________

(١) الظاهر : « قبضا ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يلزم ». والمثبت من المصدر.

(٣) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

٣٧٥

هل يقف على الإجازة أو لا؟ فعندنا نعم ، وبين العامّة خلاف(١) .

ولو أجّل أحدهما نصيبه من الدَّيْن جاز ، فإنّه لو أسقط حقّه جاز فتأخيره أولى ، فإن قبض الشريك بعد ذلك [ شيئاً ] لم يكن لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ.

هذا إذا أجّله في عقدٍ لازم ، وإن لم يكن في عقدٍ لازم كان له الرجوعُ ؛ لأنّ الحالّ لا يتأجّل بالتأجيل ، فوجوده كعدمه.

وعن أحمد رواية أُخرى : إنّ ما يقبضه أحدهما له ، دون صاحبه ؛ لأنّ ما في الذمّة لا ينتقل إلى العين إلّا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله ، وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض ولا لوكيله ، فلا يثبت له فيه حقٌّ ، وكان لقابضه(٢) ؛ لثبوت يده عليه بحقٍّ ، فأشبه ما لو كان الدَّيْن بسببين ، ولأنّ هذا يشبه الدَّيْن في الذمّة ، وإنّما يتعيّن حقّه بقبضه ، فأشبه تعيينه بالإبراء ، ولأنّه لو كان لغير القابض حقٌّ في المقبوض لسقط بتلفه كسائر الحقوق ، ولأنّ هذا القبض إن كان بحقٍّ لم يشاركه غيره فيه ، كما لو كان الدَّيْن بسببين ، وإن كان بغير حقٍّ لم يكن له مطالبته ؛ لأنّ(٣) حقّه في الذمّة لا في العين ، فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالاً ، فعلى هذا ما قبضه القابض يختصّ به ، دون شريكه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه ، فإن اشترى بنصيبه ثوباً أو غيره صحّ ، ولم يكن لشريكه إبطال الشراء ، وإن قبض أكثر‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « له قبضه » بدل « لقابضه ». والصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ولأنّ ». والصحيح ما أثبتناه بدون الواو ، كما في المصدر.

٣٧٦

من حقّه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم ممّا زاد على حقّه(١) .

والمشهور ما قلناه أوّلاً.

ولا تصحّ قسمة ما في الذمم ؛ لأنّ الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل ، والقسمة تقتضي التعديل ، والقسمة من غير تعديلٍ بيعٌ ، ولا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو تقاسما ثمّ تَوى(٢) بعض المال ، رجع مَنْ تَوى ماله على مَنْ لم يَتْو ، وبه قال ابن سيرين والنخعي وأحمد في إحدى الروايتين ، وفي الأُخرى : يجوز ذلك ؛ لأنّ الاختلاف لا يمنع القسمة ، كما لو اختلفت الأعيان ، وبه قال الحسن وإسحاق(٣) .

وهذا إذا كان في ذممٍ متعدّدة ، فأمّا في ذمّةٍ واحدة فلا يمكن القسمة ؛ لأنّ معنى القسمة إفراز الحقّ ، ولا يتصوّر ذلك في ذمّةٍ واحدة.

مسألة ١٨٨ : قد بيّنّا أنّه إذا تساوى المالان تساوى الشريكان في الربح‌ ، وإن تفاوت المالان تفاوتا في الربح على النسبة ، فإن شرطا خلاف ذلك جاز عندنا ، وصحّت الشركة ، وبه قال أبو حنيفة(٤) ، خلافاً للشافعي(٥) .

فلو كان لأحدهما ألف وللآخَر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرّف فيهما على أن يكون الربح بينهما نصفين فإن كان صاحب الألفين شرط على نفسه العمل فيهما أيضاً ، صحّ عندنا.

وقال الشافعي : تفسد الشركة ، ويكون الربح على قدر المالين ،

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ - ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢ - ١٨٣.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٨ / ٥٠ ، المغني ٥ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

(٤) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٣.

(٥) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٢.

٣٧٧

ويجب لكلّ واحدٍ منهما على الآخَر أُجرة عمله في نصيبه(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا كانت الشركة فاسدةً لم يجب لواحدٍ منهما أُجرة ؛ لأنّ العمل لا يقابله عوض في الشركة الصحيحة فكذلك الفاسدة(٢) .

والمعتمد عندنا : إنّ الشركة إذا فسدت كان لكلٍّ منهما أُجرة مثل عمله - كما هو قول الشافعي - لأنّ المتشاركين إذا شرطا في مقابلة عملهما ما لم يثبت ، يجب أن يثبت عوض المثل ، كما لو شرطا في الإجارة شرطاً فاسداً.

وما ذكره في الصحيحة فإنّما لم يستحق في مقابلة العمل عوضاً ؛ لأنّه لم يشترط في مقابلته شيئاً ، وفي مسألتنا بخلافه.

