أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى0%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

أمالي المرتضى

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشريف أبى القاسم على بن الطاهر أبى أحمد الحسين
تصنيف: الصفحات: 403
المشاهدات: 56268
تحميل: 7046


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 56268 / تحميل: 7046
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء 2

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تأويل خبر [ (كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه) ]

إن سأل سائل عن معنى ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه).

قلنا: أمّا أبو عبيد القاسم بن سلاّم فإنه قال في تأويل هذا الخبر: سألت محمد بن الحسن عن تفسيره فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، ويؤمر المسلمون بالجهاد.

قال أبو عبيد: كأنه يذهب إلى أنه لو كان يولد على الفطرة، ثم مات قبل أن ينصّره أبواه ويهوّداه ما ورّثاه، وكذلك لو ماتا قبله ما ورّثهما، لأنه مسلم وهما كافران؛ وما كان أيضا يجوز أن يسبى، فلما نزلت الفرائض وجرت السّنن بخلاف ذلك علم أنه يولد على دين أبويه.

قال أبو عبيد: وأما عبد الله بن المبارك فإنه قال: هو بمنزلة الحديث الآخر الّذي يتضمّن أنه عليه السلام سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) يذهب إلى أنهم يولدون على ما يصيرون إليه من إسلام أو كفر؛ فمن كان في علمه تعالى أنه يصير مسلما فإنه يولد على الفطرة، ومن كان في علمه أنه يموت كافرا ولد على ذلك.

قال أبو عبيد: ومما يشبه هذا الحديث حديثه الآخر أنه قال: (يقول الله عز وجل: إني خلقت عبيدي جميعا حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وجعلت ما أحللته لهم حراما).

قال أبو عبيدة: يريد بذلك البحائر والسّيّب وغير ذلك مما أحله الله تعالى، فجعلوه حراما.

وأما ابن قتيبة فقال - وقد حكي ما ذكرناه عن أبي عبيد -: لست أرى ما حكاه أبو عبيد عن عبد الله ابن المبارك ومحمد بن الحسن مقنعا لمن أراد أن يعرف معنى الحديث؛ لأنهما لم يزيدا على أن ردّا على ما قال به من أهل القدر.

٨١

وتفسير محمد بن الحسن يدلّ على أن الحديث عنده منسوخ، والنسخ لا يكون في الأخبار، وإنما يكون في الأمر والنهي؛ قال: ولا يجوز أن يراد به - على تأويل ابن المبارك - بعض المولودين دون بعض؛ لأن مخرجه مخرج العموم. قال: ولا أرى معنى الحديث إلاّ ما ذهب إليه حماد بن سلمة؛ فإنه قال فيه: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم؛ يريد حين مسح الله تعالى ظهر آدم؛ فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذرّ، وأشهدهم:( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) ؛ [الأعراف: ١٧٢]، فأراد عليه السلام أنّ كلّ مولود يولد في العالم على ذلك العهد وعلى ذلك الإقرار الأول وهو الفطرة.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وهذا كله تخليط وبعد عن الجواب الصحيح. والصحيح في تأويله أن قوله عليه السلام: (يولد على الفطرة) يحتمل أمرين:

أحدهما أن تكون الفطرة هاهنا الدين، وتكون (على) بمعنى اللام؛ فكأنه قال: كل مولود يولد للدّين ومن أجل الدين؛ لأن الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلّفين إلاّ ليعبده فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالى:( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالآنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) ؛ [الذريات: ٥٦]؛ والدليل على أن (على) تقوم مقام اللام ما حكاه يعقوب بن السّكّيت عن أبي زيد عن العرب أنهم يقولون: صف عليّ كذا وكذا حتى أعرفه؛ بمعنى صف لي؛ ويقولون ما أغيظك عليّ! يريدون ما أغيظك لي! والعرب تقيم بعض حروف الصفات مقام بعض فيقولون: سقط الرجل لوجهه؛ يريدون على وجهه، وقال الطّرماح:

كأنّ مخوّاها على ثفناتها

معرّس خمس وقّعت للجناجن(١)

أراد: على الجناجن(٢)   -

____________________

(١) ديوانه: ١٦٦ وفي حاشية الأصل: (خوّى البعير إذا تجافى في بروكه، ومنه خوّى الرجل في سجوده، وخوت المرأة عند جلوسها على المجمر)، وفيها أيضا: (يعني أن فجوات هذه الناقة عند البروك تسع خمس أينق بوارك).

(٢) الجناجن: عظام الصدر.

٨٢

وقال عنترة:

شربت بماء الدّحرضين فأصبحت

زوراء تنفر عن حياض الدّيلم(١)

معناه: شربت الناقة من ماء الدّحرضين؛ وهما ماءان؛ يقال لأحدهما: وسيع والآخر دحرض، فغلب الأشهر؛ وهو الدّحرض. وإنما ساغ أن يريد بالفطرة - التي هي الخلقة في اللغة - الدّين من حيث كان هو المقصود بها، وقد يجري على الشيء اسم ماله به هذا الضرب من التعلّق والاختصاص؛ وعلى هذا يتأول قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) ؛ [الروم: ٣٠] أراد دين الله الّذي خلق الخلق له.

