أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى19%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64537 / تحميل: 9551
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

بخلاف الغرس(١) .

فإن قال صاحب الغرس : لا تقلعه وعلَيَّ أُجرة الأرض ، لم يُجبر صاحب الأرض عليه ؛ لأنّ أحداً لا يملك الانتفاع بملك غيره بأُجرته إلّا برضاه.

ولو انعكس الفرض ، فقال صاحب الأرض : أقرّه في الأرض وادفع إلَيَّ الأُجرة ، وقال الغارس : اقلعه وعليك ما نقص ، لم تجب إجابته ؛ لأنّ صاحب الغرس لا يُجبر على اكتراء الأرض له.

ولو قال صاحب الأرض : خُذْ قيمته ، وقال الغارس : بل أقلعه وعلَيَّ ما نقص ، فالقول قول الغارس ؛ لأنّا لا نجبره على بيع ماله.

ولو قال ربّ الأرض : اقلعه وعلَيَّ ما نقص ، وقال الغارس : ادفع إلَيَّ قيمته ، قدّم قول صاحب الأرض ؛ لأنّا لا نجبره على ابتياع مال غيره.

ولو قال ربّ الأرض : خُذ القيمة ، وقال الغارس : خُذ الأُجرة وأقرّه في الأرض ، أو قال الغارس : ادفع إلَيَّ قيمته ، وقال ربّ المال : ادفع إلَيَّ الأُجرة وأقرّه ، لم يُجبَر واحد منهما على ذلك.

مسألة ٢١٦ : إذا أذن المالك للعامل في التصرّف وأطلق ، اقتضى الإطلاق فعل ما يتولّاه المالك من عرض القماش على المشترين والراغبين ونشره وطيّه وإحرازه وبيعه وقبض ثمنه وإيداعه الصندوق واستئجار ما يعتاد للاستئجار له ، كالدلّال والوزّان والحمّال.

ولو استأجر لما يجب عليه مباشرته ، كانت الأُجرة عليه خاصّةً ، ولو‌ عمل بنفسه ما يستأجر له عادةً ، لم يستحق أُجرةً ؛ لأنّه متبرّع في ذلك ،

____________________

(١) راجع : التهذيب - للبغوي - ٣ : ٣٧٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٣٣ ، وروضة الطالبين ٣ : ١٩٩.

٤١

وفي الأوّل استأجر لما يجب عليه فعله ، فتكون الأُجرة عليه.

مسألة ٢١٧ : لو خصّص المالك الإذنَ ، تخصّص ، فلا يجوز للعامل التعدّي ، فإن خالف ضمن ، ولا يبطل القراض بالتخصيص ، فلو قال له : لا تشتر إلّا من رجلٍ بعينه ، أو سلعة بعينها ، أو لا تبع إلّا على زيد ، أو لا تشتر إلّا ثمرة بستانٍ معيّن ، أو نخلة بعينها ، أو لا تشتر إلّا ثوباً بعينه ، جاز ، ولزم هذا الشرط ، وصحّ القراض ، سواء كان وجود ما عيّنه عامّاً في الأصقاع والأزمان ، أو في أحدهما ، أو خاصّاً فيهما ، وسواء قلّ وجوده وعزّ تحصيله وكان نادراً ، أو كثر ، عند علمائنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(١) - لأنّه لـمّا جاز أن تكون المضاربة خاصّةً في نوعٍ جاز أن تكون خاصّةً في رجلٍ بعينه أو سلعةٍ بعينها ، كالوكالة.

ولما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام : في الرجل يعطي الرجل مضاربةً فيخالف ما شرط عليه ، قال : « هو ضامن ، والربح بينهما »(٢) .

وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أحدهماعليهما‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يعطي المال مضاربةً وينهى أن يخرج به ، فيخرج به ، قال : « يضمن المال ، والربح بينهما »(٣) .

وفي الصحيح عن رجلٍ(٤) عن الصادقعليه‌السلام : في رجلٍ دفع إلى رجلٍ‌

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٢٢ ، بدائع الصنائع ٦ : ٩٨ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٨٧ / ٣٤٥٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٠٤ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٣٨ ، الاستذكار ٢١ : ١٤١ / ٣٠٨١٥ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٨٥ / ١٢٤٩ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، المغني ٥ : ١٨٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٥.

(٢) التهذيب ٧ : ١٩٠ / ٨٣٨.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٩ / ٨٣٦.

(٤) كذا قوله : « رجل » في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة ، وبدله في المصدر : « جميل ».

٤٢

مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربةً ، فذهب فاشترى غير الذي أمره ، قال : « هو ضامن ، والربح بينهما على ما شرط »(١) .

وقال الشافعي ومالك : يشترط في صحّة القراض أن لا يضيّق المالك على العامل بالتعيين ، فلو عيّن المالك نوعاً بعينه ، فإن كان ممّا يندر وجوده كالياقوت الأحمر والخَزّ الأدكن والخيل البُلق والصيد حيث يوجد نادراً ، فسد القراض ؛ لأنّ هذا تضييق يُخلّ بمقصوده ، وهو التقليب وطلب الربح.

وإن لم يكن نادرَ الوجود فإن كان ممّا يدوم شتاءً وصيفاً - كالحبوب والحيوان والخَزّ والبَزّ - صحّ القراض ، وإن لم يدم كالثمار الرطبة ، فوجهان ، أحدهما : إنّه لا يجوز ، كما إذا قارضه مدّةً معيّنة ، ومَنَعه من التصرّف بعدها.

ولو قال : لا تشتر إلّا من رجلٍ بعينه ، أو سلعة بعينها ، لم يصح القراض - وبه قال مالك - لأنّ ذلك [ يمنع ](٢) مقصود القراض ، وهو التقليب وطلب الربح ، لأنّه إذا لم يشتر إلّا من رجلٍ بعينه فإنّه قد لا يبيعه ، وقد يطلب منه أكثر من ثمنه ، وكذا السلعة ، وإذا كان كذلك لم يصح ، كما لو قال : لا تبع ولا تشتر إلّا من فلان(٣) .

والجواب : نمنع كون هذا الشرط مانعاً من مقصود القراض.

نعم ، إنّه يكون مخصّصاً للإطلاق ، وذلك جائز بالإجماع ، فكذا هنا.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٩٣ / ٨٥٣.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٤ - ٣١٦ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٦ - ١٩٧ ، الوسيط ٤ : ١٠٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، البيان ٧ : ١٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٨٧ / ٣٤٥٥ ، الاستذكار ٢١ : ١٤١ / ٣٠٨١٣ ، و ١٤٢ / ٣٠٨١٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٣٨ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٨٤ / ١٢٤٩ ، المغني ٥ : ١٨٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٥ - ١٢٦.

٤٣

فروع :

أ - لو شرط أن لا يشتري إلّا نوعاً بعينه ، وذلك النوع يوجد في بعض السنة وينقطع ، جاز عندنا وعند أكثر الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم : لا يجوز(٢) ؛ لأنّ الشافعي قال بعد هذه المسألة : وإن اشترط أن يشتري صيداً موجوداً كما إذا قارضه مدّةً وشرط أنّها إذا انقضت لا يبيع ولا يشتري ، فإنّه لا يصحّ القراض(٣) .

والصحيح عندهم : الأوّل(٤) ؛ لأنّ ذلك لا يمنع مقصود المضاربة ، بخلاف ما إذا قدّره بمدّةٍ ؛ لأنّه قد تنقضي المدّة وبيده أعيان لا فائدة فيها إلّا ببيعها ، فإذا منعه البيع تعذّر المقصود بالمضاربة ، وما ذكرناه لا يوجد فيه ذلك ، فافترقا ، على أنّا نمنع بطلان القراض مع الاقتران بالمدّة ، أقصى ما في الباب أنّ هذا التأقيت لا يفيد إلّا منع العامل من العمل بعدها ،

ب - لو قال : اشتر هذا الشي‌ء - وكان ممّا ينقطع - فإذا انقطع فتصرَّف في كذا ، جاز.

أمّا عندنا : فظاهر.

وأمّا عند الشافعي : فلدوام القراض(٥) .

ج - لا فرق عندنا بين أن يقول : لا تشتر إلّا هذه السلعة وإلّا هذا العبد ، وبين أن يقول : لا تشتر هذا العبد ولا هذه السلعة في الجواز.

____________________

(١ و ٢ و ٤) حلية العلماء ٥ : ٣٤٥.

(٣) لم نهتد إلى مظانّه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٥) راجع : بحر المذهب ٩ : ١٩٧ ، والتهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ - ٣٨٥ ، والبيان ٧ : ١٧٣ ، والعزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، وروضة الطالبين ٤ : ٢٠١.

٤٤

ومَنَع الشافعي من الأوّل - كما تقدّم(١) - دون الثاني ؛ لأنّ للعامل السعي فيما سواهما ، وهو كثير لا ينحصر(٢) .

د - لا فرق عندنا بين أن يقول المالك : لا تبع إلّا من فلان ولا تشتر إلّا من فلان ، وبين أن يقول : لا تبع من فلان ، أو لا تشتر منه في جواز القراض ووجوب الامتثال.

وفرّق أكثر الشافعيّة فجوّزوا الثاني دون الأوّل(٣) على ما مرّ(٤) .

وقال بعضهم : إنّ الثاني لا يجوز أيضاً كالأوّل(٥) .

ه - لا فرق بين أن يعيّن شخصاً للمعاملة وسلعةً للشراء لا ينقطع عنده المتاع الذي يتّجر على نوعه غالبا ، وبين شخصٍ ينقطع عنده ذلك المتاع الذي يتّجر على نوعه غالباً في جواز القراض معهما.

وأكثر الشافعيّة على عدم الفرق في عدم الجواز معهما(٦) .

وقال بعض الشافعيّة : يجوز في الأوّل دون الثاني ، فقال : إذا كان الشخص - الذي نصّ المالك على تعيين المعاملة معه - بيّاعاً لا ينقطع عنده المتاع الذي يتّجر على نوعه غالباً ، جاز تعيينه(٧) .

