أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 56280
تحميل: 7047


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56280 / تحميل: 7047
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال محمد بن يحيى الصولي: وصف الناس صفرة اللون في العلل؛ فكلّ حكى ذلك وبلا فضيلة إلاّ البحتري:

قال أعرابي من أبيات:

جعلت وما عاينت عطرا كأنّما

جرى بين جلدي والعظام خلوق

وقال أبو تمام:

لم تشن وجهه المليح ولكن

جعلت ورد وجنتيه بهارا(١)

ولم تشن شيئا ولكنّها

بدّلت التّفّاح بالياسمين

وقال غيره:

وقال بكر بن عيسى:

علة زعفرت مورّد خدّ

كاد من رقة وري يفيض

ولأحمد بن يزيد المهلبي:

وقالوا عرت غراء حمّى شديدة

فوجنتها منها شديد صفارها

فقلت لهم: هيهات هاتيك روضة

مضى وردها عنا، وجاء بهارها

ولأبي العتاهية:

وكأنني مما تطاول بي

منك السّقام طليت بالورس

وقال ابن المعتز:

وصفّرت علته وجهه

فصار كالدّينار من حقّ(٢)

____________________

(١) ديوانه: ٤٤١.

(٢) حاشية الأصل: (كذا في ديوانه، وحق كلمة عراقية) أي حقيقة، أي هذا الّذي أقوله من جملة الحق، وقبله:

وا بأبي من جئته عائدا

فزادني عشقا على عشق

٤١

وقال البحتري:

بدت صفرة في لونه إنّ حمدهم

من الدّرّ ما اصفرّت نواحيه في العقد

وجرّت على الأيدي مجسّة كفّه

كذلك موج البحر ملتهب الوقد

وما الكلب محموما، وإن طال عمره

ولكنّما الحمّى على الأسد الورد

قال سيدنا أدام الله تمكينه: أما تشبيهه صفرة اللون بصفرة الدرّ فهو تشبيه مليح موافق لغرضه؛ إلاّ أنه أخطأ في قوله:

إنّ حمدهم

من الدّر ما اصفرّت نواحيه في العقد

لأن ذلك ليس بمحمود بل مذموم؛ ولو شبّه وترك التعليل لكان أجود.

***

وروى أبو العباس أحمد بن فارس المنبجي قال حدّثنا أبو أحمد عبيد الله بن يحيى بن البحتري قال حدثني أبي قال حدثني جدّي البحتري قال: كنت عند أبي العباس المبرّد، فتذاكرنا شعر عمارة بن عقيل، فقال لي: لقد أحسن عمارة في قوله لخالد بن يزيد لما وجّه إليه بهذين البيتين:

لم أستطع سيرا لمدحة خالد

فجعلت مدحيه إليه رسولا

فليرحلنّ إلى نائل خالد

وليكفينّ رواحلي التّرحيلا

قال البحتري: فقلت له: لمروان بن أبي حفصة في عبد الله بن طاهر - وقد أتاه نائله من الجزيرة ما هو أحسن من هذا - وأنشدته:

لعمري لنعم الغيث غيث أصابنا

ببغداد من أرض الجزيرة وابله

فكنّا كحي صبّح الغيث أهله

ولم ترتحل أظعانه ورواحله

فقال: نعم، هذا أحسن، فقلت له: إن لي في بني السّمط - وقد أتاني برّهم من حمص ما لا يتضع عن الجميع وأنشدته:

٤٢

جزى الله خيرا - والجزاء بكفّه

بني السّمط أخدان السّماحة والمجد

هم وصلوني والمهامة بيننا

كما ارفضّ غيث من تهامة في نجد

فقال: هذا والله أرقّ مما قالا وأحسن.

***

وروى أحمد بن فارس المنبجي عن عبيد الله بن يحيى بن البحتري قال حدثنا أبي عن جماعة من أهل العلم والأدب، منهم يموت بن المزرّع قال: قلت لأبي عثمان الجاحظ: من أنسب العرب؟ فقال: الّذي يقول:

عجلت إلى فضل الخمار فأثّرت

عذباته بمواضع التّقبيل(١)

وهذا للبحتري في القصيدة التي أوّلها:

* صبّ يخاطب مفحمات طلول(٢) *

قال سيدنا: وفي نسيب هذه القصيدة بيت ليس يقصر في ملاحة الكلام ورشاقته، وأخذه بمجامع القلوب عن البيت الّذي فضله به الجاحظ، وهو:

أأخيب عندك والصّبا لي شافع

وأردّ دونك والشّباب رسولي

وفي مديح هذه القصيدة بيت معروف بفرط الحسن، وهو:

لا تطلبنّ له الشّبيه فإنّه

قمر التأمّل مزنة التأميل

***

وبهذا الإسناد عن يحيى بن البحتري قال: انصرفت يوما من مجلس أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد فقال لي البحتري أبي: ما الّذي أفدت يومك هذا من أبي العباس؟ قلت:

أملى عليّ أخبارا حسنة، وأنشدني أبياتا للحسين بن الضحاك، فقال أبي: أنشدني الأبيات، فأنشدته:

كأنّي إذا فارقت شخصك ساعة

لفقدك بين العالمين غريب

____________________

(١) عذاباته: جوانبه وأهدابه.

