أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 56882
تحميل: 7209


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56882 / تحميل: 7209
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أحدهما أنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالله، فهو أحق بها منّا.

والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق، قال الله تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ؛ [الأنعام: ١٥١].

قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا عليّ الجبائي وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة؛ لأنها ثقّلت بالتراب الّذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة: وأدت أئد وأدا، والفاعل وائد، والفاعلة وائدة، ومن الثّقل يقولون: آدني الشيء يئودني؛ إذا أثقلني، أودا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن العزل فقال: (ذاك الوأد الخفي).

وقد روي عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك، وقال قوم في الخبر الّذي ذكرناه: إنه منسوخ بما روي عنه عليه السلام أنه قيل له: إن اليهود يقولون في العزل هي الموءودة الصغرى، فقال: (كذبت يهود، لو أراد الله تعالى أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه).

وقد يجوز أن يكون قوله عليه السلام: (ذاك الوأد الخفي) على طريق تأكيد الترغيب في طلب النسل وكراهية العزل؛ لا على أنه محظور محرّم.

***

وصعصعة بن ناجية بن عقال، جدّ الفرزدق بن غالب؛ كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن. ويقال: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك.

وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:

ومنّا الّذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توءد(١)

وفي قوله:

ومنّا الّذي أحيا الوئيد وغالب

وعمرو، ومنّا حاجب والأقارع(٢)

____________________

(١) ديوانه: ٢٠٣.

(٢) ديوانه: ٥١٧.

٢٨١

وفي ذلك يقول أيضا:

أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب

وفكّاك أغلال الأسير المكفّر(١)

ليلى: أم غالب، وعقال: هو محمد(٢) بن سفيان بن مجاشع، وفكّاك الأغلال: ناجية ابن عقال، والمكفّر: هو الّذي كفّر وكبّل بالحديد -

وكان لنا شيخان ذو القبر منهما

وشيخ أجار النّاس من كلّ مقبر(٣)

ذو القبر، غالب وكان يستجار بقبره، والّذي أجار الناس من المقبر وأحيا الوئيدة صعصعة(٤)   -

على حين لا تحيا البنات وإذ هم

عكوف على الأصنام حول المدوّر(٥)

أنا ابن الّذي ردّ المنيّة فضله

وما حسب دافعت عنه بمعور(٦)

أبي أحد العينين(٧) صعصعة الّذي

متى تخلف الجوزاء والنّجم يمطر

أجار بنات الوائدين ومن يجر

على القبر(٨) يعلم أنّه غير مخفر

وفارق ليل من نساء أتت به(٩)

تعالج ريحا ليلها غير مقمر

فارق، يعني امرأة ماخضا؛ شبهها بالفارق من الإبل، وهي الناقة يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضي على وجهها حتى تضع -

____________________

(١) ديوانه: ٤٧٦ - ٤٧٧.

(٢) حاشية الأصل: (هذا في نسخة ابن الشجري)، وفيها (من نسخة): (هو عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع).

(٣) حاشية الأصل: (من كل مقبر، أي الّذي يدفن البنات أحياء ويجعلهم في القبر).

(٤) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: حقه: والّذي أجار الناس وأحيا الناس من المقبر وأحيا الوليد صعصعة).

(٥) المدور: صنم يدورون حوله.

(٦) حاشية الأصل: (المعور: ذو العورة؛ وهو من قوله تعالى:( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) ؛ أراد أنه حصن لا يتمكن منه أحد).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الغيثين)، وهي رواية الديوان.

(٨) حاشية الأصل (من نسخة): (على الفقر).

(٩) حاشية الأصل (من نسخة): (أبي) وهي رواية الديوان.

٢٨٢

فقالت: أجر لي ما ولدت فإنني

أتيتك من هزلي الحمولة مقتر(١)

رأى الأرض منها راحة فرمى بها

إلى جدد(٢) منها وفي شرّ محفر

فقال لها: يامي إني بذمّتي

لبنتك جار من أبيها القنوّر

القنوّر: السيئ الخلق –

***

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن العباس بن بكار الضبي عن أبي بكر الهذلي. قال الصولي وحدثنا القاسم بن إسماعيل عن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة بطرف منه قال: وفد صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وآله في وفد بني تميم(٣) ؛ وكان صعصعة منع الوئيد في الجاهلية؛ فلم يدع تميما تئد(٤) وهو يقدر على ذلك؛ فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة جارية، وفي الرواية الأخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وآله: بأبي أنت وأمي أوصني! قال: (أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدنانيك)، فقال: زدني يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (احفظ ما بين لحييك ورجليك) ؛ ثم قال صلى الله عليه وآله: (ما شيء بلغني عنك فعلته) ؟

فقال: يارسول الله؛ رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أنّي علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم؛ فعرفت أنّ ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت ما قدرت عليه.

