الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر0%

الأئمة الاثنا عشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 116

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

الصفحات: 116
المشاهدات: 62123
تحميل: 7389

توضيحات:

الأئمة الاثنا عشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 116 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62123 / تحميل: 7389
الحجم الحجم الحجم
الأئمة الاثنا عشر

الأئمة الاثنا عشر

مؤلف:
العربية

شهادته:

لما نقض معاوية عهده مع الإمام الحسنعليه‌السلام وما كان ذلك بغريب على رجل أبوه أبو سفيان وأمّه هند، وهو طليق ابن طلقاء _ عمد الى اخذ البيعة ليزيد ولده _ المشهور بمجونه وتهتكه وزندقته _ وما كان شيء أثقل عليه من امر الحسن بن عليعليهما‌السلام فدس إليه السم، فمات بسببه.

فقد روي: أنّ معاوية أرسل الى ابنة الأشعث (وكانت تحت الحسنعليه‌السلام ) إنّي مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن علي. وبعث إليها بمائة ألف درهم، فقبلت وسمّت الحسن، فسوّغها المال ولم يزوّجها منه(١) .

فلمّا دنا موته أوصى لاخيه الحسينعليه‌السلام وقال: «اذا قضيت نحبي غسّلني وكفّني واحملني على سريري الى قبر جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ ردّني الى قبر جدّتي فاطمة بنت أسد فادفنّي هناك، وبالله أقسم عليك أن تهريق في امري محجمة دم.

فلمّا حملوه الى روضة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشكّ مروان ومن معه من بني أميّة انّهم سيدفنونه عند جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتجمّعوا له ولبسوا السلاح، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا احب!! وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجاء هي خير من دعةٍ، أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبيّ. وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أميّة. ولاجل وصيّة الحسن مضوا به الى البقيع ودفنوه عند جدته فاطمة بنت أسد(٢) .

وتوفي الحسن وله من العمر ٤٧ عاماً وكانت سنة وفاته سنة ٥٠ من الهجرة النبويّة. والعجيب أنّ مروان بن الحكم حمل سريره الى البقيع فقال له الحسين:«أتحمل سريره!! أما والله لقد كنت تجرّعه الغيظ» فقال مروان: إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال(٣) .

___________________

(١) مقاتل الطالبيين ٧٣.

(٢) الارشاد ١٩٣، كشف الغمة ١ / ٢٠٩، مقاتل الطالبيين ٧٤ _ ٧٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ٧٦.

٤١

ولما بلغ معاوية موت الحسنعليه‌السلام سجد وسجد من حوله وكبّر وكبّروا معه، ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار وابن عبد البرّ في الاستيعاب وغيرهما.

فقال بعض الشعراء:

أصبح اليوم ابن هند شامتا

ظاهر النخوة إذ مات الحسن

يا ابن هند إن تذق كأس الردى

تكُ في الدهر كشيء لم يكن

لست بالباقي فلا تشمت به

كل حيّ للمنايا مرتهن(١)

هذه لمحة عن حياة الحسن المشحونة بالحوادث المريرة. وتركنا الكثير ممّا يرجع الى جوانب حياته، خصوصاً ما نقل عنه من الخطب والرسائل والكلم القصار، ومن أراد التفصيل فليرجع الى تحف العقول(٢) فقد ذكر قسماً كبيراً من كلماته.

___________________

(١) الأمين العاملي: في رحاب أئمّة أهل البيت ٤٣.

(٢) الحرّاني، حسن بن شعبة، تحف العقول ٢٢٥ _ ٢٣٦.

٤٢

الإمام الثالث: الحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام سيد الشهداء

هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر، وثاني السبطين، وسيدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، وسيد الشهداء، وأمّه فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، ولما ولد جيء به الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستبشر به، وأذن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فلمّا كان اليوم السابع سمّاه حسينا، وعقّ عنه بكبش، وأمر أُمّه ان تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره فضّة، كما فعلت بأخيه الحسن، فامتثلتعليها‌السلام ما أمرها به.

ولقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة ٦١ من الهجرة، وقيل يوم السبت، وكان قد ادرك من حياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس أو ست سنوات، وعاش مع ابيه ٣٦ سنة، ومع اخيه ٤٦ سنة.

إنّ حياة الإمام الحسين من ولادته الى شهادته حافلة بالأحداث، والاشارة _ فضلاً عن الاحاطة _ الى كل ما يرجع اليه يحتاج الى تأليف مفرد، وقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون والباحثون عن جوانب من حياتهعليه‌السلام حيث تحدثوا في مؤلّفاتهم المختلفة عن النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه، وعن علمه ومناظراته ، وخطبه وكتبه وقصار كلمه، وفصاحته وبلاغته، ومكارم أخلاقه وكرمه وجوده، وزهده، وعبادته، ورأفته بالفقراء والمساكين، وعن أصحابه والرواة عنه، والجيل الذي تربّى على يديه. وذلك في مؤلّفات قيمة لا تعد ولا تحصى.