وقوله تعالى:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ) ؛ [الروم: ٣٠] المراد به أن ما خلق العباد له من العبادة والطاعة ليس مما يتغير ويختلف، حتى يخلق قوما للطاعة، وآخرين للمعصية.

ويجوز أن يريد بذلك الأمر، وإن كان ظاهره الخبر، فكأنه تعالى قال: ولا تبدّلوا ما خلقكم الله له من الدّين والطاعة بأن تعصوا وتخالفوا.

والوجه الآخر في تأويل الفطرة أن يكون المراد بها الخلقة، وتكون لفظة (على) على ظاهرها لم يرد(٢) به غيرها، ويكون المعنى: كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والإيمان به، لأنه عز وجل قد صوّر الخلق وخلقهم على وجه يقتضي النظر فيه معرفته والإيمان به؛ وإن لم ينظروا ولم يعرفوا، فكأنه عليه السلام قال: كل مخلوق ومولود فهو يدلّ بخلقه وصورته على عبادة الله تعالى؛ وإن عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصاريا.

وهذا الوجه يحتم له أيضا قوله تعالى:( فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) .

وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى الفطرة فقوله: (حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصرانه) يحتمل وجهين:

____________________

(١) من المعلقة ص ١٨٦ - بشرح التبريزي. الزوراء: المائلة، والديلم: الأعداء، عن الأصمعي.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (بها).

٨٣

أحدهما أنّ من كان يهوديا أو نصرانيا ممن خلقته لعبادتي وديني؛ فإنما جعله كذلك أبواه، ومن جرى مجراهما ممن أوقع له الشبهة وقلده الضلال عن الدين.

وإنما خص الأبوين لأن الأولاد في الأكثر ينشؤن على مذاهب آبائهم، ويألفون أديانهم وتحلهم؛ ويكون الغرض بالكلام تنزيه الله تعالى عن ضلال العباد وكفرهم، وأنه إنما خلقهم للإيمان فصدهم عنه آباؤهم، أي ومن جرى مجراهم.

والوجه الآخر أن يكون معنى: (يهوّدانه وينصّرانه) أي يلحقانه بأحكامهما، لأنّ أطفال أهل الذمة قد ألحق الشرع أحكامهم بأحكامهم؛ فكأنه عليه السلام قال: لا تتوهموا من حيث لحقت أحكام اليهود والنصارى أطفالهم، أنهم خلقوا لدينهم، بل لم يخلقوا إلا للإيمان والدين الصحيح؛ لكنّ آباءهم هم الذين أدخلوهم في أحكامهم. وعبّر عن إدخالهم في أحكامهم بقولهم: (يهوّدانه وينصّرانه) ؛ وهذا واضح.

فأما جواب أبي عبيد الّذي حكاه عن محمد بن الحسن فإنا إذا تمكنا من حمل الخبر على وجه نسلم معه من النسخ لم نحتج إلى غيره؛ وإنما توهّم النسخ لاعتقاده أن خلقهم على الفطرة يمنع من إلحاقهم بحكم آبائهم؛ وذلك غير ممتنع.

وأما الجواب الّذي حكاه عن ابن المبارك ففاسد، لأن الله تعالى لا يجوز أن يخلق أحدا للكفر؛ وكيف يخلقه للكفر وهو يأمره بالإيمان ويريده منه، ويعاقبه ويذمه على خلافه!

فأما ما روي عنه عليه السلام - وقد سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) - فإنه يحتمل أن يكون عليه السلام سئل عمّن لم يبلغ من أطفال المشركين:

كيف تكون صورته؟ وإلى أي شيء تنتهي عاقبته؟ فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وأراد أن ذلك مستور عنّي؛ ولو كانت المسألة عمّن اخترم طفلا لم يجز أن يكون الجواب ذلك.

٨٤

وأما ابن قتيبة فإنه رد على أبي عبيد من غير وجه يقتضي الرّد واعترض جواب ابن المبارك، باعتبار العموم والخصوص، وترك أن يفسده من الوجه الّذي يفسد به وهو الّذي ذكرناه، وكيف ننبه على فساده من هذه الجهة، وقد اختار في تأويل الخبر ما يجري في الفساد والاختلال مجرى تأويل ابن المبارك.!

فأما النّسخ في الأخبار فجائز إذا تضمنت معنى الأمر والنهي؛ ويكون ما دلّ على جواز النسخ في الأوامر دالا على جواز ذلك فيها؛ وهذا مثل أن يقول: الصلاة واجبة عليكم، ثم يقول بعد زمان: ليست بواجبة، فيستدل بالثاني على نسخ الحكم الأول، كما لو قال عليه السلام:

صلوا، ثم قال: لا تصلوا كان النهي الثاني ناسخا للأول.

فأما الجواب الّذي ذكره ابن قتيبة فقد بينا فساده فيما تقدم(١) من الأمالي عند تأويلنا قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) ؛ [الأعراف: ١٧٢]؛ وأفسدنا قول من اعتقد أنه مسح ظهر آدم، واستخرج منه الذرّية وأشهدها على نفوسها، وأخذ إقرارها بمعرفته بوجوه من الكلام؛ فلا طائل في إعادة ذلك.

