أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف0%

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 150

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 23625
تحميل: 7422

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23625 / تحميل: 7422
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والأفكار والانفعالات ، وقد يُقيم معه علاقات بالحقول الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وغير ذلك من مجالات حياته فهو ليس ابنه وحده ، بل ابن المجتمع أيضاً.

الأب أقوى حقيقةً وأُبوّته مجازية ، فبنوّة المجتمع لهذا الولد ، أكثر بكثير من بنوّته لهذا الأب الذي ولد منه ، ولهذا قد يعجز كثير من الآباء عن تربية أبنائهم في المجتمع الفاسد ، كم سمِعت من أبٍ يتذمّر إذ أنّه لا يستطيع أنْ يربّي ابنه في آخر الزمان ومع هذا الفساد مثلاً ؛ كل هذا لأنّه يوجد أب آخر لهذا الابن وهو المجتمع .

كيفية وجود التربية الكاملة : والتربية الكاملة لا يمكن أنْ تكون لهذا الفرد ، إلاّ إذا هيمن المربّي عليه ، على علاقاته الاجتماعية وروابطه مع غيره أيضاً ، يصبح تمام هذا الوجود تحت سيطرة هذا المربّي ، بحيث يصير شخص واحد هو الأب ويكون هو المجتمع ، فحينئذ يصبح هذا مربياً كاملاً مطلقاً بالنسبة إلى هذا الابن .

وهذا ما صنعه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هيمن على العلاقات الاجتماعية ؛ لأنّه تزعّم بنفسه المجتمع ؛ لأنّه انشأ مجتمعاً وقاده بنفسه ، ووقف رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطّط لهذا المجتمع ويبني كل العلاقات داخل الإطار الاجتماعي ، علاقة الإنسان مع نفسه ، علاقته مع ربّه ، علاقته مع عائلته ، علاقته مع بقيّة أبناء مجتمعه ، علاقته في مختلف المجالات والحقول الاجتماعية والشخصية ، فكان هو الذي يخطّط ، لذا كلّ هذه الأمور صارت تحت هيمنته ، فحينئذ استكمل الشرط الأساسي للتربية الناجحة .

ولا شكّ أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو كان قد امتد به العُمر ، أو كان قد امتدّت التجربة الإسلامية من بعده على يد خلفائه المعصومين الميامين من أهل بيته من أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأولادهعليه‌السلام إذن لقدّر لهذه التجربة والتربية أنْ تُؤتي ثمارها بشكلٍ عجيب ، هذه الثمار نقرأها الآن بعنوان المعجزات والكرامات من أحوال الناس بعد ظهور الحجّة ، وتلك المعجزات والكرامات ليست معجزات وكرامات ، وإنّما هي نتيجة تربية ، هل يمكن أنْ يبلغ المجتمع البشري الى مستوى من التعاون والتعاضد ، إلى مستوى من التوحيد والترفّع ، بحيث يستغني عن النقد ، عن

١٢١

التعبير المادّي القاسي جدّاً في حياة الإنسان ، الروايات وقَعَت تقول بأنّ هذا سوف يقَع في عهد الحجّةعليه‌السلام ونتيجة هذه التربية المخططة على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويد الخلفاء المعصومين من أهل بيتهعليه‌السلام ، فالتجربة الإسلامية إذن كانت تشمل عناصر ثلاثة ، باعتبار أنّها عملية تربية من فاعل وهو المربّي ، ومن تنظيم يستمد من قبل الشريعة ، ومن حقل لهذا التنظيم وهو الأُمّة أي المجتمع ، هذه هي العناصر الثلاثة المزدوجة في هذه التجربة .

ولكن الانحراف بدأ يغير العناصر الرئيسية لهذه التجربة .

أحد هذه العناصر لهذه التجربة تهدَّم بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعنى أنّ ثلث التجربة الإسلامية تهدّم ، تهدّم ذاك البناء الذي لأجله جاءت أربع وعشرون ألف رسالة من السماء ، وكان تهدَّم هذا الجزء الواحد كفيلاً بهدْم الجزئين الآخرين ، لأنّ هذه التجربة متفاعلة في عناصرها ، فبهدم جزءٍ منها يتهدّم الجزءان الآخران .

لا ندري أنّ المسلمين وقتئذٍ ، هل كانوا يتصوّرون عمق هذا الانحراف بعد هذا...؟! أكبر الظن أنّهم لم يكونوا يتصوّرون ذلك ، بل غاية ما كانوا يتصوّرونه أنّ المسألة مسألة تغيير حُكم من أحكام اللّه لا أكثر ، إنّ اللّه سُبحانه وتعالى جعل علياً ، وهُم جعلوا أبا بكر ، أمّا باقي الجهات فيبقى الوضع فيها على حاله ، بقيت الصلاة على حالها ، بقيت الزكاة على حالها تجبى ، بقي الفقراء يُعطَونَ منها ، بقيَ كتاب اللّه يقرأ في المساجد ، بقيَت الجماعات تُقام ظهراً وعصراً ، ومغرِباً وعشاءً وصباحاً ، بقيَ بيت اللّه يَحُج إليه عشرات الآلاف من الناس ، بقيَ الجنود والمرابطون يفتحون بلاد اللّه الواسعة ، بلداً بلداً ، وعليه لم يتغيّر شيء سوى أنّ شخصاً كان اسمه عليّ ، هو أعدَل وأعلَم من أبي بكر ، أقصي من مقام الحكم لغلبة الأهواء والشهَوات ولأُمورٍ أُخرى سوف تذكر في حياة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وجعل مكانه أبو بكر لا أكثر من هذا المقدار .

وفي الحقيقة لم يكن الأمر كذلك ، وإنّما كان هذا نذير شؤم بالنسبة إلى التجربة الإسلامية كلّها ، لما بدّل شخص الحاكم وجعل مكانه آخر ، هذا الحاكم الآخر لم يكن معصوماً، ولم يكن مصمماً من قبل واضع التجربة ، ومعناه إنّ هذا الإنسان على أقل تقدير ، حتى لو أخذنا بمفهوم السنّة عن أبي

١٢٢

بكر ، فهو إنسان تحتشد في نفسه أفكار كثيرة خاطئة ، تحتشد في نفسه شهَوات كثيرة تُعرّضه للانحراف ، لم يكن معصوماً لا من ناحية المفاهيم الفكرية ، ولا من الناحية العملية ، هذا الإنسان جاء ليتسلّم زِمام التجربة الإسلامية في بداية أمرها بدلاً من ذلك الإنسان المعصوم ، حينئذٍ مَن هو الحاكم الآن ، هو أبو بكر ، أبو بكر يعني المجموعة الكثيرة من العواطف والمشاعر والانفعالات ، إذن فالحاكم هو هذه الكومة من الأفكار والعواطف .

