الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر0%

الأئمة الاثنا عشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 116

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 116
المشاهدات: 67005
تحميل: 9066

توضيحات:

الأئمة الاثنا عشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67005 / تحميل: 9066
الحجم الحجم الحجم
الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف:
العربية

الأئمة الاثنا عشر دراسة موجزة عن شخصيتهم وحياتهمعليهم‌السلام

جعفر السبحاني

١

التقديم:

بِسم الله الرحمن الرحيم

لا يأتي المرء بجديد إذا ذهب إلى القول بأنّ الحقبة الزمنية التي شهدت البعثة المباركة لخاتم الأنبياء محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنوات عمره المعطاءة القصيرة كانت تشكل بحد ذاتها انعطافاً رهيباً وتحولاً كبيراً في حياة البشرية، في وقت شهد فيه الخط البياني الدال على مدى الابتعاد المتسارع عن المنهج السماوي وشرائعه المقدسة انحداراً عميقاً وتردياً ملحوظاً أصبح من العسير على احد تحديد مدى انتهائه وحدود أبعاده.

بلى، انّ مجرد الاستقراء المتعجّل لأبعاد التحول الفكري والعقائدي في حياة البشرية عقيب قيام هذه الدعوة السماوية في أرض الجزيرة _ المسترخية على رمال الوهم والخداع وسيل الدم المتدافع _ يكشف وبلا تطرّف ومحاباة عظم ذلك التأثير الإيجابي الذي يمكن تحديد مساره من خلال رؤية التحول المعاكس في كيفية التعامل اليومي مع احداث الحياة وتطوراتها، وبالتالي في فهم الصورة الحقيقية لغاية خلق الإنسان ودوره في بناء الحياة.

كما أنّ هذه الحقائق المجسّدة تكشف بالتالي عن عظم الجهد الذي بذله صاحب الرسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحقيق هذا الأمر وتثبيت أركانه، في وقت شهدت فيه البشرية جمعاء ضياعاً ملحوظاً في جميع قيمها ومعتقداتها، وخلطاً وتزييفاً مدروساً في مجمل عقائدها ومرتكزات أفكارها، كرس بالتالي مسارها المبتعد عن الخط السماوي ومناهجه السوية، وأنّ أي استعراض لمجمل القيم السائدة آنذاك _ والتي كانت تشكل المعيار الاساسي والمفصل المهم الذي تستند اليه مجموع السلوكيات الفردية والجماعية وتشذّب من خلاله _ يكشف عن عمق المأساة التي كانت تعيشها تلك الأُمم في تلك الأزمنة الغابرة.

فمراكز التشريع الحاكمة آنذاك _ والتي تعتبر في تصور العوام وفهمهم مصدر القرار العرفي والشرعي المدير لشؤون الناس والمتحكم بمصائرهم ومسار تفكيرهم _ تنحصر في ثلاثة مراكز معلومة أركانها الأساسية: اليهود بما يمتلكونه من طرح عقائدي وفكري يستند الى ثروات طائلة كبيرة، والصليبيون بما يشكلونه من قوة مادية ضخمة تمتد مفاصلها ومراكزها الى أبعد النقاط والحدود، وأصحاب الثروة والجاه من المتنفّذين والمتحكمين في مصائر الناس.

٢

ومن هنا فان كل الضوابط الأخلاقية والمبادئ العرفية والعلاقات الروحية والاجتماعية كانت تخضع لتشذيب تلك المراكز وتوجيهها بما يتلاءم وتوجهاتها التي لا تحدها أي حدود.

إنّ هذه المراكز الفاسدة كانت تعمل جاهدة لان تسلخ الإنسان من كيانه العظيم الذي اراده الله تعالى له، ودفعه عن دوره الكبير الذي خلق من أجله عندما قال تعالى للملائكة:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرضِ خَلِيفَةً ) بل تعمل جاهدة لأن تحجب تماماً رؤية هذه الحقيقة العظيمة عن ناظر الإنسان ليبقى دائماً بيدقاً أعمى تجول به أصابعهم الشيطانية لتنفيذ أفكارهم المنبعثة من شهواتهم المنحرفة.

وأمّا ما يمكن الاعتقاد به من بقايا آثار الرسالات السابقة، فلا تعدو كونها ذبالات محتضرة لم تستطع الصمود امام تيارات التزييف والكذب والخداع التي مسخت صورتها الى ابعد الحدود.

نعم بُعث محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قوم خير تعبير عنهم قول جعفر بن أبي طالب للنجاشي: أيها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.

هذا في الوقت الذي كانت فيه مراكز القوى تلك تتضخّم وتتعاظم على حساب ضياع البشرية وموت مبادئها.