غير أنّ للحسينعليه‌السلام وراء ذلك، خصيصه أُخرى وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به، والذي اصبح مدرسة سياسية دينية، لعلها أصبحت الطابع المميز لهعليه‌السلام والصبغة التي اصطبغت حياته الشريفة بها، وأسوة وقدوة مدى اجيال وقرون، ولم يزل منهجه يؤثّر في ضمير الامّة ووعيها، ويحرّك العقول المتفتّحة، والقلوب المستنيرة الى التحرّك والثورة ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.

وها نحن نقدم اليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيارات الإلحادية والانهيار الخلقي.

٤٣

إباؤه للضيم ومعاندة الجور:

لما توفّي أخوه الحسن في العام الخمسين من الهجرة أوصى اليه بالإمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون اليه في حلّهم وترحالهم، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون اليه ما يكون من الاحداث المهمّة التي لا توافق هوى السلطة الاموية المنحرفة، والتي قد تشكل خطراً جدياً على وجودها غير المشروع، ولقد كان هم هذه السلطة هو الإمام الحسينعليه‌السلام لما يعرفونه عنه من موقف لا يلين ولا يهادن في الحق، ومن هنا فقد كتب مروان بن الحكم _ وكان عامل معاوية على المدينة _: إنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون الى الحسين بن علي وأنّه لا يأمن وثوبه، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني انّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن ان يكون هذا ايضاً لما بعده.

ولما بلغ الكتاب الى معاوية كتب رسالة الى الحسين وهذا نصّها: أمّا بعد: فقد انتهت اليّ أمور عنك ان كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر الله انّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وأنّ حقّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله لها...(١) .

ولما وصل الكتاب الى الحسين بن علي، كتب اليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده، نقتبس منها ما يلي:

«ألست قاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين، الذين ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، جرأة على الله واستخفافاً بعهده.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من شعف الجبال.

أولست المدعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويُسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك.

___________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٦٣.

٤٤

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنّهم على دين علي _ صلوات الله عليه _ فكتبت اليه: أن اقتل كل من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف»(١) .

هذا هو الحسين، وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.

رفضه البيعة ليزيد:

لما هلك معاوية في منتصف رجب سنة ٦٠ هجرية كتب يزيد الى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسينعليه‌السلام بالبيعة له، فأنفذ الوليد الى الحسينعليه‌السلام فاستدعاه، فعرف الحسين ما أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال:«اجلسوا على الباب، فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ» .

وصارعليه‌السلام إلى الوليد فنعى الوليد اليه معاوية فاسترجع الحسينعليه‌السلام ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاوية، فقال الحسينعليه‌السلام «إني لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سراً حتى أبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس» ، فقال له الوليد: أجل، فقال الحسينعليه‌السلام :«فتصبح وترى رأيك في ذلك» فقال الوليد: انصرف على اسم الله تعالى، فقال مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها ابداً حتى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع او تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسينعليه‌السلام وقال:«أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت» ثمّ خرج(٢) .

___________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٦٤.

(٢) الشيخ المفيد: الارشاد ٢٠٠ طبع النجف.

٤٥

وأصبح الحسين من غده يستمع الاخبار، فاذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبد الله إنّي أرشدك لبيعة يزيد فانّها خير لك في دينك وفي دنياك، فاسترجع الحسين وقال:«إنّا لله وإنّا إليه راجعون وعلى الإسلام السلام اذا بليت الأمّة براع مثل يزيد، ثمّ قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد!! ويزيد رجل فاسق، لقد قلت شططاً من القول وزللاً، ولا الومك فإنّك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب ابيك الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، اليك عنّي يا عدوّ الله، فإنّا أهل بيت رسول الله الحق فينا ينطق على ألسنتنا، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فاذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما امروا فابتلاهم بابنه يزيد» (١) .

ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة الى مكة، ولما بلغ اهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا الى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه القدوم اليهم في الكوفة لانّ القوم قد بايعوه ونبذوا بيعة الامويين، وألّحوا في ذلك الامر أيّما الحاح، مبّينين للإمامعليه‌السلام أنّ السبل ميسرة والظروف مهيأة لقدومه، حيث كتب له وجهاؤهم من جملة ما كتبوه:«أمّا بعد: فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فاذا شئت فأقبل على جند لك مجنّدة» .