هذا هو أبو بكر ، إذن فالحاكم هو هذهِ الحفنة ، فلنفرض أنّ فيها ٥٠% أفكاراً وعواطف إسلامية لكن فيها ٥٠% من العواطف ممّا هو ليس بإسلامي ، إذن فقد أصبح الحاكم مزدوج الشخصية ، أصبح الحاكم في المقام عبارة عن ٥٠% من الأفكار .

والعواطف الإسلامية من جهة رأي السنَّة و ٥٠% من العواطف والأفكار غير الإسلامية والجاهلية في المقام ، فبطبيعة الحال أنّ هذا النصف الثاني على أقلّ تقدير لو لم نقل بأنّ كلا النصفين حاله هكذا ، وأخذنا بنظرية مَن يقول : أنّ القصة قصة مناصَفة ، لا أقلّ من أنْ يكون هذا الشخص عرضةً للانحراف ، مَن هو الضامن لعدم الانحراف ؟ هل الضامن هو الأُمّة ؟ الأمّة لم تكن على مستوى العصمة وقتئذ .

كما أنّ أبا بكر لم يكن معصوماً ، لقد كان من المُمكن أنْ تَبلُغ الأُمّة درجة العصمة خلال تربية طويلة ، لو أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام قد توالوا على أُمّةٍ واحدة ، ومارسوا عملية التجربُة ، كان من الجائز أنْ تبلغ الأُمّة بوصفها المجموعي مستوى العصمة ، بحيث لا تحتاج بعد هذا إلى قائد معصوم ، بل هي تحكم نفسها بنفسها ، هذا أمرٌ جائز عقلاً ، ولكن بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن الأُمّة معصومة ، والدليل على هذا يأتي بعد ذلك ، فإذا لم تكن الأُمّة على مستوى العصمة ، إذن فسوف ينفتح من هذا الحكم الغير المعصوم الخطر على الأجزاء الأُخرى للتجربة ، للمقوّمات الأساسية للرسالة الإسلامية ، سوف ينفتح الخطر على المصادر الأُخرى ، على الكتاب والسنّة ، ومن البديهي أنّه لم يكن الكتاب والسُنّة في عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مدوّنين في كتاب ، لم يكن هذا الكتاب في أيدي المسلمين بوصفه كتاباً أو قرآناً ، محدوداً من ألفهِ إلى يائه ، وانتم تعلمون أنّ السُنّة لم تكن مكتوبة أصلاً وإنّما كانت محفوظة في صدور المسلمين وقتئذ ، والسُنّة كانت هي في الصدر الثاني للإسلام ، ماذا يُترقّب من شخصٍ حاكم منحرف في

١٢٣

المقام ؟ أنْ يقف من هذَين المصدرين وأنْ يعمل في حمايتهما ، لم يكن هناك تحصين من الخارج من قادة أهل البيتعليهم‌السلام بالنحو الذي سوف نشرحه إنْ شاء اللّه ، كان من الطبيعي أنْ يُترقّب أنّ السُنّة سوف تكون عرضةً للضياع والانحراف والتزوير على أساس الانحراف في هذا الحكم ، فالمقومات الإسلامية للإسلام سوف تتطور وتزور، الإسلام نظرية للحياة ، هذه النظرية سوف تتطوّر وتزوّر وتشوّه بشكلٍ آخر ، بشكل جاهلي لا يختلف عن نظرية جاهلية ؛ لأنّ المصدر الأساسي للإسلام عرضةً للتحريف وللإقصاء عن مجالاته الذهنية والإسلامية ، وحتى لو لم تكن عرضة فإنّ النصوص الموجودة في أُمّهات الكتب ، لم تكن تعطي النظرية الحقيقية للناس ، الناس حسّيون أكثر منهم منطقيون ، الناس يعيشون ما يرَون لا يعيشون ما يقرؤون حبراً على ورَق ، إذن فيعيشون ما يرَون النظرية التي يمارسها أبو بكر ويمارسها الخلفاء الذين تولّوا من بعده ، يمارس هذا الخط المنحني ، من الانحراف الذي اشتدّ انحناؤه بالتدريج حتى بلَغ إلى الهاوية من الانحراف .

سوف يعيشون هذا الواقع وهذا المجسَّد للنظرية الإسلامية للحياة ، وسوف لنْ تبقى هناك أُطروحة أُخرى للنظرية الإسلامية للحياة ، وبذلك يفقد الإسلام أطروحته على المستوى النظري ، وعلى المستوى النضالي ، بعد أنْ فقده على المستوى الواقعي والمستوى الاجتماعي والخارجي ، بعد هذا سوف تزول الأُمّة نفسها ؛ لأنّ هذه الأُمّة سوف ينعكس فيها ، بعد إقصاء مصادر الرسالة عنها ، وبعد تشويه معالم النظرية الإسلامية في وجهها ، وبعد تعمّق الحاكم في انحرافه ، ومعنى انحراف الحاكم انّه سوف يتميّع في حفظ مصالح الأُمّة وسوف يتحيّز في حاكميته ، وسوف ينعكس هذا التميّع للأُمّة في الظلم والفساد والتناحر والصراع فيما بين أفراد الأُمّة ؛ لأنّ الوالي لا يحفظ مصالحه الحقيقية ، وسوف ينعكس على الأُمة في الضياع والذل وفقدان الإرادة وفقدان الشعور بالمسؤولية .