وفي رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وآله، سمع قوله تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ؛ [الزلزلة: ٧، ٨].

قال: حسبي، ما أبالي ألاّ أسمع من القرآن غير هذا!

ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا، فقال الفرزدق:

____________________

(١) مقتر: قليل المال؛ تعني زوجها.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (خدد) ؛ وهي رواية الديوان.

(٣) ف: (في وفد من بني تميم).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فلم يدع تميما يئد).

٢٨٣

أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى! فقال: إن جدي أحيا الموءودة وقد قال الله تعالى:( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) ؛ [المائدة: ٣٢]؛ وقد أحيا، جدي اثنتين وتسعين موءودة. فتبسم سليمان وقال: إنك مع شعرك لفقيه.

تأويل خبر [أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء]

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يروى(١) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء.

الجواب؛ قلنا: الزناء هو الحاقن الّذي قد ضاق ذرعا ببوله؛ يقال: أزنأ الرجل بوله فهو يزنئه إزناء، وزنأ بوله يزنأ زنأ، قال الأخطل:

فإذا دفعت إلى زناء قعرها

غبراء مظلمة من الأحفار(٢)

يعني ضيق القبر، ويقال: لا تأت فلانا فإن منزله زناء، فيجوز أن يكون ضيّقا، ويجوز أن يكون عسر المرتقى؛ وكلاهما يئول إلى المعنى. ويقال: موضع زناء إذا كان ضيّقا صعبا، ومن ذلك قول أبي زبيد(٣) يصف أسدا:

أبنّ عرّيسة عنّابها أشب

ودون غايته مستورد شرع(٤)

____________________

(١) ف: (روي).

(٢) ديوانه: ٨١، واللسان (زنأ).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (ذكر أبو سعيد الضرير، وهو أحمد بن خالد قال: هو أبو زبيد حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعد، وهو من بني هني). والبيتان في شعراء النصرانية بعد الإسلام ١: ٦٧ - ٦٨؛ من قصيدة أولها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شخصوا

أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع

يصف فيها الأسد.

(٤) أبنّ: أقام، والعريسة: مأوى الأسد في الغياض، وعنابها أشب: أي شجر العناب فيها متداخل، والمستورد: موضع الورود. والشرع: الّذي يشرع فيه؛ يعني موارد الوحش، وفي ف: (دون غايتها) وفي حاشيتها (من نسخة): (دون غابتها).

٢٨٤

شأس الهبوط زناء الحاميين متى

يبشع بواردة يحدث لها فزع(١)

يعني (بزناء الحاميين) أنه ضيق جانبي الوادي. وقوله: (متى يبشع بواردة)، أي يضيق بجماعة ممن يرده؛ وإنما يحدث لها فزع من الأسد. والشأس: الغليظ؛ يقال: مكان شأس، إذا كان غليظا؛ ومن ذلك قولهم: زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه؛ وهو يزنأ في الجبل.

وروى أبو زيد:" أن(٢) قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيّا له يرقّصه - وأمّ ذلك الصبي منفوسة، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي، فجعل قيس يقول له:

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل

ولا تكوننّ كهلّوف وكل(٣)

يريد عملي. الوكل: الجبان. والهلّوف: الهرم المسنّ، وهو أيضا الكبير اللحية؛ وإنما أراد به هاهنا الجبان -

* وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل(٤) *

فأخذته أمه وجعلت ترقصه، وتقول:

أشبه أخي أو أشبهن أباكا

أمّا أبي فلن تنال ذاكا

* تقصر عن مناله(٥) يداكا*

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قبلهما:

هذا وقوم غضاب قد أبتّهم

على الكلاكل حوضي عندهم ترع

تبادروني كأنّي في أكفّهم

حتى إذا ما رأوني خاليا نزعوا

واستحدث القوم أمرا غير ما وهموا

وطار أبصارهم شتى وما وقعوا

كأنما يتفادى أهل أمرهم

من ذي زوائد في أرساغه فدع

ضرغامة أهرت الشّدقين ذي لبد

كأنه برنسا في الغاب مدرع

بالثّنى أسفل من حمّاء ليس له

إلا بنيه وإلا أهله شيع

قد أبتهم: أنمتهم وأشخصتهم على صدورهم. وقوله: (حوضي عندهم ترع) أي لم يصنعوا بي شيئا. وقوله: (في أكفهم) أي ظنوا أني في أيديهم فلما رأوني دهشوا ونزعوا عما طمعوا فيه).

