ديوان السيد حيدر الحلي الجزء ٢

ديوان السيد حيدر الحلي0%

ديوان السيد حيدر الحلي مؤلف:
تصنيف: دواوين
الصفحات: 241

  • البداية
  • السابق
  • 241 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21274 / تحميل: 7743
الحجم الحجم الحجم
ديوان السيد حيدر الحلي

ديوان السيد حيدر الحلي الجزء 2

مؤلف:
العربية

وعطُّبوا الأكباد قبل الجيوب والأبراد، ونضحوا القلوب قبل الأجفان والغروب، ومثلوا متماسكين من الوجوم، متهافتين على جمرة الأحزان وجذوة الهموم:

فمن واقفٍ في جفنه الدمع واقفٌ

ومن سائلِ في خده الدمع سائلُ

لغداةٍ بكَّر فيها بنفوس جائشة، وعقول من الدهشة طائشة، بين ذاهبٍ ولا يفطن أين يتوجَّه، وآتٍ لا يأتي بشيءٍ سوى أن يتزفّر أو يتأوَّه، وحرّان لا حيلة له غير عضِّ اليدين، وحيران لا يملك إلاّ استدارة العينين، فإذا سأل سائلٌ، أو قال لمَنْ بجنبه قائلٌ: هل أتاك حديث الغاشية؟ ولمَنْ قامت رنةُ تلك الواعية؟ وأولئك عمَّ يتساءلون؟ وعلى منْ عدت العاديات؟ وماذا نزعت النازعات؟ عبس وتولّى، ثمّ التفت إليه وقال: أفض غروب (1) عينيك سجلاً فسجلاً، فلقد دُكَّ طود الحلم، وهوى نجم الهداية والعلم، ونُزِعَ من كفّ المعروف بنانها، واستُلَّ من عين العلياء إنسانها، وذوت من المكارم رياضها الخضر، وتسلَّبت شجرات المعروف من ورقها النضر، ونُقِل إلى الأجداث قبلةُ الشكر والحمد، ومصلّى العفاة والوفد، وحُمل (ابن جلا) إلى عرصة البلى:

ولفقده هذي النوائحُ جاوبتْ

فوق السماء نوائحَ الأملاكِ

ملكٌ على الأفلاك علياه سمتْ

فالسمكُ منها ثامن الأفلاكِ

حتى إذا رستْ أعواده على أكتاف الرجال اجتذبته إليها الرغائبُ والآمال، آخذة بقوائم سريره، ماسكة على فضول كفنه وأطراف حبيره، وصرخ مرمّل الرجاء إلى أين عنّا بأخي الشتوة الغبراء:

إلى أين عنّا بزاد المقلِ

ورىّ صدى حائمات الأماني

به أنشب الموتُ أظفاره

فمَنْ ذا يقلّمُ ظفرَ الزمانِ

____________________

1 - وفي المطبوع: دموع.

٢٢١

وعند مَنْ يلتمس الضيف قِراه، ولديَ مَنْ يعرّس السفرُ بطلاح رزاياه، أم منْ يبسط للمجد بين كفّاً كريماً، أرطب وأندى من السحاب أديماً، ويجلو على الوفود محيّاً تجلى بطلعته السعود، ومَنْ ذا يعلق منه الخائف بأوثق العصم، ويأمن في حماه كما يأمن الحَمام في الحرم، فرويدكم يا حامليه، قفوا ليتزوَّد المجدُ من أخيه، ويودّعه الرجاء، ثمّ تشيّعه المكارم والعلياء، فامهلوا قليلاً، ريثما أروّح في وداعه قلباً (1) عليلاً:

وإن لم يكن إلاّ تعللُ ساعةٍ

قليلاً فأنّى نافعٌ لي قليلها

فآهاً ثمّ آه، ولا قوّة على الصبر إلاّ باللّه، ماذا لقيَ المجد ساعة ودَّع أخاه من برحاء الوجد، وقد أدرجَ منه في الكفن منْ كان الروح المدبّرة لهذا الزمن، فيا أعلام العلم وأقطاب الممالك، ويا أرباب الأسرَّة والأرائك، ويا رؤساء العشائر والقبائل، ويا خطباء المنابر والمحافل، ويا عترة الشرف والأحساب، وأسرة الكمال والآداب، ويا رائدي المعروف، ومنتجعي الرفدَ في الزمن العسوف، هلمُّوا إلى النبأ العظيم، والفادح الجسيم، الذي جدَع مارن الدين، وقصم ظهر الإسلام والمسلمين، فطامِنوا لهذا الحادث رؤوسكم، لقد استُلِب عزَّكم وناموسكم؛ رُزيتم واللّه بمنْ جُمعت له الرتبة العليا، بين رئاسة الدين والدنيا، قد ترشّح لها بين النبوّة والإمامة، واقتعد بها من الشرف الرفيع غاربه وستامه، وتوالت في المجد مناقبه الغرر فملأتْ من الدهر السمع والبصر، خلّدها على جباه الأعصار مسطورة، وبألسن الثناء في ألسنة المدن والأمصار مرويَّة ومأثورة، تتغنّى بها الحداةُ في الفلوات، وتتناقلها الرواة على تعاقب السنين في جميع الأوقات، تنبئُ عن حضرة سامية القدر رفيعة الرواق، آهلة الأفنية بكثرة الضيوف والطرّاق، جليلة الشأن والخطر، جميلة العيان والأثر، قد جاس رائدُ صيتها خلال الأرض،

____________________

1 - في المطبوع: فؤاداً.