(٢) ديوانه ٢: ٢٠٥ - ٢٠٧.

٤٣

وقد رمت أسباب السّلوّ فخانني

ضمير عليه من هواك رقيب

أغرّك صفحي عن ذنوب كثيرة

وغضّي على أشياء منك تريب

كأن لم يكن في النّاس قبلي متيّم

ولم يك في الدّنيا سواك حبيب

إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن

لشكواي من عطف الحبيب نصيب

فقال: ما أحسن هذا الكلام! وأنشدني لنفسه:

حبيبي حبيب يكتم النّاس أنّه

لنا حين تلقانا العيون حبيب

يباعدني في الملتقى وفؤاده

وإن هو أبدى لي البعاد قريب

ويعرض عنّي والهوى منه مقبل

إذا خاف عينا أو أشار رقيب

فتنطق منّا أعين حين نلتقي

وتخرس منّا ألسن وقلوب

ثم قال: ارويا بنيّ هذين؛ فإنهما من حسن الشّعر وطريفه.

***

روى أحمد بن فارس المنبجيّ عن أبي نصر محمد بن إسحاق النحوي قال: سمعت بعض أهل الأدب يقول للزجاج: قد كنت تعرف أبا العباس المبرّد وكبره، وأنه لم يكن يقوم لأحد ولا يتطاول له، وينشد إذا أشرف عليه الرجل:

* ثهلان ذو الهضبات لا يتحلحل(١) *

ولقد رأيته يوما وقد دخل عليه رجل متدرع، فقام إليه أبو العباس فاعتنقه وتنحّى عن موضعه وأجلسه، فجعل الرجل يكفه ويستعفيه من ذلك؛ فلما أكثر من ذلك عليه أنشده أبو العباس:

أتنكر أن أقوم وقد بدا لي

لأكرمه وأعظمه هشام

فلا تنكر مبادرتي إليه

فإنّ لمثله خلق القيام(١)

فلما انصرف الرجل سألت عنه فقيل لي هذا البحتري.

____________________

(١) البيتان والخبر في طبقات النحويين واللغويين للزبيدي: ١١٤.

٤٤

مجلس آخر

[٥٣]

تأويل آية :( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى في قصة قابيل وهابيل حاكيا عن هابيل:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ ) ؛ [المائدة: ٢٨، ٢٩].

فقال: كيف يجوز أن يخبر عن هابيل - وقد وصفه بالتقوى والطاعة - بأنه يريد أن يبوء أخوه بالإثم؛ وذلك إرادة القبيح، وإرادة القبيح قبيحة عندكم على كل حال؛ ووجه قبحها كونها إرادة لقبيح، وليس قبحها مما يتغير؟

وكيف يصحّ أن يبوء القاتل بإثمه وإثم غيره؟ وهل هذا إلا ما تأبونه من أخذ البريء بجرم السقيم؟

الجواب، قلنا: جواب أهل الحق عن هذه الآية معروف؛ وهو أن هابيل لم يرد من أخيه قبيحا، ولا أراد أن يقتله، وإنما أراد ما خبر الله تعالى عنه من قوله:( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) ؛ أي إني أريد أن تبوء بجزاء ما أقدمت عليه من القبيح وعقابه، وليس بقبيح أن يريد نزول العقاب المستحق بمستحقّه. ونظير قوله: (إثمي) ؛ مع أن المراد به عقوبة إثمي؛ الّذي هو قتلي قول القائل لمن يعاقب على ذنب جناه: هذا ما كسبت يداك، والمعنى: هذا جزاء ما كسبت يداك، وكذلك قولهم لمن يدعون عليه: لقّاك الله عملك، وستلقى عملك يوم القيامة، معناه ما ذكرناه.

٤٥

فإن قيل: كيف يجوز أن يحسن إرادة عقاب غير مستحق لم يقع سببه؛ لأن القتل على هذا القول لم يكن واقعا؟

قلنا: ذلك جائز بشرط وقوع الأمر الّذي يستحقّ به العقاب؛ فهابيل لمّا رأى من أخيه التصميم على قتله، والعزم على إمضاء القبيح فيه، وغلب على ظنه وقوع ذلك جاز أن يريد عقابه؛ بشرط أن يفعل ما همّ به، وعزم عليه.

فأما قوله:( بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ) فالمعنى فيه واضح لأنه أراد بإثمي عقاب قتلك لي وبإثمك أي عقاب المعصية التي أقدمت عليها من قبل؛ فلم يتقبل قربانك لسببها، لأن الله تعالى أخبر عنهما بأنهما:( قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ) ، وأن العلة في أن قربان أحدهما لم يتقبل أنه غير متق، وليس يمتنع أن يريد بإثمي ما ذكرناه؛ لأن الإثم مصدر، والمصادر قد تضاف إلى الفاعل والمفعول جميعا، وذلك مستعمل مطرد في القرآن والشعر والكلام.