وهكذا فقد كانت الدعوة الإسلامية الفتيّة وصاحبهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواجهة هذه المراكز بامتداداتها الرهيبة وقدراتها العظيمة، والتي شكلت أعنف مواجهة شرسة وقتال ليس له مثيل صبغ أرض الجزيرة ورمالها الصفراء، بلون أحمر قاني لسنوات لم يعرف فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيرة أصحابه للراحة طعماً وللسكون مسكناً.

إنّ تلك الحصون المليئة بالشر والخراب لم تتهاوَ إلاّ بعد جهد جهيد وسيل جارف من الدماء الطاهرة التي لا توزن بها الجبال، من رجال اوقفوا انفسهم وأرواحهم من أجل هذا الدين وصاحبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إستطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقيم حكومة الله تعالى في الأرض وأن يثبِّت فيها الأركان على أساس الواقع والوجود، فلم تجد آنذاك كل قوى الشرّ بدّاً من الإختباء في زوايا العتمة والظلام تتحيّن الفرص السانحة والظروف الملائمة للانقضاض على هذا البنيان الذي بدأ يزداد شموخاً وعلوّاً مع تقادم السنين.

٣

ولقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدرك عياناً أنّ نقطة ضعف هذه الأمّة يكمن في تفرّقها وفي تبعثر جهودها ممّا سيمكن من ظهور منافذ مشرعة في هذا البنيان الكبير لا تتردد أركان الكفر وأعداء الدين المتلوّنين والمتسترين من النفوذ خلالها والتسلل بين أهلها، وفي ذلك الخطر الاكبر. ولذا فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصرّح ويحذّر من افتراق أُمّته، ويلوح للمفترقين بالنار والجحيم.

بيد أنّ ما حذّر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كان يخشاه، بدت أوّل معالمه الخطرة تتوضح في اللحظات الأولى لرحيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتقاله الى عالم الخلود، وعندها وجد أعداء هذا الدين الفرصة مؤاتية للولوج الى داخل هذا البناء والعمل على هدمه بمعاول اهله لا بمعاولهم هم.

فتفرّقت هذه الأُمّة فرقاً فرقاً وجماعات جماعات، لا تتردد كل واحدة من أن تكفّر الأخرى وتكيل لها التهم الباطلة والافتراءات الظالمة، وانشغل المسلمون عن أعدائهم بقتال إخوانهم والتمثيل بأجسادهم، وحل بالأمّة وباء وبيل بدأ يستشري في جسدها الغض بهدوء دون أن تنشغل بعلاجه.

نعم بعد هذه السنين المرة من الفرقة والتشتّت بدأ المسلمون في أخريات المطاف يلعقون جراحاً خلّفتها سيوف إخوانهم لا سيوف أعدائهم في حين ينظر اليهم أعداؤهم بتشفّ وشماتة.

إنّ ما حلّ بالمسلمين من مصائب وتخلّف في كافة المستويات اوقعتهم في براثن المستعمرين أعداء الله ورسله يعود الى تفرق كلمتهم وتبعثر جهودهم وتمزّق وحدتهم، ولعل نظرة عاجلة لما يجري في بقاع المعمورة المختلفة يوضّح لنا هذه الصورة المؤلمة والمفجعة، فمن فلسطين مروراً بلبنان وأفغانستان، والبوسنة والهرسك، والصومال وغيرها وغيرها مشاهد مؤلمة لنتائج هذا التمزّق والتبعثر.

وإن كان من كلمة تقال فإنّ للجهود المخلصة الداعية إلى الالتفات إلى مصدر الداء لا أعراضه فقط الثقل الأكبر في توقي غيرها من المضاعفات الخطيرة التي تتولد كل يوم في بلد من بلاد المسلمين لا في غيرها.

ولا نغالي إذا قلنا بأنّ للجمهورية الإسلامية في إيران ومؤسّسها الإمام الخميني _ رضوان الله تعالى عليه _ الفضل الأكبر في تشخيص موضع الداء وتحديد موطنه.

ولعل الإستقراء المختصر لجمل توجيهات الإمامرحمه‌الله طوال حياته ولسنين طويلة يدلّنا بوضوح على قدرته التشخيصية في وضع يده على موضع الداء ودعوته الى الالتفات الى ذلك، لا إلى الإنشغال بما عداه.

٤

فمن نداء لهرحمه‌الله إلى حجاج بيت الله الحرام في عام ( ١٣٩٩ هجري) قال: ومن واجبات هذا التجمع العظيم دعوة الناس والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة الخلافات بين فئات المسلمين، وعلى الخطباء والوعّاظ والكتّاب أن يهتمّوا بهذا الأمر الحياتي ويسعوا إلى إيجاد جبهة للمستضعفين للتحرر بوحدة الجبهة ووحدة الكلمة وشعار (لا إله إلاّ الله) من أسر القوى الأجنبية الشيطانية والمستعمرة والمستغلة، وللتغلب بالاخوة الإسلامية على المشاكل.