٢٢٢

وفنيت مواقيتها وثمائن يواقيتها في أداء المعروف نافلةً وفرضاً، فلذكر ربّه (تغمده اللّه برحمته ورضوانه) النباهة، ولجاهه (أعلى اللّه مقامه)‍ الوجاهة، ولقدره (طاب ثراه) التنويه، ولذاته (قدّس سرُّه) التنزيه، لقد نشر بيد الفخر في الخافقين أعلامه، وطوى على المكارم لياليه وأيّامه، ورحل عن الدنيا إلى اللحود، وكان لها كاسمه (جعفر) فضلٍ وجود، قد أحبَّت روحه الطاهرة أن تتحوّل عن هذه الدار إلى نعيم دار الآخرة، فانتقل إليها بعد أن شحن الأولى ببرّه، وطبَّق أقطارها بفخره، وحمل من رواق مجده، ودفن في رواق جدّه، فصكَّت له الأشراف الجباه، عندما نفضتْ بأكفّها الصبرَ على ثراه، ثمّ انصرف الجميع والعلياء خلفهم تقرع سمع بني عبد منافٍ بما أنشأته من هذا التقريع:

عودي بطرفكِ يا قريش كليلا

وبعزمك امتلأت ظُباه فلولا (1)

وأقيمت مآتمُ العزاء، فناحت فيها حتى أملاك السماء، وندبتْ فيها الشعراء، بقوافٍ من الشعر ثواكل، تتناشدها ذوو الأحزان في المناحات والمحافل، ثمّ عزّ وافيها أباه، فرع الأراكة الهاشميّة، ومنار الشريعة المحمديّة، رئيس المحقّقين (محمد المهدي) بن الحسن معزّ الدين:

علم الأمّة علامتُها

صبحُها مصباحها نور هداها

قلبُها قلَّبها حوَّلها

عضبُها بيضتُها حامي حماها

وجروَا عنه متساجلين في تسليته عنه بأخوته، وكفى سلوة عنه بأكبرهم أخيه الصالح لسدّ ثلمته، وبالمعدِّ لتشييد بيت الحسب والمجد، أخيهما أبي القاسم (محمد) وبأخيهم الحسين الذي حلّ من الزمن محلّ الروح من الجسد، والواسطة من العقد المنضّد، فهم وأبيهم كما قلتُ فيه وفيهم:

قمرُ السماء أبوهمُ

شرفاً وهم والشهبُ أخوَهْ

____________________

1 - ذكرت في باب المراثي.

٢٢٣

بل كما أقول: وإنْ رُغمتْ معاطس، وازورَّتْ من الحنق نفوسٌ ليست عند العلياء بنفائس:

إنّما هاشمٌ لباب قريشٍ

وهمُ صفوُ هاشمٍ واللبابُ

فئةٌ منصبُ الإمامة فيها

وسواها ومجدُها الأنصابُ

لعمري لئن (1) فقد منها شخصٌ لم تفقد مزاياه، وطوى الموتُ عنها عيانَ مَنْ لم تطق الأيام والليالي مكارمه وعلياه، فلقد كفل أخوه الصالح لمجده بنشره لمّا قام مقامه من بعده، في ندىِّ فخره، ويليق بهذا المحلّ أن أرسم من نظمي هذه الأبيات التي جاءت كالعقد المفصل:

أقول للقلب وقد أرسلتُه

دمعاً على ذاك الصفيح يقطرُ

يا والجاً كافورة القدس التي

بالأمس قد أوُدع فيها الكوثرُ

صلْ جعفراً وحيّه عنّي وقلْ

بوركَ مَنْ قد صرتَ فيه تحبرُ

أعيذُ أحشاءك أن تنزو علي

رواق عليائك فيها الخدرُ

تصدَّر اليوم (أبو الهادي) به

فلم تغبْ كأنّك المصدرُ

فقرَّ عيناً فالعُلى تلك العُلى

والمفخرُ الباهر ذاك المفخرُ

وجعفرٌ للمكرماتِ (صالحٌ)

وصالحٌ للمكرمات جعفرُ

وحيث أطلقنا عنان أدهم القلم، وبلغ هذا المقام وأحجم، فلنفتح حلية المراثي بنظم أميرها، وفارس ميدان منظومها ومنثورها، الناشئ في حجر (2) الرسالة، والراضع درَّ الوحي وبلغ بنور عصمة الإمامة، لكن عمّا يشينه فصاله، ومثل في مجهل الزمان علم، وطلع في أفق العلياء أنور من بدرٍ تمّ، ذاك (أبو الهادي)، وإن شئتُ قلتُ أبو الحسن الصالح؛ لأن يصبح وقد أصبح ذلك مقتدى الزمن، فلقد أنبأ عن مضاضة وجده بنظم بديع، لا يليق غيره بشأنه

____________________

1 - في مخطوطة الملاّ: لقد فقد.

2 - في المطبوع: بحجر الرسالة.

٢٢٤

الرفيع، فبلغ الغاية بقوله في رثاء أخيه، وبه للعلياء عنه كفاية (1) .

يقول منشي‌ء هذا التحرير، وموشّي بردة هذا التحبير، الفقير إلى ربّه الغنيَّ، حيدرُ الحسينيُّ الحلّي: إنّي إنْ أثبتْ مرثيتي أوّل المراثي، لا طلباً للتقدّم لها، بل لمناسبتها لنظم هذا السيد الجليل، الذي تقدَّم قبلها أنّه قد وصف ما هو عليه من الوجد، وحكيتُ الحال التي نحن عليها من رزيِّة هذا المصاب والفقد، على أنّي نحتُ فيها بقوافٍ كأنَّ منها كلَّ قافية ورقاء، أو كأنّها الخنساء؛ إذ هي لو ردَّدت نياحها على صخرٍ لأرتكهُ كيف على نياحتها يتفطَّر، فتصفّح ألفاظها ومعانيها، وأعرف صحة قولهم: لو أعطيتُم القوسَ باريها:

قد خططنا للمعالي مضجعا

ودفنّا الدين والدنيا معا (2)

* * *

16 - وقال (رحمه اللّه) وقد كتب بها معزّياً لبعض الأكابر والأشراف:

ممّنْ صدعتْ صفاة صبره قوارعُ الأرزاء، فأذال مصون دمعه بتنفّس الصعداء، وألبسه عظيمُ المصاب ثيابَ الاكتئاب، وحنا على جذوة الوجد منه الضلوع، ونافر لعظيم (3) ما عراهُ طيبَ الهجوع، وكيف يلتذُّ بهجوعه، أو تجفُّ مجاري دموعه وقد فاجأه نعيُ منْ كان مصباح ليله وسراج نهاره؛ إذ عثر فيه الدهرُ فلا لعاً لعثاره:

نعوه على ضنّ قلبي به

فللّه ماذا نعي الناعيانِ

رضيعُ صفاءٍ له شعبةٌ

من القلب مثل رضيع اللبانِ

إلى مَنْ لا يستخفُ حليمها تفاقمَ الخطوب، ولا تغيّرُ طبيعتها في المكارم

____________________

1 - إلى هنا أُثبت في المطبوعتين، وهذه الزيادة الآتية لم توجد فيهما.

