ديوان السيد حيدر الحلي الجزء ٢

ديوان السيد حيدر الحلي0%

ديوان السيد حيدر الحلي مؤلف:
تصنيف: دواوين
الصفحات: 241

  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21273 / تحميل: 7743
الحجم الحجم الحجم
ديوان السيد حيدر الحلي

ديوان السيد حيدر الحلي الجزء 2

مؤلف:
العربية

زبر آرائه ونصله، ومدَّ غطاء الأمن على الدين، وبسط العدلَ على جميع المسلمين، قد اصطفاه حضرة صدر التأمير الرئاسة، وأرسله على حين فترةٍ من التدبير والسياسة، فجاء بعدما غاضت بحيرة البراعة، وخمدت نيران البأس والشجاعة، جامعاً بين آية النصل، ومعجز المقال الفصل، تتفجّر من بنانه ينابيعُ الكرم، وتفرّق عن بنانه جوامع الحِكم حتى هتف لسان العراق، الآن بزغت شمس العدل باهرة الإشراق، ودرَّ حلبُ البراعة، ونطق بعد الإفحام لسان اليراعة، واستطيب نفحات غوالي الفضل، بعدما منع من شمّها زكام الجهل، وقام وزن الآداب، بعدما كسدت منها البضائع، حين نجم مشتري زهرة الكمال في حضرة فلكية المطالع، كما قلتُ فيها:

حضرةُ مولىً سواه ليس يُرى

في غير هذا الزمان (1) إنسانْ

مذ شبَّ يُكسى العُلى ومرهفه

شابَ به الدهر وهو عريانُ

فأرض أفنيتها الشرفُ، ونديم أنديتها الظرفُ، وخلَّتاها الشجاعة والكرم، وخادماها السيف والقلم، وسفيراها العلاء والمجد، وسميراها الثناء والحمد، والهيبة حاجبُ طرّاقها، والعزّة خفيرُ رواقها.

ويحقُّ لي هاهنا الإنشاء، وإن كان قاصراً لسان الثناء:

رواقكَ ذا لا بل وليجة خادرٍ

بل الليثُ يخطو دونه خطو قاصرِ (2)

هذا ولقد رعدتْ سماءُ ذلك الفكر المدرار، فقرعتْ سمع الأعداء بصاعقتين يخطف منهم برقهما القلوب والأبصار، قد أوشكت أن تطلّع على نفوسهم منهما الآجال، إذ تحمَّس بهما فقال:

فلا والقنا والمرهفات البواتر

فلا ترةً أبقيتَ لي عند واترِ

أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيّعِ

ولست أذيق الخصم حدَّ البواترِ

____________________

1 - ذكرت هذه القصيدة في باب المدائح.

2 - وفي المطبوع: في عين هذا الدهر.

٢٠١

هذا واللّه الشعرُ الذي تقطر منه الحماسة دماً، وتجبن عن إنشاده الثريّا حتى لو كانت للأسد فماً، وحيث فاض على الأسماع صوبُ هذين العارضين، وصقل الخواطرَ والطباع لمعُ هذين البارقين، رجوتُ على قلّة البضاعة، ونزارة الاطلاع على (1) هذه الصناعة، أن أنخرط في سلك مَنْ شكرَ، وأكون في نظم مَنْ خمّس وشطّر، فقلتُ لا متحمّساً، بل على سبيل الحكاية عنه مخمّساً:

أثرتُ الثرى نقعاً بكرِّ الضوامر

إلى أن تركتُ الدهر أعمى النواظرِ

فقل للعدى أمناً شفى الكرُّ خاطري

فلا والقنا والمرهفات البواترِ

فلا ترةً أبقيتَ لي عند واترِ

أبحتُكمُ للعفو أبردَ مشرعِ

غداة غسلتمْ كلَّ جرحٍ بمدمعِ

طمعتُم لعمرُ الله في غير مطمعِ

أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيّعِ

ولست أُذيق الخصمَ حدَّ البواترِ

ثمّ أقمتُ إلى جنب كلّ شطرٍ جليلٍ، خادماً له من نظام جميل، فقلتُ مشطّراً:

فلا والقنا والمرهفات البواترِ

عن الخصم لم أصفح سوى صفح قادرِ

لقد صلتُ حتى قلت حسبي من الوغى

فلا ترةً أبقيتَ لي عند واترِ

فكيف تذوق النومَ عيناي لحظةً

ولست أذيق الخصم حدَّ (1) البواترِ

ثمّ رأيت أن أخمّس التشطير؛ تلذّذاً بمعاودة الفكر إلى ذلك النظام الخطير، فقلت:

سطوتُ فلّما لم أدعْ غيرَ صاغرِ

عفوت إلى أنْ لم أجدْ غير شاكرِ

____________________

1 - في المطبوع: في هذه.

2 - وفيه: طعم.

٢٠٢

رعى اللهُ صفحي عن عظيم الجرائرِ

فلا والقنا والمرهفات البواترِ

عن الخصم لم أصفح سوى صفح قادرِ

حملت له أثقالَ عزمي وقد طغا (1)

على عود هذا الدهر حتى بها رغا

فلا وأبي لم يبقَ لي بعدُ مبتغي

لقد صلتُ حتى قلت حسبي من الوغى

فلا ترةً أبقيتَ لي عند واترِ

ضمنتُ على سيفي بهمة أروعِ

دمَ المجد من خصمي لأكرم مودعِ

فلست له ابناً إنْ يضع عند مودعِ (2)

أيذهب خصمٌ في دمٍ لي مضيَّعِ

وسيف حفاظي فلَّ صرف الدوائرِ

أبي حدُّ سيفي أن أكلّم لفظةً

بغير شباهُ من أجدْ فيه غلظةً

لقد أطعمتْ عيني الحفيظة يقظةً

فكيف تذوق النوم عيناي لحظةً

ولست أذيق الخصمَ حدَّ البواترِ

ثمّ شفعته بهذه المقطوعة، وإن لم تكن لائقة لتلك الحضرة الرفيعة:

أثنت عليك بأسرها الدولُ

وتشوّقتك الأعصر الأولُ (3)

* * *

8 - قال (رحمه اللّه): وقد جرى لي مع أخي النقيب فريد الزمان، حضرة السيّد عبد الرحمن أفندي. وذلك أنّه بعث إلى جناب الحاج مصطفى كبّه زاده أن يرسل إليه (نهج البلاغة)، و(مقصورة السيّد الرضي) التي قالها في رثاء الحسين (عليه السّلام)، فأرسلها إليه، وكانت المقصورة غير تامّة، ثمّ بعد ذلك وجدتُ المقصورة تامّة، فكتبها وأرسلها إليه والتمس منّي أن أكتب معها على لسانه، فقلت:

يا مَنْ تفرّع من ذؤابة معشرٍ

غدت النقابة منهمُ في آلها

____________________

1 - في المطبوع: صغى.

2 - وفيه: عند مدع.

3 - ذكرت في باب المدائح.

٢٠٣

هذي بديلة أختها المقصورة الـ

أولى أتتك تفوقها بكمالها

فلّما وصلت إليه نظم أبياتا يلتمس بها من اللّه نصر المسلمين وسلطانها، وخذلان المشركين وأعوانها، ثمّ أرسلها إليَّ يريد تشطيرها وتخميسها، وكتب معها هذه الفقرات، يقول:

هذا ما سنح به الخاطر الفاتر، ونطق به اللسان الكليل العاثر، وتجاسر على إرساله إليكم (1) مع اعترافي بأنّي لست ناظماً ولا شاعراً، فإن لم يكن جديراً بالإعراض، وكانت أبياته عامرة غير حقيقةٍ بالانتقاض، وكان راجحاً عندكم في ميزان القبول، أيّها السيد الحيدريُّ وابن البتول، أرجوك أن تزيّنها بالتشطير والتخميس؛ لتكون سلوة للمكروب، وسبباً للتنفيس، والسّلام عليكم. والأبيات هذه:

يا إله الخلق يا بارئنا

نحن في ضيق فكنْ عوناً لنا

وانصر الغازينَ وارحم حالهم

وتلطَّفْ بهمُ في ذا العنا

فهمُ المفدون أرواحهمُ

وهم الموفون فرضاً بيّنا

فاجزهم خيراً وضاعفْ أجرهم

أنت فيّاض العطايا والغنى

واخذل الكفّار واخرب دارهم

واهلكنْهم واشفِ فيهم قلبنا

قال السيّد: فنشطتُ لِما ندبني إليه، وأنا المعترف بأنّ له المنّ عليَّ لا ليَ المنُّ عليه؛ لأنّه إنّما دعاني للأخذ بحظي من الانتظام في سلك الداعين، بالنصر لحامي حوزة الإسلام، وبالتأييد لجنود المسلمين المرابطين في سبيل اللّه في جهاد الكافرين، وقلت مشطّراً:

يا إله الخلق يا بارئنا

لكَ نشكو اليوم ما حلَّ بنا

كظّنا حشدُ الملمات فها

نحن في ضيقٍ فكن عوناً لنا

وانصر الغازينَ وارحمْ حالهم

فلقد أبلوا بلاءً حَسنا

____________________

1 - في مخطوطة الملا: عليكم.

٢٠٤

حيث عانوا فيكَ ما عانوا فجدْ

وتلطّف بهمُ في ذا العنا

فهمُ المفدون أرواحهمُ

ليقوا فيها الهدى والسُننا

لك قد دانوا فمَنْ يفضلُهم

وهم الموفون فرضاً بيّنا

فاجزِهم خيراً وضاعف أجرهم

واجعل النصرَ لهم مقترِنا

ومن الفيءِ فوفّرْ حظَّهم

أنتَ فيّاضُ العطايا والغنى

واخذل الكفّار واخرب دارهم

وأبحنا أرضهم والقننا

قد تشفّوا فأدِلنا منهمُ

واهلكنْهم واشفِ فيهم قلبنا

وقال مخمّساً:

نشأتْ نكباءُ يا رازئنا

إنْ تذرْها أهرمتْ ناشئنا

خذ بأيدينا وكنْ كالئنا

يا إله الخلق يا بارئنا

نحن في ضيقٍ فكن عوناً لنا

واخذل الغاوينَ واشغلْ بالهم

وأبحْهم واخترمْ آجالهم

واصطليهم ليروَا أعمالهم

وانصر الغازينَ وارحمْ حالهم

وتلطّفْ بهمُ في ذا العنا

قوَّموا للحرب أشباحهمُ

ثمّ باعوا الكرب أفراحهمُ

فزدِ اللّهمَّ أرباحهمُ

فهم المفدونَ أرواحهمُ

وهم الموفونَ فرضاً بيّنا

عنهمُ ضع يا إلهي إصرَهم

وبنصرٍ منكَ فاشددْ أزرَهم

محصوك اليوم حقّاً صبرَهم

فاجزِهم خيراً وضاعفْ أجرَهم

أنتَ فيّاضُ العطايا والغنى

في حمى الأشراك أوقدْ نارَهم

واقتساراً أولِهم إدبارَهم

ولئلاّ يُخذَلوا كنْ جارَهم

واخذل الكفّار واخرب دارهم

واهلكنْهم واشفِ فيهم قلبنا

٢٠٥

وقال: ثمّ كتبت إليه مع هذا الشعر بهذه الفواصل من النثر، والأبيات التي في أثنائها لي قلتها فيه، ممّنْ وقع فيه طائر القلب، حيث يلتقط الحُبَّ لا الحَبَّ:

إلى فتىً من قبيلةً أبدا

قبيلةٌ في الفخار واحدُها

لم تنمه هاشمٌ لذروتها

إلاّ وغيظاً يموت حاسدُها

روضة علمٍ تروق والفضل والـ

عقل معاً وردُها ورائدها

جلا على (1) الطرس من فرائده

عروسَ فكرٍ زهت فرائدها

خلوقها من شذا حجاهُ ومن

جوهر ألفاظه قلائدها

قد انتظمت بسلك الإيجاز، وانتظم في سلكها الإعجاز، فبرزت تخطر دلالاً، وتسحب أبراد البلاغة اختيالاً، تجرُّ تلك الأذيال على نثر هو السحر الحلال، قد تنزّلت من سماء ذلك الحلال آياته الباهرة، واستغرقت من الصبِّ حواسه الخمس، بما أقامه في مقام الذهول، فجديرٌ أن يتلى عليهم (2) فإذا هم بالساهرة، وحيث أنّ الداعي لمالك رقابَ المناقب والمساعي، وإن كان ليس ببعيد الغور، يرى الأمر الصادر من تلك الحضرة للفور، فبادر إلى الامتثال، راجياً أنّ ينظمه القبول في سلك مَنْ حظيَ بالإقبال، عقد اللّهُ عزَّ ذلك الجناب بناصية الدهر، ولا برحتْ تأرج بعبير ثرى تلك الأعتاب مفارقُ الملوك الغر، ما ضرب الليل رواقه، وحلَّ بيد الصبح عن الغزالة نطاقه، وهذا دعاءٌ للبرية شامل.

فأجابه بهذه الرسالة:

أخذتُ بكفّ الشوق والاحترام، أدام اللّه بقاك مدى الدهر والأعوام، ما تفضلتَ به من نفيس التخميس، المهزم بسطوته البليغة من أرباب الفصاحة

____________________

1 - في المخطوط: عن الطرس.

2 - في الديوان المطبوع: عليه.

٢٠٦

ألف خميس، ورقيق (1) التشطير الآخذ بشطري الحسن، ولم يكن له شبيهٌ ولا نظير، فوجدتهما لعمري قد ارتقيا الطرفَ الأعلى من البلاغة، وارتفعا بعد أن انتصبا بمقام من الإحسان انخفضت دونه أكابر الصناعة ولم يبلغ أحدٌ بلاغه، فما أعذب ألفاظها، وأدقَّ معانيها، وأعمر أبياتها، وأحكم مبانيها، فلو رآها (أبو تمام) لاعترف بانحطاطه من ذيّالك المقام، أو (الشريف الرضي) لارتضاها وأقرَّ طائعاً بحسن السبك والنظام، أو (امرئ القيس) لما امترى أنّها (2) أبلغ من شعره، أو (عمر بن أبي ربيعة) لما شك أنّها (3) أرقُّ من سلوكه في نظمه ونثره، أو (حسان بن ثابت) لاستحسنها وثبت عنده أنّك إمام البلاغة، أو (زهير بن أبي سلمى) لتاه عجباً من رونقها الأزهري، وعلم أنّك مصدر الحكمة في هذه الصياغة (4) .

وأمّا ما رصّعتها به من جواهر نثرك الذي انتظمت دراريه، وعذبت ألفاظه واستحكمت معانيه، فهو وبهيِّ سمتِكَ، ورقَّة طبعك، كما قيل: السحرُ الحلال، والماء العذب، تجلي به الأبصار والبصائر، وترتاح بسماعه القلوب والضمائر، فلو رآه (الصابي) لصبا إليه، وتنسّم من عبير صَباه، وعلم أنّه لو باراه لما أتى بمثله ولا جاراه، أو رئيس الخطباء (قسُّ بن ساعدة) لفارق المواسم، وسلَّم أن ذلك خارجٌ عن طوقه ولو ألف بليغ من قومه ساعده، أو كافي الكفاة (الصاحب بن عباد) لاستصحبه وما فارقه واكتفى به وما زاد.

ثمّ إنّي ورفيع قدرك، وسنّي فصاحتك، وعليّ بلاغتك، قد صرتُ غريق بحار الحيرة، لا ادري بأيّ كيفية أؤدي شكركَ، وبأيّ لسان أصفكَ، فأكافي فضلك، بما تنزّلت به (5) من تخميس أبياتي اللواتي من الحسن عاريات، وتشطيرهنَّ مع أنّهنَّ غير عامرات ولا لائقات، وكلّما أبرمتُ الإعزام، وشددتُ حيازيم الاهتمام،

____________________

1 - في المخطوط: ودقيق.

2 - وفيه أنّهما.

3 - وفيه أنّهما.

4 - في الديوان المطبوع: الصناعة.

5 - وفيه: تنزّلت له.

٢٠٧

ونقلتُ الأقدام؛ لأداء هذا المرام، قصَّر بي ضعفُ قوى الفكر وعيُّ اللسان، وضيق الجنان، وكبا أدهم القلم في هذا الميدان؛ لعلوّ شرفك الذي لا يُبارى، ووفور محاسنك التي لا تُجارى، غير أنّ العدول عن ذلك بالكلّية إخلالٌ بالواجبات؛ لأنّ شكر المحسن من المفروضات، وبناءً على أن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك أقلّه (1) ، أقول: وليس سواءً عالم وجهول؛ لأشكرنَّك شكراً يليق بجنابك، ويفي بإحسانك، ما كرَّ الجديدان، وما تعاقب (2) الملوان، والسّلام عليكم بعد (3) شوقي إليكم.