يا مسلمي العالم، ويا أتباع مدرسة التوحيد رمز كل مصائب البلدان الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم الإنسجام، ورمز الانتصار وحدة الكلمة والإنسجام، وقد بيّن الله تعالى ذلك في جملة واحدة:( وُاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) والاعتصام بحبل الله تبيان لتنسيق جميع المسلمين من أجل الإسلام وفي اتجاه الإسلام ولمصالح المسلمين، والإبتعاد عن التفرقة والإنفصال والفئوية التي هي اساس كل مصيبة وتخلّف.

وقالرحمه‌الله في كلمة له مع وفد من كبار علماء الحرمين الشريفين(١٣٩٩ هجري): رمز انتصار المسلمين في صدر الإسلام كان وحدة الكلمة وقوة الإيمان.

لو كان ثمة وحدة كلمة إسلامية، ولو كانت الحكومات والشعوب الإسلامية متلاحمة فلا معنى لان يبقى ما يقارب مليارد إنسان مسلم تحت سيطرة القوى الأجنبية، لو أنّ هذه القدرة الإلهية الكبرى تقترن بقوة الإيمان ويسيروا جميعاً متآخين على طريق الإسلام فلا تستطيع أية قوة أن تتغلب عليهم.

وأكّدرحمه‌الله على مغزى سر انتصار المسلمين في صدر الإسلام الأوّل رغم قلّة عددهم وتواضع امكانياتهم، وانكسارهم في الوقت الحاضر مع عظم امكانياتهم وكثرة عددهم بقوله: يا مسلمي العالم ماذا دهاكم فقد دحرتم في صدر الإسلام بعدة قليلة جداً القوى العظمى وأوجدتم الأُمّة الكبرى الإسلامية الإنسانية، واليوم وأنتم تقربون من مليارد إنسان وتملكون مخازن الخيرات الكبرى التي هي أكبر حربة تقفون أمام العدو بمثل هذا الضعف والإنهيار، أتعلمون أنّ كلّ مآسيكم تكمن في التفرقة والاختلاف بين زعماء بلدانكم وبالتالي بينكم أنتم أنفسكم.

٥

وقال أيضاً: إثارة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية من الخطط الإجرامية التي تدبرّها القوى المستفيدة من الخلافات بين المسلمين، بالتعاون مع عملائها الضاّلين بمن فيهم وعاظ السلاطين المسودة وجوههم أكثر من سلاطين الجور أنفسهم، وهؤلاء يؤججون نيران هذه الاختلافات باستمرار، وكل يوم يرفعون عقيرتهم بنعرة جديدة، وفي كل مرحلة ينفذون خطة لإثارة الخلافات، آملين بذلك هدم صرح الوحدة بين المسلمين من أساسه.

وهكذا فإنّ الصورة تبدو أكثر وضوحاً عند قراءة سلسلة خطب الإمام الخميني وتوصياته المستمرة الى عموم المسلمين وخصوصاً في مواسم الحج التي تشكّل أفضل تجمّع إسلامي تشارك فيه أعداد ضخمة من المسلمين ومن شتّى بقاع المعمورة في مؤتمر ضخم لابد من أن يكرِّسه المسلمون لتدارس أُمورهم وعلاج مشاكلهم ومناقشة معتقداتهم، حيث أنّ الإمامرحمه‌الله كان يواظب على إثارة هذه الأُمور الحساسة والمهمة في حياة الإسلام والمسلمين، ولم يدخر في ذلك جهداً.

كما أنّ الإطلاع على فتاوى الإمام _ رضوان الله تعالى عليه _ يكشف بوضوح عمق توجهه الى هذا الأمر الحيوي والدقيق، وتأكيده عليه.

فمن توجيهاتهرحمه‌الله إلى الحجاج نورد هذه الملاحظات المختصرة.

قال: يلزم على الإخوة الإيرانيين والشيعة في سائر البلدان الإسلامية أن يتجنّبوا الأعمال السقيمة المؤدّية إلى تفرقة صفوف المسلمين، ويلزم الحضور في جماعات أهل السنّة، والإبتعاد بشدة عن تشكيل صلاة الجماعة في المنازل ووضع مكبّرات الصوت بشكلٍ غير مألوف وعن إلقاء النفس على القبور المطهرة وعن الأعمال التي قد تكون مخالفة للشرع.

يلزم ويجزي ( أي يكفي) في الوقوفين متابعة حكم القاضي من اهل السنّة، وإن حصل لكم القطع بخلافه.

على عامّة الإخوة والأخوات في الدين أن يلتفتوا إلى أنّ واحداً من أهم أركان فلسفة الحج إيجاد التفاهم وترسيخ الإخوة بين المسلمين.

وغير ذلك من الفتاوى المهمّة التي ندعو جميع المسلمين إلى مطالعتها والتأمّل فيها.