____________________

(١) انظر الجزء الأول ص ٢٨ - ٣٠.

٨٥

مجلس آخر

[٥٧]

تأويل آية :( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ؛ [هود: ١٠٦ - ١٠٨].

فقال: ما معنى الاستثناء هاهنا والمراد الدوام والتأييد؟ ثم ما معنى التمثيل بمدّة السموات والأرض التي تفنى وتنقطع؟

الجواب، قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن تكون إِلاّ - وإن كان ظاهرها الاستثناء - فالمراد بها الزيادة؛ فكأنه تعالى قال:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ) من الزيادة لهم على هذا المقدار؛ كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلا الألفين الذين أقرضتكهما وقت كذا وكذا، فالألفان زيادة على الألف بغير شكّ؛ لأن الكثير لا يستثنى من القليل؛ وهذا الجواب يختاره الفرّاء وغيره من المفسرين.

والوجه الثاني أن يكون المعنى: إلاّ ما شاء ربّك من كونهم قبل دخول الجنة والنار في الدنيا؛ وفي البرزخ الّذي هو ما بين الحياة والموت وأحوال المحاسبة والعرض وغير ذلك؛ لأنه تعالى لو قال: خالدين فيها أبدا، ولم يستثن لتوهّم متوهّم أنهم يكونون في الجنة والنار من لدن نزول الآية، أو من بعد انقطاع التكليف، فصار للاستثناء وجه، وفائدة معقولة.

٨٦

والوجه الثالث أن تكون إِلاّ بمعنى الواو؛ والتأويل: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وما شاء ربك من الزيادة. واستشهد على ذلك بقول الشاعر:

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلاّ الفرقدان(١)

معناه: والفرقدان، ويقول الآخر:

وأرى لها دارا بأغدرة السّ

يّدان لم يدرس لها رسم(٢)

إلاّ رمادا هامدا دفعت

عنه الرّياح خوالد سحم

والمراد ب (إلا) هاهنا الواو؛ وإلا كان الكلام متناقضا.

والوجه الرابع أن يكون الاستثناء الأول متصلا بقوله:( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ؛ وتقدير الكلام: لهم في النار زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء بالخلود.

فإن قيل: فهبوا أنّ هذا أمكن في الاستثناء الأول، كيف يمكن في الثاني؟

قلنا: يحمل الثاني على استثناء المكث في المحاسبة والموقف، أو غير ذلك مما تقدّم ذكره.

____________________

(١) البيت من شواهد سيبويه (الكتاب ١: ٣٧١)، ونسبه إلى عمرو بن معديكرب، وأورده شاهدا على نعت (كلّ)، بقوله: (إلا الفرقدان) ؛ على تأويل (غير). وفي حاشية الأصل:

قوله (إلا الفرقدان) قيل (إلا) بمعنى غير، والتقدير: غير الفرقدين، ومثله قوله تعالى:

( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ الله لَفَسَدَتا ) أي غير الله

(٢) أغدرة السيدان: موضع وراء كاظمة؛ بين البصرة والبحرين؛ كذا ذكره ياقوت واستشهد بالبيت. والبيتان من قصيدة مفضلية؛ للمخبل السعدي؛ وقبلهما:

ذكر الرّباب وذكرها سقم

فصبا، وليس لمن صبا حلم

وإذا ألمّ خيالها طرفت

عيني، فماء شئونها سجم

كاللؤلؤ المسجور أغفل في

سلك النّظام فخانه النّظم

وانظر المفضليات ١١٣ - ١١٨ (طبعة المعارف).

٨٧

 والوجه الخامس أن يكون الاستثناء غير مؤثر في النقصان من الخلود؛ وإنما الغرض فيه: أنه لو شاء أن يخرجهم وألاّ يخلدهم لفعل، وأن التخليد إنما يكون بمشيئته وإرادته، كما يقول القائل لغيره: والله لأضربنّك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوي إلا ضربه، ومعنى استثنائه هاهنا: أني لو شئت ألاّ أضربك لفعلت وتمكنت؛ غير أني مجمع على ضربك.

والوجه السادس أن يكون تعليق ذلك بالمشيئة على سبيل التأكيد للخلود، والتبعيد للخروج؛ لأن الله تعالى لا يشاء إلا تخليدهم على ما حكم به، ودلّ عليه؛ ويجري ذلك مجرى قول العرب: والله لأهجرنّك إلا أن يشيب الغراب، ويبيضّ القار؛ ومعنى ذلك أني أهجرك أبدا؛ من حيث علّق بشرط معلوم أنه لا يحصل؛ وكذلك معنى الآيتين؛ والمراد بهما أنهم خالدون أبدا؛ لأن الله تعالى لا يشاء أن يقطع خلودهم.

والوجه السابع أن يكون المراد بالذين شقوا من أدخل النار من أهل الإيمان، الذين ضمّوا إلى إيمانهم وطاعتهم المعاصي؛ فقال تعالى: إنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك؛ من إخراجهم إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم.