إذن سوف تصبح الأُمّة ، بعد شوط طويل من الزمن ، ملؤها الفساد وانعدام الإرادة ، وهذه التجربة الإسلامية المنحرفة ، سوف تسقط حتماً في يوم من الأيّام ؛ لأنّها منحرفة ، ولو كانت إسلامية وسوف تجيء بتجربة أُخرى لا إسلامية مكانها وحينما تجيء تلك التجربة مكانها ، سوف تواجه أُمّةً متميّعة لا

١٢٤

يوجد لديها أيّ مناعة ضدّ الكفر ، وسوف تندمج هذه الأُمّة اندماجاً كاملاً بالتجربة الكافرة ، وبذلك يضيع الإسلام والرسالة ، والنظرية الإسلامية للحياة ، وتضيع الأُمّة نفسها هذه هي الأخطاء التي كان يترقّب أنْ تنجم مِن منطلق الانحراف يوم السقيفة .

١٢٥

١٢٦

١١ - بداية الانحراف

كنا نريد أنْ نحدّد دَور الأئمّةعليهم‌السلام ، والمخلصين ممّن يدور في فلكِهم من أهل البيتعليهم‌السلام ، والواعين من المسلمين في عصرهم في حماية الإسلام ، وردّ الفعل على ما يقع من انحراف بعد وفاة النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هناك دور مفروض للأئمّةعليهم‌السلام في نصّ الشريعة الإسلامية ، في عالم التشريع ، وهو دور صيانة تجربة الإسلام ، تجربة المجتمع الإسلامي التي أنشأها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان المفروض أنّ هذه القيادة تتسلسل في هؤلاء الأئمّةعليهم‌السلام الاثني عشرعليهم‌السلام واحداً بعد الآخر .

إلاّ أنّنا نريد أنْ نتحدّث عن هذا الدور التشريعي وأدلّته ومبرّراته ، يعني لا نريد أنْ ندرس مواطن العبرة من حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، ونفهم أنّ الأئمّةعليهم‌السلام بعد أنْ أُقصوا عن مراكزهم القيادية في تزعّم التجربة الإسلامية للمجتمع والدولة وللأُمّة ، ماذا كان وصفهم ، فإنّ معرفة وضع الأئمّة بعد الإقصاء ممّا يؤثّر في حالنا وممّا نحن فيه من خطٍّ في عملنا ، وفي تصوّرنا وموقفنا الإسلامي تجاه قضايانا وأهدافنا ، الفكرة التي أُريد أنْ أعرضها خلال أيّام عديدة أُلخّصها في البدء بعدّة كلمات ثمّ بعد هذا ابدأ بتطبيقها .

ماذا جابه الإسلام

إنّ الإسلام جابه بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، انحرافاً خطيراً في صميم التجربة الإسلامية التي أنشأها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للمجتمع الإسلامي والأُمّة الإسلامية ، وهذا الانحراف في التجربة الاجتماعية للأُمّة والتجربة السياسية للأُمّة في الدولة الإسلامية ، كان بحسب طبيعة الأشياء ، من المفروض أنْ يتّسع ليتعمّق بالتدريج على مرّ الزمن ، الانحراف يبدأ بذرة ، وتنمو هذه البذرة ، وكلّما تحقّق مرحلة من الانحراف تمهّد هذه المرحلة لمرحلة أوسع وأرحب ، فكان من المفروض أنْ يصل هذا الانحراف إلى خطٍّ منحنٍ ، طوال عملية تاريخية زمنية طويلة المدى ، يصل إلى الهاوية فتمر التجربة الإسلامية للمجتمع

١٢٧

والدولة ، لتصبح مليئة بالتناقضات من كل جهة ومن كل صوب ، وتصبح عاجزةً عن مجاراة ومواكبة الحدّ الأدنى من حاجات الأُمّة ومصالحها ، حتى تُعلن عن إفلاسها نهائياً عن مواكبة الحدّ الأدنى من حاجات هذه الأُمّة ، وعن الحلول بالحدّ الأدنى للقضايا التي تتبنّاها وللرسالة التي تعلن عنها ، فحينما يتسلسل الانحراف في خطٍّ تصاعدي من هذه القبيل أو في خطٍّ تنازلي الى الهاوية من هذا القبيل ، فمن المنطقي في فهم تسلسل الأحداث ، أنّ هذا التجربة سوف تتعرّض بعد مدىً من الزمن لانهيارٍ كامل ، يعني أنّ الدولة والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية لقيادة المجتمع سوف تتعرّض للانهيار الكامل ؛ لأنّ هذه التجربة حين تصبح ملأى بالتناقضات ، وحين تصبح عاجزةً عن مواجهة وظائفها الحقيقية ، تصبح عاجزة عن حماية نفسها ؛ لأنّ التجربة تكون قد استنفدت إمكانية البقاء والاستمرار على مسرح التاريخ ، كما أنّ الأُمّة ليسَت على مستوى حمايتها ؛ لأنّ الأُمّة لا تجني من هذه التجربة الخير الذي تفكر فيه ، ولا تحقّق عن طريق هذه التجربة الآمال التي تصبو إليها ، فلا ترتبط بأيّ ارتباط حياتي حقيقي معها ، فالمفروض أنْ تنهار هذه التجربة في مدىً من الزمن ، تنهار كنتيجةٍ نهائية ، وخاتمة حتميّة لبذرة الانحراف التي غُرِست فيها .

معنى انهيار الدولة الإسلامية

ومعنى انهيار الدولة الإسلامية أنْ تسقط الحضارة الإسلامية وتتخلّى عن قيادة المجتمع ، والمجتمع الإسلامي يتفكّك ، والإسلام يُقصى عن مركزه كقائد للمجتمع وكقائد للأُمّة ، لكن الأُمّة تبقى طبعاً المسلمون يبقون كأُمّة التجربة ، تجربة المجتمع والدولة تفشل وتُخطئ وتنهار أمام أوّل غزو يغرها ، كما انهارت التجربة أمام الغزو التتري ، الذي واجه الخلافة العباسية ، وواجه الدولة الإسلامية في أواخر الخلافة العباسية .