ولما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسينعليه‌السلام أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل _ رضوان الله عليه _ الى الكوفة ممثلاً عنه لأخذ البيعة له منهم، وللتحقّق من جدية هذا الأمر، ثمّ كتب اليهم:«أمّا بعد: فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم انّه ليس علينا امام فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى، وإنّي باعث اليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ: انّه قد اجتمع رأي ملائكم وذوو الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأته في كتبكم، فإنّي أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله» (٢) .

___________________

(١) الخوارزمي: مقتل الحسين ١ / ١٨٤ _ ١٨٥.

(٢) المفيد: الارشاد ٢٠٤.

٤٦

ثمّ خرج الإمام من مكة متوجّهاً الى الكوفة يوم التروية او يوماً قبله مع اهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته، وكان كتاب من مسلم بن عقيل قد وصل اليه يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً من اهل الكوفة، وذلك قبل أن تنقلب الامور على مجاريها بشكل لا تصدّقه العقول، حيث استطاع عبيد الله بن زياد بخبثه ودهائه، وافراطه في القتل، أن يثبط همم أهل الكوفة، وأن تنكث بيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويقتل سفيره بشكل وحشي بشع.

ولما أخذ الإمامعليه‌السلام يقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد الله بن زياد لاستقدامه واكراهه على اعطاء البيعة ليزيد وارساله قهراً الى الكوفة، فعند ذلك قام الإمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحر بقوله:«أيها الناس إنّ رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً حرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحّلوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غَيَّر» (١) .

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق:

رغم انّ الدافع الظاهري لهجرتهعليه‌السلام الى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتى أنّ الإمام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سرّ مجيئه الى العراق فقال:«كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم» (٢) .

___________________

(١) الطبري: التاريخ ٤ / ٣٠٤ حوادث سنة ٦١ هجري، وأمّا ما جرى على الإمام وأهل بيته حتى نزل أرض كربلاء فراجع المقاتل.

(٢) المفيد: الارشاد ٢٢٤ _ ٢٢٨.

٤٧

إلاّ ان السر الحقيقي لهجرتهعليه‌السلام رغم ادراكه الواضح لما سيترتب عليها من نتائج خطرة ستؤدي بحياته الشريفة، وهو ما وطّن نفسهعليه‌السلام عليه، يمكن ادراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته وكيفية تعامله مع مجريات الاحداث. انّ الامر الذي لا مناص من الذهاب اليه هو ادراك الإمامعليه‌السلام ما يشكله الاذعان والتسليم لتولّي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين رغم ما عُرف عنه من تهتك ومجون وانحراف واضح عن ابسط المعايير الإسلامية، وفي هذا مؤشّر خطر عن عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الإسلامية، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي.

ومن هنا فكان لابد من وقفة شجاعة تعيد للأمّة جانباً من رشدها المضاع وتفكيرها المسلوب. إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد أعلنها صراحة بقوله لما طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد، حيث قال:« فعلى الإسلام السلام اذا بليت الامّة براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً.

نعم إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:«صنفان من أُمّتي اذا صلحا صلحت أمّتي واذا فسدا فسدت أُمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ فقال: الفقهاء والأمراء» (١) ، فاذا كان صلاح الامّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الامر إلاّ عيثاً وفساداً.

إنّ القيادة الإسلامية بين التنصيص والشورى، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورى من الامّة، وهذا ما ادركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا الى الحسينعليه‌السلام رسالة جاء فيها: أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الامّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها(٢) .

___________________

(١) القمي: سفينة البحار ٢ / ٣٠ مادة أمر.

(٢) الجزري: الكامل ٢ / ٢٦٦ _ ٢٦٧، والارشاد ٢٠٣.

٤٨

ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حق الأمّة بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف وليس بخاف على أحد، وإلى تلك الحقيقة الممجوجة يشير الإمام عليعليه‌السلام في كتاب له الى معاوية، حيث يقول:

«فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الامور، فقد سلكت مدارج اسلافك بادعائك الأباطيل واقتحامك غرور المين والاكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحق وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك، وملئ به صدرك، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال المبين» (١)

هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين الى الثورة، وتقديم نفسه وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم، مع علمه بأنّه وفقاً لما تحت يديه من الامكانات المادية لن يستطع ان يواجه دولة كبيرِة تمتلك القدرات المادية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أي ثورة فتية، نعم إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة، إلاّ أنّه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدسة شجرة الإسلام الوارفة التي يريد الأمويون اقتلاعها من جذورها.