٦

وعلى هذا الخط المبارك واصلت الجمهورية الإسلامية مسارها في الدعوة إلى وحدة كلمة المسلمين بعد رحيل الإمام الخميني _ رضوان الله تعالى عليه _ وأخذت تؤكد عليه في كل مناسبة ومكان على لسان قائدها سماحة آية الله السيد علي الخامنئي _ حفظه الله _ وباقي مسؤوليها، ولم تدّخر جهداً في العمل على اقامة هذا الأمر الشرعي المهم والدفاع عنه، من خلال توجيهاتها المستمرة في هذا المنحى او دعمها غير المحدود لكل الجهود المخلصة في هذا الميدان.

وأخيراً.. فإنّ هذا الكتاب المائل بين يدي القارئ الكريم _ وهو بقلم الباحث القدير الشيخ جعفر السبحاني _ دعوة للتأمّل ضمن الحدود التي أشرنا اليها في حديثنا، وهي بالتالي تعكس صورة صادقة عن حجم الهجمة الكافرة التي ارادت تمزيق الأُمّة ودفعها الى التشتت، وبيان ما اخذت من مساحة واسعة في فكر هذه الأمُة ومعتقداتها.

بل لسنا في معرض الدفاع عن الوجود المقدس لهذه الشريعة السماوية فحسب، بل ابتغينا إزاحة اللثام وإماطة الخبث عن الدسائس الخبيثة التي تريد بالأمّة الهلاك.

وقد قامت معاونية شؤون التعليم والبحوث بنشره، حتى يعم نفعه ويتعرف المسلمون على الشيعة عن كثب. والله تعالى من وراء القصد.

بِسم اللهِ الرحمن الرحيم

تعرف الشيعة الإمامية بالفرقة الاثني عشرية، ومبعث هذه التسمية هو اعتقادهم باثني عشر إماماً من بني هاشم نصّ عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو معلوم للجميع، ومن ثمّ نصّ كل إمام على الإمام الذي بعد، بشكل يخلو من الشك والابهام.

لقد تضافر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يملك هذه الأمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل. وكما هو معلوم ومبسّط في كتب الشيعة بشكل لا يقبل الشك. إنّ هذه الروايات مع ما فيها من المواصفات لا تنطبق إلاّ على أئمة الشيعة والعترة الطاهرة«واذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشجرة وهم أغصانها، والدوحة وهم أفنانها، ومنبع العلم وهم عيبته، ومعدن الحكم وهم خزائنه، وشارع الدين وهم حفظته، وصاحب الكتاب وهم حملته» (١) فتلزم علينا معرفتهم، كيف وهم احد الثقلين اللّذين تركهما الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قدوة للأمّة ونوراً على جبين الدهر.

___________________

(١) اقتباس ممّا ذكره أمين الإسلام الطبرسي في مقدمة كتابه إعلام الورى بأعلام الهدى ٣.

٧

ونحن نحاول هنا أن نعرض في هذا الفصل موجزاً عن احوالهم وحياتهم متوخّين الاختصار والايجاز في ما نورده، لأنّ بسط الكلام عنهم يحتاج الى تدوين موسوعة كبيرة، وقد قام بذلك لفيف من علماء الإسلام فأثبتوا الشيء الكثير عن حياتهم وسيرتهم وأقوالهم، جزاهم الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

الإمام الأوّل: الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام

إنّ الإمام علي بن أبي طالب أشهر من أن يعرّف، ولقد قام لفيف من السنّة والشيعة بتأليف كتب وموسوعات عن حياته، ومناقبه، وفضائله، وجهاده، وعلومه، وخطبه، وقصار كلماته، وسياسته، وحروبه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، فالأولى لنا الاكتفاء بالميسور في هذا المجال، واحالة القارئ الى تلك الموسوعات، بيد أنّا نكتفي هنا بذكر اوصافه الواردة في السنّة فنقول:

هو أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين، وأوّل القوم ايماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأعظمهم مزيّة، وأقومهم بأمر الله، وأعلمهم بالقضية، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وباب الحكمة، والممسوس في ذات الله، خليفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الهاشمي، وليد الكعبة المشرّفة، ومُطهِّرها من كل صنم ووثن، الشهيد في البيت الإلهي (جامع الكوفة) في محرابه حال الصلاة سنة ٤٠ هجري.

وكل جملة من هذه الجمل، وعبارة من هذه العبارات، كلمة قدسيّة نبويّة أخرجها الحفّاظ من اهل السنّة(١) .

___________________

(١) راجع مسند احمد ١ / ٣٣١، ٥ / ١٨٢ _ ١٨٩، حلية الأولياء ١ / ٦٢ _ ٦٨، ولاحظ الغدير ٢ / ٣٣.

٨

الإمام علي ومكوّنات الشخصية:

تعود شخصية كل انسان _ حسب ما يرى علماء النفس _ إلى ثلاثة عوامل هامّة لكل منها نصيب وافر في تكوين الشخصية وأثر عميق في بناء كيانها.