هذا الانهيار يعني أنّ الدولة والتجربة سقطت أم أنّ الأُمّة بقيت ، لكن هذه الأُمّة أيضاً بحسَب تسلسل الأحداث من المحتوم أنْ تنهار فبعد أنْ تنهار التجربة ، الأُمّة كأُمّة تدين بالإسلام ، وتؤمن بالإسلام ، وتتفاعل مع الإسلام أيضاً تنهار ، لماذا ؟

لأنّ هذه الأُمّة ، عاشت الإسلام الصحيح الكامل زمناً قصيراً ، وهو الزمن الذي مارس فيه التجربة شخصُ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الأعظم

١٢٨

وبعد هذا عاشت تجربة منحرفة ، هذه التجربة المنحرفة ما استطاعت أنْ تعمّق فيها الرسالة وتعمّق فيها المسؤولية تجاه عقيدتها ، وتثقّفها وتحصّنها وتزوّدها بالضمانات الكافية لعدم الانهيار أمام حضارة جديدة ، وغزوٍ جديد ، وأفكارٍ جديدة يحملها الغازي الى بلاد الإسلام ، فهذا الغازي الذي يأتي يحطّم التجربة ، يحطم المجتمع الإسلامي ، يحطم الدولة الإسلامية ، يأتي معه بتقاليد ومفاهيم حضارية سوف تؤثّر على الأُمّة الإسلامية ، التي لم تعرف الإسلام معرفة حقيقية كاملة طيلة هذه التجربة المنحرفة ، فسوف لن تجد هذه الأُمّة الإسلامية ، في نهاية هذه التجربة المنحرفة ، بعد أنْ أُهينت كرامتها ، وبعد أنْ حطمت إرادتها ، وبعد أنْ غُلّت أياديها عن طريق الزعامات التي مارسَت تلك التجربة المنحرفة ، وبعد أنْ فقدت روحها الحقيقية سوف لنْ تقدر على تحصين نفسها ضدّ ما يطرأ بعد انهيار التجربة ، وحينئذ ستنهار الأُمّة أيضاً كما انهارت التجربة .

الأُمّة أيضاً سوف تنهار بالاندماج مع العالم الكافر الذي غزاها ، سوف تذوب الأُمّة ، وتذوب الرسالة والعقيدة وتصبح الأُمّة خبَراً بعد أنْ كانت أمراً حقيقياً على مسرح التاريخ ، وبهذا ينتهي دور الإسلام .

هذا هو التسلسل المنطقي بقطع النظر عن دَور الأئمّةعليهم‌السلام ، تبدأ بذرة الانحراف بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بحكم طبيعة الأشياء ، وينمو هذا الانحراف بالتدريج ، يتعمّق بالتدريج ، تتردّى التجربة بالتدريج حتى تصبح عاجزةً عن حماية نفسها ، وتصبح الأُمّة أيضاً عاجزةً عن حماية هذه التجربة ، فتتعرّض لنكسةٍ أمام أيّ غزوٍ يأتي من الخارج ، وسوف تصبح هذه الأُمّة حينئذٍ مجموعة من البشَر المتميّعين الذائبين الخانعين ، الغير الواعين والغير الملتفّتين لرسالتهم ، فبطبيعة الحال إنّ هذا الأُمّة سوف تنهار ، وسوف تتفتت كأُمّة ، فتسقط بعد أنْ سقطت التجربة .

١٢٩

١٣٠

١٢ - دور الأئمّةعليهم‌السلام تجاه هذا التسَلسُل

أمّا دور الأئمّةعليهم‌السلام تجاه هذا التسَلسُل فيتلخّص بأمرين :

الأمر الأول : الذي كان الأئمّةعليهم‌السلام يعيشونه في حياتهم ، هو محاولة القضاء على الانحراف الموجود في تجربة المجتمع الإسلامي ، وإرجاعها إلى وضعها الطبيعي ، وذلك بإعداد طويل المدى ، وتهيئة للظروف الموضوعية التي تتناسب وتتّفق مع ذلك .

فمتى ما كانت الظروف الموضوعية مهيّأة لذلك ، كان الأئمّةعليهم‌السلام على استعداد لأنْ يمارسوا إرجاع التجربة إلى الوضع الطبيعي ، كما مارس أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال : بأنّ اللّه سُبحانه وتعالى أخذ عهداً على الإنسان ، أنْ لا يقرّ على الظلم مع وجود الناصر ، والناصر موجود وفي كلمة الناصر استبطن كلّ الحدود والظروف الموضوعية التي سوف تذكر فيما بعد ، والتي ذكرناها سابقاً ، التي تجعل في قدرة الإنسان الإمام المعصوم ، أنْ يحاول إعادة التجربة الإسلامية إلى وضعها الطبيعي ووضعها الصحيح الكامل .

الأمر الثاني : والذي كان يمارسه الأئمّةعليهم‌السلام ، حتى في حالة الشعور بعدَم وجود هذه الظروف الموضوعية ، التي تهيّئ الإمام لخوض معركة في مقام تسلّم زمام الحكم من جديد .

فالدور الثاني الذي كان يُمارسه الأئمّةعليهم‌السلام والذي كان يمارسه الإمامعليه‌السلام هو تعميق الرسالة فكرياً وروحياً وسياسياً للأُمّة نفسها ، بغية إيجاد تحصينٍ كافٍ في صفوفها لكي يؤثّر هذا التحصين في مناعتها ، وفي عدم انهيارها بعد تردّي التجربة وسقوطها ، إذ كان من اللازم بعد أنْ حُرِمت الأُمّة الإسلامية من التجربة الصحيحة الكاملة للحياة الإسلامية ، بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ تُطعم وتُغذّى الأُمّة كأمّة ، تُطعم الأُمّة وتُغذّى بالإسلام رسالياً ، وتغذّى في مجالها الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي ؛ لكي تستوعب الإسلام .

١٣١

وأقصد بالأُمّة لا مجموع الأُمّة ؛ لأن هذا لا يمكن أنْ يتحقّق بالنسبة إلى المجموع ، إلاّ في حالة قيادة تُمارس التجربة وتُمارس الحكم وتُمارس الدولة في المجتمع ، ولكنّ الذي أقصده في المقام من التعبئة ، إيجاد قواعد واعية في الأُمّة ، وإيجاد روح رسالية فيها ، وإيجاد عواطف تجاه هذه الرسالة في الأمة .