كما أنّ الإمامعليه‌السلام أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الامّة فجعلها حائرة مترددة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور، وان تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الأجيال معنى البطولة والتضحية من اجل المبادئ والعقائد، وكان كل ذلك بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام ، والتاريخ خير شاهد على ذلك.

كان المعروف منذ ولادة الإمام الحسينعليه‌السلام أنّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة، كما أنّ هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتمية استشهادهعليه‌السلام ، ومن ذلك:

١ _ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:«إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج انس بن الحارث فقتل بها مع الحسينعليه‌السلام (٢) .

___________________

(١) نهج البلاغة، قسم الكتب، برقم ٦٥.

(٢) الاصابة ١ / ٨١ برقم ٢٦٦.

٤٩

٢ _ إنّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الإمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج إلى العراق يشكّل خطراً كبيراً على حياة الإمامعليه‌السلام وأهل بيته ولاجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصرّوا عليه عدم الخروج، ويتمثّل ذلك في كلام اخيه محمّد ابن الحنفية، وابن عمّه ابن عباس، ونساء بني عبد المطلب، ومع ذلك اعتذر لهم الإمام وأفصح عن عزمه على الخروج(١) .

٣ _ لما عزم الإمام المسير إلى العراق خطب وقال:« الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى اسلافي، اشتياق يعقوب الى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا ألاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء فيملأن منّي أكراشاً جُوّفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فانّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى» (٢) .

٤ _ لمّا بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسينعليه‌السلام دخل عليه فلامه في المسير، ولما رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل(٣) .

٥ _ لمّا خرج الحسينعليه‌السلام من مكة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أعجلك عن الموسم؟ قال: « لو لم أعجل لاخذتُ، ثمّ قال له: أخبرني عن الناس خلفك: فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك(٤) .

___________________

(١) لاحظ المحاورات التي جرت بين الإمام وهؤلاء في الارشاد ٢٠١ _ ٢٠٢ طبع النجف ومقاتل الطالبيين ١٠٩، اللهوف ٢٠ طبعة بغداد.

(٢) اللهوف ٤١ طبعة بغداد.

(٣) تذكرة الخواص ٢١٧ _ ٢١٨.

(٤) الارشاد ٢١٨.

٥٠

٦ _ لما أتى الى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، قال لأصحابه: « لقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس معه ذمام» فتفرّق الناس عنه، واخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير مّمن انضمّوا اليه. ومع ذلك فقد واصلعليه‌السلام مسيره نحو الكوفة، ولما مرّ ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال عمر بن لوذان، فسأل الإمام: أين تريد؟ فقال له الحسينعليه‌السلام «الكوفة» فقال الشيخ: أنشدك لما انصرفت، فوالله ما تقدِمُ إلاّ على الأسنّة وحدّ السيوف، فقال له الحسين:«ليس يخفى علي الرأي، وأنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره» (١) .

وفي نفس النص دلالة على أنّ الإمام كان يدرك ما كان يتخوفّه غيره، وأنّ مصيره لو سار الى الكوفة هو القتل، ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة من أجل نصرة الدين ورد كيد أعدائه، وحتى لا تبقى لاحد حجة يتذرّع بها لتبرير تخاذله وضعفه.

نعم لقد كان الحسينعليه‌السلام على بيّنة من أمره وما سيؤول اليه سفره من مصير محتوم، فلا شيء يقف امام ارادته من اجل اعلاء كلمة الدين وتثبيت دعائمه التي اراد الأمويون تقويضها، أنظر اليه وهو يخاطب الحر بن يزيد الرياحي الذي يحذّره من مغبّة اصراره على موقفه حيث يقول له: «أفبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الاوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول، فقال:

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما

وواسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما

فإن عشت لم أندم وإن مِتُّ لمَ أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما»(٢)

___________________

(١) المصدر نفسه: ٢٢٣.

(٢) المفيد: الارشاد ٢٢٥، والطبري في تاريخه ٥ / ٢٠٤.

٥١

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسينعليه‌السلام أثر كبير في ايقاظ شعور الأمّة وتشجيعها على الثورة ضدّ الحكومة الأموية التي أصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولاجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها ولكن كان لها الدور الأساسي في سقوط الحكومة الأموية بعد زمان.

ولقد أجاد من قال: لولا نهضة الحسينعليه‌السلام وأصحابه _ رضي الله عنهم _ يوم الطف لما قام للإسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، ولاماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الإسلام من ساعة قيامه الى قيام الساعة رهين شكر للحسينعليه‌السلام وأصحابه _ رضي الله عنهم_(١) .