وكأنّ الشخصية الإنسانية لدى كل انسان أشبه بمثلث يتألّف من اتّصال هذه الأضلاع الثلاثة بعضها ببعض، وهذه العوامل الثلاثة هي:

١ _ الوراثة.

٢ _ التعليم والثقافة.

٣ _ البيئة والمحيط.

إنّ كلّ ما يتّصف به المرء من صفات حسنة او قبيحة، عالية أو وضيعة تنتقل إلى الإنسان عبر هذه القنوات الثلاث، وتنمو فيه من خلال هذه الطرق.

وانّ الأبناء لا يرثون منّا المال والثروة والأوصاف الظاهرية فقط كملامح الوجه ولون العيون وكيفيات الجسم، بل يرثون كل ما يتمتّع به الآباء من خصائص روحية وصفات أخلاقية عن طريق الوراثة كذلك.

فالأبوان _ بانفصال جزئي «الحويمن» و«البويضة» المكوّنين للطفل منهما _ إنّما ينقلان _ في الحقيقة _ صفاتهما ملخّصة الى الخلية الاُولى المكوّنة من ذينك الجزأين، تلك الخلية الجنينية التي تنمو مع ما تحمل من الصفات والخصوصيات الموروثة.

ويشكّل تأثير الثقافة والمحيط، الضلعين الآخرين في مثلث الشخصية الإنسانية، فإنّ لهذين الأمرين أثراً مهمّاً وعميقاً في تنمية السجايا الرفيعة المودعة في باطن كل إنسان بصورة فطرية جبلية او المتواجدة في كيانه بسبب الوراثة من الأبوين.

فإنّ في مقدور كل معلّم ان يرسم مصير الطفل ومستقبله من خلال ما يلقي اليه من تعليمات وتوصيات وما يعطيه من سيرة وسلوك ومن آراء وأفكار، فكم من بيئة حوّلت أفراداً صالحين الى فاسدين، أو فاسدين الى صالحين.

وإنّ تأثير هذين العاملين المهمّين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى المزيد من البيان والتوضيح. على أننّا يجب أن لا ننسى دور ارادة الإنسان نفسه وراء هذه العوامل الثلاثة.

٩

الإمام عليعليه‌السلام والجانب الموروث في شخصيته:

لم يكن الإمام عليعليه‌السلام كبشر بمستثنى من هذه القاعدة.

فقد ورث الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام جانباً كبيراً من شخصيته النفسية والروحية والأخلاقية من هذه العوامل والطرق الثلاثة، وإليك تفصيل ذلك:

١ _ الإمام عليعليه‌السلام والوراثة من الأبوين:

لقد انحدر الإمام علي من صلب والد عظيم الشأن، رفيع الشخصية هو أبو طالب، ولقد كان أبو طالب زعيم مكّة، وسيّد البطحاء، ورئيس بني هاشم، وهو إلى جانب ذلك، كان معروفاً بالسماحة والبذل والجود والعطاء والعطف والمحبّة والفداء والتضحية في سبيل الهدف المقدّس، والعقيدة التوحيديّة المباركة.

فهو الذي تكفّل رسول الله مند توفّي عنه جدّه وكفيله الأوّل عبد المطلب وهو آنذاك في الثامنة من عمره، وتولّى العناية به والقيام بشؤونه، وحفظه وحراسته في السفر والحضر، بإخلاص كبير واندفاع وحرص لا نظير لهما، بل وبقي يدافع عن رسالة التوحيد، والدين الحق الذي جاء به النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقوم في سبيل ارساء قواعده ونشر تعاليمه بكل تضحية وفداء، ويتحمّل لتحقيق هذه الأهذاف العليا كل تعب ونصب وعناء.

وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلّى موقفه هذا في كثير من أشعاره وأبياته المجموعة في ديوانه بصورة كاملة مثل قوله:

ليعلم خيار الناس أنّ محمداً

نبيّ كموسى والمسيح ابن مريم

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً

رسولاً كموسى خط في أوّل الكتب(١)

___________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٣٧.

١٠

إنّ من المستحيل أن تصدر امثال هذه التضحيات التي كان أبرزها محاصرة بني هاشم جميعاً في الشعب ومقاطعتهم القاسية من دافع غير الايمان العميق بالهدف والشغف الكبير بالمعنوية، الذي كان يتّصف به أبو طالب، إذ لا تستطيع مجرّد الوشائج العشائرية، وروابط القربى، أن توجد في الإنسان مثل هذه الروح التضحوية.

إنّ الدلائل على ايمان أبي طالب بدين ابن اخيه تبلغ من الوفرة والكثرة بحيث استقطبت اهتمام كل المحقّقين المنصفين والمحايدين، ولكن بعض المتعصّبين توقّف في إيمان تلك الشخصية المتفانية العظيمة، بالدعوة المحمدية، بينما تجاوز فريق هذا الحد الى ما هو أبعد من ذلك، حيث قالوا بأنّه مات غير مؤمن.