ويجوز أيضا أن يريد بأهل الشقاء هاهنا جميع الداخلين إلى جهنم؛ ثم استثنى تعالى بقوله:

( إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ) أهل الطاعات منهم، ومن يستحقّ ثوابا لا بدّ أنه يوصل إليه فقال:

( إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ) من إخراج بعضهم؛ وهم أهل الثواب.

وأما الذين سعدوا فإنما استثنى من خلودهم أيضا لما ذكرناه؛ لأنّ من نقل من النار إلى الجنة وخلّد فيها لا بدّ من الإخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدّم؛ فكأنه تعالى قال: إنهم خالدون في الجنة ما دامت السموات والأرض؛ إلا ما شاء ربك من الوقت الّذي أدخلهم فيه النار، قبل أن ينقلهم إلى الجنة.

والذين شقوا على هذا الجواب هم الذين سعدوا، وإنما أجرى عليهم كل لفظ في الحال التي تليق بهم؛ فهم إذا أدخلوا النار وعوقبوا فيها من أهل الشقاء، وإذا نقلوا إلى الجنة من أهل الجنة والسعادة.

٨٨

وقد ذهب إلى هذا الوجه جماعة من المفسرين كابن عباس وقتادة والضحّاك وغيرهم.

وروى بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضّحاك عن ابن عباس قال: الذين شقوا ليس فيهم كافر؛ وإنما هم قوم من أهل التوحيد، يدخلون النار بذنوبهم، ثم يتفضّل الله تعالى عليهم فيخرجهم من النار إلى الجنة، فيكونون أشقياء في حال، سعداء في حال أخرى.

وأما تعليق الخلود بدوام السموات والأرض؛ فقد قيل فيه: إن ذلك لم يجعل شرطا في الدوام؛ وإنما علّق به على طريق التبعيد وتأكيد الدوام؛ لأن للعرب في مثل هذا عادة معروفة خاطبهم الله تعالى عليها؛ لأنهم يقولون: لا أفعل كذا ما لاح كوكب، وما أضاء الفجر، وما اختلف الليل والنهار، وما بلّ بحر صوفة، وما تغنّت حمامة، ونحو ذلك، ومرادهم التأبيد والدوام.

ويجري كل ما ذكرناه مجرى قولهم: لا أفعل كذا أبدا؛ لأنهم يعتقدون في جميع ما ذكرناه أنه لا يزول ولا يتغير؛ وعباراتهم إنما يخرجونها بحسب اعتقاداتهم، لا بحسب ما عليه الشيء في نفسه؛ ألا ترى أن بعضهم لما اعتقد في الأصنام أن العبادة تحقّ لها سمّاها آلهة بحسب اعتقادهم، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك!

ومما يشهد لمذهبهم الّذي حكيناه قول أبي الجويرية العبدي:

ذهب الجود والجنيد جميعا

فعلى الجود والجنيد السلام(١)

أصبحا ثاويين في قعر مرت(٢)

ما تغنّت على الغصون الحمام

وقال الأعشى:

____________________

(١) معجم الشعراء للمرزباني ٢٥٨، والمختلف والمؤتلف للآمدي ٧٩؛ وذكر بعدها بيتا ثالثا:

لم تزل غاية الكرام فلمّا

متّ مات الندى ومات الكرام

وهو الجنيد بن عبد الرحمن المري، كان والي خراسان.

(٢) المرت: القفر من الأرض؛ وفي المؤتلف: (بطن مرو). وفي ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (قعر مرو).

٨٩

ألست منتهيا عن نحت أثلتنا

ولست ضائرها ما أطّت الإبل!(١)

وقال الآخر:

لا أفتأ الدّهر أبكيهم بأربعة

ما اجترّت النّيب أو حنّت إلى بلد(٢)

وقال زهير منبئا(٣) عن اعتقاده دوام الجبال، وأنها لا تفنى ولا تتغير:

ألا لا أرى على الحوادث باقيا

ولا خالدا إلاّ الجبال الرّواسيا(٤)

فهذا وجه.

وقيل أيضا في ذلك أنه أراد به الشرط، وعنى بالآية دوام السموات والأرض المبدّلتين؛ لأنه تعالى قال:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّماواتُ ) ؛ [إبراهيم: ٤٨]، فأعلمنا تعالى أنهما تبدّلان؛ وقد يجوز أن يديمهما بعد التغيير أبدا بلا انقطاع؛ وإنما المنقطع هو دوام السموات والأرض قبل التبديل والفناء.

ويمكن أيضا أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدّة السموات والأرض التي يعلم الله تعالى انقطاعها ثم يزيدها الله تعالى على ذلك ويخلّدهم، ويؤيد مقامهم وهذا الوجه يليق بالأجوبة التي تتضمن أن الاستثناء أريد به الزيادة على المقدار المتقدم لا النقصان.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وجدت الآمدي قد ظلم البحتري في تفسير بيت له مضاف إليه مع ظلمه له في أشياء كثيرة تأوّلها على خلاف مراد البحتري، وحكى قوله:

____________________

(١) ديوانه: ٤٦. أثلة كل شيء: أصله؛ ويريد بها هاهنا الحسب؛ يقال: فلان ينحت أثلتنا إذا قال في حقه قبيحا؛ كذا ذكره صاحب اللسان واستشهد بالبيت. والأطيط: صوت الإبل من ثقل أحمالها.