مسألة ٢١٨ : يجوز للمالك أن يطلق المشيئة إلى العامل في شراء أيّ نوعٍ شاء وبيع أيّ نوعٍ أراد ، ولا يشترط في صحّة القراض تعيين نوعٍ يتصرّف فيه العامل ؛ لأنّ الغرض تحصيل الفائدة والاسترباح ، فربما رأى العامل المصلحة في نوعٍ يخفى عن المالك ، فكان له أن يفوّض الأمر إليه‌

____________________

(١) في ص ٤٢.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠١.

(٣ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠١.

(٤) في ص ٤٢.

(٦ و ٧) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠١.

٤٥

تحصيلاً للغاية الذاتيّة.

وللشافعيّة قولان في اشتراط تعيين نوعٍ يتصرّف فيه العامل ، كالخلاف في الوكالة.

والظاهر عندهم : إنّه لا يشترط ؛ لأنّ الوكالة نيابة محضة ، والحاجة تمسّ إليها في الأشغال الخاصّة ، والقراض معاملة يتعلّق بها غرض كلّ واحدٍ من المتعاقدين ، فمهما كان العامل أبسط يداً كان أفضى إلى مقصودها(١) .

ونحن نجوّز تعميم المشيئة للوكيل.

مسألة ٢١٩ : لا خلاف في أنّه إذا جرى تعيين صحيح ، لم يكن للعامل مجاوزته ، ولا له العدول عنه ، كما في سائر التصرّفات المستفادة من الإذن ، فإن تجاوز ضمن ، وإن ربح كان الربح بينهما على ما شرطاه ؛ لما تقدّم(٢) من الروايات.

ولما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام في الرجل يعطي الرجل مالاً مضاربةً وينهاه عن أن يخرج به إلى أرض أُخرى ، فعصاه ، فقال : « هو له ضامن ، والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه »(٣) .

إذا عرفت هذا ، فالإذن في البزّ يتناول كلّ ما يُلبس من المنسوج من الإبريسم أو القطن أو الكتّان أو الصوف ، ولا يتناول البُسُط والفُرُش.

وفي الأكسية احتمال ؛ لأنّها ملبوسة ، لكن بائعها لا يُسمّى بزّازاً.

والأقرب : اتّباع الاسم.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٣ - ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٢) في ص ٤١ - ٤٢.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٨ ، الهامش (٩)

٤٦

وللشافعيّة فيه وجهان(١) .

مسألة ٢٢٠ : قد بيّنّا أنّ المضاربة عقد جائز من الطرفين لكلٍّ منهما فسخها متى شاء ، وهي تتضمّن تصرّف العامل في رقبة مال ربّ المال بإذنه ، فكان جائزاً كالوكالة ، فلا معنى للتأقيت فيها ، ولا يعتبر فيها بيان المدّة ، بخلاف المساقاة ؛ لأنّ العامل في المساقاة لا يتصرّف في رقبة المال ، وإنّما يعمل في إصلاح المال ، ولهذا افتقرت المساقاة إلى مدّةٍ معلومة ، والمقصود من المساقاة الثمرة ، وهي تنضبط بالمدّة ، فإنّ للثمرة أمداً معيّناً ووقتاً مضبوطاً ، أمّا المقصود من القراض فليس له مدّة مضبوطة ، فلم يشترط فيه التأقيت.

إذا عرفت هذا ، فلو وقّت القراض فقال : قارضتك على هذا المال سنةً ، فلا يخلو إمّا أن يُطلق أو يُقيّد.

فإن أطلق واقتصر ، لم يلزم التأقيت ، ولكلٍّ من المالك والعامل فسخ القراض قبل السنة.

نعم ، إنّه يفيد منع العامل بعد ذلك من التصرّفات إلّا بإذنٍ مستأنف ؛ لأنّ الأصل عصمة مال الغير ، ومنع الغير من التصرّف فيه إلّا بإذن مالكه ، والإذن لم يقع عامّاً ، فيتبع ما عيّنه المالك.

وإن قيّد فقال : قارضتك سنةً فإذا انقضت لا تبع ولا تشتر ، فالأقوى(٢) عندي : الجواز ؛ عملاً بالشرط ، ولأنّه مقتضى الإطلاق.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٧ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٥ ، البيان ٧ : ١٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٢) في « ث ، ج ، ر » : « فالأقرب » بدل « فالأقوى ».

٤٧

وقال الشافعي : يبطل القراض ؛ لأنّه شرط شرطاً فاسداً فأفسده ؛ لأنّ عقد القراض يقع مطلقاً ، فإذا شرط قطعه لم يصح ، كالنكاح ، ولأنّ هذا الشرط ليس من مقتضى العقد ، ولا له فيه مصلحة ، فلم يصح ، كما لو قال : على أن لا تبع ، وإنّما لم يكن من مقتضاه ؛ لأنّ القراض يقتضي ردّ رأس المال تامّاً ، فإذا منعه من التصرّف لم يكن له ذلك ، ولأنّ هذا الشرط يؤدّي إلى الإضرار بالعامل وإبطال غرضه ؛ لأنّ الربح والحظّ قد يكون في تبقية المتاع وبيعه بعد سنةٍ ، فيمنع ذلك مقتضاه(١) .

ونحن نمنع فساد العقد ؛ فإنّه المتنازع. نعم ، إنّه لا يلزم وقوع العقد مطلقاً ، ولا ينافي قطعه بالشرط ، كسائر الشروط في العقود ، والمقيس عليه ممنوع على ما يأتي ، وإنّما يقتضي القراض ردّ رأس المال لو لم يمنعه المالك ، وبالشرط قد منعه ، وإضرار العامل ينتفي بدفع أُجرته إليه ، ومراعاة مصلحة العامل كمراعاة مصلحة المالك ، فقد يكون المالك محتاجاً إلى رأس ماله.

مسألة ٢٢١ : لو قال : قارضتك سنةً على أنّي لا أملك منعك فيها ، فسد القراض ؛ لأنّ القراض من العقود الجائزة لكلٍّ من المتعاقدين فسخه ، فلا يجوز أن يشترط فيه لزومه ، كالشركة والوكالة ؛ لأنّه شرط ما ينافي مقتضى العقد ، وكذا لو قال : قارضتك سنةً على أنّي(٢) لا أملك الفسخ قبل‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣١١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٥ ، الوجيز ١ : ٢٢٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٣ ، البيان ٧ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢ ، المغني ٥ : ١٨٥ - ١٨٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٨.

(٢) في « خ » والطبعة الحجريّة : « أن » بدل « أنّي ».

٤٨

انقضائها ، وبه قال الشافعي(١) أيضاً.

ولو قال : قارضتك سنةً فإذا انقضت السنة فلا تشتر بعدها وبِعْ ، صحّ القراض ، وبه قال الشافعي(٢) أيضاً ، وكذا لو قال : قارضتك سنةً على أن لا تشتر بعد السنة ولك البيع ؛ لأنّ لصاحب المال أن يرجع عن القراض أيّ وقتٍ شاء ، ويتمكّن من منع العامل من الشراء مهما شاء ، فإذا شرط منعه من الشراء ، كان قد شرط ما يقتضيه الإطلاق ، فلا يمنع ذلك صحّة العقد.

ولو قال : قارضتك سنةً فإذا مضت فلا تبع بعدها ، فالأقرب : الصحّة.

وقال الشافعي : إنّه يبطل ، وصار كما لو شرط منعه من التصرّف مطلقاً بعد السنة ؛ لأنّه يُخلّ بمقصود العقد ، ويخالف مقتضاه.

أمّا أنّه يُخلّ بالمقصود : فلأنّه قد لا يجد راغباً في المدّة ، فلا تحصل التجارة والربح.

وأمّا مخالفة مقتضاه : فلأنّه قد يكون عنده عروض عند انقضاء السنة ، وقضيّة عقد القراض أن ينضّ العامل ما في يده في آخر الآمر ليتميّز رأس المال عن الربح(٣) .

وقد بيّنّا أنّ للعامل مع فسخ العقد الأُجرة ، وهو يدفع المحاذير.

ولو قال : قارضتك سنةً ، وأطلق ، فقد بيّنّا الجواز عندنا ، وعدم‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣١١ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، البيان ٧ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، البيان ٧ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٣) الوسيط ٤ : ١٠٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

٤٩

اللزوم.

وللشافعيّة وجهان :

أصحّهما عندهم : المنع ؛ لأنّ قضيّة انتفاء القراض امتناع التصرّف بالكلّيّة ، ولأنّ ما يجوز فيه الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت ، كالبيع والنكاح.

والثاني : يجوز ، ويُحمل على المنع من الشراء دون البيع ، استدامةً للعقد(١) .

على أنّ لهم وجهاً ضعيفاً فيما إذا قارضه سنةً وشرط أن لا يشتري بعدها ، قاضياً بالبطلان ؛ لأنّ ما وضعه على الإطلاق من العقود لا يجوز فيه التأقيت(٢) .

لكن المعتمد عندهم : الجواز(٣) .

تذنيب : لو قال : قارضتك الآن ولكن لا تتصرّف حتى يجي‌ء رأس الشهر ، جاز ؛ عملاً بمقتضى الشرط - وهو أحد وجهي الشافعيّة - كما جاز في الوكالة.

والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : المنع ، كما لو قال : بعتك بشرط أن لا تملك إلّا بعد شهرٍ(٤) .

____________________

(١) الوسيط ٤ : ١١٠ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، البيان ٧ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٢ و ٣) الوسيط ٤ : ١١٠ ، البيان ٧ : ١٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٢.

٥٠

والفرق ظاهر.

البحث الخامس : في الربح.

وشروطه أربعة :

الأوّل : اختصاصه بالمتعاقدين ، فلو شرط بعض الربح لغيرهما ، لم يصح ، سواء كان قريباً أو بعيداً ، كما لو قال : على أن يكون لك ثلث الربح ، ولي الثلث ، ولزوجتي أو لابني أو لأجنبيٍّ الثلثُ الآخَر ، ويبطل القراض ؛ لأنّه ليس بعاملٍ ولا مالكٍ للمال.