فمثال ما أضيف إلى الفاعل قوله تعالى:( وَلَوْ لا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ) ؛ [الحج: ٤٠] ومن إضافته إلى المفعول قوله تعالى:( لا يَسْأَمُ الآنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ) ؛ [فصلت: ٥١] وقوله تعالى:( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ) ؛ [ص: ٢٤].

ومما جاء في الشعر من إضافته إلى المفعول ومعه الفاعل قول الشاعر:

أمن رسم دار مربع ومصيف

لعينيك من ماء الشّئون وكيف(١)

____________________

(١) البيت للحطيئة، ديوانه: ٣٩؛ وهو مطلع قصيدة يمدح فيها سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص؛ حينما كان واليا على المدينة. الشئون: مجاري الدمع من الرأس إلى العين؛ واحدها شأن، وو كيف:

مصدر وكف، أي سال. وفي حاشية الأصل:) يقول: أأن رسم دارا مربع ومصيف بكيت! والمربع والمصيف واردان مورد المصدر، فلذلك عملا في رسم دار).

٤٦

وفي الكلام: يقول القائل: أعجبني ضرب عمرو خالدا، إذا كان (عمرو) فاعلا، وضرب عمرو خالد إذا كان (عمرو) مفعولا.

وقد ذكر قوم في الآية وجها آخر؛ وهو أن يكون المراد: إني أريد زوال أن تبوء بإثمي وإثمك؛ لأنه لم يرد له إلا الخير والرّشد؛ فحذف (الزوال)، وأقام (أن) وما اتصل بها مقامه؛ كما قال تعالى:( وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ) ؛ [البقرة: ٩٣] أراد (حبّ العجل) فحذف (الحب) وأقام (العجل) مقامه، وكما قال تعالى:( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) ؛ [يوسف: ٨٢]، وهذا قول بعيد، لأنه لا دلالة في الكلام على محذوف، وإنما تستحسن العرب الحذف في بعض المواضع لاقتضاء الكلام المحذوف ودلالته عليه.

وذكر أيضا وجه آخر وهو أن يكون المعنى: إني أريد ألاّ تبوء بإثمي وإثمك، أي أريد ألاّ تقتلني ولا أقتلك، فحذف (لا) واكتفى بما في الكلام(١) ، كما قال تعالى:( يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ؛ [النساء: ١٧٦]، معناه ألاّ تضلوا، وكقوله تعالى:( وَأَلْقى فِي الأرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) ؛ [النحل: ١٥]، معناه ألا تميد بكم، وكقول الخنساء:

فأقسمت آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها(٢)

أرادت: (لا آسى).

وقال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي(٣)

أراد (لا أبرح).

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (بباقي الكلام) :

(٢) ديوانها، ٢٠٢ والرواية هناك:

يد الدّهر آسى على هالك

وأسأل نائحة ما لها

(٣) ديوانه: ٥٨.

٤٧

وقال عمرو بن كلثوم:

نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا(١)

أراد ألاّ(٢) تشتمونا؛ والشواهد في هذا كثيرة جدّا.

وهذا الجواب يضعّفه كثير من أهل العربية؛ لأنهم لا يستحسنون إضمار (لا) في مثل هذا الموضع.

فأما قوله تعالى حاكيا عنه:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ) ؛ فقال قوم من المفسرين: إن القتل على سبيل الانتصار والمدافعة لم يكن مباحا في ذلك الوقت؛ وإن الله تعالى أمره بالصبر عليه، وامتحن بذلك، ليكون هو المتولّي للانتصاف.

وقال آخرون: بل المعنى أنك إن بسطت إلى يدك مبتدئا ظالما لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والابتداء؛ فكأنه نفى عن نفسه القتل القبيح، وهو الواقع على سبيل الظلم.

والظاهر من الكلام بغير ما ذكر من الوجهين أشبه، لأنه تعالى خبّر عنه أنه وإن بسط أخوه إليه يده ليقتله لا يبسط يده ليقتله؛ أي وهو مريد لقتله ومخير(٣) إليه؛ لأن هذه اللام بمعنى (كي)، وهي منبئة عن الإرادة والغرض؛ ولا شبهة في حظر ذلك وقبحه؛ ولأن المدافع إنما تحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص(٤) من غير أن يقصد إلى قتله أو الإضرار به؛ ومتى قصد ذلك كان في حكم المبتدئ بالقتل؛ لأنه(٥) فاعل القبيح، والعقل شاهد بوجوب التخلص من المضرة بأي وجه يمكن منه؛ بعد أن يكون غير قبيح.

____________________

(١) من المعلقة، ص ٢٣٥ - بشرح التبريزي.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (لئلا تشتمونا).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (مختار له).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (طلبا للنجاة)، م: (طلب التخلص).

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في أنه).

٤٨

فإن قيل: فكأنكم تمنعون من حسن امتحان الله تعالى بالصبر على ترك الانتصار والمدافعة وتوجبونهما على كل حال!