(٢) النوادر ٩٢ - ٩٣

(٣) البيتان والخبر في اللسان (زنأ - عمل).

(٤) في اللسان قبل هذا البيت:

* يصبح في مضجعه قد انجدل*

(٥) في اللسان: (أن تناله).

٢٨٥

مجلس آخر

[٨٠]

تأويل آية :( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ) ؛ [البلد ١٠ - ٢٠].

فقال(١) : ما تأويل هذه الآية؟ وما معنى ما تضمنته(١) .

الجواب، أما ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضّل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويستدفعون بها المضارّ عنهم؛ لأن الحاجة ماسّة في أكثر المنافع الدينية والدنيوية إلى العين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب ومسكهما في الفم والنطق أيضا.

فأما النّجد في لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الأرض، والغور الهابط منها؛ وإنما سمّي الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه.

واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين، فذهب قوم إلى أنّ المراد بهما طريقا الخير والشرّ؛ وهذا الوجه يروى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وعن الحسن وجماعة من المفسرين.

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

٢٨٦

وروي أنه قيل لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إن ناسا(١) يقولون في قوله:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) : إنهما الثديان، فقال عليه السلام: لا، إنهما الخير والشر.

وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير).

وروي عن قوم آخرين أنّ المراد بالنّجدين ثديا الأم.

فإن قيل: كيف يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير، ومعلوم أنه لا شرف ولا رفعة في الشر؟

قلنا: يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلّف اجتنابه؛ ومعلوم أن الطريقتين جميعا باديان ظاهران للمكلفين. ويجوز أيضا أن يكون سمّي طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة؛ كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق الخير؛ لأن الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشر كالثواب في سلوك طريق الخير.

وقال قوم: إنما أراد بالنجدين أنا بصّرناه وعرفناه ماله وعليه، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب؛ وثني النجدين على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا في بعض الوجوه، وأجرى لفظة أحدهما على الآخر، كما قيل في الشمس والقمر: القمران، قال الفرزدق:

* لنا قمراها والنّجوم الطّوالع(٢) *

ولذلك نظائر كثيرة.

فأما قوله تعالى:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ؛ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون فَلَا بمعنى الجحد وبمنزلة (لم)، أي فلم يقتحم العقبة؛ وأكثر

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أناسا).

(٢) ديوانه: ٥١٩؛ صدره:

* أخذنا بآفاق السّماء عليكم*

٢٨٧

ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ (لا) ؛ كما قال سبحانه:( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ) ؛ [القيامة: ٣١] أي لم يصدّق ولم يصلّ، وكما قال الحطيئة:

وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها

وإن أنعموا، لا كدّروها ولا كدّوا(١)

وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ؛ لأنهم لا يقولون: لا جئتني وزرتني؛ يريدون: ما جئتني؛ فإن قالوا: لا جئتني ولا زرتني صلح؛ إلا أن في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه، وهو قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ؛ فكأنه قال:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، ولا آمن؛ فمعنى التكرار حاصل.

والوجه الآخر: أن تكون (لا) جارية مجرى الدعاء؛ كقولك: لا نجا ولا سلم، ونحو ذلك.

وقال قوم:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) أي فهلاّ اقتحم العقبة! أو أفلا اقتحم العقبة! قالوا:

ويدل على ذلك قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) ، ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام.

وهذا الوجه ضعيف جدا، لأن قوله تعالى: فَلَا خال من لفظ الاستفهام، وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:

ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا

عدد القطر والحصى والتراب(٢)

فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفي لم يتصل فقد بيّنا أنه متصل، مع أنّ المراد به النفي؛ لأن قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) معطوف على قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، أي فلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين آمنوا. والمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن؛ على ما بينا.

فأما المراد بالعقبة فاختلف فيه، فقال قوم: هي عقبة ملساء في جهنم، واقتحامها فكّ رقبة.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون(٣) ، وأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة) : وروي عن ابن عباس أنه قال: هي عقبة كئود في

____________________

(١) ديوانه: ٢٠.

(٢) ديوانه: ٤٢٣ (مطبعة السعادة)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (عدد الرمل).

(٣) حاشية الأصل: (المثقلون [بالفتح] أي أثقلهم الذنوب، والمثقلون [بالكسر] أصحاب الأثقال).