بلى، أنّى للإمام الحسينعليه‌السلام الاذعان لحقيقة تسلّم يزيد مقاليد خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يزيد المنحرف الفاسد، عدوّ الله وعدوّ رسوله، الذي لم يستطع اخفاء دفائنه عندما أحضر رأس سيد الشهداء بين يديه حيث أنشد:

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا قتل بدر فاعتدل

لأهلّوا واستهّلوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل(٢)

___________________

(١) جنّة المأوى ٢٠٨ للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.

(٢) البيتان الأوّلان لابن الزبعرى، والثلاثة الأخيرة ليزيد، لاحظ تذكرة الخواص ٢٣٥.

٥٢

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً الى العراق والحوادث التي تعرّضت له في مسيره الى أن نزل بأرض كربلاء، والتي استشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم ٧٢ شخصاً، ظمآناً وعطشاناً، فهو خارج عن موضوع البحث. وقد أُلّف فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات. فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

الإمام الرابع: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام زين العابدين

هو رابع أئمة أهل البيت الطاهر، المشهور بزين العابدين أو سيّدهم، والسجّاد، وذو الثفنات.

ولد في المدينة سنة ٣٨ أو ٣٧ هجري، وتوفّي بها عام ٩٥ أو ٩٤ هجري، يوم السبت الثاني عشر من محرّم.

قال ابن خلّكان: هو أحد الأئمة الإثني عشر ومن سادات التابعين. قال الزهري: ما رأيت قرشيّاً أفضل منه. وفضائله ومناقبه أكثر من أن تحصي وتذكر، ولما توفّي دفن في البقيع في جنب عمّه الحسن في القبّة التي فيها قبر العباس _ رضي الله عنه _(١) .

ولقد تولّى الإمامة بعد استشهاد أبيه الحسين _ عليه السلام _ في كربلاء، وللاطلاع على النصوص الواردة في إمامته ينبغي الرجوع إلى كتب الحديث والعقائد المتكفّلة بهذا الجانب المهم، وأخص منها بالذكر كتاب «الكافي» للكليني، و«الإرشاد» للشيخ المفيد، و«كفاية الأثر» للخزار، و«اثبات الهداة» للحر العاملي.

ومن أراد الأطلاع على مناقبه وكراماته وفضائله في مجالات شتّى كالعلم، والحلم، والجرأة والاقدام، وثبات الجنان، وشدة الكرم والسخاء، والورع، والزهد، والتقوى، وكثرة التهجّد والتنفّل، والفصاحة والبلاغة، وشدة هيبته بين الناس ومحبّتهم له، وتربيته لجيل عظيم من الصحابة والعلماء أوقفوا حياتهم في خدمة الإسلام، وغير ذلك ممّا لا يسعنا التعرّض لها هنا، فعليه طلب ذلك في الموسوعات المتعدّدة التي تعرّضت لذلك بالشرح والتفصيل.

جوانب من سيرته عليه السلام

إلاّ أنّا نكتفي هنا بجانب من سيرتهعليه‌السلام تتعلّق بجملة محدّدة من الأمور:

___________________

(١) وفيات الأعيان ٣ / ٢٦٧ _ ٢٦٩.

٥٣

١ _ هيبته ومنزلته العظيمة:

لقد كانعليه‌السلام مهاباً جليلاً بين الناس بشكل كبير، حتى أنّ هذه المنزلة العظيمة جعلت الامراء والحكّام يحسدونه عليها، والتاريخ يذكر لنا على ذلك شواهد كثيرة ومتعدّدة، ومن ذلك:

لمّا حجّ هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة اجتهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يمكنه ذلك، وجاء علي بن الحسينعليهما‌السلام فتوقّف له الناس، وتنحّوا حتى استلم، فقال جماعة لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه (مع أنّه كان يعرفه أنّه علي بن الحسينعليه‌السلام ) فسمعه الفرزدق، فقال: لكنّي أعرفه، هذا علي بن الحسين زين العابدين، وأنشد هشاماً قصيدته التي منها هذه الأبيات:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلّهم

هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ

يُغضي حياء ويُغضى من مهابته

فما يكلّم إلاّ حين يبتسمُ

إذا رأته قريش قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ

إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمّتهم

أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله

بجدّه أنبياء الله قد خُتموا

وليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف من أنكرت والعجمُ

إلى آخر القصيدة التي حفظتها الأمّة وشطرها جماعة من الشعراء. وقد ثقل ذلك على هشام فأمر بحبسه، فحبسوه بين مكة والمدينة، فقال معترضاً على عمل هشام:

أيحبسني بين المدينة والتي

إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد

وعيناً له حولاء باد عيوبها

فأخرجه من الحبس فوجّه إليه علي بن الحسينعليهما‌السلام عشرة آلاف درهم وقال:«اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به» فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلاّ لله، فقال له عليعليه‌السلام «قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً لم نرجع فيه» وأقسم عليه فقبلها.