والأئمّةعليهم‌السلام حتى في حالة شعورهم بعدم إمكان استرجاع مركزهم المغصوب ، كانوا يعملون عمَلاً مهمّاً جدّاً لإنقاذ وجود الأُمّة في المستقبل ، وضمان عدم انهيارها الكامل وتفتّتها كأُمّة بعد سقوط التجربة وذلك بإعطاء التحصين الكامل المستمر لها ، على تفصيل سوف يأتي إنْ شاء اللّه خلال شرح هذه الفكرة ، والفكرة على سبيل الإجمال ، ملخصّاً لما سبق لتتمّة تتبع التسلسل في عرضها .

ولقد وقَع الانحراف بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه البداية في تسلسل هذه الفكرة وكانَ هذا الانحراف الذي وقع بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله انحرافاً سياسياً خطيراً جدّاً ، بالرغم من أنّ هذا الانحراف لم يمسّ بحسب الظاهر إلاّ ميداناً واحداً من الميادين التي كان يعتمد عليها الإسلام ، في بداية الأمر لعلّ كثيراً من الناس بدا لهم أنّ هذا الانحراف لا يعني أكثر مِن أنّ شخصاً كان مرشّحاً من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو مِن قِبَل اللّه سبحانه وتعالى ، وهذا الشخص قد أُقصي أو غُصِبَ حقّه ، وأُعطيَ لشخصٍ آخر بدلاً عنه ، قد يكون هذا الشخص الآخر قادراً على أنْ يقوم مقامه في هذه المهمّة.

إلاّ أنّ الانحراف لم يكن انحرافاً شخصياً ، أو سهلاً أو بسيطاً بهذا المقدار لأننا قلنا فيما سبق ، بأنّ الإسلام رسالة تربية للإنسان ، رسالة جاءت لتبني الإنسان من جديد ، وبناء الإنسان من جديد ، يتوقّف على السيطرة على كل المجالات ، وما لَم يمتلك زمام كل تلك الميادين ، لا يُمكن أنْ يسيطر على كل أبعاد الإنسان ، وبالتالي أنْ يربّي الإنسان وفقاً للرسالة التي جاء بها ، التربية الشاملة الكاملة للإنسان بشكل متميّزاً كلّياً عن إنسان ما قَبل الإسلام ، عن إنسان الجاهلية ، هذا يتوقّف على المربّي بحيث يسيطر على كلّ المجالات التي يعمل عليها الإنسان ، يسيطر على مجالات العلاقات الفردية مع ربّه ، يسيطر على مجالات علاقاته مع الآخرين في النطاق العائلي ، يسيطر على مجالات علاقته مع

١٣٢

الأفراد الآخرين في المجال الاجتماعي وهكذا يسيطر على كلّ المجالات ؛ لأنّ أيّ واحد من هذه المجالات ، لو أنّه لم يسيطر عليه ، فمعنى هذا أنّه لم يسيطر على جزء من الإنسان ؛ لأنّ الإنسان يتفاعل مع كل هذه المجالات ، انتم ترَون أنّ الأب لا يستطيع أنْ يربّي ابنه تربية كاملة شاملة ، ليس الأب هو المربّي الوحيد لابنه ؛ لأنّ هناك أشياء أخرى تشاركه في تربية ابنه ، يشاركه في تربية ابنه زملاؤه في المدرسة وأساتذته فيها .

المجتمع الذي يعيش فيه ، الشارع الذي يلعب فيه ، القوانين التي تطبّق عليه من قِبَل الدولة ، كلّ هذا يشارك في تربية الابن ، فالتربية الشاملة الكاملة لهذا الإنسان لا تكون إلاّ بالهيمنة الكاملة على كلّ هذه المجالات، بحيث تؤخذ كلّ هذه المجالات بيد المربّي ، وبعد هذا يستطيع أنْ يحدّد الأُطروحة الصحيحة للإنسان الأفضل .

على هذا الأساس كانت سيطرة الإسلام على كلّ المجالات بما فيها المجال الاجتماعي الذي هو رأس هذه المجالات ، كان هذا جزءاً أساسياً من التركيب الإسلامي ومن الأُطروحة الإسلامية ، كان من الضروري جداً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يسيطر على كلّ هذه المجالات لا أنْ يكون واعظاً في المسجد فحسب ، ولا أنْ يكون أُستاذاً في حلقة فحسب ، بل يكون هذا وذاك ، ويكون إضافةً إلى هذا وذاك ، رائداً للمجتمع ، حاكماً للمجتمع في كلّ مكان ، في كل ما يمكن أنْ يصبو إليه المجتمع من آمال وأهداف ، ويكون مخطّطاً ومقنّناً للمجتمع في كل المجالات ، في كل ما يحتاج إليه المجتمع من قوانين وتنظيم .

هذا هو أُسلوب التربية الشاملة الكاملة الذي اتجه إليه الإسلام ، وليس من الكلفة أنْ يقال في نصٍّ نبوي ، مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية ؛ لأنّ الارتباط بالإمامعليه‌السلام والارتباط بالقيادة جزء من التربية الشاملة الكاملة للإنسان ، فوجود قيادة إسلامية للحياة الاجتماعية كان جزءاً ضرورياً في الحياة الإسلامية الاجتماعية ، وإنجاح الثورة الإسلامية ، وإنتاج الأمة والفرد والعائلة التي يريدها اللّه سُبحانه وتعالى ، والتي يحدّدها القرآن الكريم وعلى ضوء هذا ، نستطيع أنْ نعرف أنّ أيّ انحراف يحصل في هذا المجال ، في مجال قيادة المجتمع ، أي انحراف يقع في هذه القيادة فهو يهدّد المخطط بكامله ؛ لأنّ هذا الانحراف ، سوف يجعل المجال الاجتماعي يفلت من يد الإسلام ، وإذا افلت

١٣٣

هذا المجال من يد الإسلام فسوف يفلت من يد الإسلام جزءٌ كبير من وجود الإنسان ، وبالتالي ، وبقانون التفاعل بين أجزاء الإنسان بعضها ببعض ، سوف تفلت بقية الأجزاء أيضاً .

هذا الانحراف كان يشكل بداية خطر على التجربة الإسلامية كلّها ، على عملية التربية الإسلامية كلّها ، ولم يكن مجرّد استبدال شخص بشخص آخر ، كان ظلماً للتجربة الإسلامية كلّها ، وبالتالي للبشرية كلّها .