٢٨٨

جهنم، وروي أيضا أنه قال: العقبة هي النّار نفسها؛ فعلى الوجه الأول يكون التفسير للعقبة بقوله:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) على معنى ما يؤدّي إلى اقتحام هذه العقبة؛ ويكون سببا لجوازها والنجاة منها، لأن فكّ رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا منها.

وقال آخرون: بل العقبة ما ورد مفسّرا لها من فكّ الرقبة والإطعام في يوم المسغبة؛ وإنما سمّي ذلك عقبة لصعوبته على النفوس ومشقته عليها.

وليس يليق بهذا الوجه الجواب الّذي ذكرناه في معنى قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) وأنه على وجه الدعاء؛ لأن الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له؛ ولا يجوز أن يدعى على أحد بأن لا يقع منه ما كلّف وقوعه، وفكّ الرقبة والإطعام المذكور من الطاعات؛ فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه! فهذا الوجه يطابق أن تكون الْعَقَبَةَ هي النّار نفسها أو عقبة فيها.

وقد اختلف الناس في قراءة:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) ، فقرأ أمير المؤمنين عليه السلام، ومجاهد، وأهل مكة، والحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمرو، والكسائي:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) بفتح الكاف ونصب الرقبة، وقرءوا أو أطعم على الفعل دون الاسم. وقرأ أهل المدينة، وأهل الشام، وعاصم، وحمزة، ويحيى بن وثاب، ويعقوب الحضرمي: فَكُ بضم الكاف وبخفض( رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ ) على المصدر وتنوين الميم وضمها.

فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم بالاسم أكثر في كلام العرب، وأحسن من جوابه بالفعل؛ ألا ترى أن المعنى: ما أدراك ما اقتحام العقبة! هو فكّ رقبة، أو إطعام؛ وذلك هو أحسن من أن يقال: هو فكّ رقبة، أو أطعم.

ومال الفرّاء إلى القراءة بلفظ الفعل، ورجّحها بقوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، لأنه فعل؛ والأولى أن يتبع فعلا. وليس يمتنع أن يفسّر اقتحام العقبة - وإن كان اسما - بفعل؛ يدل على الاسم؛ وهذا مثل قول القائل: ما أدراك ما زيد؟ يقول - مفسرا -: يصنع الخير، ويفعل المعروف، وما أشبه ذلك، فيأتي بالأفعال.

والسغب: الجوع؛ وإنما أراد أنه يطعم في يوم مجاعة؛ لأن الإطعام فيه أفضل وأكرم.

٢٨٩

فأما (مقربة) فمعناه يتيما ذا قربى؛ من قرابة النسب والرّحم؛ وهذا حضّ على تقديم ذي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.

والمسكين: الفقير الشديد الفقر. والمتربة: مفعلة، من التراب، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته؛ ويجري مجرى قولهم في الفقير: مدقع؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء؛ وهي الأرض التي لا شيء فيها.

وقال قوم: ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا عيال. والمرحمة: مفعلة من الرحمة؛ وقيل إنه من الرّحم.

وقد يمكن في مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى؛ بل هو من القرب، الّذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر؛ وهذا أعم في المعنى من الأول وأشبه بقوله ذا مَتْرَبَةٍ؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضّرّ؛ وليس من المبالغة في الوصف بالضرّ أن يكون قريب النّسب. والله أعلم بمراده.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر:

وكأنّه من وفده عند القرى

لولا مقام المادح المتكلّم

وكأنّه أحد النّدى ببنائه(١)

لولا مقالته أطب للمؤدم(٢)

ويقارب ذلك في المعنى قول محمد بن خارجة:

سهل الفناء إذا حللت ببابه

طلق اليدين مؤدّب الخدّام

وإذا رأيت صديقه وشقيقه

لم تدر: أيّهما أخو الأرحام!(٣)

ومثله لأبي الهندي:

نزلت على آل المهلّب شاتيا

غريبا عن الأوطان في زمن المحل(٤)

فما زال بي إكرامهم وافتقادهم(٥)

وإنعامهم حتى حسبتهم أهلي

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (أحد الندي ببابه).

(٢) المؤدم: الآكل.

(٣) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (سهل القياد).

(٤) أمالي القالي ١: ٤١؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (في زمن محل).

(٥) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (واقتفاؤهم).