قلنا: لا نمنع من ذلك؛ وإنما بيّنا أن الآية غير مقتضية لتحريم المدافعة والانتصاف؛ على ما ذهب إليه قوم؛ لأن قوله:( لَأَقْتُلَنَّكَ ) يقتضي أن يكون البسط لهذا الغرض؛ والمدافعة لا تقتضي ذلك، ولا يحسن من المدافع أن يجري بها إلى ضرر(١) ؛ فلا دلالة في الآية على تحريم المدافعة، ووجب أن يكون ما ذكرناه أولى بشهادة الظاهر.

تأويل خبر [ (لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم.]

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسه النار إلا تحلّة القسم.

الجواب، قيل له: أما أبو عبيد القاسم بن سلاّم فإنه قال: يعني بتحلّة القسم قوله تعالى:

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) ؛ [مريم: ٧١]، فكأنه قال عليه السلام: لا يرد النار إلا بقدر ما يبرّر الله قسمه.

وأما ابن قتيبة فإنه قال في تأويل أبي عبيد: هذا مذهب حسن من الاستخراج؛ إن كان هذا قسما.

قال: وفيه مذهب آخر أشبه بكلام العرب ومعانيهم؛ وهو أن العرب إذا أرادوا تقليل مكث الشيء وتقصير مدّته شبهوه بتحلّة القسم؛ وذلك أن يقول الرجل بعد حلفه: إن شاء الله، فيقولون: ما يقيم فلان عندنا إلا تحلّة القسم، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، وهو كثير مشهور.

قال ابن أحمر(٢) وذكر الريح:

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (إلى الضرر).

(٢) ف: (مزاحم بن أحمر).

٤٩

إذا عصبت رسما فليس بدائم

به وتد إلا تحلّة مقسم(١)

يقول: لا يثبت الوتد إلاّ قليلا كتحلّة القسم، لأن هبوب الريح يقلعه.

وقال آخر(٢) يذكر ثورا:

يخفي التّراب بأظلاف ثمانية

في أربع، مسّهنّ الأرض تحليل(٣)

يقول: هو سريع خفيف؛ فقوائمه لا تثبت في الأرض إلا كتحليل اليمين.

وقال ذو الرّمة:

طوى طيّه فوق الكرى جفن عينه

على رهبات من جنان المحاذر(٤)

قليلا كتحليل الألى ثمّ قلّصت

به شيمة روعاء تقليص طائر(٥)

والألى: جمع ألوة، وهي اليمين.

قال: ومعنى الخبر على هذا التأويل أن النار لا تسمه إلا قليلا كتحليل اليمين ثم ينجّيه الله منها.

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري: الصواب قول أبي عبيد، لحجج ثلاث:

منها أن جماعة من كبار أهل العلم فسّروه على تفسير أبي عبيد.

ومنها أنه ادّعى أن النار تمسّ الّذي وقعت منزلته عند الله جليلة، لكن مسّا قليلا، والقليل لا يقع به الألم العظيم؛ وليس صفة الأبرار في الآخرة صفة من تمسّه النار لا قليلا ولا كثيرا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (أي ضمته وأحاطت به). وفي ف، ش: (عصفت).

(٢) هو عبدة بن الطبيب، من قصيدة له في المفضليات ١٣٥ - ١٤٥ (طبعة المعارف).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (يخفي [بفتح الياء]، أي يظهر ويثير؛ يقال: أخفى إذا ستر، وخفى إذا ظهر). في أربع: أربع قوائم، في كل قائمة ظلفان. تحليل: تحلة القسم؛ كأنه أقسم أن يمس الأرض؛ فهو يتحلل من قسمه بأدنى مس.

(٤) ديوانه: ٢٦٤؛ وفي حاشية الأصل: (يصف صاحب سفر أغفى إغفاءة ثم انتبه سريعا).

(٥) قلصت؛ أي ارتفعت. والشيمة: الطبيعة. روعاء: حديدة.

٥٠

ومنها أنّ أبا عبيد لم يحكم على هذا المصاب بولده بمسّ النار، وإنما حكم عليه بالورود، والورود لا يوجب ألاّ يكون من الأبرار؛ لأن (إلاّ) معناه الاستثناء المنقطع، فكأنه قال: فتمسّه النار لكن تحلّة اليمين، أي لكن ورود النار لا بدّ منه، فجرى مجرى قول العرب: سار الناس إلا الأثقال، وارتحل العسكر إلاّ أهل الخيام، وأنشد الفرّاء:

وسمحة المشي شملال قطعت بها

أرضا يحار بها الهادون ديموما(١)

مهامها وحزونا لا أنيس بها

إلاّ الصّوايح والأصداء والبوما(٢)

وأنشد الفراء أيضا:

ليس عليك عطش ولا جوع

إلاّ الرقاد، والرّقاد ممنوع

فمعنى الحديث: لا يموت للمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار البتة، لكن تحلّة اليمين لا بدّ منها، وتحلّة اليمين الورود، والورود لا يقع فيه مسّ.

وقال أبو بكر: وقد سنح لي فيه قول آخر: وهو أن تكون (إلا) زائدة دخلت للتوكيد، و (تحلّة) اليمين منصوب على الوقت والزمان، ومعنى الخبر: فتمسه النار، وقت تحلّة القسم، و (إلا) زائدة.