أمّا لو شرط عمل الثالث فإنّه يصحّ ، ويكون في الحقيقة هنا عاملان لا واحد.

ولو كان المشروط له عبدَ المالك أو عبدَ العامل ، فقد بيّنّا أنّه يجوز ؛ لأنّه يكون ما شرطه للعبد للمالك ، فقد ضمّ المالك أو العامل إلى حصّته حصّةً أُخرى.

ولو قال : نصف الربح لك ونصفه لي ومن نصيبي نصفه لزوجتي ، صحّ القراض ، وكان ما عيّنه للزوجة وعداً منه لها إن شاء أعطاها وإن شاء منعها.

ولو قال للعامل : لك الثلثان على أن تعطي امرأتَك نصفَه أو ابنك ، لم يلزم الشرط ، فإن أوجبه فالأقوى : البطلان.

وقال بعض الشافعيّة : إن أوجب ذلك عليه فسد القراض ، وإلّا‌

٥١

لم يفسد(١) .

الشرط الثاني : أن يكون الربح مشتركاً بينهما ، فلو شرط أن يكون جميع الربح للمالك بأن قال : قارضتك على أن يكون جميع الربح لي ، فسد القراض - وبه قال الشافعي(٢) - لمنافاة الشرط مقتضاه ؛ فإنّ مقتضاه الاشتراك في الربح ؛ لأنّ إسحاق بن عمّار سأل الكاظمَعليه‌السلام : عن مال المضاربة ، قال : « الربح بينهما ، والوضيعة على المال »(٣) .

وقال أبو حنيفة : إنّه يبطل القراض ، ويكون بضاعةً(٤) .

وقال مالك : يصحّ القراض ، ويكون الربح للمالك ؛ عملاً بشرطه ، لأنّهما دخلا في القراض ، فإذا شرط الربح لأحدهما جعل كأنّه وهب له الآخَر نصيبه ، فلا يمنع ذلك صحّة العقد(٥) .

وهو غلط ؛ لأنّ الهبة لا تصحّ قبل حصول الموهوب.

____________________

(١) بحر المذهب ٩ : ١٩٥ ، البيان ٧ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣٣٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٢ ، بحر المذهب ٩ : ٢١٩ ، الوسيط ٤ : ١١١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨١ ، البيان ٧ : ١٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٢ / ١١١٦ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٨١ / ٣٤١٩ ، المغني ٥ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٢.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٨ / ٨٢٩ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ / ٤٥٢.

(٤) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٨ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ٢٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٠٢ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٨١ / ٣٤١٨ ، بحر المذهب ٩ : ٢٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٢ - ٣٣٣ ، البيان ٧ : ١٦٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٢ - ٦٤٣ / ١١١٦ ، المغني ٥ : ١٤٤ - ١٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٢.

(٥) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٢ / ١١١٦ ، المعونة ٢ : ١١٢٣ ، بحر المذهب ٩ : ٢٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، المغني ٥ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٢.

٥٢

ولو قال : قارضتك على أن يكون جميع الربح لك ، فسد القراض أيضاً عندنا - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - لما تقدّم(٢) .

وقال مالك : يصحّ ، ويكون الربح بأسره للعامل ؛ لأنّهما دخلا في القراض ، فإذا شرط الربح للعامل أو المالك ، كان لمن جعل له ، كأنّ المالك قد وهبه نصيبه من الربح ، فلا يمنع ذلك صحّة العقد(٣) .

وقد تقدّم(٤) بطلانه ، وأنّ هذا الشرط منافٍ للقراض ؛ لاقتضاء القراض كون الربح بينهما ؛ لأنّه عبارة عن أن يكون من أحدهما المال ومن الآخَر العمل ، وذلك يقتضي الاشتراك ، فإذا شرطا ما يخالف ذلك فسد ، كشركة العنان إذا شرطا أن يكون الربح لأحدهما.

إذا عرفت هذا ، فإذا قال : قارضتك على أن يكون الربح كلّه لك ، فالقراض فاسد.

وما حكمه؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّه قراض فاسد ؛ رعايةً للّفظ.

والثاني : إنّه قرض صحيح ؛ رعايةً للمعنى(٥) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٣٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٢ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٢ - ٣٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨١ ، البيان ٧ : ١٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٨ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٣٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٢ / ١١١٦ ، المعونة ٢ : ١١٢٣ ، المغني ٥ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٢.

(٢) في ص ٥١.

(٣) بداية المجتهد ٢ : ٢٣٨ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٢ / ١١١٦ ، المعونة ٢ : ١١٢٣ ، بحر المذهب ٩ : ٢٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، المغني ٥ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣٢.

(٤) في ص ٥١.

(٥) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨١ ، البيان ٧ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٥ - ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

٥٣

ولو قال : قارضتك على أنّ الربح كلّه لي ، فهو قراض فاسد أو إبضاع؟ فيه الوجهان للشافعيّة(١) .

أمّا لو قال : خُذْ هذه الدراهم وتصرَّفْ فيها والربح كلّه لك ، فهو قرض صحيح ، وبه قال ابن سريج(٢) ، بخلاف ما لو قال : قارضتك على أنّ الربح كلّه لك ؛ لتصريح اللّفظ بعقدٍ آخَر.

وقال بعض الشافعيّة : لا فرق بين الصورتين(٣) .

وليس جيّداً.

وعن بعضهم : إنّ الربح والخسران للمالك ، وللعامل أُجرة المثل ، ولا يكون قرضاً ؛ لأنّه لم يملكه(٤) .

ولو قال : تصرَّفْ في هذه الدراهم والربح كلّه لي ، فهو إبضاع.

مسألة ٢٢٢ : لو ضمّن المالكُ العاملَ ، انقلب القراض قرضاً ، وكان الربح بأسره للعامل ؛ لأنّ عقد القراض ينافي الضمان.

ولما رواه محمّد بن قيس عن الباقرعليه‌السلام قال : « مَنْ ضمّن مُضاربه فليس له إلّا رأس المال ، وليس له من الربح شي‌ء »(٥) .

وعن محمّد بن قيس عن الباقرعليه‌السلام قال : « مَنْ ضمّن تاجراً فليس له إلّا رأس ماله ، وليس له من الربح شي‌ء »(٦) .

إذا عرفت هذا ، فإن أراد المالك الاستيثاق ، أقرضه بعضَ المال ،

____________________

(١) بحر المذهب ٩ : ٢٢٠ ، البيان ٧ : ١٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

(٢) البيان ٧ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

(٥) التهذيب ٧ : ١٨٨ / ٨٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ - ١٢٧ / ٤٥٣.

(٦) الكافي ٥ : ٢٤٠ / ٣ ، التهذيب ٧ : ١٩٢ - ١٩٣ / ٨٥٢.

٥٤

وضاربه على الباقي ، ويكون ذلك قرضاً صحيحاً وقراضاً جائزاً ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما سائغ ، ولم يحدث عند الاجتماع شي‌ء زائد.

ولما رواه عبد الملك بن عتبة قال : سألتُ بعضَ هؤلاء - يعني أبا يوسف وأبا حنيفة - فقلت: إنّي لا أزال أدفع المال مضاربةً إلى الرجل فيقول : قد ضاع ، أو قد ذهب ، قال : فادفع إليه أكثره قرضاً والباقي مضاربةً ، فسألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن ذلك ، فقال : « يجوز »(١) .

وسأل عبدُ الملك بن عتبة الكاظمَعليه‌السلام : هل يستقيم لصاحب المال إذا أراد الاستيثاق لنفسه أن يجعل بعضه شركةً ليكون أوثق له في ماله؟ قال : « لا بأس به »(٢) .

الشرط الثالث : أن تكون الحصّة لكلٍّ منهما معلومة ، فلو قارضه على أن يكون له في الربح شركة أو نصيب أو حصّة أو شي‌ء أو سهم أو حظّ أو جزء ، ولم يبيّن ، بطل القراض ، ولا(٣) يحمل الشي‌ء ولا السهم ولا الجزء على الوصيّة ؛ اقتصاراً بالنقل على مورده ، ولا خلاف في بطلان القراض مع تجهيل الربح.

ولو قال : خُذْه مضاربةً ولك من الربح مثل ما شرطه فلان لعامله ، فإن علما معاً ما شرطه فلانٌ صحّ ؛ لأنّهما أشارا إلى معلومٍ عندهما ، ولو جهلاه معاً أو أحدهما بطل القراض ؛ لأنّه مجهول.

ولو قال : والربح بيننا ، ولم يقل : نصفين ، صحّ ، وحُكم بالنصف للعامل والنصف للمالك ، كما لو أقرّ بالمال ، ولو قال : إنّه بيني وبين فلان ،

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٨ - ١٨٩ / ٨٣٢ ، الاستبصار ٣ : ١٢٧ / ٤٥٥.

(٢) التهذيب ٧ : ١٨٩ / ٨٣٣ ، الاستبصار ٣ : ١٢٧ / ٤٥٦.

(٣) فيما عدا « ج » من النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « ولم » بدل « ولا ».

٥٥

فإنّه يكون إقراراً بالنصف ، فكذا هنا ، والأصل في ذلك أصالة عدم التفاوت ، وقد أضاف الربح إليهما إضافة واحدة ، لم يرجّح فيها أحدهما على الآخَر ، فاقتضى التسوية ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

والثاني : الفساد ؛ لأنّه لم يبيّن ما لكلّ واحدٍ منهما ، فأشبه ما إذا شرطا أن يكون الربح بينهما أثلاثاً ، ولم يبيّن صاحب الثلثين مَنْ هو ، ولا صاحب الثلث مَنْ هو ، ولأنّ التثنية تصدق مع التفاوت كصدقها مع التساوي ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ(١) .

ونحن نمنع صدقها بالتواطؤ ، بل دلالتها على التنصيف أقوى ، وعليه يُحمل إطلاقها ، ويفتقر التفاوت إلى قرينةٍ.