ولو شرط صاحب الألفين العمل على صاحب الألف خاصّةً ، صحّت الشركة ، وكانت شركةً وقراضاً عند الشافعي ، ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحقّ ماله ، والباقي - وهو ثلثا الربح - بينهما ، لصاحب المال ثلاثة أرباعه ، وللعامل ربعه ، وذلك لأنّه جعل النصف له ، فجعلنا الربح ستّة أسهم منها ثلاثة شرط حصّة ماله منها سهمان ، وسهم هو ما يستحقّه بعمله على مال شريكه [ و ](٣) حصّة مال شريكه أربعة أسهم ، للعامل سهم ، وهو الربع(٤) .

وعندنا أنّه يكون شركةً صحيحة ؛ عملاً بالشرط.

ولو كان لرجلين ألفا درهم فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٩٦ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٩٦ و ٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « من ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٣٢ - ١٣٣ ، البيان ٦ : ٣٣٤ ، المغني ٥ : ١٣٦ - ١٣٧.

٣٧٨

ويكون الربح بينهما نصفين ، فإنّ هذا ليس بشركةٍ ولا قراض ؛ لأنّ شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال والعمل ، والقراض يقتضي أن يكون للعامل نصيب من الربح في مقابلة عمله ، وهنا لم يشرط له ، فإذا عمل كان الربح بينهما نصفين على قدر المالين ، وكان عمله في نصيب شريكه معونةً له منه وتبرّعاً ؛ لأنّه لم يشترط لنفسه في مقابلته عوضاً.

مسألة ١٨٩ : لو اشتريا عبداً وقبضاه فأصابا به عيباً فأراد أحدهما الإمساكَ والآخَر الردَّ ، لم يجز‌ ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وقال الشافعي : يجوز(٢) .

وقد سلف(٣) ذلك في كتاب البيوع(٤) .

إذا تقرّر هذا ، فإذا اشترى أحد الشريكين عبداً فوجد به عيباً ، فإن أرادا الردَّ كان لهما.

وإن أراد أحدهما الردَّ والآخَر الإمساك ، فإن كان قد أطلق الشراء ولم يذكر أنّه يشتريه له ولشريكه لم يكن له الردّ ؛ لأنّ الظاهر أنّه يشتريه لنفسه ، فلم يلزم البائع حكماً بخلاف الظاهر.

وإن كان قد أعلمه أنّه يشتريه بمال الشركة أو له ولشريكه ، لم يكن لأحدهما الردّ وللآخَر الأرش على ما تقدّم.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : ليس له الردّ ؛ لأنّه إنّما أوجب إيجاباً واحداً ، فلا يبعّض‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٣)

(٢) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٤)

(٣) في ج ١١ ، ص ١٧٢ ، المسألة ٣٤٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « البيع ».

٣٧٩

عليه.

والثاني : له الردّ ؛ لأنّه إذا كان يقع الشراء لاثنين ، كان بمنزلة أن يوجب لهما ، ولو أوجب لهما كان في حكم العقدين ، كذا هنا(١) .

وإذا باع أحد الشريكين عيناً من أعيان الشركة وأطلق البيع ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع ماله ومال شريكه بغير إذنه ، لم تُسمع دعواه ؛ لأنّه يخالف ظاهر قوله ، فإن ادّعى ذلك شريكه ، كان عليه إقامة البيّنة أنّه شريكه فيه ، فإذا قامت البيّنة به وادّعى المشتري أنّه أذن للبائع في البيع ، كان القولُ قولَه : إنّه لم يأذن ، مع يمينه ، فإذا حلف فسخ البيع في نصيبه إن لم يجز البيع ، ولا ينفسخ في الباقي إلّا برضا المشتري.

وللشافعي قولان مبنيّان على تفريق الصفقة(٢) .

مسألة ١٩٠ : إذا كان لكلٍّ من الرجلين عبد بانفراده ، صحّ بيعهما معاً صفقةً واحدة ومتعدّدة‌ ، اتّفقت قيمتهما أو اختلفت ، عندنا.

وللشافعي قولان :

أحدهما : يصحّ مطلقاً ؛ لأنّ جملة الثمن معلومة في العقد.

والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : إنّ البيع فاسد ؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين ، فتكون حصّة كلّ واحدٍ منهما مجهولةً ؛ لأنّ ما يخصّ كلّ واحدٍ من العبدين من الثمن غير معلومٍ في العقد ، بخلاف ما لو كان العبدان لواحدٍ ؛ لوحدة العقد(٣) .

وهو غلط ؛ إذ مجموع الثمن في مقابلة مجموع الأجزاء ، وهُما‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٨٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٧ ، البيان ٦ : ٣٤٢.

(٢) راجع بحر المذهب ٨ : ١٣٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٩٢.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403