قال الفرزدق شاهدا لهذا:

هم القوم إلاّ حيث سلّوا سيوفهم

وضحّوا بلحم من محلّ ومحرم(٣)

معناه: هم القوم حيث سلّوا سيوفهم، و (إلا) مؤكدة.

وقال الأخطل:

يقطّعن إلاّ من فروع يردنها

بمدحة محمود نثاه ونائله(٤)

معناه يقطعون من فروع يردنها، والفروع: الواسعة من الأرض.

____________________

(١) سمحة المشي: سهلة المشي. والشملال: الناقة السريعة. والديموم والديمومة. الفلاة يدوم السير فيها لبعدها.

(٢) لا أنيس بها: لا أحد بها. والضوابح: جمع ضابح، والضباح صوت الثعالب. والأصداء:

جمع صدى، وهو الهامة.

(٣) ديوانه ٢: ٧٦٠.

(٤) ديوانه: ٦٣ ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (ويقطعن). وفي الديوان:

* إليكم من الأغوار حتى يزرنكم*

٥١

قال سيدنا أدام الله تمكينه: والوجوه المذكورة في تأويل الخبر كالمتقاربة(١) ، إلا أن الوجه الّذي اختص به ابن الأنباري فيه أدنى تعسّف وبعد؛ من حيث جعل (إلاّ) زائدة، وذلك كالمستضعف عند جماعة من أهل العربيّة.

وقد تبقّى في الخبر مسألة، التشاغل بالجواب عنها أولى مما تكلّفه القوم، وهي متوجّهة على كل الوجوه التي ذكروها في تأويله.

وهو أن يقال: كيف يجوز أن يخبر عليه السلام بأنّ من مات له ثلاثة من الولد لا تمسّه النار إما جملة، أو مقدار تحلة القسم؛ وهو النهاية في القلة! أو ليس ذلك يوجب أن يكون إغراء بالذنوب لمن هذه حاله! وإذا كان من يموت وله هذا العدد من الأولاد غير خارج عن التكليف، فكيف يصحّ أن يؤمّن من العقاب!

والجواب عن ذلك، أنّا قد علمنا أو لا خروج هذا الخبر مخرج المدحة لمن هذه صفته والتخصيص له والتمييز، ولا مدحة في مجرد موت الأولاد؛ لأن ذلك لا يرجع إلى فعله، فلا بدّ من أن يكون تقدير الكلام: إنّ النار لا تمسّ المسلم الّذي يموت له ثلاثة أولاد؛ إذا حسن صبره واحتسابه وعزاؤه، ورضاه بما جرى به القضاء عليه؛ لأنه بذلك يستحقّ الثواب والمدح؛ وإذا كان إضمار الصبر والاحتساب لا بدّ منه لم يكن في القول إغراء؛ لأن كيفية وقوع الصبر والوجه الّذي إذا وقع عليه تفضّل الله سبحانه بغفران ما لعلّه أن يستحقّه من العقاب في المستقبل وإذا لم يكن معلوما، فلا وجه للاغراء.

وأكثر ما في هذا الكلام أن يكون القول مرغّبا في حسن الصبر، وحاثّا عليه رغبة في الثواب، ورجاء لغفران ما لعلّه أن يستحق في المستقبل من العقاب؛ وهذا واضح لمن تأمله.

____________________

(١) م، (متقاربة).

٥٢

مجلس آخر

[٥٤]

تأويل آية :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ؛ [البقرة: ٧٤].

فقال: ما معنى أَوْ هاهنا؟ أو ظاهرها يفيد الشك الّذي لا يجوز عليه تعالى.

الجواب، قلنا في ذلك وجوه:

أوّلها أن تكون أَوْ هاهنا للإباحة كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ والق الفقهاء أو المحدّثين، ولم يريدوا الشك؛ بل كأنهم قالوا: هذان الرجلان أهل للمجالسة، وهذان القبيلان أهل للّقاء؛ فإن جالست الحسن فأنت مصيب، وإن جالست ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعت بينهما فكذلك.

فيكون معنى الآية على هذا: إن قلوب هؤلاء قاسية متجافية عن الرّشد والخير، فإن شبّهتم قسوتها بالحجارة أصبتم، وإن شبّهتموها بما هو أشدّ أصبتم، وإن شبهتموها بالجميع فكذلك.

وعلى هذا يتأوّل قوله تعالى:( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) ؛ [البقرة: ١٩]، لأن أَوْ لم يرد بها الشكّ بل على نحو الّذي ذكرناه، من أنكم إن شبهتموهم بالذي استوقد نارا فجائز، وإن شبهتموهم بأصحاب الصيّب فجائز، وإن شبهتموهم بالجميع فكذلك.

وثانيها أن تكون أَوْ دخلت للتفصيل والتمييز، ويكون معنى الآية: إن قلوبهم قست، فبعضها ما هو كالحجارة في القسوة، وبعضها ما هو أشد قسوة منها.

٥٣

ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ) ؛ [البقرة: ١٣٥] معناه: وقال بعضهم: كونوا هودا - وهم اليهود - وقال بعضهم: كونوا نصارى وهم النصارى - فدخلت أَوْ للتفصيل.