2 - ذكرت في باب المراثي.

3 - وفي المطبوع: لعظم.

٢٢٥

مقاساة الكروب، الأعزّ الأمجد، سلالة الشرف الواضح (محمد)، قطب دائرة الفخر والكمال، ومحطّ الوفود وبحر النوال، ومَنْ هدرتْ يداهُ دم الأموال؛ لحقن دم المكارم، وعجز عن إحصاء فضله كلُّ ناثر وناظم، وحيد دهره، وفريد عصره، طالب العزّ من مستقرَّه، المستضاء برأيهما في سواد الخطوب، والمستجار بظلهما في كلّ نائبة تنوب، ومنْ أساء إليهما الزمان بفقدان إنسان عين الفخر، محمد عليِّ القدر، وجوهرة الدهر، وفريد العصر، وواسطة عقد الفخر، ومنْ ليس له في الفضل مثلٌ ولا ندّ، وكان من أهل زمانه بمنزلة الواسطة من العقد، ومن طلبتْ وصفه عقولُ ذوي النهي، وجاوزتْ في طلبها الجوزاء والسهى، فلم تقفْ له على غايةٍ ومنتهى، وحين رجعت منه صفر الكفّ، وقد بعد شأوه بدورها في الخسف، وشموسها بالكسف، طائشةً حيرى، راهبةً ذعرا، تنشد شعرا:

طلبتْ وصفه العقولُ ولكن

لم يكن ممكناً إليه الوصولُ

وتعدَّت غاياتها ثمّ طاشتْ

حيث لم تدرِ فيه ماذا تقولُ

وأقرَّت هناك بالعجز عنه

وتساوى عليمها والجهولُ

فيا له من رزءٍ يقل الحزنُ بجنبه، ولو أنّ كلّ منّا كان فيه انقضاءُ نحبه، ولو أفضنا له النفوس من المآقي بدل الدموع لقلّتْ، ولو وُزنتْ به رواسي الجبال لخفّتْ:

الآن هوّن كلَّ نازلةٍ

جللٌ أمال دعائمَ الفخرِ (1)

فيا مَنْ ألقى الزمان لكفّيهما خطام القياد، وسارت شواردُ أوصافهما مسير الشمس في جميع البلاد، إنّ من العجز أن تجزعا لعظم المصاب، وإنّ حسن العزاء ممّا يتضاعف به عند اللّه الثواب، وشأنُ مَنْ وقَّرته روابع كلّ مهمّة، أن يتدرَّع قلبه بالصبر لمكابدة كلّ ملمّة، ومن الحزم أن يتّزر بثوب

____________________

1 - ذكرت في باب المراثي.

٢٢٦

التجلّد لأبصار العباد؛ لئلاّ يعلموا بتململكما فتشفى منه الحسّاد، وأنّ منْ عظُمَ عليكما فقده، وبرَّح بكما بعدُه، قد ورد حوضاً كلُّ الخلق واردوه، وسلك طريقاً كلّهم سالكوه، وكلُّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهه.

* * *

17 - قال (رحمه الله) وقد كتب بها إلى السيد سلمان النقيب معزّياً له بموت أبيه عن لسان العلاّمة السيد مهدي القزويني:

نعى الناعون للشرف المعُلّى

فتى الأشراف سيدَها النقيبا (1)

يُنشر على طيِّ الأيام ذكره، ويُجدّد ويا حاشاه من الدروس على تعاقب الأعوام علاؤه وفخره، ويجلو من محاسنه الغرِّ على صفحات وجه الدهر ما يفصِّله لسال الحمد فريداً، وتتهاداه الليالي لنحورها عقوداً، فهو حيُّ بتلك المناقب، وإن قامتْ عليه النوادب؛ إذ ليس الميّتُ ورزؤه الذي ترك الألباب مطاشة، إلاّ ميّت المآثر لا الحشاشة. ولعمري، لئن قصدَ المنون بصائبةٍ تلجُّ على الليث المشبل مغارَه، وتنفذ على الأفعوان الصلِّ وجارَه، فلقد قضى من الدنيا كرائمَ وطره، ورحل عنها فرحل المجد على أثره، بمهجةٍ حسيرة، قد نضخها على قبره عقيرة، وكأنّي بركب الثناء، وقد وقف فقلَّب على ذلك الجدث جفون الرجاء، ثمّ رفع عقيرته بجنبه، وأنشده ما أنشاه في استطابة تربه:

أقول وقد وقفتُ على ضريحٍ

كأنَّ نسيمه أرجُ الغوالي

لئن أنشقتني يا قبرُ طيبا

فذاك الطيب من عبق المعالي

وليت شعري! وهل أبقتْ شعوراً طارقة هذا القدر، أيعلم الدهرُ لا أقاله اللّهُ عثاره بمنْ عثر؟ ارتحلَ وأيم اللّه عن الأنام بربيعها، وعن الأيام بقريعها، حادثٌ جذَّ من العزّ أنفه، ومن الكرم ساعده وكفَّه، وأغصَّ

____________________

1 - ذكرت في باب المراثي.

٢٢٧

فمَ الدنيا بجرعةٍ ثكُل عميدها، فعددَتْ بلسان الدهر حتى كلّ ولم ينشط في محفل النياحة لتعديدها، وكيف ينشط منها اللسان، أو يتّسع لها نطاق البيان، في حصر تلك المناقب، التي كاثرت وأجلّها عن قولي الحصى عداد الكواكب، أليست هي مناقب من ضمنَ في ملاث أزار عظمته جميع كرامها، فطوى منه الموتُ بردة فخرٍ أدرج في أثنائها بقيّة أيّامها؟

قد علمنا فقرَ العفاة إليه

أفكان الردى من الفقراءِ (1)

أجل أيّتها التي تردّدُ المقالة وتنعى، خفّضي عليك ولا تضيقي بما لديك (2) ذرعاً، إنّ الموت لم يطوِ غاربَ بحرك ذلك الزاخر، إلاّ بعدما بدتْ منه على نحر الزمن عقد هذه الجواهر، فحلّي بها عاطل جيده، وأعدَّها (2) نفائس موجودة:

قد كان في موت عليِّ الذرى

ماتت بنو المجدِ وعلياها

لكنْ بإذن الله روحُ النهى

قام فأحياه وأحياها

قد طويتُ لولا (أبو المصطفى)

ينشر في الدهر مزاياها

نعمَ زعيم القوم مقدامها

في الحزم طلاّعٌ ثناياها

مظفرُ الآراء ما أخفقتْ

في طلب الرأي سراياها

إن خاصم الأكفاء في مجمعٍ

أضحكها منه وأبكاها

رياسةٌ موروثةٌ في العُلى

يأرجُ في عطفيه ريّاها

فأكرمْ به وارثاً للمجد، قد ترك ألسنة الثناء والحمد ترتلُ آيات فضله ترتيلاً، وتهتف في الأنام بكرةً وأصيلاً، هكذا فليكن الكرم، ولترقَ إلى هنا عاليات الهمم، وليعرِّسْ بمثل هذه الغابة مَنْ خطب إلى الشرف عقيلة النقابة،

____________________

1 - ذكرت في باب المراثي. وفي المطبوع: فقر الزمان.

2 - وفي المخطوط: بذلك.

3 - وفي المطبوع: واعتدها.

٢٢٨

هيهات هيهات! لا توصَل الراحةُ إلاّ بنانها، ولا تبصر العينُ بغير إنسانها، فيا أحلم منْ (أحنف) وله أطريتْ، ويا أذكى منْ (أياسٍ) وعليه أثنيتْ، إنّي ما استرعيتُ سمعك هذا المقال، ولا استوقفتُ نظرَك على ما ضربته من هذه الأمثال، استزيدك في حلمك ركانة، أو أدلّكَ على مكان الصبر فأنت من الصبر بمكانة، بل تلك مقالةٌ في التعزية مرادة، وعلالة جرتْ بمثلها العادة؛ إذ جميع هبات الدنيا معادة فمرتجعة، والتسلية عنها سيرةٌ متّبعة، وما استبقائي منك الصبر على هذه الرزية، إلاّ كاستقائي (1) سحاب الرحمة لتلك التربة الندَّية؛ إذ من العبث التماس حصول ما حصل، وطلبُ المرء من اللّه أن يفعل ما كان فعل:

لله في نفسك نفسُ العُلى

قد أوجب اللّهُ لها حفظها

لا تجعل الحزن لها شاغلا

في أخذها من فخرها حظّها

ولا حدتني خفةٌ في أمرك (2) ، ولا دعتني استضاقةٌ لصدرك، وإنّما هي من المحبِّ نفثةٌ الصدر، وقولة يقولها اشفاقاً على مَنْ أحبَّ إذا فدح الأمر، فكلاهما في الحصول شرعٌ سواء، بغير شكٍ ولا مراء، نسأل اللّه أن يعرِّفكم أجرَ هذه الرزية على مقدارها، وأن يكمل لكم ثواب الصبر على معيارها.

* * *

18 - قال (رحمه اللّه) وقد كتب بها معزّياً الحاج مصطفى كبّه بوفاة والده الحاج محمد صالح:

بالبدر مَنْ فجعَ الليالي البيضا

وأعاد للشمس النهار مريضا

ومَنْ انتحى روض الكمال بمعطشٍ

فذوتْ نظارته وكان أريضا

____________________

1 - في المطبوع: كاستسقائي سحائب.

2 - في المطبوع: جفة بأمرك.

٢٢٩

قدرٌ مضي بزعيم آل المصطفى

والمجدُ قوِّض إثره تقويضا

قدرٌ جبَّ من الفخر سنامَه وغاربه، وطبَّق بالحزن من الكون مشارقه ومغاربه، قد رحل بمنْ هو زاد المقل، وناعشُ صرعة الضريك (1) والمرمل، وتقرّبَ جبرئيل إلى اللّه برفع روحه الطاهرة، حين (2) سمت عن الدنيا لنعيم الآخرة، فقوّض عنها رحيض الثوب من درن تبعاتها، مبرأ الجوارح من اجتراح خطيئاتها، لم تقض بنو الدنيا حقّ مصابه، ولم تكافئ‌ ما أسدتْ إليها يده من جزيل ثوابه، وبماذا تقضي حقّ هذه النازلة، والمصيبة الهائلة، أبصراخ الثواكل، أم بدمعٍ على الوجنات سائل، أم بوجدٍ ولو كان كوجد يعقوب، أم بنوحٍ ولو كان ممّا تشقُّ عليه الأكباد لا الجيوب، هيهات:

كذبناهُ لم نجزع عليه ولم تقم

مآتمنا لمّا أُقيمتْ مآتمه

نعم، لنا العزاءُ بزعيم خلفِه، والبدر الساطع بعده في سماء مجده وشرفه، ذاك رافع عماد مكارمه، ورواق فخره ودعائمه، المصطفى للكرم بعده، والذي قام مقامه فسدَّه:

وقضى حقوق الجود وهي نوافلٌ

وسواهُ منها ما قضى المفروضا

فيا مَنْ هو للمآثر الحميدة أهل، والراقي بهمّةٍ من المجد أرفع محل، لا برح بيت عليا أبيك، آهلاً فيك وفي أخيك، وبآلكما الغرر، ما بقي الدهر، ونسأل اللّه أن يجعل هذه الرزية خاتمة الأرزاء، ويصرف عنكم محذور القضاء.

____________________

1 - الضريك: الأحمق، الضرير، الزمن، الفقير.

2 - في المخطوط: حتى سمت.