قال السيّد: فأجبته بهذه الرسالة على أثرها، بكلّ نظمها ونثرها، وقلت: لاطفتْ الصبَّ جميلةُ برِّك، وتلطّفتْ بالمغرم المشوق عقيلةُ نثرك، قد زارت محبّاً رفعها على الأحداق، واجتنى من (4) محاسنها ثمرات الأوراق، ثمّ حلَّ عنها النطاق، ببنان فكرة المتأمّل، ونضا عنها أبرادها الرقاق، إلاّ لبسة المتفضّل؛ فوجدها آخذةً بأطراف النباهة والفكاهة، ووجد نفسه عن منادمة مثلها على طرف من العيِّ والفهاهة، فترك مفاوضتها المدح، وعدل عن مقارضتها الثناء ولا قدح، ورأى الالتحاف بشملة التسليم بالقصور والاعتراف أليق بكليل الذهن واللسان، من مقاومة شواهد الاختبار والامتحان؛ فبادر بأنامل العذر يفضّ لطايم الشكر، ويهدي من نسمات الحمد ما هو أطيب من نسمات الورد:

ليَ العذرُ كلَّ لسان القلمْ

وجفَّ بما هو طرسي رسمْ (5)

إي وعلياك، وما انتظم على جيدها من عقد مزاياك، لا تنشطُ منّي النفس للقيام بأعباء وصفك ولو نهضتْ بقواها الخمس؛ إذ لا يعلق طائرٌ فكرها، بشأو مَنْ ارتفع عن مركز وكرها:

____________________

1 - في الديوان المطبوع: جلّه.

2 - وفيه: وتعاقب.

3 - وفيه: بعدد.

4 - وفيه: في إثم.

5 - ذكرت في باب المدائح.

٢٠٨

يا هماماً بفضله

يشهد السمع والبصرْ (1)

هذا والرجاء إسبال ستر التكرُّم والإغضاء على عيوب هذه الألوكة؛ لئلاّ تكون في أندية الأشراف أُضحوكة، لا زال قمرُ تلك السماء موفياً ما نبت السعدانُ مستلقياً، والسّلام عليكم ما رفَّ فؤادي بأجنحة الشوق إليكم ورحمة اللّه وبركاته.

***

9 - قال وقد أرسلها إلى صبحي بك في استانبول عن لسان الميرزا جعفر القزويني:

بيان براعة الفصاحة، ولسان براعة البلاغة، لا ينبسطان للإحاطة بمزايا مَنْ أوضح لأهل الفخر نهجه وهداهم صراطه:

شمسُ العُلى بدر سماء الجلالْ

إنسانُ عين الفضل روح الكمال

الأعزُّ الذي إذا أسفر وجهه جاءت الشمس تقول: هذا صبحي، والفيصل الذي إذا نطق لسانه أقبل الملكُ يقول لها: هذا سيفي فإليك عنه تنحيِّ:

ويدَّعيه المجدُ ما بينهما (2)

لنفسه فيُعطيان ما ادّعى

وكيف لا يكون كذلك مَنْ تستمد الشمس من نوره، ويعتضد الملك برأيه في مهمّات أموره، ويفتخر المجد بأنّه من بنيه، وبأعزّهم عليه يفدّيه؛ إذ هو منبع الحكم، وينبوع السماحة والكرم، قد شهدتْ معاني بيانه بباهر فضله، ودلَّ بديع تبيانه على كمال ظرفه ونبله، وزهرت كأخلاقه وشيمه أنوارُ ربيع جوده وكرمه، وعطَّر جيبَ الدهر أرجُ مجده، وصقل محيّا الدنيا شعاعُ سعده، وإنّي لمّا آنس كليمُ فكري على البعد نار ذكائه، ونودي قلبي من جانب طور مجده وعليائه، عرفتُ أن الذي

____________________

1 - ذكرت في باب المدائح.

2 - في الديوان المطبوع: ويدعيه الفضل من بينهما.

٢٠٩

صار قلبي كلّه مسمعاً لنداه، هو واحد الفضل الذي لا ربَّ للكمال سواه، وحيث كان في شرع الآداب، وعرف ذوي الألباب أنَّ مَنْ توحَّد بالفضل، واستجمع صفات الكمال جديرٌ وربّ السبع المثاني أن يُمدح بما تقصر عنه السبع الطوال، عملت في مديحه هذه القصيدة الحائية (1) ، ونسجتها له حلّة حليَّة، وأهديتها إليه وأنا على ثقةٍ من قبولها إذا نشرتْ لديه، وإن كنتُ كمهدي القطرة إلى البحر الخضمّ، والذِّرة إلى الطود الأشمّ، فهديتي هذه جهد المقلَّ إلى الجواد المكثر المفضل، على أنّي وإن سمَّتني الفصاحةُ حيدرَ خيسها، ودعتني البلاغة ليثَ عريسها، وكان أبي سليمان عصره، يأتيه بعرش بلقيس المعاني آصفُ فكره، فيراه مستقراً لديه، ارتداد طرفه إليه، فأراني لو استخرجتُ الدراري من نهر المجرّة، ونظمت بكفِّ الثريّا أنجم النثرة، عقوداً أحلّي بها نحور علياه، وأوشّحُ بها حسانَ مزاياه لما زدتها بذلك حسناً، ولا أفدتُ معاني جمالها جميل معنى، بل أكون كمَنْ يقول: لماء السماء ما أطهرك، ولنور الرياض ما أزهرك، ولغضِّ النسيم ما أطيب نفسك، وللعقد النظيم ما أنفسك:

ولم يستفدْ بالمدح مَنْ ليس عنده

وهل ينفع التحجيل مَنْ هو أشهبُ؟

هذا ورجاءُ الداعي من نفحات كرمك، أيّها المالك رقاب المناقب، والمساعي بمعالي هممك، إيصال هذه الرائية الغرّاء (2) ، الناطقة بأبلغ الثناء إلى حضرة صدر الوزراة الأعظم، والسيف الذي انتضتْ منه يدُ الإمارة على أعدائها أقطع مخذم، منّاً منك لا عليك، وعائدة تكرُّم لك لا إليك، وهي وإن كانت حقيرة في جنب معاليه الخطيرة، فأراها على حقارة صناعتها، ونزارة بضاعتها، إنْ شمَلتها ألطافُك بنسيم العناية، ولحظتْها كفايتُك

____________________

1 - راجع ص 20 من هذا الجزء.