وكذلك قوله تعالى:( وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ ) [الأعراف: ٤] معناه فجاء بعض أهلها بأسنا بياتا، وجاء بعض أهلها بأسنا في وقت القيلولة.

وقد يحتمل قوله تعالى:( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) هذا الوجه أيضا، ويكون المعنى أن بعضهم يشبه الّذي استوقد نارا، وبعضهم يشبه أصحاب الصيب.

وثالثها أن يكون أَوْ دخلت على سبيل الإبهام فيما يرجع إلى المخاطب، وإن كان الله تعالى عالما بذلك غير شاك فيه، لأنه تعالى لم يقصد في إخبارهم عن ذلك إلا التفصيل؛ بل علم عز وجلّ أن خطابهم بالإجمال أبلغ في مصلحتهم، فأخبر تعالى أنّ قسوة قلوب هؤلاء الذين ذمّهم كالحجارة أو أشد قسوة، والمعنى أنها كانت كأحد هذين لا يخرج عنهما.

ويجري ذلك مجرى قولهم: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، فيبهمون على المخاطب ما يعلمون أنه لا فائدة في تفصيله؛ والمعنى: ما أطعمتك إلا أحد هذين الضّربين.

وكذلك يقول أحدهم: أكلت بسرة أو ثمرة؛ وهو قد علم ما أكل على التفصيل إلا أنه أبهمه على المخاطب، قال لبيد:

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلاّ من ربيعة أو مضر(١)

أراد: هل أنا إلاّ من أحد هذين الجنسين(٢) ، فسبيلي أن أفنى كما فنيا؛ وإنما حسن ذلك لأن قصده الّذي أجرى إليه، وغرضه الّذي نحاه وهو أن يخبر بكونه ممن يموت ويفنى، ولا يخلّ به إجمال ما أجمل من كلامه، فأضرب عن التفصيل؛ لأنه لا فائدة فيه، ولأنه سواء

____________________

(١) ديوانه: ٢: ١.

(٢) ش (الحيين).

٥٤

كان من ربيعة أو مضر فموته واجب. وكذلك الآية، لأن الغرض فيها أن يخبر تعالى عن شدة قسوة قلوبهم، وأنها مما لا تنثني لوعظ، ولا تصغي إلى حق، فسواء كانت في القسوة كالحجارة أو أشد منها، فقد تم ما أجرى إليه من الغرض في وصفها وذمّها، وصار تفصيل تشبيهها بالحجارة وبما هو أشد قسوة منها كتفصيل كونه من ربيعة أو مضر؛ في أنه غير محتاج إليه، ولا يقتضيه الغرض في الكلام.

ورابعها أن تكون أَوْ بمعنى (بل) كقوله تعالى:( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (١) [الصافات: ١٤٧] معناه: بل يزيدون.

وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) ؛ قال: كانوا مائة ألف وبضعا وأربعين ألفا. وأنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحا

وصورتها، أو أنت في العين أملح(٢)

وقد تكون (أم) في الاستفهام أيضا بمعنى (بل)، كقول القائل: أضربت عبد الله أم أنت رجل متعنت؟ معناه: بل أنت رجل متعنت.

وقال الشاعر:

فو الله ما أدري أسلمى تغوّلت،

أم النّوم، أم كلّ إلي حبيب!

معناه: بل كلّ.

وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: وكيف يجوز أن يخاطبنا تعالى بلفظة بل؛ وهي تقتضي الاستدراك والنقض للكلام الماضي والإضراب عنه، وليس ذلك بشيء.

أما الاستدراك فإن أريد به الاستفادة أو التذكر لما لم يكن معلوما فليس بصحيح، لأن

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قال ابن جني: الغرض في قوله تعالى:( أَوْ يَزِيدُونَ ) أنهم بحيث يحزرهم الحازر فيقول: هم مائة ألف أو يزيدون، فحكى على موجب الحزر).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (وصورتها) بالضم. والمعنى: وصورة الشمس في العين أملح؛ بل أنت).

٥٥

أحدنا قد يقول: أعطيته ألفا بل ألفين، وقصدته دفعة بل دفعتين؛ وهو عالم في ابتداء كلامه بما أخبر به في الثاني، ولم يتجدد به علم، وإن أريد به الأخذ في كلام غير الماضي، واستئناف زيادة عليه فهو صحيح؛ ومثله جائز عليه تعالى.

فأما النقض للكلام الماضي فليس بواجب في كل موضع تستعمل فيه لفظة (بل)، لأن القائل إذا قال: أعطيته ألفا بل ألفين لم ينقض الأول؛ وكيف ينقضه؛ والأول داخل في الثاني وإنما زاد عليه! وإنما يكون ناقضا للماضي إذا قال: لقيت رجلا بل حمارا؛ وأعطيته درهما بل ثوبا؛ لأن الأول لم يدخل في الثاني على وجه، وقوله تعالى:( أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) غير ناقض للأول، لأنها لا تزيد في القسوة على الحجارة إلا بعد أن تساويها، وإنما تزيد المساواة.