مسألة ٢٢٣ : لو قال : خُذْ هذا المال مضاربةً ، ولم يُسمّ للعامل شيئاً من الربح ، فسد القراض ، وكان الربح بأسره لربّ المال ، وعليه أُجرة المثل للعامل ، والوضيعة على المالك - وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأصحاب الرأي(٢) - لأنّ المضارب إنّما يستحقّ بالشرط ولم يوجد.

وقال الحسن وابن سيرين والأوزاعي : الربح بينهما نصفين ؛ لأنّه لو قال : والربح بيننا ، كان بينهما نصفين ، وكذا إذا لم يزد شيئاً(٣) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٧ : ٣٤٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٢ ، الوسيط ٤ : ١١٣ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٠ ، البيان ٧ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

(٢) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٣٩ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣٤٤ ، بحر المذهب ٩ : ٢١٧ - ٢١٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٣ ، المغني ٥ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٣١.

(٣) نفس المصادر ما عدا « الحاوي الكبير » و « بحر المذهب » و « حلية العلماء ».

٥٦

وهو ممنوع ؛ لأنّ قوله : « مضاربةً » يقتضي أنّ له جزءاً من الربح مجهولاً ، فلا يصحّ.

ولو قال : على أنّ ثلث الربح لك وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك ، صحّ.

وحاصله اشتراط سبعة أتساع الربح للعامل ؛ لأنّ الحساب من عدد لثلثه ثلاث ، وأقلّه تسعة.

هذا إذا علما عند العقد أنّ المشروط للعامل بهذه اللفظة كم هو ، فإن جهلاه أو أحدهما ، فوجهان للشافعيّة ، أحدهما : الصحّة(١) .

وهو حسن ؛ لسهولة معرفة ما تضمّنه اللّفظ.

وكذا لو قال : على أنّ لك من الربح سُدس رُبْع عُشْر الثُّمْن ، وهُما لا يعرفان قدره عند العقد ، أو أحدهما.

ولو قال : لك الرُّبْع ورُبْع الباقي ، فله ثلاثة أثمان ونصف ثُمنٍ ، سواء عرفا الحساب أو جهلاه ؛ لأنّها أجزاء معلومة.

ولو قال : لك ثلث الربح ورُبْع ما بقي ، فله النصف.

الشرط الرابع : أن يكون العلم به من حيث الجزئيّة المشاعة ، كالنصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك من الأجزاء الشائعة ، لا بالتقدير ، فلو قال : قارضتك على أنّ لك من الربح مائة والباقي بيننا بالسويّة ، فسد القراض ؛ لأنّه ربما لا يربح إلّا ذلك القدر ، فيلزم أن يختصّ به أحدهما.

وكذا إذا قال : على أنّ لي من الربح مائة والباقي بيننا ، لم يصح القراض.

وكذا لو قال : لك نصف الربح سوى درهم ، أو : لك نصف الربح‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٣.

٥٧

ودرهم.

مسألة ٢٢٤ : لو دفع إليه ألفين وقال : قارضتك على هاتين الألفين على أن يكون لك ربح ألفٍ منهما ولي ربح الألف الأُخرى ، فإمّا أن تكونا متميّزتين أو ممتزجتين.

فإن كانتا متميّزتين وشرط تميّزهما ، لم يصح القراض ؛ لأنّه لا شركة بينهما في الربح ؛ إذ كلّ واحدةٍ من الألفين متميّزة عن الأُخرى ، وربح إحداهما بعينها للمالك لا يشاركه العامل فيه ، وربح الأُخرى بعينها للعامل لا يشاركه المالك فيه ، مع أنّ كلّ واحدةٍ منهما مال قراضٍ ، فلا يوجد فيه مقتضى القراض فيبطل ، ولأنّه ربما يختصّ الربح بإحداهما دون الأُخرى ، فيحصل كلّ الربح لأحدهما ويمنع الآخَر منه ، وذلك منافٍ لمقتضى القراض.

وإن كانتا ممتزجتين غير متميّزتين ، فالأقرب : الصحّة ، ويُحمل على الإشاعة والتسوية في الربح ؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين قوله : الربح بيننا نصفين ، ولا بينه وبين أن يقول : نصف ربح الألفين لك ونصفه لي ، وهو قول بعض الشافعيّة(١) .

وقال ابن سريج : لا يصحّ ؛ لأنّه خصّصه بربح بعض المال ، فأشبه ما إذا كان الألفان متميّزين ، وما إذا دفع إليه ألفاً على أن يكون له ربحها ليتصرّف له في ألف أُخرى(٢) .

والفرق ظاهر.

ولو قال : على أنّ لي ربح أحد الثوبين ولك ربح الآخَر ، أو : على أنّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧.

٥٨

لي ربح إحدى السفرتين ولك ربح الأُخرى ، أو : على أنّ لك ربح تجارة شهر كذا ولي ربح تجارة شهر كذا ، لم يصح.

إذا عرفت هذا ، فإذا دفع إليه مالاً قراضاً وشرط أن يكون له نصف ربحه ، جاز ، وكذا لو شرط له ربح نصفه.

ولو قال : على أنّ لك من الربح عشرةً ولي عشرة ، احتُمل البطلانُ ؛ لعدم العلم بحصولهما ، والصحّةُ إن قصد التناسب في مطلق الربح ، قلّ عن ذلك أو كثر أو ساواه.

مسألة ٢٢٥ : لو دفع إليه مالاً قراضاً وشرط عليه أن يولّيه سلعة كذا إذا اشتراها برأس المال ، احتُمل الصحّة ؛ عملاً بقولهعليه‌السلام : « المسلمون(١) عند شروطهم »(٢) ، والبطلانُ - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّه ربما لا يحصل الربح إلّا منها.

ولو شرط أن يلبس الثوب الذي يشتريه ويركب الدابّة التي يشتريها ، قال الشافعي : يبطل القراض أيضاً ؛ لأنّ القراض جُوّز على العمل المجهول بالعوض المجهول [ للحاجة ](٤) - ولا حاجة إلى ضمّ ما ليس من الربح إليه ، ولأنّه ربما ينتقص بالاستعمال ويتعذّر عليه التصرّف(٥) .

والأقوى عندي : الجواز.

تذنيب : لو دفع إليه ألفاً قراضاً على أنّ الربح بينهما ، وشرط المالك‌

____________________

(١) في النُّسَخ الخطّيّة : « المؤمنون ».

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٥ ، الهامش (٣) ، وفي التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، والاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، والجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣ : « المؤمنون ».

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٢ ، البيان ٧ : ١٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢٠٤.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « للراحة ». والمثبت من المصدر.

(٥) نفس المصادر في الهامش (٣) ما عدا « التهذيب ».

٥٩

أن يدفع إليه ألفاً يعمل بها بضاعةً بحيث يكون الربح بأسره للمالك فيها ، فالوجه : صحّة القراض والشرط معاً.

وقيل : يصحّ القراض ، ويبطل الشرط(١) .

وقيل : يبطلان معاً(٢) .

مسألة ٢٢٦ : لو دفع إلى عاملٍ ألفَ درهمٍ ، فقال له : اعمل على هذه وربحها لي ، ودفع إليه ألفاً أُخرى وقال : اعمل على هذه ويكون ربحها لك ، فإن قصد القراض ، بطل ؛ لأنّه شرط أن يكون جميع الربح في إحداهما للمالك وفي الأُخرى للعامل ، وهو باطل ؛ لأنّه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالربح ؛ لأنّ الربح يحصل بالمال والعمل معاً ، فلا يصحّ في واحدةٍ من الألفين.

وإن لم يقصد القراض ، صحّ ، وكان ما شرطه المالك له بضاعةً ، وما شرطه العامل لنفسه قرضاً.

ولو دفع الألفين وقال : قارضتك على هذه على أن يكون ربح ألفٍ منها لي وألف لك ، فالأقوى : الصحّة - وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور(٣) - لأنّه بمنزلة أن يقول : نصف الربح لي ونصفه لك ؛ لأنّه بمعناه.

قال ابن سريج : وهذا غلط ؛ لأنّ وضع القراض على أن يكون كلّ جزءٍ من المال ربحه بينهما ، فإذا شرط ربح ألفٍ فقد شرط لنفسه الانفراد بربح جزءٍ منه ، فكان فاسداً ، بخلاف ما إذا شرط نصف الربح ؛ لأنّ شرطه لم يتضمّن الانفراد بجزءٍ منه(٤) .

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٢ : ١٤٥.

(٢) قال به الطوسي في المبسوط ٣ : ١٩٧ ، والقاضي ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٤٦٦.

(٣) بحر المذهب ٩ : ١٩٨ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤٠.

(٤) راجع : العزيز شرح الوجيز ٦ : ١٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستجيد قول أبي العيص بن حرام بن عبد الله بن قتادة بن جابر بن ربيعة بن كابية(١) المازني رضي الله عنه.

وكم من صاحب قد بان عنّي

رميت بفقده وهو الحبيب(٢)

فلم أبد الّذي تحنو ضلوعي

عليه، وإنّني لأنا الكئيب

مخافة أن يراني مستكينا

عدوّ أو يساء به قريب

فيشمت كاشح ويظنّ أنّي

جزوع عند نائبة تنوب

فبعدك شدّت الأعداء طرفا

إلي ورابني دهر مريب

معنى، شدّت الأعداء طرفا، أي نظرت إلي نظرا شديدا(٣) فظهر الغضب في عيونها -

وأنكرت الزّمان وكلّ أهلي

وهرّتني لغيبتك الكليب

يقال: كلب وكليب مثل عبد وعبيد -

وكنت تقطّع الأبصار دوني

وان وغرت من الغيظ القلوب

ويمنعني من الأعداء أنّي

وإن رغموا لمخشي مهيب

فلم أر مثل يومك كان يوما

بدت فيه النّجوم فما تغيب

وليل ما أنام به طويل

كأنّي للنّجوم به رقيب

وما يك جائيا لا بدّ منه

إليك فسوف تجلبه الجلوب

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (حارثة).

(٢) الأبيات في لباب الآداب ٤٠٧، ٤٠٨ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات.

(٣) ف: (شزرا).