٢٩٠

ولأثال بن الدقعاء يمدح عقبة بن سنان الحارثي:

ألم ترني شكرت أبا سعيد

بنعماه وقد كفر الموالي(١)

ولم أكفر سحائبه اللّواتي

مطرن عليّ واهية العزالي(٢)

فمن يك كافرا نعماه يوما

فإني شاكر أخرى اللّيالي

فتى لم تطلع الشّعرى من افق

ولم تعرض ليمن أو شمال(٣)

على ندّ له إن عدّ مجد

ومكرمة وإتلاف لمال

وأصبر في الحوادث إن ألمّت

وأسعى للمحامد والمعالي

فتى عمّ البريّة بالعطايا

فقد صاروا له أدنى العيال

قال: ولآخر(٤) :

لم أقض من صحبة زيد أربي

فتى إذا أغضبته لم يغضب

موكّل النّفس بحفظ الغيّب

أقصى الفريقين له كالأقرب

فإنه لم يرد أن الضعيف السبب كالقوي السبب، وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب وحقّه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر، وأنه يستوي عنده لكرمه وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت معا؛ وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس؛ من مراعاة أمر الحاضر القريب وإهمال حق البعيد(٥) .

***

هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوّه. ثم تشاغل بأمور الحج(٦) .

الحمد للّه رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا نبيّه محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم كثيرا.

____________________

(١) الموالي: الأقرباء.

(٢) العزالي: جمع عزلاء؛ وهي في الأصل مصب الماء من الراوية ونحوها.

(٣) ف، ومن نسخة بحاشية الأصل:

فتى لم تطلع الشعرى بأفق

ولم تقرض ليمنى أو شمال

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وقال آخر).

(٥) إلى هنا تنتهي النسخة المرموز لها بكلمة (الأصل).

(٦ - ٦) ف: (هذا آخر مجلس أملاه السيد المرتضى ذو المجدين قدس الله روحه ثم تشاغل بأمور الحج).

٢٩١

تكملة أمالي المرتضى

٢٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر(١)

مسألة

قال (*) الشريف الأجلّ المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي رضي الله عنه:

إنّه لا يزال المتكلّمون يخالفون النحويّين في أنّ للفعل ثلاثة أحوال: ماض، وحاضر، ومستقبل. ويقول المتكلّمون: للفعل حالان بغير ثالث؛ لأنّ كلّ معلوم من الأفعال لا يخلو من أن يكون موجودا أو معدوما؛ وبالوجود قد صار ماضيا، والمعدوم هو المنتظر، ولا حال ثالثة.

فلا المتكلّمون يحسنون العبارة عما لحظوه وأرادوه، حتى يزول الخلاف في المعاني التي هي المهمّ - ولا اعتبار بالعبارات - ولا النحويون يفطنون لإفهام ما قصدوه بلفظ غير مشتبه ولا محتمل؛ فكم من معنى كاد يضيع بسوء العبارة عنه، وقصور الإشارة إليه!

واعلم أن المواضعات مختلفة، والعرف يختلف باختلاف أهله بحسب عاداتهم. وقولنا: (فعل) في عرف المتكلمين ليس هو الّذي يعرفه النحويون، لأنّ الفعل في عرف أهل الكلام هو الذات الحادثة بعد أن كانت معدومة بقادر، وهذا الحدّ يقتضي أن يكون كلّ موجود من الذوات غير الله تعالى وحده فعلا؛ فزيد فعل، والسماء كذلك، والحرف أيضا - الّذي فرق النحويون بينه وبين الاسم - فعل أيضا، والفعل أيضا على هذا الحدّ فعل؛ لأنّ الحرف صوت يقطّع على وجه مخصوص، والأصوات كلّها أفعال.

____________________

(*) هذه الزيادات لم ترد إلا في ف، ط من الأصول التي اعتمدت عليها؛ والمثبت هنا نص ف، كما أثبت الفروق والحواشي.

(١) ط: (رب يسر ولا تعسر).

٢٩٣

غير أنّ المحقّق من عرف القوم أنّ النحويين ما فصلوا بين الاسم والفعل والحرف؛ من حيث نفي الاشتراك في الحدوث والفعلية؛ بل فصلوا بينها مع اشتراكها في معنى الفعلية التي يذهب إليها المتكلّمون؛ لما بينها من الفصل في أحكام أخر؛ يختصّ بها بعضها دون بعض؛ فقالوا: الاسم ما دلّ على معنى لا يقترن بزمان، والفعل ما اقتضى معنى مقترنا بزمان غير مخصوص، والحرف ما خلا من هاتين العلامتين؛ فكأنهم قصدوا إلى ما هو فعل حادث على حدّ المتكلمين؛ فصنّفوه ونوّعوه، وسمّوا بعضه اسما، وبعضه فعلا، وبعضه حرفا؛ لاختلاف الأحكام التي عقلوها؛ فلا لوم في ذلك عليهم؛ ولا مناظرة فيه معهم، وبالمناظرة الصحيحة تزول الشّبهات، وتنحسم التّبعات.