(٢) الجرة: ما تخرجه الإبل من أجوافها، وتعيد مضعه. وفي حاشية الأصل: يعني بأربعة أحجبة العين؛ كما قال:

ياعين بكّي عند كلّ صباح

جودي بأربعة على الجرّاح

(٣) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (مبينا).

(٤) ديوانه: ٢٨٨.

٩٠

كالبدر إلاّ أنّها لا تجتلى

والشّمس إلاّ أنها لا تغرب(١)

ثم قال:" وهذا فيه سؤال؛ لأنه لما قال:

* كالبدر إلا أنها لا تجتلى*

فالمعنى أن عيون الناس كلّهم ترى البدر وتجتليه، وهي لا تراها العيون ولا تجتلى".

ثم قال:

*" والشمس إلا أنها لا تغرب*

وإنما قال: (لا تجتلى) لأنها محجوبة؛ فإذا كانت في حجاب فهي في غروب؛ لأن الشمس إذا غربت فإنما تدخل تحت حجاب، فظاهر المعنى: كالبدر إلا أن العيون لا تراها، والشمس إلا أن العيون لا تفقدها". قال:" وهذا القول متناقض كما ترى" قال:" وأظنه أراد أنها وإن كانت في حجاب فإنه لا يقال لها: غربت تغرب كما يقال للشمس؛ وإنما يقال لها إذا سافرت:

بعدت، واغتربت وغرّبت إذا توجهت نحو الغرب، وقد يقال للرجل اغرب عنا(٢) ، أي ابعد، ولو استعار لها اسم الغروب عن الأرض التي تكون فيها إذا ظعنت عنها إلى أرض أخرى كان ذلك حسنا جدا، لا سيما وقد جعلها شمسا، كما قال ابراهيم بن العباس الصولي:

وزالت زوال الشّمس عن مستقرّها

فمن مخبري: في أي أرض غروبها؟(٣)

قال:" وقد يجوز أن يقول قائل: إنه أراد: لا تغرب تحت الأرض كما تغرب الشمس؛ وهذه معاذير ضيقة، لأبي عبادة فإن لم يكن قد أخطأ فقد أساء".

قال سيدنا أدام الله علوّه: وما المخطئ غير الآمدي، ومراد البحتري بقوله أوضح من أن يذهب على متأمّل، لأنه أراد بقوله:

* والشمس إلا أنها لا تغرب*

أي أنها لا تصير بحيث يتعذر رؤيتها ويمتنع، كما يتعذر رؤية الشمس على من غربت

____________________

(١) ديوانه ١: ٦٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (عنى).

(٣) ديوانه: ١٤٠ (ضمن مجموعة الطرائف).

٩١

عن أفق بلده. والمرأة - وإن احتجبت باختيارها - فإن ذلك ليس بغروب كغروب الشمس؛ لأنها إذا شاءت ظهرت وبرزت للعيون، والشمس إذا غربت فرؤيتها غير ممكنة، ولهذا لا يصحّ أن يقال لمن استظل بدار أو جدار عن الشمس: إنها غربت عنه، وإن كان غير راء لها، لأن رؤيتها ممكنة بزوال ذلك المانع، وكذلك القول في احتجاب المرأة؛ فلا تناقض في بيت البحتري على ما ظنه الآمدي.

ولبعضهم في هذا المعنى:

قد قلت للبدر واستعبرت حين بدا

ما فيك يابدر لي من وجهها خلف

تبدي لنا كلما شئنا محاسنها

وأنت تنقص أحيانا وتنكسف

فمعنى قوله: (فأنت تنقص وتنكسف) جار مجرى غروب الشمس، لأنه فضّلها على البدر من حيث كان بروزها لمبصرها موقوفا على اختيارها، والبدر ينكسف ويغيب على وجه لا تمكن رؤيته، كما فضلها البحتري بأنها لا تغرب حتى تصير رؤيتها مستحيلة، والشمس كذلك.

وقد ظلم الآمدي البحتري في قوله:

لا العذل يردعه ولا التّعنيف عن كرم يصدّه

قال الآمدي" وهذا عندي من أهجى ما مدح به خليفة وأقبحه، ومن ذا يعنّف الخليفة على الكرم أو يصده! إن هذا بالهجو أولى منه بالمدح".

قال سيدنا رضي الله عنه: وللبحتري في هذا عذر من وجهين:

أحدهما أن يكون الكلام خرج مخرج التقدير؛ فكأنه قال: لو عنّف وعذل لما صدّه ذلك عن الكرم، وإن كان من حق العذل والتعنيف أن يصدّ أو يحجز عن الشيء،

٩٢

وهذا له نظائر في القرآن، وفي كلام العرب كثير مشهور، وقد مضى فيما أمليناه شيء من ذلك.