٢٢١

مجلس آخر

[٧١]

تأويل آية :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَالله مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ؛ [البقرة: ٧٢، ٧٣].

فقال: كيف ذكر تعالى هذا بعد ذكره(١) البقرة والأمر بذبحها؟ وقد كان ينبغي أن يتقدّمه، لأنه إنما أمر بذبح البقرة لينكشف أمر القاتل، فكيف أخّر ذكر السبب عن المسبب، وبنى الكلام بناء يقتضي أنه كان بعده؟

ولم قال:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ، والرواية وردت بأن القاتل كان واحدا؟ وكيف يجوز أن يخاطب الجماعة بالقتل والقاتل بينها واحد! وإلى أي شيء وقعت الإشارة بقوله تعالى:

( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؟.

الجواب، قيل له: أما قوله تعالى؛( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) ففيه وجهان:

أولهما أن تكون هذه الآية - وإن أخّرت - فهي مقدّمة في المعنى على الآية التي ذكرت فيها البقرة؛ ويكون التأويل:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) فسألتم موسى فقال: إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فأخر المقدم وقدم المؤخر؛ ومثل هذا في القرآن وكلام العرب كثير.

ومثله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ) [الكهف: ١، ٢].

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بعد ذكر البقرة).

٢٢٢

وقال الشاعر:

إنّ الفرزدق صخرة ملمومة

طالت - فليس تنالها - الأوعالا(١)

أراد: طالت الأوعال فليس تنالها.

ومثله:

طاف الخيال وأين منك لماما!

فارجع لزورك بالسّلام سلاما

أراد: طاف الخيال لماما وأين هو منك!

والوجه الثاني أن يكون وجه تأخير قوله تعالى:( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ) أنه علّق بما هو متأخر في الحقيقة، وواقع بعد ذبح البقرة، وهو قوله تعالى:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) ؛ لأن الأمر بضرب المقتول ببعض البقرة إنما هو بعد الذبح؛ فكأنه تعالى قال:( فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ولأنكم قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) أمرناكم أن تضربوه ببعضها، لينكشف أمره. فأما إخراج الخطاب مخرج ما يتوجّه إلى الجميع مع أن القاتل واحد فعلى عادة العرب في خطاب الأبناء بخطاب الآباء والأجداد، وخطاب العشيرة بما يكون من أحدها؛ فيقول أحدهم: فعلت بنو تميم كذا، وقتل بنو فلان فلانا؛ وإن كان القاتل والفاعل واحدا من بين الجماعة؛ ومنه قراءة من قرأ:( يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة: ١١١]؛ بتقديم المفعولين على الفاعلين؛ وهو اختيار الكسائي وأبي العباس ثعلب؛ فيقتل بعضهم ويقتلون؛ وهو أبلغ في وصفهم، وأمدح لهم، لأنهم إذا قاتلوا وقتلوا بعد أن قتل بعضهم كان ذلك أدلّ على شجاعتهم وقلة جزعهم وحسن صبرهم.

وقد قيل: إنه كان القاتلان اثنين، قتلا ابن عم لهما، وإن الخطاب جرى عليهما بلفظ الجمع؛ كما قال تعالى:( وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ) [الأنبياء: ٧٩]؛ يريد داود وسليمان

____________________

(١) البيت في شرح شواهد سيبويه للأعلم (٢: ٣٥٦).

٢٢٣

عليهما السلام؛ والوجه الأول أولى وأقوى بشهادة الاستعمال الظاهر له، ولأن أكثر أهل العلم أجمعوا على أن القاتل كان واحدا.

ومعنى فَادَّارَأْتُمْ فتدارأتم؛ أي تدافعتم، وألقى بعضكم القتل على بعض؛ يقال: دارأت فلانا إذا دافعته وداريته، إذا لاينته، ودريته إذا ختلته؛ ويقال: ادّرأ القوم إذا تدافعوا.

والهاء في قوله:( فَادَّارَأْتُمْ فِيها ) تعود إلى النفس، وقيل: إنها تعود على القتلة، أي اختلفتم في القتلة؛ لأن قَتَلْتُمْ تدل على المصدر؛ والقتلة من المصادر، تدل عليها الأفعال، ورجوع الهاء إلى النفس أولى وأشبه بالظاهر.

فأما قوله تعالى:( كَذلِكَ يُحْيِ الله الْمَوْتى ) فالإشارة وقعت به إلى قيام المقتول عند ضربه ببعض أعضاء البقرة؛ لأنه روي أنه قام حيا وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني فلان!

ونبّه الله تعالى بهذا الكلام وبذكر هذه القصة على جواز ما أنكره مشركو قريش واستبعدوه من البعث وقيام الأموات؛ لأنهم قالوا:( أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) ؛ [الإسراء: ٤٩]؛ فأخبرهم الله تعالى بأنّ الّذي أنكروه واستبعدوه هيّن عليه، غير متعذر في اتساع قدرته.

وكان مما ضرب تعالى لهم من الأمثال، ونبّههم عليه من الأدلة ذكر المقتول الّذي ضرب ببعض البقرة فقام حيا. وأراد تعالى: أنني إذا كنت قد أحييت هذا المقتول بعد خروجه عن الحياة، ويئس قومه من عوده وانطواء خبر كيفية قتله عنهم، ورددته حيا مخاطبا باسم قاتله؛ فكذلك فاعلموا أن إحياء جميع الأموات عند البعث لا يعجزني ولا يتعذر عليّ. وهذا بين لمن تأمله.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن الشعر المشهور بالجودة في ذم الدنيا والتذكير بمصائبها قول

٢٢٤

نهشل بن(١) حرّي يرثي أخاه مالكا:

ذكرت أخي المخوّل بعد يأس(٢)

فهاج عليّ ذكراه اشتياقي

فلا أنسى أخي ما دمت حيّا

وإخواني بأقرنة العناق(٣)

يجرّون الفصال إلى النّدامى

بروض الحزن من كنفي أفاق(٤)

ويغلون السّباء إذا أتوه

بضمر الخيل والشّول الحقاق(٥)

إذا اتّصلوا وقالوا: يالغوث!

وراحوا في المحبّرة الرّقاق(٦)

أجابك كلّ أروع شمّري

رخي البال منطلق الخناق(٧)

أناس صالحون نشأت فيهم

فأودوا بعد إلف واتساق

مضوا لسبيلهم ولبثت عنهم

ولكن لا محالة من لحاق(٨)

كذي الإلف الّذي أدلجن عنه

فحنّ ولا يتوق إلى متاق(٩)

____________________

(١) هو نهشل بن حري بن ضمرة بن ضمرة، شاعر شريف مشهور مخضرم، بقي إلى أيام معاوية، وكان مع علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين؛ وهو يومئذ رئيس بني حنظلة، وكانت رايتهم معه؛ ورثاه نهشل بمراث كثيرة. (وانظر الشعر والشعراء ٦١٩ - ٦٢١).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: رواية أبي محمد الأسود: بعد هدء).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (العناق، بفتح العين وكسرها: موضع).

(٤) (أفاق: موضع في بلاد يربوع.

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (السباء في الأصل: شراء الخمر، وأراد هاهنا نفس الخمر؛ وعلى هذا قول لبيد:

* أغلى السّباء بكلّ ادكن عاتق*

والشول: جمع شائلة؛ وهي الناقة التي خف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها سبعة أشهر من يوم نتاجها، والحقاق: الضوامر، يعني أنهم يبيعون الخيل والإبل ويشترون بها الخمر.

(٦) المحبرة: الثياب المنقشة.

(٧) الأروع: الّذي يعجبك حسنه وجماله، والشمري: الماضي في الأمور؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (دارمي).

(٨) حاشية الأصل: (نسخة س: (لا محالة في لحاق)، ورواية الأسود (في لحاقي).

(٩) في حاشيتي الأصل، ف من نسخة: (كذا الإلف).

٢٢٥

أرى الدّنيا ونحن نعيث فيها

مولّية تهيّأ لانطلاق

أعاذل قد بقيت بقاء قيس

وما حي على الدّنيا بباق

[هبطت السّيلحين وذات عرق

وأوردت المطي على حذاق](١)

كأنّ الشّيب والأحداث تجري

إلى نفس الفتى فرسا سباق

فإما الشّيب يدركه وإما

يلاقي حتفه فيما يلاقي

فإن تك لمّتي بالشّيب أمست

شميط اللّون واضحة المشاق(٢)

فقد أغدو بداجية أراني

بها المتطلّعات من الرّواق(٣)

الداجية: اللمّة السوداء. وأراني: (أفاعل)، من المراناة -

إلي كأنّهنّ ظباء قفر(٤)

برهبي، أو بباعجتي فتاق(٥)

يرامضن(٦) الحبال لغير وصل

وليس حبال وصلي بالرّماق

وعهد الغانيات كعهد قين

ونت عنه الجعائل مستذاق

القين: الحداد، والجعائل: جمع جعالة وهي أجرته، وأراد أن القين إذ عدم الجعالة رحل ولم يستقرّ في مكان -

كجلب السّوء يعجب من رآه

ولا يشفي الحوائم من لماق

الجلب: الغيم الّذي لا مطر فيه، والحوائم: العطاش، ولماق: شيء قليل -

فلا يبعد مضائي في الموامي

وإشرافي العلاية وانصفاقي(٧)

____________________

(١) ورد هذا البيت في ف وحاشية الأصل، من رواية الأسود. والسيلحين، وذات عرق، وحذاق: مواضع.

(٢) حاشية الأصل: (شبه الشعر بالمشاقة؛ وهي الكتان غير المغزول).

(٣) الرواق: الخيمة.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (نفر).

(٥) رهبى: موضع. والباعجان: مثنى باعجة؛ وهي متسع الوادي. وفتق: موضع أيضا.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة س: (يوامضن)، ونسخة الأسود (يوامقن).

(٧) العلاية: ما علا من الأرض. والانصفاق: الانصراف.