وخامسها أن تكون أَوْ بمعنى الواو كقوله:( أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) ؛ [النور: ٦١]، معناه: وبيوت آبائكم، قال جرير:

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر(١)

وقال توبة بن الحمير:

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها، أو عليها فجورها(٢)

وقال جرير أيضا:

أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا(٣)

أراد: أو رياحا.

____________________

(١) ديوانه: ٢٧٥؛ والبيت من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز؛ مطلعها:

لجّت أمامة في لومي وما علمت

عرض السماوة روحاتي ولا بكري

(٢) أمالي القالي: ١: ١٣١.

(٣) ديوانه: ٦٦؛ من قصيدته المشهورة التي يذم فيها الراعي؛ ومطلعها:

أقلّي اللوم عاذل والعتابا

وقولي إن أصبت لقد أصابا

٥٦

وقال آخر(١) :

فلو كان البكاء يردّ شيئا(٢)

بكيت على بجير أو عفاق

على المرءين إذ هلكا جميعا

لشأنهما بشجو واشتياق(٣)

أراد على بجير وعفاق.

وقد حكى المفضل بن سلمة هذا الوجه عن قطرب، وطعن عليه بأن قال: ليس شيء يعلم أشدّ قسوة عند المخاطبين من الحجارة، فينسق به عليها(٤) ؛ وإنما يصح ذلك في قولهم:

أطعمتك تمرا أو أحلى منه، لأن أحلى منه معلوم.

واختار المفضل الوجه الّذي يتضمن أن أَوْ بمعنى (بل).

وهذا الّذي طعن به المفضّل ليس بشيء، لأنهم وإن لم يشاهدوا أو يعرفوا ما هو أشدّ قسوة من الحجارة فصورة قسوة الحجارة معلومة لهم، ويصحّ أن يتصوروا ما هو أشد قسوة منها، وما له الزيادة عليها؛ لأن قدرا ما إذا عرف صح(٥) أن يعرف ما هو أزيد منه أو أنقص،

____________________

وهي القصيدة التي تسميها العرب: الفاضحة. والبيت من شواهد الكتاب (١: ٥٢) استشهد به على نصب (ثعلبة)، بإضمار فعل دل عليه ما بعده؛ فكأنه قال: أظلمت ثعلبة، عدلت بهم طهية، ونحوه من التقدير. وأورده أيضا في (١: ٤٨٩) شاهدا على دخول (أم) عديلة للألف. وفي حاشية الأصل: (كأنه قال: أأخملت ثعلبة الفوارس فعدلت بهم طهية والخشاب!).

(١) البيتان في اللسان (عفق)؛ ونقل عن ابن بري أنهما لمتمم بن نويرة، وعفاق: اسم رجل أكلته باهلة في قحط أصابهم.

(٢) حاشية الأصل (من نس خة): (ميتا)

(٣) رواية اللسان:

هما المرءان إذ ذهبا جميعا

لشأنهما بحزن واشتياق

وذكر أن بسطام بن قيس أغار على بني يربوع فقتل عفاقا وقتل بجيرا أخاه بعد قتله عفاقا في العام الأول، وأسر أباهما أبا مليك، ثم أعنقه وشرط عليه ألا يغير عليه؛ قال ابن بري: ويقوي قول من قال إن باهلة أكلته قول الراجز:

إنّ عفاقا أكلته باهله

تمششوا عظامه وكاهله

(٤) حاشية ف: (النسق أن تعطف كلاما على كلام، والنسق الترتيب).

(٥) م: (جاز).

٥٧

لأن الزيادة والنقصان إنما يضافان إلى معلوم معروف، على أن الآية خرجت مخرج المثل، وأراد تعالى بوصف قلوبهم بالزيادة في القسوة على الحجارة أنها قد انتهت إلى حد لا تلين معه للخير على وجه من الوجوه، وإن كانت الحجارة ربما لانت وانتفع بها، فصارت من هذا الوجه كأنها أشدّ قسوة منها تمثيلا وتشبيها.

فقول المفضل: (ليس يعرفون ما هو أقسى من الحجارة) لا معنى له إذا كان القول على طريق المثل.

وبعد؛ فإن الّذي طعن به على هذا الجواب يعترض على الوجه الّذي اختاره، لأنه إذا اختار أنّ أَوْ في الآية بمعنى (بل) فكيف جاز بأن يخبرهم بأنّ قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة، وهم لا يعرفون ما هو أقسى من الحجارة! وإذا جاز أن يقول لهم: بل قلوبهم أقسى مما يعرفون من الحجارة جاز أن يخبر عن مثل ذلك بالواو فيقول: قلوبهم كالحجارة التي يعرفون في القسوة، وهي مع ذلك تزيد عليها.

فإن قال [قائل](١) كيف يكون أَوْ في الآية بمعنى الواو، والواو للجمع، وليس يجوز أن تكون قلوبهم كالحجارة، وأشد من الحجارة في حالة واحدة؛ لأن الشيء إذا كان على صفة لم يجز أن يكون على خلافها!