٢٣٠

الفصل الثالث في العتاب

19 - قال (رحمه اللّه) مجيباً على القصيدة (النونية) التي وردته من بعض أخدانه الأعزاء معاتباً بها إياه، وإليك الرسالة والقصيدتين:

أمّا بعد افتتاح الإنشاء بمفروض الحمد وواجب الثناء أقول: إنَّ أفقر من الإصغاء ذلك السمع المأهول. أيّها الماجدُ الذي عوَّذته بنات الأفكار برقي القريض حيناً، من نزعات شيطان هذا الشيخ الذي أصبح له اليوم قريناً، وساء قريناً، وغادر منثور ذكره في الصالحات دفيناً، ويا حرسه اللّه قبل الممات؛ إذ لو استمر على اصطناع المعروف والمكارم لكان حسنة الدنيا، ولو لم يلقَ السمعَ لاتباع مقالة اللوائم لكان قطب دائرة العليا، الحديث ذو شجون، وسيبصر أهلُ الإنصاف بأيّنا المفتون، وأنَّ لي ولك في طي هذا الأمر الغريب، لشأناً من أعجب الأعاجيب، قد أوجب نشره، من سيَّر بدّالة المرح ومخيَّلة الكبرياء شعره، عجباً لك كيف لم تجذب إليك من عنان خيلائك، ولم تكفكف من بادرة عزمك وغلوائك، بل تركت لهاتيك عنانها، وأوسعت لهذه خطاها وميدانها، حتى أقرعتَ بمسامعي مؤلم هذا التقريع، وجرعتني مضاضة ذلك التعريض الشنيع، فمبجدك ما الذي أخفضكَ وأنت الوقور، وما الذي لمظكَ ممقر هذا التعريض وأنت الأبيُّ الغيور، بلى وأنا أملك السجيَّة التي عاشت على معروفها البريَّة، ما دعاك إلى أنْ تظهر أنّك لي مغاضب، إلاّ الهربُ من إسداء العطايا والمواهب، حيث استنشأتك قبل هذا سحابة، خلتها نشأت دانية الربابة، قد بشَّر بها نفسَه الرجاء، واستمطرها بظنّه مغدقةً وطفاء، فكلّما تطلَّع في نواحيها، استحكم طمعه فيها، وأمَّل أن ترخى بشآبيبها الغزار عزاليها، فإذا هي تبرق

٢٣١

غيضاً وغضباً، وترعد تقريعاً وعتباً، ثمّ لم تبرح بهاتيك البوارق، أن أمطرتها عليَّ صواعق وأيُّ صواعق، فليتك إذ ترفّعتَ كزعمك عن مدَحي الآنفة، رعيت لي حرمة المدح السالفة، فلقد علمَ هذا العصر أنّي لسانه الذي انتهت إليه مقالة الشعر:

وأنا الذي لم يسخْ بي أحدٌ

إلاّ غدا ونديمه الندمُ

وإذا اهتززتُ لمدح ذي كرمٍ

فأنا لسانٌ والزمان فمُ

قد نشرتُ لكم من الذكر الجميل ما لم ينشره لسان الشعر لذي مجدٍ أثيل، حتى صرتُ لكم في المدح أعرفَ من علَم، بل أشهر من (زهير بن أبي سلمى) في مدائح هرم، كم نسجتُ لأبيكم بُردَ حمد، لم ينسج قبلي مثله (ابن بُرد)، وكم سيَّرتُ فيكم من النظام ما لم يسيّره قبلي الشيخ (أبو تمام) بلا يدٍ بيضاء، ولا عارفةٍ غرّاء، بل جعلتم قيمة تلك العقود، وأثمانَ هاتيك البرود، ما لو رُسم معها في كتب المؤرّخين، كما ترسم الجوائز مع قصائد المتقدّمين، يتداولها الأنام جيلاً بعد جيل، لغضَّ بنزارته من شرفكم المحض ومجدكم الأثيل، بل لو لم أكتمْ عن الحسّاد ما جعلتموه بأزائها من الصفاد، لو سُمتْ تلك الغرر البهية بسماتٍ ردية، كما وُسمتْ قصيدة (أبي الطيب) لنزارة الجائزة بالدينارية، وعلى حقارة الجزاء ونزارة ما اسديتموه من العطاء، رأيتك قد أعرضت غاية الإعراض، وأغمضتَ عن حقوق المودّة أشدّ الإغماض، بلا إساءةٍ سبقتْ، ولا جناية تقدَّمت، فنظمتُ قطعة من العتاب، يروق بنشرها ذوو الألباب، وأرسلتها إليك، مخاطباً لك بلسان العتب عليك، فقلتُ:

حتى مَ الوَّد بالهجران

وإلى مَ أبسطُ بالعتاب لساني

لا أنت عن غلواء (1) هجرك مقصر

شيئاً ولا أنا عن عتابك واني

____________________

1 - في مخطوطة الملاّ: من غلواء.

٢٣٢

كم ذا أنبِّهُ منك من لم ينتبه

عن مثله في الفضل طرف زمانِ (1)

ما زال يصرف عن وجوه مطالبي

عيناً رعى القاصي بها والداني

الغيثُ أنت فكيف تجدب راحتي

منه وتخصب راحة الذلانِ

وأما ومجدكَ ما تيقَّظ للنهى

منْ لم يكن لي قطُّ باليقظانِ

بل أيُّ ركن للمعالي شاده

منْ لا يكون مشيّداً أركاني

أخذتْ بمخنقيَ الخطوب فضيّقت

صدري فضاق بها إليك بياني

فتلافَ من أيدي الخطوب بقيتي

فبقيَّتي لكَ يا عظيم الشأنِ

عجباً لكفَّك كيف تمسحُ غرَّةً

من غير سابق حلبةٍ لرهانِ

منْ ذا لكم عنّي ينوب إذا جرتْ

يوماً جيادُ الشعر في ميدانِ

ومنْ الذي يُنشي لجيد علاكم

مدحاً يفصِّلها عقودَ جُمانِ

فبمَ اقتنعتَ وهل ترى يغني الحصى

لَمنْ ابتغي حُلياً عن المرجانِ

أرَتجتَ بالإعراض بابَ روِّيتي

وعقلتَ في شطن الصدود لساني

وتركت عيني من جفاك سقيمة الـ

إبصار وهي صحيحة الإنسانِ

ما إن (2) زففتُ من الولاء كريمةً

إلاّ وتمهرُها من الحرمانِ

فأصخْ لعاتبةٍ تجايشَ صدرُها

فأتتك تنفثُ عن حشاً حرّانِ

قد حاكمتكَ إليك فاقضِ بحقّها

فلقد أتتك بواضح البرهانِ

وشكتكَ عندك والعجيب جنايةٌ

منها اشتكى متظلمٌ للجاني

بين الرجا واليأس قد وقفتْ فقل:

من ذينِ تنزلها بأيّ مكانِ

فأصدرتَ الرسولَ إليَّ بوعدٍ أكذب من السراب الخادع، وأخيب من بارقة صيفٍ خالبة اللوامع، حسبت أنّك ألقيت إليَّ منه بحبلٍ واصلٍ، ولم أخلْ أنّك ألقيت إليَّ بخيطٍ باطل، قد ضربتَ أنت على أحد طرفيه بيد المطل، وضربت أنا على الطرف الآخر بيد عسى ولعل، حتى قالت لي

____________________

1 - في مخطوطة الملاّ: زماني.