هذا الانحراف وقع بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمثّل في أنّ جماعة من صحابة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرتضوا علياً المنصوص عليه من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للخلافة فتصدّى بعضهم لها ، مارس أبو بكر قيادة التجربة الإسلامية ، بعده مارس عمر بن الخطاب ، بعده مارس عثمان بن عفّان ، هؤلاء الصحابة تارة ننظر إليهم بمنظار شيعي خاص نختصّ نحن به في مقام النظر إليه ، وهذا المنظار لا نريد أنْ نتحدّث عنه ؛ لأنّنا متّفقون على طبيعة هذا المنظار ، لكنّنا نصرف النظر عن هذا المنظار الخاص الذي نحن متّفقون عليه فيما بيننا ، وننظر إلى هؤلاء بقطع النظر عن المنظار الخاص ، النظر إلى هؤلاء بالمنظار العام .

إنّ تسلّم هؤلاء الحكّام لزمام زعامة التجربة الإسلامية كان يُشكّل بداية انحراف ، وكان سبباً حتمياً لتأرجح التجربة بين الحق والباطل ، واستبطانها شيئاً من الباطل ، واتّساع دائرة الباطل بالتدريج وذلك لعدّة أُمور :

أوّلاً : إنّ هؤلاء الصحابة الذين تسلّموا زمام الحكم بقطع النظر عن ذلك المنظار الخاص الذي جمّدناه الآن في حبل الكلام ، هؤلاء أُناسٌ يشهد التاريخ بأنّهم عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم في عصرٍ جاهلي ، وضِمن إطارِ التفكير الجاهلي في كل ما كانوا يفكرون فيه ، أو يعملون فيه ، أو يتألّمون منه ، في كلّ مجالاتهم العاطفية ، ومجالات أهدافهم ، ومجالاتهم الفكرية والعقائدية ، لم تكن حياتهم قبل الإسلام إلاّ حياة مِن طِرْز جاهليّ آخر ، بعد هذا دخلوا في الإسلام ولا نُريد أنْ نتحدّث عن طبيعة دخولهم في الإسلام ، افرضوا أنّ هؤلاء دخلوا في الإسلام دخولاً حسناً ، وعاشوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عيشةً حسنة ، إلاّ أنّ هذه الأهداف المضادّة لم تستأصل ، وبذور هذه الجاهلية لم تستأصل من أفكارهم وعقولهم ، بدليل أنّهم بالرغم من عيشهم

١٣٤

مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالرغم من الإدّعاء بالاستئثار بلطف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالرغم من كلّ هذا كانوا بين حينٍ وحين يُعلنون عن تقاليد أو عن تصوّرات ترتبط بالوضع الذي كانوا يعيشونه قبل الإسلام ، ومع كلّ ما نعلم ، يضع الخليفة الثاني احتجاجه على متعة الحج ، بالرغم من أنّ متعة الحج عمل عبادي خالص ، لا يرتبط بأيّ مصلحة من مصالح الدنيا المعلومة ، الإنسان العاقل لا يستطيع أنْ يدرك بعقله ، أيّهما أحسن ، هل الأحسن هي العُمرة المستمرّة إلى الحج ، أو العمرة المتحلّل منها التي يأتي بعدها الحج ، هذا بعقولنا لا نستطيع أنْ نحكم عليه بأنّه أفضل أو ذاك أفضل ، فهي مسألة عبادية ثابتة .

هنا عمر لم يتأثّر في احتجاجه بعقله ؛ لأنّ العقل لا يدرك أيّهما الأفضل ، وإنّما تأثّر بطبيعة تربية عادته وتقاليده ، وأنّ الجاهلية التي كانت قبل الإسلام كانت ترفض التحلّل بين العمرة والحج ، مثل هذه العادة أثّرت في نفس الخليفة الثاني أثراً كبيراً ، إلى درجة أنْ يرد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجهاً لوجه في ذلك ، وفي حياتهم شواهد كثيرة على هذا تظهر بين حين وحين ، ولا نريد أنْ نقول من هذا ، أنّ هؤلاء كانوا أُناساً يستبطنون الكفر أو العداء للإسلام ، أو البغض لشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ الحديث عن هذا قد جمّدناه ، بل إنّ هذا يمكن أنْ ينسجم حتى مع التصوّر السُنّي لهؤلاء ، أُنٌاس صحابة صالحون ، ولكنّهم مع هذا كلّه لا يزال الراسب الجاهلي يعيش في أعماقهم بثلاثين في المِئة أو أربعين أو خمسين ، لا يزال جاهلياً والباقي أصبح إسلامياً .

في يوم السقيفة طبعاً تعلمون بأنّهم قالوا : من ينازعنا سلطان محمد....؟

محمّد كان شيخ قبيلة ، وهم شيوخ هذه القبيلة بعد أنْ مات شيخ القبيلة الأول يتولّى شيوخ القبيلة الآخرون ، مَن ينازعنا سلطان محمّد...؟ هذا راسبٌ جاهلي ، قد لا يكون عمر أو أبو بكر ، قد لا يكون هذا الصحابي يعيش هذا الراسب في تمام حالاته ، بل يكون في بعض الحالات يترفّع عن هذا الراسب ، قد يكون الجانب الإسلامي يتغلّب على هذا الجانب الجاهلي ، حيث إنّ الراسب موجود ، بالنهاية جزءٌ من نفسه يُمثّل هذا الراسب ، ولهذا يطفو هذا الراسب في لحَظات عديدة من حياتهم الاجتماعية والسياسية ، إذن فهؤلاء

١٣٥

الخلفاء ، بحكم وصفهم وحياتهم ، لم يكونوا أُناساً قد اجتثّت الجاهلية من نفوسهم اجتثاثاً كاملاً ، بل كانت الجاهلية تعيش في نفوسهم في حالةٍ واضحة ملموسة وملحوظة ، تنعكس على سلوكهم بين حينٍ وآخر ، وحينئذٍ فهؤلاء حينما يتزعّمون قيادة التجربة الإسلامية فبطبيعة الحال الذي يتولّى القيادة ، قيادة هذه التجربة الإسلامية ، ومَن هم ، هم مجموع هذه الأفكار والعواطف التي سوف تحكم ، وهي التي سوف تسود ، إنْ كان من هذه ٥٠% أو ٣٠% جاهليّاً فمعنى ذلك أنّ الجاهلية سوف تشارك الإسلام في الحكم ، وسوف يصبح للجاهلية حكمٌ وتزعّم في توجيه التجربة الإسلامية التي جاءت لأجل أنْ تنقذ الإنسان من الجاهلية إلى الإسلام ، وتصنع الإنسان الجديد ، وتقضي على الإنسان القديم ، بينما كان المفروض هكذا ، وإذاً الجاهلية تُشارك في الحكم في المقام .