٥٤

٢ _ زهده وعبادته ومواساته للفقراء:

أمّا زهده وعبادته ومواساته للفقراء، وخوفه من الله فغني عن البيان.فقد روي عنهعليه‌السلام أنّه اذا توضّأ اصفرّ لونه، فيقال: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ قال:«أتدرون بين يدي من اريد أن أقف» .

ومن كلماتهعليه‌السلام «أنّ قوماً عبدوا الله رياضة فتلك عبادة العبيد، وأن قوماً عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وأنّ قوماً عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار» .

وكان إذا أتاه سائل يقول له :«مرحباً بمن يحمل زادي الى الآخرة» .

وكانعليه‌السلام كثير الصدقات حريصاً عليها، وكان يوصل صدقاته ليلاً دون أن يعلم به احد، وقد روي انه _ عليه اللام _ كان يعول مائة عائلة من أهالي المدينة لا يدرون من يأتيهم بالصدقات، ولما توفّيعليه‌السلام أدركوا ذلك.

وفي رواية: أنّهعليه‌السلام كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به ويقول:«صدقة السر تطفئ غضب الربّ» .

وفي رواية كان اهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسينعليه‌السلام (١) .

وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت رجلاً اورع من فلان _ وسمّى رجلاً _ فقال له سعيد: أما رأيت علي بن الحسين؟ فقال: لا، فقال: ما رأيت اورع منه.

وقال أبو حازم: ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين.

وقال طاووس: رأيت علي بن الحسينعليهما‌السلام ساجداً في الحجر فقلت: رجل صالح من أهل بيت طيّب لأسمعن ما يقول، فأصغيت اليه فسمعته يقول:«عُبيدُك بفنائك، مسكينك بفنائك، سائلك بفنائك، فقيرك بفنائك» قال طاووس: فوالله ما دعوت بهنّ في كرب إلا كشف عنّي.

___________________

(١) تذكرة الخواص ٢٩٤.

٥٥

وكان يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فاذا أصبح سقط مغشياً عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة، وكان يوماً خارجاً فلقيه رجل فسبّه فثارت اليه العبيد والموالي، فقال لهم عليعليه‌السلام : «مهلاً كفّوا» ثمّ أقبل على ذلك الرجل فقال له :« ما ستر عنك من امرنا اكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحى الرجل فألقى اليهعليه‌السلام خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان ذلك الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسل(١) .

الثروة العلمية للإمام:

أمّا الثروة العلمية والعرفانية، فهي أدعيته التي رواها المحدّثون بأسانيدهم المتضافرة، والتي جمعت بما أسمي بالصحيفة السجّادية المنتشرة في العالم، فهي زبور آل محمد، ومن الخسارة الفادحة ان اخواننا اهل السنّة _ إلاّ النادر القليل منهم _ غير واقفين على هذا الأثر القيّم الخالد.

نعم، انّ فصاحة ألفاظها، وبلاغة معانيها، وعلوّ مضامينها، وما فيها من انواع التذلّل لله تعالى والثناء عليه، والاساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل اليه، أقوى شاهد على صحّة نسبتها اليه، وانّ هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً الى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدّد أسانيدها المتّصلة، الى منشئها، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعدّدة المتّصلة، الى زين العابدين(٢) .

وقد أرسل احد الاعلام نسخة من الصحيفة مع رسالة الى العلاّمة الشيخ الطنطاوي ( المتوفّى عام ١٣٥٨ هجري) صاحب التفسير المعروف، فكتب في جواب رسالته:«ومن الشقاء إنّا الى الآن لم نقف على هذا الأثر القيّم الخالد في مواريث النبوّة وأهل البيت، وإنّي كلّما تأمّلتها رأيتها فوق كلام المخلوق، دون كلام الخالق» (٣) .

___________________

(١) كشف الغمّة ٢ / ٢٩٢ _ ٢٩٣.

(٢) في رحاب أئمّة أهل البيت ٣ / ٤١٤.

(٣) مقدمة الصحيفة بقلم العلامّة المرعشيقدس‌سره ٢٨.

٥٦

وكان المعروف بين الشيعة هو الصحيفة الاولى التي تتضمنّن واحداً وستين دعاء في فنون الخير وأنواع السؤال من الله سبحانه، والتي تعلّم الإنسان كيف يلجاً الى ربّه في الشدائد والمهمّات، وكيف يطلب منه حوائجه، وكيف يتذلّل ويتضرّع له، وكيف يحمد ويشكر له. غير أنّ لفيفاً من العلماء استدركوا عليها فجمعوا من شوارد ادعيته صحائف خمسة اخيرتها ما جمعه العلاّمة السيد محسن الامين العامليقدس‌سره .