2 - راجع ص 37 من هذا الجزء.

٢١٠

بعين وضعَتها موضعها، ووقعتْ منه موقعها، وهذه الحائية الغرّاء، والغانية العذراء، قد حدرَت لمدحك نقابها، فائقةً بحسنها أترابها، فأعرْها سمعَ مسامحٍ وهوب، وأسبلْ (1) على قائلها من كثرة العيوب:

لتُلق ملوكُ الأرض طوعاً يدَ الصلح

حذارَ حسامٍ صاغه اللّهُ للفتحِ (2)

* * *

10 - قال (رحمه اللّه): وقد كتب بها إلى السيد سلمان النقيب عن لسان بعض الأشراف يقول:

يا خليقاً (3) بأشرف الأخلاق

دمْ برغم الحسود عالي الرواقِ

وأنرْ في سماء مجدك بدرا

زاهرَ الضوء باهر الإشراقِ

إنْ تكن فيك قرّت الشام عينا

فالقذا جائلٌ بعين العراقِ

وإليك الزوراء تشتاق شوقَ الـ

زهر ذاوٍ إلى الحيا المهراقِ

كم نفوسٍ تطلَّعت لك فيها

فترقَّتْ من شوقها للتراقي

بل أنت لها الروح المدبَّرة، والرئيس المطلق الذي جميع أعضائها إليك مفتقرة، قد سكنتْ إليك في هذا الزمن سكون الطرف الساهر إلى الوسن، ما فتحتْ جفون أعصارها على مثلك، ولا التحفت بمثل ما التحفت به من أبراد فضلك، ولعمر الزوراء، لقد طاب لها بظلّك الاستذراء، تقتبس الذكاء من أشعة معارفك، وتلتمس اغتراف الكرم لا الماء من لجّة عوارفك، وتثني عليك بين أمجادها ألسنة الإنشاء بإنشادها:

الفخرُ شاد بكم قبابهُ

والشعر زان بكم كعابَهُ (4)

إي وذلك الكنه، وما انتشر بين البريّة عنه، من باهرِ فضلٍ تقصر عنه

____________________

1 - في الديوان المطبوع: وأسدل.

2 - ذكرت في باب المدائح / 20.

3 - وفي المخطوطة: يا كريماً.

4 - ذكرت في باب المدائح.

٢١١

الإشارة، ويضيق عن الإحاطة بنعته نطاق العبارة، ليس لناعتٍ وراء التنزيل منتهى، ولو حطّت آراؤه السها في مدح مَنْ ضرب بعرقٍ نبويّ، في طينة الشرف القدسيّ، قد نسج الوحيُ ببنان التعظيم رداء فخره، ونوَّه لسان الذكر الحكيم بجلالة قدره، ومثُل في مجهل الزمان علم في أعلى يفاع الشرف الأقدم، إنْ ضلَّت باجتماعها الآراء فعلى انفراد به يُقتدى، وإن حارت عن قصدها الألباب فعلى نور فهمه الوقاد يجد الحيران هدىً، ويحقُّ لهذا العصر أن يفتخر فيه، وإنّه لجدير بالفخر في إنسانه الذي ما التقت مجامع الإنشاد على ذي براعة، أغزر ذهنا منه وأنطق لسان يراعة:

يا مجيداً إن قال: قالَ مجيدا

وفريداً إن يُنشِ أنشا فريدا

أين من مجدكَ المؤثل نظمي

ولئن كنتُ قد شأوتُ (لبيدا)

كيف للشعر بالصعود لسامِ

حيث لا النيِّراتُ تلقي صعودا

فضلَّ الخلق سيداً ومسودا

وحوى الفخرَ طارفاً وتليدا

وبدا الفخرُ بين برديه شخصا

من طراز الثناء يكسي برودا

فلواه العلياء رفَّ عليه

وله خاضعاً أتى الدهر جيدا

هذا وأكفُّ الابتهال لا تزال مرفوعةً إلى حضرة ذي الجلال، أن يعيدك لتشريف هذه الرباع والمحاشد، بعد أن يكمل لك التشريف بتلك البقاع والمشاهد، (فيقرّ الداعي عيناً بمرآك، وينتظم في سلك منْ أثنى عليك وهنّاك) (1) ، دعاء إخلاصٍ إذا رفعته، قال الحفيظان معي آميناً:

من طينة المجد الصراح التي

قد شهدَ الوحيُ بتطهيرها

من شعلة النار التي قد غدا

يقبسُ موسى العلم من نورها

فاتركْ أحاديث كرامٍ مضت

ولا تقل جئتُ بمأثورها

فاليوم قد أغناك في فضله

عيانُ هذا عن أساطيرها

٢١٢

هذا الذي تقديمه في العُلى

مع سبقها قاضٍ بتأخيرها

لو مكةُ اسطاعت إذاً أقبلتْ

شوقاً إليه بحذافيرها

واستلمت منه يداً شرّفتْ

باللثم أفواهَ جماهيرها

* * *

11 - وقال (رحمه اللّه)، مقرِّظاً على (الروض الخميل) في ذكر آل جميل:

هذا الروض الخميل، المتضوِّعُ في نشر ذكر آل جميل، تزهو به كلُّ زهرة، ما رُئي مثلها على صفحتي نهر المجرّة، وتتمنّى رعىَ نرجسه الغزالة ويودُّ المشتري أن يبتاع حلّة وشيه بالنثرة، وأنّى له:

روضٌ بدا بين الأنام أثرا

لسحب جودٍ بالنهى تدبجه

فزهرهُ نعوت أخلاقهم

ووصفُ طيب الأصل منه أرجه

كأنّما نُثرتْ فيه، أو نظمتْ في سلك قوافيه، كلُّ حبّة قلب، فهو إلى كلّ قلبٍ محبَّب، فما (دمية القصر) بين الأتراب، تنشد الأغاني في منازل الأحباب، وتعاطي نداماها السلافة ممزوجة بالغيث الذي انسجم، مشفوعة لهم بمستطرف النعم، ولا (يتيمة الدهر) مجلوّةً في المعاهد، حاليةً بدرر القلائد، وغرر الفرائد (1) ، بأزهى من أوانس فقره، وأبهى من عرائس أشطره، ولعمري، ليجب على كلّ مَنْ هو مسلمٌ إذا نظر فيه يكون مع صريع غوانيه، فيثني مطرباً، وينشد متعجباً:

هذا كتابٌ أم حديقة روضةٍ

تتنزّه الأحداق في أورادها (2)

* * *

13 - وقال (رحمه اللّه)، وقد كتب بها إلى إبراهيم بك عن لسان بعض الأجلاّء:

____________________

1 - سقطت هذه الجملة من المطبوعتين.

2 - في المطبوع: بدرر الفوائد، وغرر القلائد.

3 - ذكرت في باب التقاريظ.

٢١٣

سلامٌ أشفى من رقية (1) الوصل، وأضفى من ريقة النحل، وأحلى من سلافة العنقود، وأبهى من نظام العقود، من محبٍّ يطبق الأرضَ ثناءً، ويملأ السماء دعاءً، إلى مَنْ هو أرقُّ من النسيم شيماً، وأغزر من البحر كرماً، سلالة طينة الشرف التي خدمتها الكفاة، ودوحة الكرم التي اجتنت ثمرتها العفاة، ذو المناقب (2) المسطورة على صفحات الدهر، والسجايا الفائقة على طرائف الزهر، ومَنْ لم يفتح ناظر الزمان على أبلغ منه مقالة، وأتم جلالةً وجزالة، وأندى بناناً وأوفر إحساناً، وأكرم سجيةً وطبيعة، وأجلب للشكر صنيعة، فكأنّه لا يزال ناظراً إلى قول مَنْ قال:

الحمد أكرمُ ما حوته حقيبةٌ

والشكر أكرمُ ما حوته يدانِ

وإذا الكريم بكى وولى عمرهُ

كفلَ الثناء له بعمر ثانِ

أعني به الماجد الذي تبلَّج به عمر الدهر، عن فلق البشر، الأشيم إبراهيم بك المحترم. لا زال في نعمة من اللّه ضافية اللباس، نامية الأغراس، رافلاً من الألطاف المستفادة في أبهى حلل الفوز والسعادة، وسجال السلامة مفاض عليه، وظلال الكرامة ممدود عليه.

* * *

13 - وقال (رحمه اللّه): وقد كتب بها إلى العلاّمة الشيخ حسن بن المرحوم الشيخ أسد اللّه يقول:

سلامٌ أبهى من وشيِ صنعاء، وأزهى من روض ميثاء، وثناءٌ تتفتح أكمام الرياض عن مثل زهره، ولم تتحدّث أنفاس الصَبا عن مثل نشره، ودعاءٌ ترمقه أكفُّ الابتهال إلى حضرة ذي الجلال، محفوفاً بالإخلاص والإنابة، مقروناً من اللطيف بسرعة الإجابة.

____________________

1 - في المخطوط: من رقيقة.

2 - في المطبوع: ذي المناقب.

٢١٤

دعاءُ إخلاصٍ إذا رفعتُه

قال الحفيظان معي آمينا

من محبٍّ محضَ الولاء، وعقد المودّة بأوثق عرى الإخلاص والصفاء، ومشوقٍ لو لم يتداوَ من حرارة البعد بنسيم الذكرى، لقضى لاعج وجده على كبده الحرّى، إلى الحضرة التي عُقدتْ بكفّ الثريّا أطنابها، وسمَت على الشعرى العبور أعتابها؛ إذ هي حضرة قطب العلياء المدار عليه فلكَ الحمد والثناء، ربّيتْ مناقبه في حجور المآثر، ورضعت درَّ المكارم والمفاخر، علامة الزمن الذي هو من العلم بمنزلة الروح من البدن، قد أسعد اللّه به جدود الأفاضل، وورَّد بنور مزاياه خدود الفضائل، وعمرَ أفنية الشريعة، ورفع قواعد (1) الملّة المنيعة، فله الرأي البصير بالعواقب، والمجد المنيف على النجم الثاقب، والهمّة التي اختلقت (2) على قمّة الجوزاء مرفوعة، والنفس التي اختلقت (3) على اكتساب العلوم مطبوعة، قد أحرزت شرفاً بسقتْ على النجوم شرفاته، وفضلاً تعرّفت لأهل الفضل عرفاته:

ملآن من شرف السجية نفسه

يحوي الفضائلَ من جميع جهاتها

ذاك قمرُ المجد الذي بهر الناظرين لألاؤه، وطفح بالفضل مكياله وإناؤه، علمُ الإسلام، وحجّة اللّه في الأنام، حضرة الأكرم، شيخنا الشيخ حسن المحترم، لا زال مؤيّداً من اللّه بعنايته، ومكلوّاً بعين رعايته، ولا برح سمكُ مجده ثامن الأفلاك ارتفاعاً، وقمر فخره ثالث القمرين شعاعاً، ولا انفكت شمس شرفه تملأ الدهر بإشراقها، ما دامت أطواق الحمام بأعناقها.

أمّا بعد: فإنَّ الداعي لمجدكم بالتخليد، ولعزّكم بالبقاء والتأييد، لا يزال على بعد شقّة المزار، ما اختلف الليل والنهار، حليفَ غرام، وأليف هيام، ونديم اشتياق، إلى تلك الحضرة (4) السامية الرواق، التي تودُّ

____________________

1 - في المطبوع: أعمدة.

2 - وفيه: التي هي على.

3 - وفيه: التي خلقت.

4 - في المخطوط: تلك الساحة.