قلنا: قد أجاب بعضهم عن هذا الاعتراض بأن قال: ليس يمتنع أن تكون قلوبهم كالحجارة في حال، وأشد من الحجارة في حال أخرى؛ فيصحّ المعنى، ولا يتنافى، وهذا قريب، ويكون فائدة هذا الجواب أن قلوب هؤلاء في بعض الأحوال مع القسوة والعدول عن قبول(٢) الحق والفكر فيه؛ ربما لانت بعض اللين؛(٣) وهمّت بالانعطاف، وكادت تصغي إلى الحق فتكون في هذه الحال كالحجارة التي ربما لانت(٣) ، وفي حال أخرى تكون في نهاية البعد عن الخير(٤) والنفور عنه، فتكون في هذا الحال أشدّ قسوة من الحجارة.

____________________

(١) من ف.

(٢) م: (تصور).

(٣ - ٣) ساقط من م

(٤) م: (الحق).

٥٨

على أنه يمكن في الجواب عن هذا الاعتراض وجه آخر؛ وقد تقدم معناه في بعض كلامنا، وهو أن قلوبهم لا تكون أشدّ من الحجارة إلا بعد أن يكون فيها قسوة الحجارة؛ لأن القائل إذا قال: فلان أعلم من فلان فقد أخبر أنه زائد عليه في العلم الّذي اشتركا فيه؛ فلا بدّ من الاشتراك ثم الزيادة، فليس هاهنا تناف على ما ظنّ المعترض، ولا إثبات لصفة ونفيها، فكل هذا واضح(١) بحمد الله.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وإني لأستحسن من الشعر قول الأحوص بن محمد الأنصاري:

ومولى سخيف الرّأي رخو تزيده

أناتي، وعفوي(٢) جهله عنده ذمّا(٣)

دملت، ولولا غيره لأصبته

بشنعاء باق عارها تقر العظما(٤)

طوى حسدا ضغنا عليّ كأنّما

أداوي به في كلّ مجمعة كلما(٥)

ويجهل أحيانا فلا يستخفّني

ولا أجهل العتبى إذا راجع الحلما(٦)

يصدّ وينأى في الرّخاء بودّه

ويدعو ويدعوني إذا خشي الهضما

فيفرج عنه أربة الخصم مشهدي

وأدفع عنه عند عثرته الظّلما

الإربة: الدهاء، والإربة: العقدة، وكلا المعنيين يحتمل لفظ البيت -

وكنت امر أعود(٧) الفعال تهزّني

مآثر مجد تالد لم يكن زعما

____________________

(١) م: (بين).

(٢) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (غفرى).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (أي كلما غفرت جهله زادني ذما).

(٤) دملت: داريت وداجيت؛ ويقال: (ادمل القوم) ؛ أي اطوهم على ما فيهم؛ ومنه قول ابن الطيفان:

ومولى كمولى الزّبرقان دملته

كما اندملت ساق يهاض بها الكسر

وتقر العظم: تصدعه وتكسره. وشنعاء، أي قصيدة في الهجو.

(٥) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أداري). وبه أي بحطئه، والمجمعة: المجمع.

(٦) العتبى: الرضا.

(٧) عود الفعال: جليله وعظيمه.

٥٩

وكنت وشتمي في أرومة مالك

بسبّي له كالكلب إذ ينبح النجما

ولست بلاق سيّدا ساد مالكا

فتنسبه إلاّ أبا لي أو عمّا

ستعلم إن عاديتني فقع قرقر

أما لا أفدت - لا أبالك - أو عدما(١)

لقد أبقت الأيّام منّي وحرسها

لأعدائنا ثكلا وحسّادنا رغما(٢)

وكانت عروق السّوء أزرت(٣) وقصّرت

به أن ينال الحمد فالتمس الذّما

ومن مختار قوله:

إني إذا خفي اللئام(٤) رأيتني

كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان

ما من مصيبة نكبة أمنى بها

إلاّ تشرّفني وتعظم شأني

وتزول حين تزول عن متخمّط(٥)

تخشى بوادره على(٦) الأقران

ومن جيد شعره.

خليلان باحا بالهوى فتشاحنت

أقاربها في وصلها(٧) وأقاربه

ألا إنّ أهوى النّاس قربا ورؤية

وريحا إذا ما اللّيل غارت كواكبه

ضجيع دنا منّي جذلت بقربه

فبات يمنّيني وبتّ أعاتبه

وأخبره في السّرّ بيني وبينه

بأن ليس شيء عند نفسي يقاربه

***

____________________

(١) فقع قرقر، أي يافقع قرقر، والفقع: ضرب من أردأ الكمأة، والقرقر: الأرض الخالية؛ ويشبه به الرجل الذليل؛ يقال: أذل من فقع بقرقر؛ لأن الدواب تنجله بأرضها؛ قال النابغة:

حدّثوني بني الشّقيقة ما يم

نع فقعا بقرقر أن يزولا

(٢) الحرس: الدهر.

(٣) م: (أودت).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الرجال).

(٥) التخمط: الغضب مع الثورة والجلبة.

(٦) البوادر: جمع بادرة وهي ما يبدر من الإنسان عند الشر، وفي ف: (لدى الأقران).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* أقاربها في وصله وأقاربه*

٦٠