والوجه الآخر أن العذل والتعنيف وإن لم يتوّجها إليه في نفسه فهما موجودان في الجملة على الإسراف في البذل والجود بنفائس الأموال، ولم يقل البحتري: إن عذله يردعه، أو تعنيفه يصدّه، وإنما قال: (لا العذل يردعه ولا التعنيف يصده)، فكأنه أخبر أن ما يسمعه من عذل العذال على الكرم وتعنيفهم على الجود وإن كان متوجّها إلى غيره فهو غير صادّ له لقوة عزيمته، وشدّة بصيرته.

***

ومما خطأ الآمدي فيه البحتري وإن كان له فيه عذر صحيح لم يهتد إليه قوله:

ذنب كما سحب الرّداء يذبّ عن

عرف وعرف كالقناع المسبل

قال الآمدي:" وهذا خطأ من الوصف لأنّ ذنب الفرس إذا مسّ الأرض كان عيبا فكيف إذا سحبه! وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض، ولم يمسها كما قال امرؤ القيس:

* يضاف فويق الأرض ليس بأعزل(١) *

قال" وقد عيب امرؤ القيس بقوله:

لها ذنب مثل ذيل العروس

تسدّ به فرجها من دبر"(٢)

قال" وما أرى العيب يلحق امرأ القيس، لأن العروس وإن كانت تسحب أذيالها، وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيبا فليس بمنكر أن يشبّه به الذنب، وإن لم يبلغ إلى

____________________

(١) ديوانه ٤٤، وصدره:

* كميت إذا استدبرته سدّ فرجه*

استدبرته: جئت من ورائه. والضافي: الذنب الطويل الشعر. والأعزل: الّذي يميل ذنبه إلى جانبه، وهو عادة لا خلقة؛ وذلك عيب عندهم

(٢) ديوانه: ١٣.

٩٣

أن يمسّ الأرض، لأن الشيء إنما يشبّه الشيء إذا قاربه، أو دنا من معناه، فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صحّ التشبيه ولاق به.

وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط، وإنما أراد السّبوغ والكثرة والكثافة، ألا ترى أنه قال:

* تسدّ به فرجها من دبر*

وقد يكون الذنب طويلا يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفا، ولا يسد فرج الفرس فلما قال: (تسد به فرجها) علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول، فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة كان في الطول قريبا منه، فالتشبيه صحيح، وليس ذلك بموجب للعيب وإنما العيب في قول البحتري: (ذنب كما سحب الرداء)، فأفصح بأن الفرس يسحب ذنبه.

ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير:

لها ذنب مثل ذيل الهدي

إلى جؤجؤ أيّد الزّافر

والهدي: العروس التي تهدى إلى زوجها. والأيّد: الشديد. والزافر: الصّدر، لأنها تزفر منه". قال" فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدي، وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض"

قال سيدنا أدام الله تمكينه: وللبحتري وجه في العذر يقرب من عذر امرئ القيس في قوله: (مثل ذيل العروس) غير أن الآمدي لم يفطن له؛ وأول ما نقوله: إن الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد، فإن ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه، وكلام القوم مبني على التجوز والتوسع والإشارات الخفية والإيماء على المعاني تارة من بعد، وأخرى من قرب؛ لأنهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق؛ وإنما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم.

٩٤

وإنما أراد البحتري بقوله: (ذنب كما سحب الرداء) المبالغة في وصفه بالطول والسبوغ وأنه قد قارب أن ينسحب، وكاد يمسّ الأرض. ومن شأن العرب أن تجري على الشيء الوصف الّذي قد كان قد يستحقه، وقرب منه القرب الشديد فيقولون: قد قتل فلانا هوى فلانة، ودلّه(١) عقله؛ وأزال تمييزه وأخرج نفسه، وكل ذلك لم يقع وإنما أرادوا المبالغة وإفادة المقاربة والمشارفة؛ ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.

ومن شأنهم أيضا إذا أرادوا المبالغة التامة أن يستعملوا مثل هذا؛ فيشبهون الكفل بالكثيب وبالدّعص وبالتلّ، ويشبهون الخصر بوسط الزنبور، وبمدار(٢) حلقة الخاتم، ويعدّون هذا غاية المدح وأحسن الوصف، ونحن نعلم أنا لو رأينا من خصره مقدار وسط الزنبور، وكفله كالكثيب العظيم لاستبعدناه واستهجنا صورته لنكارتها وقبحها، وإنما أتوا بألفاظ المبالغة صنعة وتأنقا، لا لتحمل على ظواهرها تحديدا وتحقيقا؛ بل ليفهم منها الغاية المحمودة، والنهاية المستحسنة، ويترك ما وراء ذلك، فإنا نفهم من قولهم: خصرها كخصر الزنبور أنه في نهاية الدقة المستحسنة في البشر، ومن قولهم/: كفلها كالكثيب أي أنه في نهاية الوثارة المحمودة المطلوبة، لا أنه كالتل على التحقيق؛ فهكذا لا ننكر أن يريد البحتري بقوله: (كما سحب الرداء) أنه في غاية الطول الممدوح، لا أنه ينجرّ على الأرض الحقيقة، ووكلنا في تخليص معناه وتفصيله إلى العادة الجارية لنظرائه من الشعراء في استعمال مثل اللفظ الّذي استعمله؛ وقد قال بعضهم في ثقل العجيزة:

تمشي فتثقلها روادفها

فكأنها تمشي إلى خلف

وقال المؤمل:

من رأى مثل حبّتي

تشبه البدر إذ بدا

تدخل اليوم ثمّ تد

خل أردافها غدا

وقال ذو الرمة:

ورمل كأوراك العذارى قطعته

وفد جلّلته المظلمات الحنادس

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة ش: ووله)

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (بمقدار).