2 - في المطبوع: من أن.

٢٣٣

النفسُ، أما غلب على رجائك اليأس، وإنّكَ لتغمزُ بأنمل الرجاء في صدر حجارة صمّاء، فقلتُ لها أيّتها النفس إنّك لأمّارة، ما عليكِ من ذلك وإن من الحجارة، وإنّي إنّما أهزُّ بنسيم المدح غصناً، منه ثمار المعروف ببنان الآمال تقطف وتُجني، حتى لم يبقَ في قوس الأنظار منزع، ولا في صدر الأعذار مدفع، فنظمتُ في استقضاء ذلك الوعد قطعةً من العتب، فيها ذكرى لمَنْ كان له قلب، قد أوحى منها لسان قلمي مسمعاً، ما لو أنزلناه على جبلٍ لرأيته خاشعاً متصدّعاً، فقلتُ:

كلّما زادك المحبُّ اقترابا

زدتَ عنه تباعداً واجتنابا (1)

فوعدتَ وعداً جميلاً، وخبَّأتَ خبأً وبيلاً، لم أشعر إلاّ وقطعةً من شعرك، بيد الأطفال من أبنائك، والإغفال من أخصّائك وأودّائك، ينشرونها بكلّ بلاد، زعماً منك ولرأيك الإصابة أن ذلك ضربٌ من السداد، فعلى مَ يا هذا كذبت أم مَنْ بي أغراك، أظهرتَ كمالك بما يعود عليك بنقض عُلاك، ولم تتروَّ في أمرك حتى اتّخذت عفّتي وإبائي دريَّة لما طاش من سهام شعرك، فجريتَ إلى غايةٍ من الإعجاب جرىَ المتبجّح بفخره، وما نهنهتَ كأنّك لم تقف على مَنْ لم يقف عند انتهاء قدره، فقلتَ متشدَّقاً، ونطقتَ متفيهقاً:

أطلقتَ بالعتب الممضِّ لساني

إن ترمِ بالإعياء فضلَ بياني

يا منْ له أخلصتُ صفوَ مودَّتي

ما شابها كدرٌ من الهجرانِ

وعقدتُ حبلَ ولائه بمحبّتي

حتى اغتديتُ بها رضيعَ لبانِ

وأراك قد نبَّهت مقلة ساهرٍ

بالعتب بل متناومٍ يقظانِ

مغضٍ على مضضٍ القذى وتسومه

وهو البريُّ بها جناية جاني

أتصدُّ عنّي معرضاً وتلومني

ولقد بدأتَ هديت بالهجرانِ

____________________

1 - ذكرت في باب العتاب 1 / 232.

٢٣٤

جنبتَ منتجعي وغرَّك خلّبٌ

فطفقتَ تحسبه من الهتّانِ

ورأيتَ خضرة دمنةٍ فحسبتَها

أزهارَ ريّقةٍ من الغيطانِ

أنفقتَ فيها باهر الحِكم التي

عزَّت نفاستها على (لقمانِ)

وبثثتَ منها للنظام جواهرا

ما كان أحوجها إلى الكتمانِ

أتصونها عنّي وقد قلَّدتها

أعناقَ ناقصةٍ وجيدَ دواني

لا تحسبنَّ الشعر يرفع خاملا

لعلوِّ قدرٍ أو سموِّ مكانِ

مَنْ لم تصدقه الفعالُ فمدحهُ

ضربٌ من التخليط والهذيانِ

لستُ الذي بالمدح أكملُ رفعتي

إنّي وذلك أعظم النقصانِ

لكنْ أغار على بدائع فكرةٍ

أنْ لا تقلّدَها بديع زمانِ (1)

فلمّا استوقفتُ ناقدَ الفكر، وسرحت رائد النظر في ألفاظها ومعانيها، وجدتها تنطق عن بذخٍ وبأو، وتتشدق عن شمخٍ وزهو، قد نشأتْ من ضميرٍ شحنه الحنق، وطفح بالإحن إناؤه على لسان منشئها فنطقَ بما نطق، ثمّ قلتُ إنّا للّه ويا نفسُ صبراً على مضاضة هذا الشعر الذي برز مشتملاً بثوب الحبّ وتحته تأبّط شرّاً، فقالت نفسي الأبية: كأنّك طامنتَ إلى أن تعطي من نفسكَ الدنيّة:

ترى وإلى الآن لم تجزع

وهل بعدُ للصبر من موضعِ

ويقرع سمعك هذا العتاب

وتُغضي كأنّك لم تسمعِ

وأمّا وحميَّة هاشم، وشهامة آبائك القماقم، لا نمتْكَ تلك الإباة منها إلى الذروة، إن لم تقرع بمقطع تلك الصفاة والمروة، فقلتُ لها: لا شفى اللّه لي علَّة، إن لم أبرد عنكِ حرَّ هذه الغلَّة، فأنا الآن أقول:

أيّها الرئيس الذي كلُّ فاضلٍ إن قيس به مفضول، لماذا لا زلَّتْ بعد هذا بك النعل، أصبحت تكسِّرُ عليَّ أرعاظ النبل، تارةً تدب لي الضرّاء،

____________________

1 - أثبتناها في كتابنا شعراء الحلّة 3 / 125.