٢٢٦

وغبراء القتام جلوت عنّي(١)

بعجلى الطّرف سالمة المآقي

وقد طوّفت في الآفاق حتى

سئمت النّصّ بالقلص العتاق(٢)

وكم قاسيت من سنة جماد

تعضّ اللّحم ما دون العراق(٣)

إذا أفنيتها بدّلت أخرى

أعدّ شهورها عدّ الأواقي

وأفنتني الشّهور وليس تفنى

وتعداد الأهلّة والمحاق

وما سبق الحوادث ليث غاب

يجرّ لعرسه جزر الرّفاق

[كميت تعجز الحلفاء عنه

كبغل المرج حطّ من الزّناق](٤)

[تنازعه الفريسة أم شبل

عبوس الوجه فاحشة العناق](٤)

ولا بطل تفادي الخيل منه

فرار الطّير من برد بعاق(٥)

[كريم من خزيمة أو تميم

أغرّ على مساعفة مزاق](٦)

[فذلك لن تخاطأه المنايا

فكيف يقيه طول الدهر واق]

***

وأحسن حارثة بن بدر الغداني في قوله:

ياكعب ما راح من قوم ولا ابتكروا

إلاّ وللموت في آثارهم حادي

ياكعب ما طلعت شمس ولا غربت

إلاّ تقرّب آجالا لميعاد

ولأبي العتاهية في هذا المعنى:

إذا انقطعت عني من العيش مدّتي

فإنّ بكاء الباكيات قليل(٧)

____________________

(١) حاشية الأصل: نسخة الأسود (نفضت).

(٢) النص: أرفع السير.

(٣) العراق: العظام التي يقشر عنها معظم اللحم وتبقى عليه بقية.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: والزنقة: المضيق في الجبل، وجمعه زناق).

(٥) البعاق: المندفع.

(٦) تكملة من رواية الأسود في حاشيتي الأصل، ف. والمساعفة: المساعدة، والمزاق: المسرعة التي تمزق الهواء.

(٧) هذه الأبيات في حماسة ابن الشجري ١٤٢، مع اختلاف في الترتيب وعدد الأبيات.

٢٢٧

سيعرض عن ذكري وتنسى مودّتي

ويحدث بعدي للخليل خليل

أجلّك قوم حين صرت إلى الغنى

وكلّ غني في العيون جليل

وليس الغنى إلا غنى زيّن الفتى

عشيّة يقري أو غداة ينيل

ولم يفتقر يوما وإن كان معدما

جواد ولم يستغن قطّ بخيل

إذا مالت الدّنيا إلى المرء رغّبت

إليه، ومال النّاس حيث يميل

أرى علل الدّنيا عليّ كثيرة

وصاحبها حتى الممات عليل

وإنّي وإن أصبحت بالموت موقنا

فلي أمل دون اليقين طويل(١)

وقد أحسن البحتري في قوله في هذا المعنى:

أخي متى خاصمت نفسك فاحتشد

لها، ومتى حدّثت نفسك فاصدق

أرى علل الأشياء شتّى ولا أرى التـ

جمّع إلاّ غاية للتّفرّق(٢)

أرى العيش ظلاّ توشك الشّمس نقله

فكس في ابتغاء العيش كيسك أومق(٣)

أرى الدّهر غولا للنّفوس وإنما

يقي الله في بعض المواطن من يقي

فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى

وعرّج على الباقي فسائله لم بقي

ولم أر كالدّنيا خليلة صاحب

محبّ متى تحسن بعينيه تعنق(٤)

تراها عيانا وهي صنعة واحد

فتحسبها صنعي لطيف وأخرق

وقد قيل إن السبب في خروج البحتري عن بغداد في آخر أيامه كان هذه الأبيات؛ لأن بعض أعدائه شنّع عليه بأنه ثنوي من حيث قال:

* فتحسبها صنعي لطيف وأخرق*

وكانت العامة حينئذ غالبة على البلد، فخاف على نفسه فقال لابنه أبي الغوث: قم يابنيّ حتى نطفئ عنا هذه الثائرة بخرجة نلمّ فيها ببلدنا؛ فخرج ولم يعد.

____________________

(١) لم أعثر على هذه الأبيات في ديوانه؛ وهي في مجموعة المعاني ٥، ٦ مع اختلاف في الرواية.

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة)، مجموعة المعاني: (علة للتفرق).

(٣) مق، أي تحامق.

(٤) مجموعة المعاني، د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تطلق).

٢٢٨

وأحسن أيضا غاية الإحسان في قوله:

أغشى الخطوب فإمّا جئن مأربتي

فيما أسيّر أو أحكمن تأديبي(١)

إن تلتمس أخلاف الخطوب(٢) وإن

تلبث مع الدّهر تسمع بالأعاجيب

وفي قوله:

متى تستزد فضلا من العمر تغترف

بسجليك من شهد الخطوب وصابها(٣)

تشذّبنا(٤) الدّنيا بأخفض سعيها

وغول الأفاعي بلّة من لعابها

يسرّ بعمران الدّيار مضلّل

وعمرانها مستأنف من خرابها

ولم أرتض الدّنيا أوان مجيئها

فكيف ارتضائيها أوان ذهابها!

أفول لمكذوب عن الدّهر زاغ عن

تخيّر آراء الحجى وانتخابها

سيرديك أو يثويك أنّك محلس

إلى شقّة يبكيك بعد مآبها(٥)

وهل أنت في مرموسة طال أخذها

من الأرض إلا حفنة من ترابها(٦)

وجدت الآمدي يروي في هذا البيت (أنك محبس) بالباء؛ وتفسير ذلك أنّ المعنى أنك موقوف إلى أن تصير إلى هذا؛ من قولك: أحبست فرسا في سبيل الله، وأحبست دارا؛ أي أي وقفتها. والرواية المشهورة: (أنك مجلس) باللام؛ والمعنى أنك متهيئ للرحيل ومتخذ حلسا.

والحلس: هو الكساء الّذي يوضع تحت الرحل؛ وهذا أشبه بالمعنى الّذي قصده البحتري؛ وأولى بأن يختاره؛ مع دقة طبعه وسلامة ألفاظه.

____________________

(١) ديوانه ١: ٦٩.

(٢) في الديوان: (الأمور).

(٣) ديوانه: ١: ٤٧، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (شهد الأمور).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (تسيرنا).

(٥) محلس: مقيم. والشقة: الطريقة.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حثوة).

٢٢٩

مجلس آخر

[٧٢]

تأويل آية :( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا الله رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٨٩، ١٩٠].

فقال: أليس ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الشرك على الأنبياء؛ لأنه لم يتقدم إلا ذكر آدم وحواء عليهما السلام؛ فيجب أن يكون قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) فِيما آتاهُما يرجع إليهما.

الجواب، قلنا: كما أنّ ذكر آدم وحواء قد تقدّم، فقد تقدم ذكر غيرهما في قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) ، ومعلوم أنّ المراد بذلك جميع ولد آدم، وقد تقدم ذكر ولد آدم في قوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) ؛ والمعنى: فلما آتاهما ولدا صالحا، والمراد بهذا الجنس دون الواحد؛ وإن كان اللفظ لفظ واحد؛ والمعنى: فلما آتاهما جنسا من الأولاد صالحين؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه جاز أن يرجع قوله:( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) إلى ولدهما؛ وقد تقدم ذكرهما.

فإن قيل: إنما وجب رده إلى آدم وحواء لأجل التثنية في الكلام؛ ولم يتقدم ذكر اثنين إلا ذكرهما.

قلنا: إن جعل هذا ترجيحا في رجوعه إليهما جاز أيضا أن يجعل قوله في آخر الآية:

( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وجها مقربا لرجوع الكلام إلى جملة الأولاد. ويجوز أن يكون أشير في التثنية إلى الذكور والإناث من ولد آدم أو إلى جنسين منهم؛ فحسنت التثنية لذلك

٢٣٠

على أنه إذا تقدم في الكلام أمران ثم تلاهما حكم من الأحكام، وعلم بالدليل استحالة تعلّقه بأحد الأمرين وجب ردّه إلى الآخر.

وإذا علمنا أن آدم عليه السلام لا يجوز عليه الشرك لم يجز عود الكلام إليه، فوجب عوده إلى المذكورين من ولده.

وذكر أبو على الجبائي ما نحن نورده على وجهه، قال: إنما عنى(١) الله تعالى بهذا أنه تعالى خلق بني آدم(١) من نفس واحدة؛ لأن الإضمار في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ إنما عنى به بني آدم، والنفس الواحدة التي خلقهم منها هي آدم؛ لأنه خلق حواء من آدم؛ ويقال: إنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاعه(٢) ؛ فرجعوا جميعا إلى أنهم خلقوا من آدم؛ وبيّن ذلك بقوله:( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) ؛ لأنه عنى به أنّه خلق من هذا النفس زوجها، وزوجها هو حواء.

وعنى بقوله:( فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) ، وحملها(٣) هو حبلها منه في ابتداء الحمل؛ لأنه في ذلك الوقت خفيف عليها.

وعنى بقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أنّ مرورها بهذا الحمل، وتصرّفها به كان عليها سهلا لخفّته؛ فلما كبر الولد في بطنها ثقل ذلك عليها، فهو معنى قوله: أَثْقَلَتْ؛ وثقل عليها عند ذلك المشي والحركة.

وعنى بقوله:( دَعَوَا الله رَبَّهُما ) أنهما دعوا عند كبر الولد في بطنها فقالا: لئن آتيتنا ياربّ نسلا صالحا لنكوننّ من الشاكرين لنعمتك علينا؛ لأنهما أراد أن يكون لهما أولاد تؤنسهما في الموضع الّذي كانا فيه؛ لأنهما كانا فردين مستوحشين؛ فكان إذا غاب أحدهما عن الآخر بقي الآخر مستوحشا بلا مؤنس؛ فلما آتاهما نسلا صالحا معافى، وهم الأولاد الذين كانوا يولدون لهما لأن حواء كانت تلد في كلّ بطن ذكرا وأنثى فيقال: إنها ولدت في خمسمائة بطن ألف ولد.