ثانياً : وهؤلاء لم يكونوا مهيّئين للحكم ، بقطعِ النظر عن جهة الراسب الجاهلي ، لم يكونوا قد استوعبوا الرسالة الإسلامية استيعاباً كاملاً ؛ لأنّ هؤلاء الصحابة ، تأثّروا بالمحنة ، عاشوا المحنة السياسية للدولة الإسلامية ، المحنة العسكرية للدولة الإسلامية ، الدولة الإسلامية كانت في خِضَمّ الحروب وفي خضم الفِتَن ، وفي المنازعات مع المشركين من ناحية ، ومع اليهود من ناحية أخرى ، ومع سائر القبائل العربية من ناحية ثالثة .

فخضم هذا الصراع العسكري والسياسي ، كان يجعل الصحابة دائماً في دوامة التفكير، في كيفية حماية الدولة ، وفي كيفية الدفاع عنها ، وفي كيفية المساهمة في حروبها ، تعلمون أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله غزا عشرات الغزَوات في فترةٍ قصيرة ، في عدّة سنَوات عشرات الغزَوات أعم من أنْ تكون وقَع فيها القتال أو لم يقع فيها القتال ، فالحياة كانت حياة قلقة ، حياة صراع عسكري وصراع سياسي مع الأعداء ، ومع المشركين ومع المنافقين من كلّ صوبٍ وحدب ، لم يكن يتوفّر لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الوقت على تدريبهم أو تثقيفهم على مستوى القيادة ، صحيح أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُمارس تثقيفاً عالمياً لأجل إيجاد أُمّة واعية تتمتّع بالحد الأدنى من الوعي ، أما أنّه لم يكن هناك تخطيط من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن هناك تخطيط من قِبَلِهم أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أنْ

١٣٦

يُثقّفوا أنفسهم ويهيّئوا أنفسهم لكي يتسلّموا الحكم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا قال عمر بن الخطّاب عندما عجَز عن الفتوى ، أنّه ألهانا أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله القصف في الأسواق عن تعلّم مثل هذه الأحكام ، ومع هذا هو لم يتهيّأ لمستوى القيادة في المقام ، قلنا بأنّه اشتغل في القصف في الأسواق كما هو يعترف ، دون الشغل بوضع الدولة الإسلامية وظروفها السياسية والعسكرية ، على أيّ حال لم يتهيّأ للقيادة ، من هنا نرى أنّ أبا بكر وعُمر كانا عاجزين عن تحديد ابسط الأحكام الشرعية ؛ لأنّه لم يكن عندهم تثقيف لفترة ما بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا في بعض الأيّام السابقة ، أنّ صلاة الميّت التي كان يُمارسها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام المسلمين ، وكان يُمارسها في كل يوم ؛ لأنّه في كل يوم أو شهر يموت عدد لا بأس به من المسلمين ، وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي عليهم ، مع هذا اختلف المسلمون بعد هذا ، اختلف هؤلاء القادة بأنّ التكبيرات على صلاة الميت كم عددها ، هذا كلّه يعطي المعنى الاتّكالي ، إنّ هؤلاء كانوا في أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله متّكلين على القائد ، الرائد ، المتوجّه ، الواحد كان يأتي يأتمّ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يخطر على باله في مرّة من المرّات أنْ يحسب هذه التكبيرة الأُولى وهذه الثانية وهذه الثالثة وهذه الرابعة حتى يحسب أنّها خمسة أو أربعة ، هذا معنى الاتكالية ، هذه الاتكالية عاشها هؤلاء الصحابة في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن المسلمون متهيّئين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تهيّؤاً فكرياً وعقائدياً لتحمّل أعباء الرسالة .

ثالثاً : إنّ التجربة التي عاشها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لو فرض أنّها هي التي تعطي الإمكانيات الفعلية ، فمن المعلوم أنّ هناك فارقاً كبيراً بين ظروف التجربة في أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والظروف التي كانت الأُمّة الإسلامية مُقبلة عليها حينئذ ، الأُمة الإسلامية بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مقبلة على تحوّل اجتماعي وسياسي كبير وضخم جداً ؛ لأنّه كان من المفروض تحقيق فكرة المجتمع العالمي ، هذه الفكرة التي دعا إليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّه لم يحقّقها ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أنْ توفّي لم يمتد نفوذه إلى أكثر من النطاق العربي بالرغم من أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا ملوك العالم ، دعا كسرى وقيصر ، دعا سلطان الحبشة دعا غيرهم إلى

١٣٧

الإسلام لأجل توعيتهم بالإسلام ، ولأجل تسجيل أنّ الإسلام مجتمعٌ عالمي ، ويدعو إلى المجتمع العالمي ، الذي لا يُفرَّق فيه بين شعبٍ وشعب وبين قومية وقومية ، بالرغم من هذا لم يتحقّق المجتمع العالمي ، أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تحقّق مجتمعٌ عربيّ يحمل فكرة العالمية ويقوم على أساس الرسالة ، لا على أساس الفكرة القومية أو القاعدة القومية للرسالة ، هذا المجتمع بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان من المفروض أنْ يُبنى عالمياً ، أنْ يُنشئ المجتمع الإسلامي العالمي ، أنْ يُضَم في مجتمعٍ واحد العرَب والفُرس والتُرك والهُنود وجميع شعوب الأرض ، هذه المهمّة صعبة وعظيمة جداً ، تختلف كلّ الاختلاف عن الظروف الموضوعية للمرحلة الأولى التي عاشها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذه المرحلة أو هذه المهمّة تحتاج إلى عقلية رسالية ، ١٠٠%، إلى نزاهة عن كلّ شائب ، وعن كل الانخفاضات الفكرية والعاطفية التي يعيشها الإنسان القبَلي ، أو الإنسان القومي .