ولو صحّت عُشر هذه الدلائل الدالة على ايمان أبي طالب الثابتة في كتب التاريخ والحديث، في حقّ رجل آخر لما شكّ أحد في ايمانه فضلاً عن إسلامه، ولكن لا يعلم الإنسان لماذا لا تستطيع كل هذه الأدّلة إقناع هذه الزمرة، وإنارة الحقيقة لهم ؟!

هذا عن والد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وأمّا اُمّه فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي من السابقات إلى الإسلام والإيمان برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كانت قبل ذلك تتّبع ملّة إبراهيم.

إنّها المرأة الطاهرة التي لجأت _ عند المخاض _ إلى المسجد الحرام، وألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول:

«يا ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي ابراهيم وانّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت و(بحق) المولود الذي في بطني إلاّ ما يسّرت عليّ ولادتي» .

١١

فدخلت فاطمة بنت اسد في الكعبة ووضعت عليّاً هناك(١) .

وتلك فضيلة نقلها قاطبة المؤرخين والمحدّثين الشيعة، وكذا علماء الأنساب في مصنّفاتهم، كما نقلها ثلّة كبيرة من علماء السنّة وصرّحوا بها في كتبهم واعتبروها حادثة فريدة، وواقعة عظيمة لم يسبق لها مثيل(٢) .

وقال الحاكم النيسابوري: وقد تواترت الأخبار انّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة(٣) .

وقال شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود الآلوسي: «وكون الامير كرم الله وجهه، ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه، كما اشتهر وضعه»(٤) .

٢ _ الإمام علي والتربية في حجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وأمّا التربية الروحية والفكرية والأخلاقية فقد تلقّاها عليعليه‌السلام في حجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي الضلع الثاني من أضلاع شخصيته الثلاثة.

ولو أنّنا قسّمنا مجموعة سنوات عمر الإمامعليه‌السلام إلى خمسة أقسام لوجدنا القسم الأوّل من هذه الأقسام الخمسة من حياته الشريفة، يشكلّ السنوات التي قضاهاعليه‌السلام قبل بعثة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وانّ هذا القسم من حياته الشريفة لا يتجاوز عشر سنوات، لأنّ اللّحظة التي ولد فيها عليعليه‌السلام لم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تجاوز الثلاثين من عمره المبارك، هذا مع العلم بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث بالرسالة في سنّ الأربعين.

___________________

(١) كشف الغمة ١ / ٦٠.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٤٩، شرح الشفاء للقاضي عياض ١ / ١٥١ وغيرهما، وقد أفرد العلامة الاردوبادي رسالة في هذه المنقبة وسمّاها: علي وليد الكعبة.

(٣) شرح عينية عبد الباقي أفندي العمري ١٥.

(٤) الغدير ٦ / ٢٢.

١٢

وعلى هذا الأساس لم يكن الإمام عليعليه‌السلام قد تجاوز السنة العاشرة من عمره يوم بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة، وتوّج بالنبوّة.

إنّ أبرز الحوادث في حياة الإمام عليعليه‌السلام هو تكوين الشخصية العلوية، وتحقّق الضلع الثاني من المثلّث الذي أسلفناه بواسطة النبيّ الأكرم وفي ظلّ ما أعطاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام من أخلاق وأفكار، لأنّ هذا القسم في حياة كل انسان وهذه الفترة من عمره هي من اللحظات الخطيرة، والقيمّة جدّاً، فشخصية الطفل في هذه الفترة تشبه صفحة بيضاء نقيّة تقبل كل لون وهي مستعدّة لان ينطبع عليها كل صورة مهما كانت، وهذه الفترة من العمر تعتبر _ بالتالي _ خير فرصة لأن ينمّي المربّون والمعلّمون فيها كلّما أودعت يد الخالق في كيان الطفل من سجايا طيّبة وصفات كريمة، وفضائل أخلاقية نبيلة، ويوقفوا الطفل _ عن طريق التربية _ على القيم الأخلاقية والقواعد الإنسانية وطريقة الحياة السعيدة، وتحقيقاً لهذا الهدف السامي تولّى النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه تربية عليعليه‌السلام بعد ولادته، وذلك عندما أتت فاطمة بنت أسد بوليدها عليعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقيت من رسول الله حبّاً شديداً لعلي حتى أنّه قال لها:

اجعلي مهده بقرب فراشي وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطهّر علياً في وقت غسله، ويوجر اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويلاحظه ويقول: هذا أخي، ووليّي وناصري وصفيّي وذخري وكهفي، وصهري، ووصيّي، وزوج كريمتي، وأميني على وصيّتي وخليفتي(١) .