ولقد قام العلاّمة الحجة السيّد محمد باقر الابطحي _ دام ظله _ بجمع جميع ادعية الإمام الموجودة في هذه الصحف في جامع واحد، وقال في مقدمته:

وحرّي بنا القول إنّ ادعيتهعليه‌السلام كانت ذات وجهين: وجهاً عبادياً، وآخر اجتماعياً يتّسق مع مسار الحركة الاصلاحية التي قادها الإمامعليه‌السلام في ذلك الظرف الصعب. فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة ان يمنح ادعيته _ الى جانب روحها التعبّدية _ محتوىً اجتماعياً متعدّد الجوانب، بما حملته من مفاهيم خصبة، وأفكار نابضة بالحياة، فهوعليه‌السلام صاحب مدرسة الهية، تارة يعلّم المؤمن كيف يمجّد الله ويقدّسه، وكيف يلج باب التوبة، وكيف يناجيه وينقطع اليه، واخرى يسلك به درب التعامل السليم مع المجتمع فيعلّمه اسلوب البرّ بالوالدين، ويشرح حقوق الوالد والولد، والأهل، والاصدقاء، والجيران، ثمّ يبيّن فاضل الأعمال وما يجب أن يلتزم به المسلم في سلوكه الاجتماعي، كل ذلك باسلوب تعليميّ رائع وبليغ.

وصفوة القول: إنّها كانت اسلوباً مبتكراً في ايصال الفكر الإسلامي والمفاهيم الإسلامية الأصيلة الى القلوب الظمأى، والافئدة التي تهوى اليها لترتزق من ثمراتها، وتنهل من معينها، فكانت بحق عملية تربوية نموذجية من الطراز الاوّل، أسّس بناءها الإمام السجادعليه‌السلام مستلهماً جوانبها من سير الأنبياء وسنن المرسلين(١) .

ومن أدعيتهعليه‌السلام في هذه الصحيفة دعاؤه في يوم عرفة، ومنه:

«اللّهمَّ هذا يوم عرفةَ، يومٌ شرَّفتهُ وكرَّمتهُ وعظّمتهُ، نَشَرتَ فيهِ رحمتَكَ، وَمَننتَ فيهِ بعفوكَ، وأجزلتَ فيهِ عطيتكَ، وتفضَّلتَ بهِ على عبادِكَ.

اللهّمِّ وأنا عبدكَ الذي أنعمتَ عليهِ قَبلَ خَلقِكَ لهُ، وبعدَ خَلقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلتَهُ مّمِن هَديتَهُ لديِنكَ، وَوفّقتَهُ لحقّكَ، وعصمتَهُ بِحَبِلكَ، وأدخَلتَهُ في حِزبِكَ، وأرشَدتَهُ لموالاةِ أوليائِكَ ومعاداةِ أعدائِكَ».

___________________

(١) الصحيفة السجادية الجامعة ١٣.

٥٧

رسالة الحقوق:

إنّ للإمام علي بن الحسين رسالة معروفة باسم رسالة الحقوق، أوردها الصدوق في خصاله(١) بسند معتبر، ورواها الحسن بن شعبة في تحف العقول(٢) مرسلة، وبين النقلين اختلاف يسير.

وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق، يذكر الإمام فيها حقوق الله سبحانه على الإنسان، وحقوق نفسه عليه، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر والرجلين واليدين والبطن والفرج، ثمّ يذكر حقوق الأفعال، من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي... التي تبلغ خمسين حقّاً، آخرها حق الذمّة.

كما روى الحفّاظ وتلاميذ مدرسته احاديث وحكماً مختلفة جليلة حوتها بطون الكتب المختلفة، جمع الكثير منها العلاّمة المجلسي في موسوعته الموسومة ببحار الانوار، من مختلف المصادر، فراجع.

الإمام الخامس: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسينعليهم‌السلام الباقر

هو خامس أئمّة أهل البيت الطاهر، المعروف بالباقر ، وقد اشتهر به لبقره العلم وتفجيره له. قال ابن منظور في لسان العرب: لقّب به لأنّه بقر العلم وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسّع فيه(٣) .

وقال ابن حجر: سمّي بذلك لانّه من بقر الارض أي شقّها، وإثارة مخبآتها، ومكامنها، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الاحكام، والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة او فاسد الطوية والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه(٤) .