٩٥

وهذا كلام لو حمل على ظاهره وحقيقته لكان الموصوف به في نهاية القبح؛ لأن من يمشي إلى خلف، ومن يدخل كفله بعده لا يكون مستحسنا.

وقال بكر بن النطاح:

فرعاء تسحب من قيام شعرها(١)

وتغيب فيه وهو جثل أسحم

فكأنّها فيه نهار مشرق(٢)

وكأنّه ليل عليها مظلم

فوصف شعرها بأنه ينسحب مع قيامها، ونحن نعلم أن طول الشعر - وإن كان مستحسنا - فليس إلى هذا الحد؛ وإنما أراد بقوله: (تسحب شعرها) ما أراده البحتري بقوله: (كما سحب الرداء) من المبالغة في الوصف بالطول المحمود دون المذموم.

____________________

(١) م: (فرعها).

(٢) م: (ساطع).

(٢/٩٧)

٩٦

مجلس آخر

[٥٨]

تأويل آية :( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ؛ [مريم: ٣٨].

فقال: ما تأويل هذه الآية؟ فإن كان المراد بها التعجّب من قوة أسماعهم ونفاذ أبصارهم؛ فكيف يطابق ما خبّر به عنهم في مواضع كثيرة من الكتاب بأنهم لا يبصرون ولا يسمعون وأن على أسماعهم وأبصارهم غشاوة؟ وما معنى قوله تعالى:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ؟ أي يوم هو اليوم المشار إليه؟ وما المراد بالضلال المذكور؟.

الجواب، قلنا: أمّا قوله تعالى:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) ؛ فهو على مذهب العرب في التعجّب؛ ويجري مجرى قولهم: ما أسمعه! وما أبصره! والمراد بذلك الإخبار عن قوة علومهم بالله تعالى في تلك الحال؛ وأنهم عارفون به على وجه الاعتراض للشبهة عليه؛ وهذا يدلّ على أنّ أهل الآخرة عارفون بالله تعالى ضرورة؛ ولا تنافي بين هذه الآية وبين الآيات التي أخبر عنهم فيها بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون؛ وبأن على أبصارهم غشاوة؛ لأنّ تلك الآيات تناولت أحوال التكليف، وهي الأحوال التي كان الكفار فيها ضلاّلا عن الدين، جاهلين بالله تعالى وصفاته. وهذه الآية تناولت يوم القيامة؛ وهو المعني بقوله تعالى:( يَوْمَ يَأْتُونَنا ) ؛ وأحوال يوم القيامة لا بدّ فيها من المعرفة الضرورية. وتجري هذه الآية مجرى قوله تعالى:

( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) [ق: ٢٢].

فأما قوله تعالى:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) فيحتمل أن يريد تعالى بقوله: الْيَوْمَ الدّنيا وأحوال التكليف؛ ويكون الضلال المذكور إنما هو الذّهاب عن الدين والعدول عن الحق، فأراد تعالى أنّهم في الدنيا جاهلون، وفي الآخرة عارفون؛ بحيث لا تنفعهم المعرفة. ويحتمل أن يريد تعالى باليوم يوم القيامة؛ ويعنى تعالى

٩٧

(بالضلال) العدول عن طريق الجنة ودار الثواب إلى دار العقاب؛ فكأنه تعالى قال: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا؛ غير أنهم مع معرفتهم هذه وعلمهم يصيرون في هذا اليوم إلى العقاب؛ ويعدل بهم عن طريق الثواب.

وقد روى معنى هذا التأويل عن جماعة من المفسرين فروى عن الحسن في قوله تعالى:

( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ) قال: يقول تعالى: هم يوم القيامة سمعاء بصراء؛ لكن الظالمون اليوم في الدنيا ليسوا سمعاء وبصراء؛ ولكنهم في ضلال عن الدين مبين.

وقال قتادة وابن زيد: ذلك والله يوم القيامة؛ سمعوا حين لم ينفع السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم؟ البصر.

وقال أبو مسلم بن بحر في تأويل هذه الآية كلاما جيدا، قال:" معنى( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) ما أسمعهم! وما أبصرهم! وهذا على طريق المبالغة في الوصف؛ يقول: فهم يوم يأتوننا أي يوم القيامة سمعاء بصراء؛ أي عالمون وهم اليوم في دار الدنيا في ضلال مبين، أي جهل واضح". قال:

" وهذه الآية تدلّ على أنّ قوله:( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ، [البقرة: ١٧١] ليس معناه الآفة في الأذن، والعين والجوارح؛ بل هو أنهم لا يسمعون عن قدرة، ولا يتدبرون ما يسمعون، ولا يعتبرون بما يرون؛ بل هم عن ذلك غافلون؛ فقد نرى أنّ الله تعالى جعل قوله تعالى:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) مقابلا لقوله تعالى:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا ) ، أي ما أسمعهم! وما أبصرهم! فأقام تعالى السمع والبصر مقام الهدى؛ إذ جعله بإزاء الضلال المبين."