٢٣٥

وأُخرى تسرُّ لي حسواً في ارتغاء، تشوب لي إطراءك بالقدح، وتبرز لي هجاءك في صورة المدح، تظهر التأسّف على عقود نظامي النفيسة، مريداً بذلك أنّي لم أرفع قدري عن ارتكاب الدنية والخسيسة:

وهل في أديم الشمس للسهم مثبتٌ

وإن جهلَ القاريُّ يوماً فراماها

لقد ملتَ عليَّ بطراً، ونسبتَ إليَّ ما لم أكن له بأهل أشراً، فلم ترقب فيَّ إلاًّ، كأنّك لم تفز من مديحي بالقدح الرقيب (1) والمعُلى:

تذكركم فيكَ القوافي فاخرتْ

منْ سجد الناسُ له حتى سجد

وكيف أقول: لستُ أجد لنسيانك ذلك المديح معنى، واللّهُ تعالى يقول:

( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَن رَّ‌آهُ اسْتَغْنَىٰ ) ، وليت شعري كيف خفَّت هضبة حلمك بعدما أرسى بك الوقار دهراً، بل كيف استبدلتَ الإسراع بالأناة فنثلت عليَّ كنانة شعرك تطاولاً وفخراً، فملأتَ قلبي ألماً، حتى أدميت البنان تأسّفاً وندماً، وحتى خلعتُ لبسة المتجلّد، بمقيمٍ من الحزازة مقعد، وطفقتُ أنشئ ثمّ أنشد:

لي اللوم قد كلفتُ نفسي خطةً

عواقبها تدمى عليها الأصابعُ

وأوردتها رنقاً من الذلّ آجنا

يسوءُ المعالي أنّني فيه شارعُ

ودنَّستُ من أبرادها ثوب عفّةٍ

إبائيَ تسهيمٌ له ووشايعُ

وعرَّضتها بعد الإباء لسبَّةٍ

(إذا ذُكرت تستكُّ منها المسامعُ)

أجل، وليت سبق السيفُ إليَّ هذا العذل، أيُّ خطّةٍ أسوء وأفظع؟ أم أيُّ سبّةٍ إذا ذُكرت في المجالس عليَّ أشنع؟ من أنّي وضعتُ نفسي لكم وضع مَنْ يريد الارتفاع (2) بكم، بل وضع مَنْ ينتجع هشيم كرمكم

____________________

1 - كذا في المخطوطتين والمطبوعتين، ولعلّه يريد: القريب.

2 - في المطبوع: الانتفاع.

٢٣٦

انتجاع الرائد، ويحرم على سراب جودكم حرمَ المحلي‌ء عن الموارد، على أنّي أحقُّ بما قاله الفرزدق:

أتيناك لا من حاجةٍ عرضت لنا

إليكَ ولا من قلّةٍ في مجاشعِ

وامتهنتُ نفسي بأن صرتُ لكم شاعر، ناشراً ذكركم بالجميل بين الأكابر والأصاغر، كم أزففت لكم غادة كعاب، تخجل بحسنها الأتراب، لا أريد بذلك منكم إلاّ الوداد، وصفاء المحبّة والاتّحاد، ولو أنّي أستام لها بقدر محاسنها المهر، لعزَّ على الأكفاء أن تحظى منها بشطر، فطفقت تنظر إليَّ بعين محتقر، وتخاطبني بما تخاطب به مَنْ هو إليك مفتقر، فمهلاً أبا حسن! لا تشمخ بأنف مَنْ بزهرة دنياه قد افتتن:

إنْ أكن مهدياً لك الشعر إنّي

لابنُ بيتٍ تُهدى له الأشعارُ

بل، لعليّ لا يعدّ المتطاولُ عليّ لمجده ما أعدُّه (1) من الخصائص؛ لنسبي اللباب، وحسبي الخالص، تنميني إلى ذرى العلياء سادةٌ علماء، قادةٌ حكماء، ذادةٌ زعماء، هم للشرف الوضَّاح أقدم أسرة، وللمجد الصراح أكرم عترة، ما منهم إلاّ هضبة وقارٍ وحلم، ولجَّة كرمٍ وعلم، لا يُشار إلاّ إليهم، ولا تعقد الخناصر إلاّ عليهم، لم يسرق ليَ الدهرُ أباً، ولم يغتصبْ لي الادعاء بسببك حسباً.

فيا أيّها اليقظان المتناوم، ليتك رقدت عن عتابك رقدة غيرك عن المكارم، هب أنّي جنبتُ منتجعك، بعدما كنت منضماً بزعمك إليك في جملة منْ انتجعك، فأين أنت أيّها السيد المطلبي عن قول أبي الطِّيب المتنبي؟ (2) :

____________________

1 - في المخطوط: ما أعد.

2 - هو أبو الطيّب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، أشهر شعراء العربية. ولد عام 303 هـ، قتله عند عودته إلى بغداد فاتك بن أبي جهل الأسدي بالقرب من دير العاقول بالنعمانية عام 354 هـ، شرح ديوانه مئة علم من أعلام الأدب. ترجمت له في كتابي شعراء الكوفة 1 / 340.

٢٣٧

إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا

ألاّ تفارقهم فالراحلون همُ

وادَّعيتَ عليَّ أنّي غرَّني خلب، فطفقتُ أحسبه ماطراً يتحلّب، ورأيت خضرة دمنةٍ وجدتها مونقة، فخلتُها أزهار غوطةٍ ريّقة، فأنفقتُ فيها باهر الحِكم العجيبة، وقلّدتُ بجواهرها أعناق ناقصةٍ معيبة.

لعمري، لقد شغلتك هذه الفصاحة، عن أن تفطن لهذا الإثم الذي تعلَّق منك بتلك الساحة؛ لأنّك قد علمت أنّي لم أمدح إلاّ مَنْ لو حصلتُ لبعض المجيزين منهم الإجازة، لكان من شرف الرئاسة الكبرى بمفازةٍ وأيِّ مفازة، وزعمت أنّك بلغتَ من الرفعة والسناء ما استغنيت به عن المدح والثناء:

فإذا مدحت فلا لتكسب رفعةً

للشاكرين على الإله ثناء

فقلتَ قول المتطاول، إنّ الشعر لا يرفع مَنْ هو خامل، كأنّك لم تعلم بإجماع منْ تقدَّم، أنّه يضع الرفيع، ويرفع الخامل الوضيع، كما غضَّ من شرف بني نمير، ورفع من بني أنف الناقة وهم أذلّ عشير، وهذا الأرجاني (1) يقول:

لولا زهيرٌ والمديح له

لم يدرِ هذا الناس مَنْ هرمُ

ودعْ كلّ ذلك وخبّرني إنَّ مَنْ خلع لباس الحمد ولم يرغب بلبسه، ولم يكن من أهلِ ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) بماذا أكمل رفعته؟ وأيُّ الأفعال صدقه فيما وصف به مجده ونعته؟ وذكرتَ وأنت الخليق الجدير، أنّك عزمت على بدائع فكرتي أن اقلّدها ذا شرفٍ خطير، فقلْ لي أيّة غيرةٍ عليها لمَنْ أنزلها منه في جانب الإهمال، وأغفلها وهي من اللواتي تأنف أن تعدَّ في الإغفال؟ تحقيقاً لما أقرَّه في ذهنك الجهلة الجفاة، وتصديقاً لمَنْ

____________________

1 - هو أحمد بن محمد بن الحسين الأرجاني، الملقّب ناصح الدين، فقيه شاعر، تولّى قضاء تستر، وتوفّي بها في ربيع الأوّل سنة 544 هـ، وكانت ولادته عام 460 هـ، له ديوان شعر طُبع ببيروت.

٢٣٨

لا تصدَّق فيهم الأمّهات:

أخلاقك الغرُّ الصفايا ما لها

حملت قذى الواشين وهي سلافُ

والإفكُ في مرآة رأيك ما له

يخفي وأنت الجوهر الشفّافُ

ولا ملامة عليك، وإن توجّه اللوم كلّه إليك؛ إذ لا يستطيع أنْ يحولَ طباعه، منْ فتح لأفواه المنافقين أذناً سمّاعة، قد استخفّك رهطٌ ما هم بأبرّ قطّ، ممّن أنزل فيهم ( وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَ‌هْطٍ ) . ما أنت لهم بقدوة، وغيَّركَ لحجّ أفئدتهم بالحبّ مشعرٌ ومروة، ينزّهونك من الريب، ويثلبونك بظهر الغيب، يبرز أحدهم مشتملاً بلباس التقوى، وهو قد بلغ من خبث السريرة غايتها القصوى:

كم تقيٍّ للخلق يُظهرُ نسكا

ولباري النفوس في السرّ عاصي

فهو في نسكه تراه أبا ذرٍ

وعند التحقيق فابنُ العاصِ

قد نصبوك فخّاً لاختيال صيدهم، واتّخذوك سلّماً يعرجون عليك إلى اغتيال مَنْ أرادوه بكيدهم، وأنت ولا أريد أن أنسب إليك رذيلة، قد جرت عادتك ولا أقول إنّها غير جميلة، إنّك تنيل مَنْ نال منك، وتميل إلى مَنْ مال عنك، المرائي أسعد عندك حظّاً ممّن محض لك الصدق في المودّة محضاً، كم مالت نفسك لا لذي سناء ميل الناقة من شرهة إلى تناول الغذاء، ثمّ تابعتْ له الشهادة، أنّه كادت (1) تثني مثلك له الوسادة، حتى حصل له بشهادتك من التنويه ما لم يحصل من قبله لزياد بن أبيه، وحتى خلنا أنّك عازمٌ على استلحقاه؛ رغبةً فيه لما ثبت عندك من غزارة علمه وشرف أعراقه، ثمّ قلنا إنّ سيّدنا الأكيس، هو وهذا الورع المقدّس، لو لم يكونا في النبل رضيعي لبان، وفي حلبات الفضل شريكي عنان، لما نفي عنه هذه الاسترابة، ثمّ أنابه منابة، فرويداً أيّها المشتمل، ما هكذا تورد

____________________

1 - في المخطوط: كانت.

٢٣٩

الإبل، قد كان لكم قبل هذا عذرٌ لكم، أنّكم دعوتم الناس لأمرٍ لكم علُّه ونهلُه، فأيُّ عذرٍ لكم اليوم في دعائكم لأمرٍ إنْ تمَّ اعتزلكم كلُّه؟ فحوشيتَ أبا الهادي وعزَّ علينا أن نرى منك بعض الخفّة والطيش، في الإكثار من الحثّ على تأمير هذا الفاضل على مَنْ لك قبلنا من الجيش، فاطرحْ لجاجَك، فقد رجع بنا الإذعانُ إلى الاقتداء بهذا الأوحد الذي نهج منهاجك، ونهنه من بادرة جهل ابن أخيك، فذلك أليقُ وأحرى مَنْ جلب الوقيعة فيه وفيك، فلقد ثبت عندنا أنَّ مَنْ بالغتما بتأييده، وشدّ أزره وتشييده، هو العالم الرباني، بل فردُ الفضل الذي لولا مَنْ لا تصرِّحُ به لحلفْنا أنّه ليس له ثاني؛ إذ لو لم يكن عن (1) سيدنا أخذ، وعلى قوله اعتمد، وإلى رأيه في جميع الأمور قد استند، حتى صار من أهل الكشف والاستقامة، الذين تتنزّل عليهم الملائكة بالأسرار لما نصَّ عليه ربُّ الفضل بالإمامة.

فيا أيّها الرئيس الأجلّ، سبق السيف العذل، والبثْ قليلاً يلحق الهيجا حمل (2) ، فلقد أطلقَ غربه لساني، وحلفَ أن لا يكفكف من جري أدهم القلم بناني، حتى يأخذ غرار يراعتي مأخذه، وحتى ينفذ غرب براعتي منفذه، والبادي أظلم، وسيعلم أيّنا الذي يقرع سنَّ الندم:

ما المجدُ إلاّ ما بناهُ لساني

لا ما تزحزحه من البنيانِ

وحليُّ جيد الفضل نظمُ فرائدي

لا ما تنظَّم من فريد جمانِ

يا فاخراً لا في ملابس مدحتي

هذي ثيابُ الفخر لا ثوبانِ

ومطاولاً لا في صِلات قصائدي

هنَّ المكارم هنَّ لا قعبانِ

ولقد صدقتَ فقلتَ أيةُ حكمةٍ

لمَا نطقتَ جرتْ بأيِّ لسانِ

مَنْ لم تصدقه الفعالُ فمدحُه

ضربٌ من التخليط والهذيانِ

(انتهى الديوان)

____________________

1 - في المطبوع: من سيدنا.

2 - الأمثال لا تغيّر ونصه: لبث قليلاً.

٢٤٠