والّذي يجب تحصيله، والتعويل عليه أنّ الفعل الحادث في أوّل أحوال وجوده يسمّى فعل الحال؛ فإن تقضّى وعدم صار ماضيا، والفعل المستقبل هو المنتظر المتوقّع الّذي هو الآن معدوم. فإن فرضنا أنّ الفعل الحادث - الّذي فرضنا أنّه متى تقضّى وعدم صار ماضيا - بقي ولم يتقضّ؛ إما على مذهب من يقطع على بقاء الأعراض، أو على مذهب من يتوقّف عن القطع فيها على بقاء أو فناء؛ فالواجب أن يكون استمراره(١) لا يخرجه من استحقاق الوصف بأنه فعل الحال؛ لأنّ من هو عليه لم يتغير الحال التي وجبت له عنه؛ ولا خرج عنها.

ألا ترى أنّا لو فرضنا أنه تقضّى وعدم، وخلفه مثل له لكان ذلك الخالف له يستحقّ الوصف بأنه للحال؛ وكذلك ما قام مقامه؛ وأوجب مثل ما يوجبه، لأنه لا فرق في التّسمية للجلوس بأنه فعل حال؛ بين أن يكون المفتتح بالحدوث من أجزاء الجلوس بقي واستمرّ؛ وبين أن يكون تجدّد أمثاله؛ والأول باق أو معدوم بعد أن تكون الحالة المخصوصة ما تغيّرت ولا تبدّلت؛ ولا فرق أيضا بين أن يكون ذلك الفعل يوجب حالا مخصوصة كالألوان، أو حكما مخصوصا كالاعتمادات وما أشبهها؛ في أن الّذي أتت فيه ولم تخرج عنه هو المنعوت بأنه فعل الحال، وما خرجت عنه فهو الماضي.

____________________

(١) حاشية ط: (قوله: استمراره، أي الحادث).

٢٩٤

فإن قيل: كيف قولكم فيما مضى وتقضّى من الأفعال ووصفتموه بأنه ماض لتقضّيه وعدمه؛ أيجوز أن يكون مستقبلا على وجه من الوجوه، أو لا يكون من الأفعال مستقبلا إلاّ ما لم يدخل في الوجود قطّ؟

قلنا: أمّا ما عدم وتقضّى من الأعراض المقطوع على أنها غير باقية في نفوسها، كالإرادات(١) والأصوات وما أشبه ذلك؛ فلا شبهة في أنّ الماضي منه لا يصحّ أن يكون مستقبلا من فعل قديم أو محدث.

فأما(٢) ما يبقى من أجناس الأعراض عند من قطع على بقائها، أو شكّ في حالها بين جواز البقاء عليها ونفيه فنحن لا نقدر على إعادته؛ والقديم تعالى قادر على إعادته إلى الوجود؛ فهذا الضّرب من فعله تعالى لا يمتنع تسميته بأنه مستقبل، لأنه متوقّع منتظر.

فأما الجواهر المعدومة فلا شبهة في أنّها ماضية من حيث عدمت، ومستقبلة من حيث كان وجودها مستأنفا متوقّعا؛ لأنّ الله تعالى لا بدّ من أن يعيد المكلّفين للثواب أو العقاب، والمكلّف إنما هو مؤلّف من الجواهر.

فإن قيل: هذا يقتضي أن يجتمع في الشيء الواحد أن يكون ماضيا مستقبلا؛ وهذا كالمتناقض.

قلنا: لا تناقض في ذلك؛ لأن الجوهر الماضي يستحق الوصف بأنه ماض إذا عدم، وكذلك العرض الماضي من أفعال الله تعالى إذا عدم؛ وإن جاز من حيث صحّ وجود ذلك مستأنفا أن يوصف بأنه مستقبل، لأن معنى المستقبل هو المعدوم الّذي يصح وجوده، فلا تنافي بين الأمرين.

ولو ثبت بينهما عرف في أنّهما لا يجتمعان - وذلك ليس بثابت - لجاز أن يجعل حدّ المستقبل هو المعدوم الّذي يصحّ وجوده مستقبلا؛ من غير أن يكون الوجود حصل(٣) له في حالة من الأحوال؛ فلا يلزم على ذلك أن يجتمع الوصفان في فعل واحد.

____________________

(١) ط: (كالإدراكات).

(٢) ط: (وأما).

(٣) ط. (مستحصل له).