ولقد كانت الغاية من هذه العناية هي ان يتم توفير الضلع الثاني في مثلّث الشخصية (وهو التربية) بواسطتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وان لا يكون لاحد غير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل في تكوين الشخصية العلوية الكريمة.

وقد ذكر الامام عليعليه‌السلام ما أسداه الرسول الكريم اليه وما قام به تجاهه في تلكم الفترة اذ قال:

(وقد علمتم موضعي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمّني الى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه»(٢) .

___________________

(١) كشف الغمة ١ / ٦٠.

(٢) نهج البلاغة _ شرح عبده _ ٢ / ١٨٢ الخطبة القاصعة.

١٣

النبي يأخذ عليّاً إلى بيته:

وإذا كان الله تعالى يريد لولي دينه أن ينشأ نشأة صالحة وأن يأخذ النبي عليّاً الى بيته وأن يقع منذ نعومة أظفاره تحت تربية النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألفت نظر نبيّه الى ذلك.

فقد ذكر المؤرخّون أنّه أصابت مكّة _ ذات سنة _ أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة، وكان أبو طالب _ رضي الله عنه _ ذا مال يسير وعيال كثير فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والضائقة والجهد والفاقة: فعند ذلك دعا رسول الله عمّه العباس الى أن يتكفّل كل واحد منهما واحداً من أبناء أبي طالب وكان العباس ذا مال وثروة وجدة فوافقه العباس على ذلك:

فأخذ النبي عليّاً، واخذ العباس جعفراً وتكفّل أمره، وتولّى شؤونه(١) .

وهكذا وللمرّة الأُخرى أصبح عليعليه‌السلام في حوزة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة كاملة، واستطاع بهذه المرافقة الكاملة ان يقتطف من ثمار أخلاقه العالية وسجاياه النبيلة، الشيء الكثير، وأن يصل تحت رعاية النبي وعنايته وبتوجيهه وقيادته، الى أعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يشير إلى تلك الأيام القيّمة وإلى تلك الرعاية النبويّة المباركة المستمرّة إذ يقول:

«ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل اثر اُمّه، يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به » (٢) .

___________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ٤٤، وسيرة ابن هشام ١ / ٢٤٦.

(٢) نهج البلاغة _ شرح عبده _ ٢ / ١٨٢.

١٤

علي في غار حراء

كان النبي _ حتى قبل أن يبعث بالرسالة والنبوّة _ يعتكف ويتعبّد في غار حراء شهراً من كل سنة، فإذا انقضى الشهر وقضى جواره من حراء انحدر من الجبل، وتوجّه إلى المسجد الحرام رأساً وطاف بالبيت سبعاً، ثمّ عاد إلى منزله. وهنا يطرح سؤال: وماذا كان شأن عليعليه‌السلام في تلك الأيام التي كان يتعبّد ويعتكف فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المكان مع ما عرفنا من حبّ الرسول الأكرم له؟ هل كان يأخذصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً معه إلى ذلك المكان العجيب أم كان يتركه ويفارقه؟

إنّ القرائن الكثيرة تدل على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ أن أخذ علياً لم يفارقه يوماً أبداً فهاهم المؤرّخون يقولون:

كان علي يرافق النبي دائماً ولا يفارقه أبداً حتى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج إلى الصحراء أو الجبل أخذ علياً معه(١) .

يقول ابن أبي الحديد:

وقد ذكر عليعليه‌السلام هذا الأمر في الخطبة القاصعة اذ قال:

«ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري» (٢) .

___________________

(١) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٠٨.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم ١٨٧.

١٥

إنّ هذه العبارة وإن كانت محتملة في مرافقته للنبي في حراء بعد البعثة الشريفة إلاّ انّ القرائن السابقة وكون مجاورة النبي بحراء كانت في الأغلب قبل البعثة، تؤيّد أنّ هذه الجملة، يمكن أن تكون اشارة الى صحبة علي للنبي في حراء قبل البعثة.

إنّ طهارة النفسيّة العلوية، ونقاوة الروح التي كان عليعليه‌السلام يتحلىّ بها، والتربية المستمرّة التي كان يحظى بها في حجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كل ذلك كان سبباً في أن يتّصف عليعليه‌السلام ومنذ نعومة أظفاره _ ببصيرة نفّاذة وقلب مستنير، واُذن سميعة واعية تمكّنه من أن يرى أشياءً ويسمع امواجاً تخفى على الناس العاديين ويتعذّر عليهم سماعها ورؤيتها، كما يصرّخ نفسه بذلك اذ يقول:

«أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة» (١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام :

«كان علي عليه‌السلام يرى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الرسالة، الضوء ويسمع الصوت» .

وقد قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصيّ نبيّ ووارثه، بل أنت سيّد الاوصياء وإمام الأتقياء(٢) .

___________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم ١٨٧.

(٢) ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١٠.