وقال ابن كثير: أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وسمّي بالباقر لبقره العلوم، واستنباطه الحكم، كان ذاكراً خاشعاً صابراً، وكان من سلالة النبوّة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عن الجدال والخصومات(٥) .

___________________

(١) الخصال ٥٦٤ _ ٥٧٠ في أبواب الخمسين.

(٢) تحف العقول ١٨٣ _ ١٩٥.

(٣) لسان العرب ٤ / ٧٤.

(٤) الصواعق المحرقة ٢٠١.

(٥) البداية والنهاية ٩ / ٣٠٩.

٥٨

وقال ابن خلّكان: ابو جعفر محمّد بن زين العابدين، الملقّب بالباقر، أحد الأئمة الإثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق. كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً، وإنّما قيل له الباقر لانّه تَبقَّر في العلم أي توسّع، وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لاهل التُقى

وخير من لبّى على الأجبل (١)

ولد بالمدينة غرة رجب سنة ٥٧ هجري وقيل ٥٦ هجري، وتوفّي في السابع من ذي الحجّة سنة ١١٤ هجري، وعمره الشريف ٥٧ سنة. عاش مع جدّه الحسينعليه‌السلام ٤ سنين، ومع ابيهعليه‌السلام بعد جدّهعليه‌السلام تسعاً وثلاثين سنة، وكانت مدة إمامتهعليه‌السلام ١٨ سنة(٢) .

وأمّا النصوص الدالة على إمامته من أبيه وأجداده والتي ذكرها المحدّثون والمحقّقون من علمائنا الاعلام فهي مستفيضة نقلها الكليني _ رضي الله عنه _ وغيره.

قال ابن سعد: محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين من المدينة، كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الائمّة أبو حنيفة وغيره.

قال أبو يوسف: قلت لابي حنيفة: لقيت محمّد بن علي الباقر؟ فقال: نعم وسألته يوماً فقلت له : أراد الله المعاصي؟ فقال: «أفيعصى قهراً»؟ قال ابو حنيفة: فما رأيت جواباً أفحم منه.

وقال عطاء: ما رأيت العلماء عند احد أصغر علماً منهم عند ابي جعفر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب، ويعني الحكم بن عيينة، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه.

وذكر المدائني: عن جابر بن عبد الله: أنّه أتى أبا جعفر محمّد بن علي الى الكتاب وهو صغير فقال له: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول الله والحسين في حجره وهو يداعبه فقال:«يا جابر يولد مولود اسمه عليّ إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد، اسمه محمّد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام» .

___________________

(١) وفيات الأعيان ٤ / ١٧٤.

(٢) إعلام الورى بأعلام الهدى ٢٦٤ _ ٢٦٥.

٥٩

وذكر ابن الصبّاغ المالكي بعد نقل القصّة: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لجابر:«وإن لاقيته فاعلم أنّ بقاءك في الدنيا قليل» فلم يعش جابر بعد ذلك إلاّ ثلاثة أيّام. ثمّ قال: هذه منقبة من مناقبه باقية على ممر الأيّام، وفضيلة شهد له بها الخاص والعام(١) .

وقال المفيد: لم يظهر عن احد من ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقرعليه‌السلام (٢) .

وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين وسارت بذكر كلامه الاخبار وأنشدت في مدائحه الأشعار...(٣) .

قال ابن حجر: صفا قلبه ، وزكا علمه وعمله، وطهرت نفسه، وشرف خلقه، وعمرت اوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة(٤) .

وأمّا مناظراته مع المخالفين فحدّث عنه ولا حرج، وقد جمعها العلاّمة الطبرسي في كتاب الاحتجاج(٥) .

قال الشيخ المفيد في الارشاد: وجاءت الاخبار: انّ نافع بن الأزرق(٦) جاء الى محمّد بن علي فجلس بين يديه يسأله عن مسائل الحلال والحرام.

___________________

(١) ابن الجوزي: تذكرة الخواص ٣٠٢ _ ٣٠٣، الفصول المهمّة ٢١٥ _ ٢١٦.

(٢) الارشاد ٢٦٢.

(٣) الفصول المهمّة ٢١٠ نقله عن ارشاد الشيخ المفيد ٢٦١، فلاحظ.

(٤) الصواعق المحرقة ٣٠١.

(٥) الاحتجاج ٢ / ٥٤ _ ٦٩ طبع النجف.

(٦) الارشاد ٢٦٥، ولعلّ المناظر هو عبد الله بن نافع بن الازرق، لانّ نافعاً قتل عام ٦٥ من الهجرة وللإمام عندئذ من العمر دون العشرة، وقد نقل ابن شهر آشوب بعض مناظرات الإمام مع عبد الله بن نافع فلاحظ ٤ / ٢٠١.

٦٠