٢٩٥

وقد كنّا قديما أملينا مسألة في تحقيق الفرق بين الفعل الحال والماضي والمستقبل؛ وهذا التلخيص الّذي ذكرناه هاهنا أشرح وأسبغ منها، وتكلمنا هناك على ما كان أبو عليّ الفارسي اعتمده وعوّل عليه؛ من قوله تعالى:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) [مريم: ٦٤]، وقول الشاعر:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم(١)

ومن طريقة أخرى في اعتبار تأثير الحروف في الأحوال المختلفة، واستوفينا الكلام على هذه الشبهة؛ فلا طائل في إعادة ذلك هاهنا؛ والجمع بين المسألتين يغني عنه، وما التوفيق إلا بالله تعالى.

____________________

(١) البيت لزهير بن ابي سلمى، ديوانه: ٢٩.

٢٩٦

مسألة

قال رضي الله عنه: لا معنى لقوله تعالى:( وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) ؛ [يونس: ٦١] على ما قاله النحويون: إنه للتأكيد؛ لما بيّنا أن التأكيد إذا لم يفد غير ما يفيده المؤكّد لم يصحّ، وقد علمنا بقوله تعالى: مِنْ قُرْآنٍ أنّه من جملة القرآن، فأي معنى لقوله مِنْهُ وتكراره!

قال رضي الله عنه: والصحيح أن معنى مِنْهُ أي من أجل الشّأن والقصة، مِنْ قُرْآنٍ؛ فيحمل على الشأن والقصّة ليفيد معنى آخر.

وقال أيضا في قوله تعالى:( قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ؛ [يونس: ٥٨]؛ قال: لا يجوز أن يحمل قوله:( فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) على ما تقدم من فضل الله ورحمته؛ ولا معنى له على ما يقوله النحويون إنّه للتأكيد؛ كما لا معنى لقول قائل:

زيد وعمرو لهما؛ يريد زيدا وعمرا؛ فالصحيح أن نقول في هذا: إن معناه: قل بفضل الله ومعونة الله ورحمته؛ لأنّ معونة الله وفضل الله ورحمته تؤثر في القول، ويقول: بفضل الله ومعونته يفرح، فيردّ قوله: بِفَضْلِ الله إلى القول، أي قل: بفضله ومعونته هذا القول؛ فإنّ بهذا القول ومعونته ورحمته يفرحون؛ فيكون قوله: فَبِذلِكَ راجعا إلى الفرح بالفضل والرحمة؛ حتى يكون قد أفاد كلّ واحد من اللفظين فائدة.

٢٩٧

مسألة

رسمت الحضرة العالية الوزيرية؛ أدام الله سلطانها، وأعلى أبدا شأنها ومكانها أن أذكر ما عندي في إدخال لفظة (كان) في كونه تعالى عالما في مواضع كثيرة من القرآن.

وقالت حرس الله عزّها: لفظة (كان) إذا كانت للماضي؛ فكيف دخلت على ما هو ثابت في الحال ومستمرّ دائم! وما الوجه في حسن ذلك؟

والجواب المزيل للشّبهة أنّ الكلام قد تدخله الحقيقة والمجاز؛ ويحذف بعضه وإن كان مرادا، ويختصر حتى يفسّر؛ ولو بسط لكان طويلا. وفي هذه الوجوه التي ذكرناها تظهر فصاحته، وتقوى بلاغته؛ وكلّ كلام خلا من مجاز وحذف واختصار واقتصار بعد عن الفصاحة، وخرج عن قانون البلاغة. والأدلّة لا يجوز فيها مجاز، ولا ما يخالف الحقيقة؛ وهي القاضية على الكلام، والتي يجب بناؤه عليها؛ والفروع أبدا تبنى على الأصول.

فإذا ورد عن الله تعالى كلام ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول وجب صرفه عن ظاهره - إن كان له ظاهر - وحمله على ما يوافق الأدلة العقلية ويطابقها؛ ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه، أو ما لا يجوز عليه تعالى.

ولو سلّمنا تبرّعا وتطوّعا أن دخول (كان) على العلم أو القدرة يقتضي ظاهرها الماضي دون المستقبل لحملنا ذلك على أنّ المراد به الأحوال كلّها؛ لأنّ الأدلة العقلية تقضي على ما يطلق من الكلام، ولا يقضي الكلام على الأدلة.