____________________

(١ - ١) حاشية ف (من نسخة): (إنما عنى الله تعالى خلق بني آدم).

(٢) م: (ويقال من طينته).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وأن حملها).

٢٣١

وعنى بقوله:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما ) (١) أي أن هذا النسل الصالح الّذي هم ذكر وأنثى جعلا له شركاء فيما آتاهما(١) من نعمة؛ وأضافا تلك النعم إلى الذين اتخذوهم آلهة مع الله عزّ وجلّ من الأصنام والأوثان، ولم يعن بقوله: جَعَلا آدم وحواء عليها السلام؛ لأن آدم لا يجوز عليه الشرك بالله لأنه نبي من أنبيائه، ولو جاز الشرك والكفر على الأنبياء لما جاز أن يثق أحدنا بما يؤديه إليه الأنبياء عن الله عز وجل؛ لأن من جاز عليه الكفر جاز عليه الكذب ومن جاز عليه الكذب لم يؤخذ بأخباره؛ فصحّ بهذا أنّ الإضمار في قوله: جَعَلا إنما يعني به النسل.

وإنما ذكر ذلك على سبيل التثنية؛ لأنهم كانوا ذكرا وأنثى، فلما كانوا صنفين جاز أن يجعل إخباره عنهما كالإخبار عن الاثنين إذا كانا صنفين.

وقد دلّ على صحة تأويلنا هذا قوله تعالى في آخر الآية:( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، فبيّن عز وجل أنّ الذين جعلوا للّه شركاءهم جماعة، فلهذا جعل إضمارهم إضمار الجماعة، فقال: يُشْرِكُونَ؛ مضى كلام أبي عليّ.

وقد قيل في قوله تعالى:( فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) مضافا إلى الوجه المتقدم - الّذي هو أنه أراد بالصلاح الاستواء في الخلقة والاعتدال في الأعضاء - وجه آخر؛ وهو أنّه لو أراد الصلاح في الدين لكان الكلام أيضا مستقيما؛ لأن الصالح في الدين قد يجوز أن يكفر بعد صلاحه، فيكون في حال صالحا، وفي آخر مشركا؛ وهذا لا يتنافى.

وقد استشهد في جواز الانتقال من خطاب إلى غيره، ومن كناية عن مذكور إلى مذكور سواه؛ ليصحّ ما قلناه من الانتقال من الكناية عن آدم وحوّاء إلى ولدهما بقوله تعالى:

( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ) ، فانصرف عن مخاطبة الرسول عليه السلام إلى مخاطبة المرسل إليهم، ثم قال:( وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) ، يعني الرسول عليه السلام، ثم قال:( وَتُسَبِّحُوهُ ) ، [الفتح: ٩]؛ وهو يعني مرسل الرسول؛ فالكلام

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، والمثبت عن د، ف.

٢٣٢

واحد متّصل بعضه ببعض، والخطاب منتقل من واحد إلى غيره؛ ويقول الهذلي(١) :

يالهف نفسي كان جدّة خالد

وبياض وجهك للتّراب الأعفر

ولم يقل: وبياض وجهه.

وقال كثيّر:

أسيء بنا، أو أحسني لا ملومة

لدينا، ولا مقليّة إن تقلت(٢)

فخاطب ثمّ ترك الخطاب. وقال آخر:

فدى لك يافتى وجميع أهلي

وما لي إنّه منه أتاني(٣)

ولم يقل: منك أتاني.

ووجدت أبا مسلم محمد بن بحر يحمل هذه الآية على أنّ الخطاب في جميعها غير متعلّق بحواء وآدم، ويجعل الهاء في تَغَشَّاها، والكناية في( دَعَوَا الله رَبَّهُما وآتاهُما صالِحاً ) راجعتين إلى من أشرك؛ ولم يتعلق بآدم وحواء من الخطاب إلا قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) ؛ لأن الإشارة في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلى الخلق عامة، وكذلك قوله تعالى:( وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) ، ثم خص منها بعضهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ، فخاطب الجماعة بالتسيير في البر والبحر، ثم خص راكب البحر بقوله تعالى:( وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) ؛ [يونس: ٢٢] كذلك الآية أخبرت عن جملة البشر؛ وأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها، وهما آدم وحواء عليهما السلام ثمّ عاد الذكر إلى الّذي سأل الله تعالى ما سأل؛ فلما أعطاه إياه ادعى الشّركاء في عطيته.

قال: وجائز أن يكون عنى بقوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) المشركين؛ خصوصا إذ كان كلّ بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها.

____________________

(١) هو أبو كبير، والبيت من قصيدة له في شعر الهذليين ٢: ١٠١.

(٢) أمالي القالي ٢: ١٠٩.

(٣) حاشية الأصل: (فدى وفداء كلاهما صحيح، فإذا قلت فدى فهو مقصور من الممدود).

٢٣٣

ويجوز أن يكون المعنى في قوله:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة؛ وهذا يجيء كثيرا في القرآن وفي كلام العرب؛ قال الله تعالى:

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ) ؛ [النور: ٤] أي فاجلدوا كل واحد ثمانين جلدة.

وقال عز وجل:( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) ؛ [الروم: ٢١] فلكل نفس زوج منها أي من جنسها.

( فَلَمَّا تَغَشَّاها ) ، أي تغشّي كلّ نفس زوجها.( حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً ) وهو ماء الفحل.

فَمَرَّتْ بِهِ أي مارت، والمور: التردّد. والمراد تردّد هذا الماء في رحم هذه الحامل.( فَلَمَّا أَثْقَلَتْ ) أي ثقل حملها؛ أي بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما. دَعَوَا الله أي الرجل والمرأة لمّا استبان حمل المرأة فقالا:( لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ) أي أعطاهما ما سألا من الولد الصالح نسبا ذلك إلى شركاء معه،( فَتَعالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

وقال قوم: معنى( جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ) أي طلبا من الله أمثالا للولد الصالح فشركا بين الطّلبتين وتكون الهاء في قوله: لَهُ راجعة إلى الصالح لا إلى الله تعالى. ويجري مجرى قول القائل: طلبت مني درهما فلما أعطيتك أشركته بآخر؛ أي طلبت آخر مضافا إليه.

وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن يكونا قوله: جَعَلا والخطاب كله متوجها إلى آدم وحواء عليهما السلام.

٢٣٤

مجلس آخر

[٧٣]

تأويل آية :( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ؛ [الصافات: ٩٥، ٩٦].

فقال: أليس ظاهر هذا القول يقتضي أنه خالق لأعمال العباد، لأن ما هاهنا بمعنى (الّذي) ؛ فكأنه قال: خلقكم وخلق أعمالكم.

الجواب، قلنا: قد حمل أهل الحق هذه الآية على أنّ المراد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) أي وما تعملون فيه من الحجارة والخشب وغيرهما؛ مما كانوا يتخذونه أصناما ويعبدونها.

قالوا: وغير منكر أن يريد بقوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) ذلك؛ كما أنه قد أراد ما ذكرناه بقوله:

( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) لأنه لم يرد أنكم تعبدون نحتكم الّذي هو فعل لكم؛ بل أراد ما تفعلون فيه النّحت؛ وكما قال تعالى في عصا موسى عليه السلام:( تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) [الأعراف: ١١٧]( وتَلْقَفْ ما صَنَعُوا ) ؛ [طه: ٦٩]؛ وإنما أراد تعالى أنّ العصا تلقف الحبال التي أظهروا سحرهم فيها، وهي التي حلتها صنعتهم وإفكهم؛ فقال:( ما صَنَعُوا وما يَأْفِكُونَ ) وأراد ما صنعوا فيه، وما يأفكون فيه؛ ومثله قوله تعالى:( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ ) ، [سبأ: ١٣]؛ وإنما أراد المعمول فيه دون العمل؛(١) وهذا الاستعمال أيضا سائغ(١) شائع؛ لأنهم يقولون: هذا الباب عمل النّجار. وفي الخلخال: هذا من عمل الصائغ؛ وإن كانت الأجسام التي أشير إليها ليست أعمالا؛ وإنما عملوا فيها؛ فحسن إجراء هذه العبارة.

فإن قيل: كلّ الّذي ذكرتموه وإن استعمل فعلى وجه المجاز والاتساع؛ لأن العمل في

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة): (وهذا في الاستعمال).

٢٣٥

الحقيقة لا يجري إلا على فعل الفاعل دون ما يفعل فيه؛ وإن استعير في بعض المواضع.

قلنا: ليس نسلّم لكم أنّ الاستعمال الّذي ذكرناه على سبيل المجاز؛ بل يقول: هو المفهوم الّذي لا يستفاد سواه، لأن القائل إذا قال: هذا الثوب عمل فلان لم يفهم منه إلا أنّه عمل فيه، وما رأينا أحدا قط يقول في الثوب بدلا من قوله: هذا من عمل فلان: هذا مما حلّه عمل فلان؛ فالأول أولى بأن يكون حقيقة.

وليس ينكر أن يكون الأصل في الحقيقة ما ذكروه، ثم انتقل بعرف الاستعمال إلى ما ذكرناه؛ وصار أخصّ به، ومما لا يستفاد من الكلام سواه؛ كما انتقلت ألفاظ كثيرة على هذا الحدّ والاعتبار في المفهوم من الألفاظ إلا ما يستقرّ عليه استعمالها دون ما كانت عليه في الأصل؛ فوجب أن يكون المفهوم والظاهر من الآية ما ذكرناه.

على أنا لو سلّمنا أن ذلك مجاز لوجب المصير إليه من وجوه:

منها ما يشهد به ظاهر الآية ويقتضيه، ولا يسوغ سواه.