١٦

ويقول الإمام عليعليه‌السلام : لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان ايس من عبادته، ثمّ قال له:

«إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير» (١) .

هذا هو الرافد الثاني الذي كان يرفد الشخصية العلوية بالأخلاق والسجايا الرفيعة.

٣ _ البيئة الرسالية وشخصية الإمام:

ولو أضفنا ذينك الأمرين (أي ما اكتسبه من والديه الطاهرين بالوراثة، وما تلقّاه في حجر النبي ) الى ما أخذه من بيئة الرسالة والإسلام من أفكار وآراء رفيعة، وتأثر عنها أدركنا عظمة الشخصية العلوية من هذا الجانب.

ومن هنا يحظى الإمام عليعليه‌السلام بمكانة مرموقة لدى الجميع: مسلمين وغير مسلمين، لما كان يتمتع به من شخصية سامقة، وخصوصيات خاصة يتميّز بها.

وهذا هو ما دفع بالبعيد والقريب الى ان يصف عليّاً بما لم يوصف به احد من البشر، ويخصّه بنعوت، حرم منها غيره، فهذا الدكتور شبلي شميل المتوفّى ١٣٣٥ وهو من كبار الماديين في القرن الحاضر يقول:

«الإمام علي بن ابي طالب عظيم العظماء نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً» (٢) .

___________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة الرقم ١٨٧.

(٢) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ١ / ٣٧.

١٧

وقال عمر بن الخطاب:

«عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب» (١) .

ويقول جورج جرداق الكاتب المسيحي اللبناني المعروف:

«وماذا عليك يا دنيا لو حشدت قواك فأعطيت في كل زمن عليّاً بعقله وقلبه ولسانه وذي فقاره» (٢) .

___________________

(١) الغدير ٦ / ٣٨ طبعة النجف.

(٢) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية ١ / ٤٩.

١٨

هذه الأبعاد التي ألمحنا اليها هي الأبعاد الطبيعية للشخصية العلوية.

البعد الرابع لشخصية الإمامعليه‌السلام :

غير أنّ أبعاد شخصية الإمام عليعليه‌السلام لا تنحصر في هذه الأبعاد الثلاثة، فإنّ لأولياء الله سبحانه بعداً رابعاً، داخلاً في هوية ذاتهم، وحقيْة شخصيتهم وهذا البعد هو الذي ميّزهم عن سائر الشخصيات وأضفى عليهم بريقاً خاصّاً ولمعاناً عظيماً.

وهذا البعد هو البعد المعنوي الذي ميّز هذه الصفوة عن الناس، وجعلهم نخبة ممتازة وثلّة مختارة من بين الناس وهو كونهم رسل الله وأنبياءه، أو خلفاءه وأوصياء أنبيائه.

نرى أنّه سبحانه يأمر رسوله أن يصف نفسه بقوله:( قُل سُبحان رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَراً رَسُولاً ) (١) .

فقوله: ( بَشَراً) إشارة الى الأبعاد البشرية الموجودة في كل انسان طبيعي، وإن كانوا يختلفون فيها في ما بينهم كمالاً ولمعاناً.

وقوله: ( رَسُولاً) إشارةإلى ذلك البعد المعنوي الذي ميّزه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الناس وجعله معلّماً وقدوة للبشر.

فلأجل ذلك يقف المرء في تحديد الشخصيات الإلهية على شخصية مركّبة من بعدين: طبيعي وإلهي ولا يقدر على توصيفها إلاّ بنفس ما وصفهم الله به سبحانه مثل قوله في شأن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( الِّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فيِ التَّوراةِ وَالإنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمعرُوفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحرّمُ عَلَيِهمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إصرَهُم وَالأغلالَ الَّتِي كانَت عَلَيهِم ) (٢) وقد نزلت في حق الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام آيات ووردت روايات.

كيف وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن ابي طالب عليه‌السلام » (٣) .

___________________

(١) الاسراء / ٩٣.

(٢) الأعراف / ٥٧.

(٣) أخرجه الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخه ٤ / ٤١٠.

١٩

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي فليوال عليّاً بعدي، وليوال وليّه، وليقتد بالأئمة من بعدي فإنّهم عترتي خلقوا من طينتي، رزقوا فهماً وعلماً، وويل للمكذّبين بفضلهم من اُمتّي، القاطعين فيهم صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي» (١) .

وقال الإمام أحمد بن حنبل:

ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح مثل ما لعلي _ رضي الله عنه _(٢) .

وقال الإمام الفخر الرازي:

من اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه(٣) .

وقال أيضاً:

من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهم أدر الحقّ مع علي حيث دار(٤) .

___________________

(١) أخرجه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ٨٦.

(٢) مناقب أحمد لابن الجوزي الحنبلي ١٦٣.

(٣) تفسير مفاتيح الغيب ١ / ٢٠٥.

(٤) المصدر نفسه ٢٠٤.

٢٠