غير أنّا نبيّن أنّ دخول (كان) على العلم أو القدرة لا يقتضي ظاهرها الاختصاص بالماضي دون المستقبل؛ فإنّ لأهل العربية في ذلك مذهبا معروفا مشهورا؛ لأن أحدهم يقول: كنت العالم؛ وما كنت إلا عالما، وعليما خبيرا؛ وما كنت إلا الشجاع، وإلا الجواد؛ ويريدون بذلك كلّه الإخبار عن الأحوال كلّها؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ ولا يفهم من كلامهم سوى

٢٩٨

ذلك؛ وإذا كانت هذه عبارة عما ذكرناه فصيحة بليغة - والقرآن نزل بأفصح اللغات وأبلغها وأبرعها - وجب حمل لفظة (كان) إذا دخلت في كونه تعالى عالما وقادرا على ما ذكرنا.

ومما يستشهد به على ذلك قول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلّب بن أبي صفرة:

مات المغيرة بعد طول تعرّض

للقتل بين أسنّة وصفائح(١)

ألاّ ليالي فوقه بزّاته

يغشي الأسنة فوق نهد قارح!(٢)

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم المطي وكلّ طرف سابح(٣)

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

فقال في ميت قد مضى لسبيله: (فلقد يكون)، وإنما أراد: (فلقد كان)، فعبّر بيكون عن (كان) ؛ كذلك جاز أن يراد بلفظة (كان) الأحوال المستقبلة.

ووجه آخر وهو أنه تعالى لما أراد أن يخبر عن كونه عالما في الأحوال كلّها لم يجز أن يقول:

هو عالم في الحال أو في المستقبل؛ لأن ذلك لا ينبئ عن كونه عالما فيما مضى؛ فعدل عن ذلك إلى إدخال لفظة: (كان) الدالة على الأزمان الماضية كلها، ومن كان عالما فيما لم يزل من الأحوال فلا بدّ من كونه عالما لنفسه وذاته؛ لأن الصفات الواجبة فيما لم يزل لا تكون إلاّ نفسية، والصفات النفسية يجب ثبوتها في الأحوال كلّها: الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ فصار دخول (كان) في العلم أو القدرة مطابقا للغرض، وموجبا لثبوت هذه الصفة في جميع هذه الأحوال، وليس كذلك لو علّق العلم بالحال أو المستقبل؛ وهذا وجه جليل الموقع.

ووجه آجر وهو أنا إذا سلّمنا أن لفظة (كان) تختص الماضي ولا تتعدّاه لم يكن في

____________________

(١) من قصيدة عدتها ٥٧ بيتا؛ وهي في أمالي اليزيدي ١ - ٧، وأمالي القالي ٣: ٨ - ١١؛ وأبيات منها في معجم الأدباء ١١: ١٧٠ - ١٧١، والشعراء ٣٩٧.

(٢) البزات: جمع بزة؛ وهي السلاح؛ والنهد من الخيل: الجسيم المشرف. والقارع: الفرس إذا استتم الخامسة ودخل في السادسة.

(٣) الكوم: جمع كوماء؛ وهي الناقة العظيمة السنام. والطرف: الكريم من الخيل والسابح:

الفرس الّذي يسبح بيديه في سيره.

٢٩٩

إدخالها في العلم إلا أنه تعالى عالم فيما مضى من الأحوال؛ وهو كذلك لا محالة؛ اللهم إلا أن يدّعي أن تعليقها بالماضي يقتضي نفي كونه تعالى عالما في المستقبل؛ وليس الأمر على ذلك؛ لأن هذا قول بدليل الخطاب؛ وهو غير صحيح على ما بيّنا في مواضع من كتبنا؛ لأن تعليق الحكم بصفة أو اسم لا يدل على انتفائه مع انتفاء تلك الصفة أو الاسم، وبيّنا أن قوله عليه السلام: (في سائمة(١) الإبل الزكاة) لا يدل على أن العاملة(٢) والمعلوفة(٣) لا زكاة فيهما.

وقد يقول القائل: كان زيد عندي بالأمس، وإن كان عنده في الحال؛ وضربت من غلماني فلانا، وإن كان قد ضرب سواه، فكأنه تعالى - إذا سلّمنا هذا الأصل الّذي قد بينا أنه غير صحيح - أراد أن يثبت بهذا القول كونه تعالى عالما، فيما لم يزل؛ ووكلنا في أنه عز وجل عالم في جميع الأحوال إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ وإلى إخباره تعالى عن كونه عالما في سائر الأوقات بقوله عز وجل:( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: ١٠١]؛ وما شاكل ذلك من الألفاظ الدالة على الحال والاستقبال

____________________

(١) السائمة من الإبل: الراعية؛ يقال: سامت تسوم سوما، وأسمتها أنا.

(٢) العاملة: التي تعمل في الحرث والدياسة.

(٣) العلوفة والمعلوفة من الإبل: الناقة التي تعلف للسمن ولا ترسل للرعي.

٣٠٠