وأما أبو على بن عبد الوهاب فإنه اختار في تأويل هذه الآية غير هذا الوجه، ونحن نحكي كلامه على وجهه، قال:" وعنى بقوله:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) أي أسمعهم وبصّرهم وبيّن لهم أنّهم إذا أتوا مع الناس إلى موضع الجزاء سيكونون في ضلال عن الجنة وعن الثواب الّذي يناله المؤمنون والظالمون الذين ذكرهم الله هم هؤلاء الذين توعّدهم الله بالعذاب في ذلك اليوم".

٩٨

ويجوز أيضا أن يكون عنى بقوله:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) ، أي أسمع الناس بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم؛ ليعرفوهم ويعرفوا خبرهم، فيؤمنوا بهم، ويقتدوا بأعمالهم.

وأراد بقوله تعالى( لكِنِ الظَّالِمُونَ ) لكن من كفر بهم من الظالمين اليوم؛ وهو يعني يوم القيامة في ضلال عن الجنة، وعن نيل الثواب، مبين.

وهذا الموضع من جملة المواضع التي استدركت على أبي علي، وينسب فيها إلى الزلل؛ لأن الكلام وإن كان محتملا لما ذكره بعض الاحتمال من بعد، فإن الأولى والأظهر في معنى ما تقدم ذكره من المبالغة في وصفهم وقوله تعالى:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) بعد ما تقدّم لا يليق إلا بالمعنى الّذي ذكرناه؛ لا سيما إذا حمل اليوم على أنّ المراد به يوم القيامة؛ على أن أبا عليّ جعل قوله تعالى:( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) من صلة قوله تعالى:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) وتأوله على أنّ المعني به أعلمهم وبصّرهم بأنهم يوم القيامة في ضلال عن الجنة. والكلام يشهد بأنّ ذلك لا يكون من صلة الأول وأنّ قوله تعالى: لكِنِ استئناف لكلام ثان.

وما يحتاج أبو عليّ إلى هذا؛ بل لو قال على ما اختاره من التأويل أنه أراد أسمعهم وأبصرهم يوم يأتوننا أي ذكّرهم بأهواله، وأعلمهم بما فيه؛ ثم قال مستأنفا.( لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) لم يحتج إلى ما ذكره؛ وكان هذا أشبه بالصواب.

فأما الوجه الثاني الّذي ذكره فباطل، لأن قوله تعالى:( أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ) إذا تعلّق بالأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقي قوله( يَوْمَ يَأْتُونَنا ) بلا عامل(١) ومحال أن يكون ظرف لا عامل له؛ فالأقرب والأولى أن يكون على الوجه الأول مفعولا.

ووجدت بعض من اعترض على أبي عليّ يقول رادا عليه: لو كان الأمر على ما ذهب إليه أبو عليّ لوجب أن يقول تعالى: أسمعهم وأبصرهم بغير باء، وهذا الردّ غير صحيح؛ لأن

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (لا علاقة له بذلك).

٩٩

الباء في مثل هذا الموضع غير منكر زيادتها؛ وذلك موجود كثير في القرآن والشعر؛ قال الله تعالى:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ؛ [العلق: ٩٦]،( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ الله ) ؛ [الإنسان: ٦]،( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ) [مريم: ٢٥]،( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) ؛ [الممتحنة: ١].

وقال الأعشى:

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا

وقال امرؤ القيس:

هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال(١)

وأظنّ أبا عليّ إنما أنّسه بهذا الجواب أنه وجد تاليا للآية لفظ أمر؛ وهو قوله تعالى:

( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) ، فحمل الأول على الثاني؛ والكلام لا تشتبه معانيه من حيث المجاورة؛ بل الواجب أن يوضع كلّ منه حيث يقتضيه معناه.

***

قال: المرتضى وجدت جماعة من أهل الأدب يستبعدون أن يرتج على إنسان في خطبة أو كلام قصد له، فينبعث منه في تلك الحال كلام هو أحسن مقصد إليه؛ وأبلغ ممّا أرتج عليه دونه ويقولون: إنّ النسيان لا يكون إلا عن حيرة وضلالة؛ فكيف يجتمع معهما البراعة الثاقبة، والبلاغة المأثورة؛ مع حاجتهما إلى اجتماع الفكرة وحضور(٢) الذكر! وينسبون جميع ما يحكى من كلام مستحسن، ولفظ مستغرب(٣) عمّن حصر في خطبة أو في منطق إلى أنه موضوع مصنوع.

____________________

(١) ديوانه: ١٩؛ وصدره:

* فلما تنازعنا الحديث وأسمحت*

تنازعنا: تعاطينا. أسمحت: لانت وانقادت.؛ ويريد بالشماريخ هاهنا خصائل الشعر؛ وأصل الشمراخ: الغصن.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (حصول).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (مستعذب).

١٠٠