عمر أو أبو بكر لنْ يستطيعا أنْ يجعلا من تجربة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( بالرغم من أنّها كانت تمر في المرحلة البدائية ) أساساً ضامناً قطعياً لصفحة سيرهم في المرحلة الثانية ، في مرحلة إنشاء المجتمع العالمي ، حتى الآن لم يعيشوا المجتمع العالمي إلاّ كفكرة لم تولد إلى النور ، أنّ الناس كلّهم أُسرة ، الناس سواسية كأسنان المشط ، أنْ لا فرق بين عجمي وعربي ، هذا كانوا يسمعونه كفكرة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لم يكونا يريانه مجسَّداً في المجتمع وفي علاقاتهما ، بحيث إنّ إنساناً أعجمياً وإنساناً عربياً عاشا مجتمعاً واحداً بصورة متكافئة ، وإنّما هي مجرّد فكرة لم يتيسّر لمثل هؤلاء أنْ يحقّقوا هذه الفكرة ، وأنْ يتولّوا تحقيقها في مثل هذه المرحلة الدقيقة من التجربة الإسلامية بطبيعة الحال سوف تحصل هناك انخفاضات فكرية وعاطفية ، تجعلهم دون مستوى تحقيق فكرة المجتمع العالمي ، وقد تكون بذرة صغيرة جداً في عهدٍ ما ، قد تكون هذه البذرة تكبر بعد هذا وتصبح بلاءً كبيراً وشرّاً مستطيراً .

كلّكم تعلمون بأنّ في التاريخ أمثلة كثيرة على هذا ، العمدة على التاريخ في النقل ، إنّ عمر بن الخطاب أعفى نصارى العرب في العراق من الجزية ، العرب الذين كانوا موجودين في العراق أعطوا الجزية ، عاتبوه قالوا : بأنّ

١٣٨

الجزية فيها شأن الذل لا ندفع الجزية فنحن عرب قال لهم : إذن فادفعوا الزكاة ، فأمر بأخذ المال منهم بعنوان الزكاة ! طبعاً لم تكن الزكاة بأصغر من الجزية ؛ لأنّ المشرك يدفع الجزية والمسلم يدفع الزكاة ، غاية الأمر كأنّ الجزية بحسب نفسها علاقة فيها مهانة ، عمر بدّل الجزية بالزكاة ، فآمر بأخذ الزكاة ، هذه البذرة الصغيرة جداً والطفيفة جداً لم تنطبق إلاّ على عشيرة واحدة لا أكثر من عشائر النصارى في العراق ، هذه البذرة على مرّ الزمن تأتي الشرّ المستطير ، لعلّ هذه البذرة هي الأساس في كلّ الشرور التي عاشها المسلمون بعد هذا ، أو التي مُنِيَ بها المسلمون نتيجة للكيانات القومية التي زعزعت بعد هذا الإسلام ، وحطّمت الرسالة الإسلامية ، الكيانات القومية العربية والفارسية والتركية والهندية ، إلى غير ذلك من الكيانات القومية الكافرة التي أُنشئت في العالم الإسلامي ، ولا أُريد أنْ أُصحح هذه النقطة ، لا أدري أنّها صحيحة أو لا ، بل أُريد أنْ أقول بأنّ مهمّة إنشاء مجتمع عالمي ، هذه المهمّة تحتاج إلى قيادة تختلف عن طبيعة الصلاة ، والذوق التي كانت موجودة في هؤلاء الخلفاء....! .

رابعاً : أنّ الشعور بالظلم في نفس الخلفاء ، يقيض التوسّع في الإضرار ، الخلفاء كانوا يشعرون بأنّهم ظلموا علياً ، وأنّهم غصبوا علياً ، وأنّهم تعدّوا على حقّ عليّ المنصوص عليه من قِبَل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

نعم لعلّهم لم يكونوا يشعرون بأنّهم أساؤا إلى الإسلام بهذا الترتيب ، بحيث إنّ عملهم سوف يؤدّي إلى هدم الكيان الإسلامي ، لعلّهم لم يكونوا يشعرون ، لعلّهم لم يكن لهم دقّة نظر وفهم منطق الأحداث ، ومنطق التاريخ ، لم يكونوا يقدّرون بعد ستّين سنة من وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يشرب الخمر خليفة المسلمين في بيته وفي قصره ، لعلّهم لا يستطيعون أنْ يفسّروا هذا التفسير ، لكنهم على أيّ حال كانوا يشعرون بأنّهم غصبوا علياً ، وأنّهم اخذوا حقّ عليّ ، ولهذا قالوا في تبرير ذلك بينهم وبين أنفسهم ، أرادوا أنْ يبرّروا ، وظهر هذا السبيل على كلماتهم أنّ عمر ، خليفة المسلمين قال : بأنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حاول أنْ يولّي علياً ، أنْ يرشّح علياً لكنّي أنا منعته ، احتياطاً

١٣٩

للإسلام ، وحرصاً على مصلحة الإسلام ، كل هذه التبريرات تبريرات نفسية إزاء وخز الضمير في نفوسهم ، هذه التبريرات أنتجت انحرافاً خطيراً وأنتجت أنّه لا يلزم التقيّد بما يقوله رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا المبدأ تبلوَر في نفوسهم بالتدريج كتبرير للدفاع عن العملية التي قاموا بها ، للدفاع عن الذنب الذي كان موجوداً في نفوسهم .

وحينما قام هذا المبدأ انفتحت كلّ البدَع والانحرافات ، بعد هذا لم يرَ عمر بن الخطّاب مانعاً أنْ يقول : متعتان كانتا على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُحرّمهما وأُعاقب عليهما ، لم يرَ مانعاً من هذا بعد أنْ عاش مدّة من الزمن ، الشعور بالذنب ، وحلّ هذا التناقض في المبدأ ، بعد هذا انفتح باب البدع وباب حمل الشعارات الجزئية الهستيرية الغير الصحيحة ، فهذه الأُمور الأربعة تجعل حتمية انحراف التجربة بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أساس تولّي غير أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام قيادة هذه الأُمّة ....

١٤٠