ومنها ما تقتضيه الأدلة القاطعة الخارجة عن الآية؛ فمن ذلك أنه تعالى أخرج الكلام مخرج التهجين لهم، والتوبيخ لأفعالهم والإزراء على مذاهبهم، فقال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَالله خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) ومتى لم يكن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) المراد تَعْمَلُونَ فيه؛ ليصير تقدير الكلام: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها، والله خلقكم وخلق هذه الأصنام التي تفعلون فيها التخطيط والتصوير؛ لم يكن للكلام معنى، ولا مدخل في باب التوبيخ. ويصير على ما يذكره المخالف كأنه قال:( أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) والله خلقكم وخلق عبادتكم؛ فأي وجه للتقريع! وهذا إلى أن يكون عذرا أقرب من أن يكون لوما وتوبيخا؛ إذا خلق عبادتهم للأصنام؛ فأي وجه للومهم عليها وتقريعهم بها! على أن قوله عز وجلّ:( خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) بعد قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ خرج مخرج التعليل للمنع من عبادة غيره تعالى؛ فلا بدّ أن يكون متعلقا بما تقدم من قوله: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ومؤثرا في المنع من عبادة غير الله. فلو أفاد قوله: ما تَعْمَلُونَ نفس العمل

٢٣٦

الّذي هو النحت دون المعمول فيه لكان لا فائدة في الكلام؛ لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت؛ وإنما كانوا يعبدون محل النحت؛ ولأنه كان لا حظّ في الكلام للمنع من عبادة الأصنام. وكذلك إن حمل قوله تعالى: ما تَعْمَلُونَ على أعمال أخر ليست نحتهم، ولا هي ما عملوا فيه لكان أظهر في باب اللغو والعبث والبعد عن التعلق بما تقدم؛ فلم يبق إلا أنه أراد: أنه خلقكم وما تعملون فيه النحت، فكيف تعبدون مخلوقا مثلكم!

فإن قيل: لم زعمتم أنه لو كان الأمر على ما ذكرناه لم يكن للقول الثاني حظّ في باب المنع من عبادة الأصنام؟ وما تنكرون أن يكون لما ذكرناه وجه في المنع من ذلك؟(١) ؛ كما أن ما ذكرتموه(١) أيضا لو أريد لكان وجها؛ وهو أن من خلقنا وخلق الأفعال فينا لا يكون إلا الإله القديم، الّذي تحقّ له العبادة، وغير القديم - كما يستحيل أن يخلقنا - يستحيل أن يخلق فينا الأفعال على الوجه الّذي يخلقها القديم تعالى؛ فصار لما ذكرناه تأثير.

قلنا: معلوم أن الثاني إذا كان كالتعليل للأول والمؤثر في المنع من العبادة فلان يتضمن أنكم مخلوقون وما تعبدونه أولى من أن ينصرف إلى ما ذكرتموه ممّا لا يقتضي أكثر من خلقهم دون خلق ما عبدوه؛ وأنه لا شيء أدلّ على المنع من عبادة الأصنام من كونها مخلوقة كما أن عابدها مخلوق.

ويشهد لما ذكرناه قوله تعالى في موضع آخر:( أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) ؛ [الأعراف: ١٩١، ١٩٢] فاحتج تعالى عليهم في المنع من عبادة الآلهة دونه بأنها مخلوقة لا تخلق شيئا، ولا تدفع عن أنفسها ضرا ولا عنهم؛ وهذا واضح.

على أنه لو ساوى ما ذكروه ما ذكرناه في التعلّق بالأول لم يسغ حمله على ما ادعوه؛ لأن فيه عذرا لهم في الفعل الّذي عنّفوا به وقرّعوا من أجله؛ وقبيح أن يوبخهم بما يعذرهم؛ ويذمّهم بما ينزّههم على ما تقدم.

____________________

(١ - ١) في حاشيتي الأصل، ف: نسخة ش (وإن كان ما ذكرتموه).

٢٣٧

على أنا لا نسلّم أن من يفعل أفعال العباد ويخلقها يستحق العبادة؛ لأن من جملة أفعالهم القبائح، ومن فعل القبائح لا يكون إلها، ولا تحقّ له العبادة؛ فخرج ما ذكروه من أن يكون مؤثرا بانفراده في العبادة.

على أن إضافته العمل إليهم بقوله: تَعْمَلُونَ يبطل تأويلهم الآية؛ لأنه لو كان تعالى خالقا له(١) لم يكن عملا لهم؛ لأن العمل إنما يكون لمن يحدثه ويوجده، فكيف يكون عملا لهم والله خلقه! وهذه مناقضة، فثبت بهذا أن الظاهر شاهد لنا أيضا.

على أن قوله:( وَما تَعْمَلُونَ ) يقتضي الاستقبال؛ وكل فعل لم يوجد فهو معدوم.

ومحال أن يقول تعالى: إني خالق للمعدوم!

فإن قالوا: اللفظ وإن كان للاستقبال فالمراد به المضي؛ فكأنه قال: والله خلقكم وما عملتم!

قلنا: هذا عدول منكم عن الظاهر الّذي ادّعيتم أنكم متمسكون به؛ وليس أنتم بأن تعدلوا عنه بأولى منا؛ بل نحن أحق؛ لأنا نعدل عنه لدلالة؛ وأنتم تعدلون بغير حجة.

فإن قالوا: فأنتم أيضا تعدلون عن هذا الظاهر بعينه على تأويلكم، وتحملون لفظ الاستقبال على لفظ الماضي.

قلنا: لا نحتاج نحن في تأويلنا إلى ذلك؛ لأنا إذا حملنا قوله تعالى:( وَما تَعْمَلُونَ ) على الأصنام المعمول فيها - ومعلوم أن الأصنام موجودة قبل عملهم فيها - فجاز أن يقول تعالى:

إني خلقتها؛ ولا يجوز أن يقول: إني خلقت ما سيقع من العمل في المستقبل.

على أنه تعالى لو أراد بذلك أعمالهم؛ لا ما عملوا فيه على ما ادعوه لم يكن في الظاهر حجة على ما يريدون؛ لأن الخلق هو التقدير والتدبير؛ وليس يمتنع في اللغة أن يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا قدّره ودبّره؛ ألا ترى أنهم يقولون: خلقت الأديم؛ وإن لم يكن الأديم فعلا لمن يقال

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: (لها).

٢٣٨

ذلك فيه! ويكون معنى خلقه لأفعال العباد أنه مقدر لها، ومعرف لنا مقاديرها ومراتبها وما به نستحق عليها من الجزاء.

وليس يمتنع أن يقال: إنه خالق للأعمال على هذا المعنى إذا ارتفع الإبهام وفهم المراد؛ فهذا كله تقتضيه الآية. ولو لم يكن في الآية شيء مما ذكرناه مما يوجب العدول عن حمل قوله:

وَما تَعْمَلُونَ على خلق نفس الأعمال لوجب أن نعدل بها عن ذلك، ونحملها على ما ذكرناه بالأدلة العقلية الدّالة على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمالنا، وإن تصرفنا محدث بنا، ولا فاعل له سوانا؛ وكل هذا واضح بين(١) .

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: وإني لأستحسن لبعض نساء بني أسد قولها:

ألم ترنا غبّنّا ماؤنا

زمانا، فظلنا نكدّ البئارا(٢)

فلمّا عدا الماء أوطانه

وجفّ الثّماد فصارت حرارا(٣)

وضجّت إلى ربّها في السّماء(٤)

رءوس العضاه تناجي السّرارا

وفتّحت الأرض أفواهها

عجيج الجمال وردن الجفارا(٥)

لبسنا لدى عطن ليلة

على اليأس آتا بنا والخمارا(٦)

وقلنا: أعبروا النّدى حقّه

وصبر الحفاظ، وموتوا حرارا(٧)

____________________

(١) ف: (واضح بين بحمد الله).

(٢) الكد هنا: انتزاع السائل.

(٣) الثماد: بقايا الماء في الحوض والحفر، جمع ثمد. والحرار: جمع حرة، وهي حجارة سوداء.

(٤) في حاشيتي الأصل، ف: (بخط عبد السلام البصري:

* وعجّت عجيجا إلى ربّها*

(٥) الجفار: جمع جفرة، وهي البئر الواسعة.

(٦) الآتاب: جمع إتب؛ وهو برد أو ثوب يؤخذ فيشق في وسطه، ثم تلقيه المرأة في عنقها من غير جيب ولا كمين.

(٧) موتوا حرارا؛ أي جودوا بأنفسكم. وفي حاشية الأصل: (نسخة س: وجدت بخط المرتضى رضي الله عنه: (في مجموع أكثره بخط الرضي رضي الله عنه: حرار: جمع حرة).

٢٣٩

فإنّ النّدى لعسى مرّة

يردّ إلى أهله ما استعارا

فبتنا نوطّن أحشاءنا

أضاء لنا عارض فاستطارا(١)

وأقبل يزحف زحف الكسير

سياق الرعاء البطاء العشارا

تغنّي وتضحك حافاته

خلال الغمام وتبكي مرارا

كأنّا تضيء لنا حرّة

تشدّ إزارا وتلقي(٢) إزارا

فلمّا خشينا بأن لا نجاء

وألاّ يكون قرار قرارا

أشار إليه امرؤ فوقه

هلمّ، فأمّ(٣) إلى ما أشارا

***

وأنشد أبو هفّان لولاّدة المهزميّة(٤) :

لولا اتّقاء الله قمت بمفخر

لا يبلغ الثّقلان فيه مقامي

بأبوّة في الجاهليّة سادة

بذّوا العلى أمراء في الإسلام

جادوا فسادوا مانعين أذاهم

لنداهم، بذل(٥) على الأقوام

قد أنجبوا في السّؤددين(٦) وأنجبوا

بنجابة الأخوال والأعمام

قوم إذا سكتوا تكلّم مجدهم

عنهم؛ فأخرس دون كلّ كلام

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش (فبينا)، وبخط المرتضى رضي الله عنه: (نوطد أحسابنا).

(٢) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: وترخي).

(٣) حاشية الأصل: (بخط عبد السلام: فصار).

(٤) حاشية الأصل: (قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي رحمه الله: هو أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي. وأبو هفان، بكسر الهاء).

(٥) بذل: جمع بذول، أي باذلون.

(٦) في حاشيتي الأصل، ف: (أي الأبوة والأمومة).

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403