٢١٥

الكواكب تقبيل أعتابها، ولثم ترابها، أحمد اللّه الذي أهَّلني لولائها، وجعلني في نظم أودَّائها وأحبائها. ولعمري، لو كنت أملك أمري لما استنبتُ إهداء التحية في كتاب عن الحضور للتشريف (1) بذلك الجناب، فأحظى بلثم أنامل ريحانتيك، وأسعد بمطالعة صحيفة غرَّتيْ قمريك، اللذين هما للفضل فرقدان، ولهما في المجد المحلَّ السامي على كيوان، ولديك المرشح كلُّ منهما لرئاسة الدين، حضرة الأمجدين الشيخ باقر والشيخ أمين، جعلكم اللّه أبداً للمخوف عصمة، وللملهوف غياثاً ورحمة.

* * *

14 - وقال (رحمه اللّه)، وقد كتب بها إلى بعض الأكابر والأمراء:

إنّ أزهي من روضةٍ ضحكَ الزهر فيها (2) لبكاء الغمام، ونظم فيها لؤلؤَ الطلّ نسيمُ الصَبا عقوداً رائقة النظام، فحلّي بها عواطلَ أجياد الإقاح، وفرثَ في أرجائها عيابَ الطيب نوافحُ الرياح، وأبهى ما اقتطفته أكفُّ الإفهام، من أزاهير بدايع النثر والنظام، سلامٌ رسمه قلم الاشتياق، وحملته رواحل الأشواق، من محبٍّ لم يشبْ بالقطيعة صفوَ الوداد، ومحبّته لا تزيد ولا تنقص في القرب والبعاد، إلى مَنْ رضع ثديَ المعالي طفلاً، وساد الأنام يافعاً وكهلاً، وما الدهر عنده إلاّ يومان، يوم ندىً ويوم رهان، فيحكّم السؤال في أمواله، ويحكم الأسياف في الأرواح قبل سؤاله، ومَنْ كفل له النصر بخذلان أعدائه، وأشار المجد إليه ببنانه، وأثنى عليه بلسانه:

كريمٌ وقي ماله عرضَه

فلست ترى فيه شيئاً يعابُ

سوى أنّ ما جمعت كفُّه

لوفاده مغنمٌ أو نهابُ

كأنّ عليه صلات الوفود

واجبة نصَّ فيها الكتابُ

____________________

1 - في المطبوع: للتشرف.

2 - وفيه: ضحك فيه الزهر.

٢١٦

أفيه يقاس السحاب ومنه

تعلَّم كيف يجود السحابُ

وعند عطاياه أو حلمه

يقل الحصى أو تخفُّ الهضابُ

له صولةٌ تملأ الدهر رعبا

وبأسٌ شديدٌ وعزمٌ مهابُ

الأعزُّ الأمجد، إنسانُ عين الزمان (محمد) لا زال ظلُّ عدله ومعاليه، لا يزيله الدهر باختلاف أيامه ولياليه.

أمّا بعد: فيا مَنْ تردّى بالفخر والكمال، واستمدتْ بحار الأرض من جوده النوال، قد وردت إلينا رسالةٌ منكم دلَّت على زيادة المودّة والاختصاص، تسألنا فيها أن لا تنقطع منّا ومنكم (1) الأنباء، في تحرير كتبٍ تتضمّن الإفصاح عن أحوالنا وسلامتنا من طوارق الأسواء، فنحن بحمد اللّه من نعمه في أوفر نصيب، ومن الصحة نتردّى في كلّ يوم برداء قشيب، غير أنّ قلوبنا من نار بعادكم في احتراق، وحسراتنا تكاد تزيل رضوى لشدّة الاشتياق، فعسى اللّه أن يقضي لنا بالتلاق، بعد طول هذا الفراق، فيصبح منّا روض الأنس مونقاً غضّاً، يملأ قلوبنا سروراً بلقاء بعضنا بعضاً، إنّه على كلّ شيٍء قدير، وبالإجابة جدير.

* * *

15 - وقال (رحمه اللّه)، وقد كتب بها إلى بعض الأشراف:

ما روضةٌ نسجت من وشيِ الزهر برودها، ونظمتْ من نثار الطلّ عقودَها، وفلّت أنامل القطر وفرة ريحانها، وسرّحت ماشطة النسيم أصداغ آسها بين غدرانها، وتحدّثت ذات طوقها تملأ صبابة شوقها، فترنحت قامات بأناتها مرحاً، وتثنَّت معاطف أغصانها فرحاً، ولا طفلة غضّة الشبيبة، تخطر في بردة محاسنها القشيبة، كأنّما صافية ريقتها، من فرط عذوبتها، ممزوجة بسلافة الصهباء، أو بجنّي نحلةٍ بيضاء، بأحلى من سلامٍ أخذ الرقّة

____________________

1 - في الديوان المطبوع: منّا عنكم الأبناء ولعلّه الأصح.

٢١٧

من طبع مَنْ يُهدى إليه، والعبقة من أخلاق مَنْ يُنشر لديه، قد جانس نثره مآثره لا أنجم النثرة، وحكى ثاقبُ نظمه شعري مفاخرَه لا شعري المجرّة، من حليف صبوة، وعديم سلوة، ونديم ذكر، وأليف فكر، قد اتّقدتْ في وسط حشاشته نار شوقه وصبابته، حتى كادت تُنضج نخاعه، وتأكل شعلتها أضلاعه، فهو يبكي بشررها الساطع، لا بجمر المدامع، فما أحقَّه بمقالة منْ وصف حاله:

ظنَّ العذول أدمعي تناثرت

حمراً لعمري غرّة ما يُبصرُه

وإنّما يقدح زند الشوق في

قلبي ومن عيني يطيرُ شررُه

فما ابن ورقاء ذكر إلفه بالعشيّ، فتنبّه الغرام على قلبه الشجيّ، وحرّكت الذكرى ساكنَ شوقه، فتنفّس حتى كاد ينفصم منعقد طوقه، وبات يحيى ليله هديلاً، ويميت نهاره صبابة وغليلاً:

ولا أمُّ خشفٍ ظلَّ عنها فغودرت

بشرقيِّ نجدٍ وهو بالغور راتعُ

تبيت بأعلى الرمل تنصب سمعها

لتبلغها منه (1) البغامَ المسامعُ

وتضحى بعيداً تطرح اللحظ بالفلا

وتكتمه عن ناظريها الأجارعُ

بأشوقَ نفساً من حليف صبابةٍ

بأحشائه للشوق تهفو نوازعُ

إلى مَنْ تفرّع من دوحة النبوّة، وسمتْ به أعراق الإمامة والفتوّة، وتضوّع بعطفه أرجُ السيادة، ولاح بطلعته عنوان اليمُن والسعادة، ووري بإقباله زندُ النجابة، وعُرِفتْ من مواقع رأيه مواضع الإصابة، وانتهت محاسن الفضل إليه، فدعاه لسان الإنشاء وأثنى عليه:

يا ابن الأُلى غرُّ ملوك الورى

تشرَّفتْ في لثم أعتابها

محاسنُ الفصل إليه انتهت

وأنتَ من غيركَ أولى بها

ذلك نسيج وحده، وعديمٌ نظيره وندُّه، مَنْ ضربت عليه العلياء رواقها،

____________________

1 - في المخطوط: منها.

٢١٨

وعقدتْ لخدمة سعده الجوزاء نطاقها، فهو غرَّة جبين الدهر، وثمينة قلادة نحر الفخر، سلالة الفخر وسلسالة الكرم، فلان المحترم، نشر اللّه لواء جدّه، وطوى حواسد مجده، وأسبغ عليه ظلَّ عنايته، وأفاض عليه سجّلَ كرامته ما استلقى السعدان، وتعاقب الفتيان، بمحمد خلاصة الوجود، وصحبه خلاصة الموجود.

أمّا بعد: فبينما أنا في مجلس التذكار، ومنادمة الأفكار، تعاطيني الأشواق والكآبة، مدام الغرام والصبابة، إذ ورد عليَّ في أسعد وقتٍ من الأوقات، وأيمن ساعة من الساعات، كتابٌ شريف، محتوٍ على خطاب لطيف، كأنّ ألفاظه الزهر، وبيانه السحر، تستوقف ديباجةُ وشيهِ النظر، ممّنْ سرَّح في رياضها الفكر، بين منثور لؤلؤٍ ساقطه الطل، ومنظوم جمان كالعقد المفصَّل، وغرائب استعارات هُنَّ زهرة الآداب، ونزهة القلوب والألباب، قد سمحتْ به قريحةٌ دائمة الإنتاج، ورويَّةٌ لم يغلق عليها أبواب المعاني رتاج، وأعملتُها في تنسيقه وترصيفه، وتدبيجه وتفويفه، فكرةُ منْ كتب محاسنه في صحيفة وجه الدهر، فمحت محاسنَ منْ تقدّمَه من جميع أهل الفخر، وفتحتْ به مقفلات المسائل، وختمت به أهل الفضل والفضائل، كما قيل فيه وأنا القائل:

ببهاكَ أحمدَ في النهى

خُتمت ذوو الرتب المنيعه

ونسختَ ذكرهم به

نسخ الشرائع للشريعه

هذا وقد أتحفْتني بثلاث تحف، وصلت منك إليَّ مع هذا المشرّف، قد حسنَ لديَّ مصطنعها، ولطفَ عندي موقعها، وسُرّت بإهدائها نفسي، وردّت في أسمائها ومسمّياتها روّيتي وحدسي، فتفاءلتُ بالرحلة لترحال الهمّ عن قلبي المتيم، وبالسكين بسكون نفسيَ الفرح، وقطعها أسباب الكآبة والترح، وفي القاموس بإغراق أعدائي بقاموس البلاء، واستغراقي من اللّه

٢١٩

بقاموس النعم والآلاء، ثمّ أنشأتُ هذه البديعة، مكافأةً لك بالشكر على هذه الصنيعة:

نفسي بحبل ولاء أحمد أمسكت

مذ اُحِكمت بنياط قلبي عقدهُ (1)

الفصل الثاني

في الرثاء

15 - قال (رحمه الله) وقد التمسه السيد ميرزا صالح القزويني أن يعمل مقدّمة لكتاب (الأشجان في مراثي خير إنسان):

قامت على الدنيا نواعيها

إذ نُعيت نفس العُلى فيها

والأرض قد مادت بمنْ فوقها

واهتزّ قاصيها ودانيها

زلزلها فقدانُ مَنْ لم تنبْ

عن حمله فيها رواسيها

واستغرق الأقطار منها البكا

وأظلمت حزناً نواحيها

إلى الورى أنعى حياةَ الورى

فلتبكِ ما درّت مآقيها

بلى، ومَنْ تركها غرق بالمدامع، لا ترقى غروبَها ما ناحت على فروعها السواجع، فلقد طرقها بغتةً طارقُ القدر، فنزل العمى من عيونها منزل البصر، بساعةٍ كأنّما وردتْ بزلزلة الساعة وأهوال يوم الوعيد، فغادرتْ الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن ألم المصاب شديد، قد أقبل فيها على المجد، ثمّ وقف واستوجد، واستعظم حالها وأنشد:

ما للورى دُهشتْ أقام المحشرُ

أم قد دهى الثقلين خطبٌ أكبرُ؟

أجلْ، أيّها المستفظع لهذا الحال، المتمثّل بهذا المقال، اقترب للناس حسابهم قبل يوم القيامة، فأدمت أكفّهم الأنياب قبل يوم الحسرة والندامة،

____________________

1 - ذكرت في باب المدائح.

٢٢٠