أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف0%

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 150

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 23371
تحميل: 7324

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23371 / تحميل: 7324
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يبلّغ الرسالة .

هذه الموانع التي كانت تمنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تزعّم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام للتجربة الإسلامية عميقة قوية واسعة ، بدرجة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يخشى من أنْ يعلن عن تشريع هذا الحكم ، ليس عن تطبيقه بحسب الخارج ، بل عن تشريعه وإعلانه أمام المسلمين .

هذه جهة ، والجهة الأُخرى ، حينما أراد أنْ يُسجّل هذا الحُكم في كتاب المسلمين الأوّل مرّة في تاريخ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا النبيّ الذي كان المسلمون يتسابقون إلى الماء الذي يتقاطر من وضوئه .

هذا النبيّ الذي ذهَب رسول قريش يقول لهم : إنّي رأيت كسرى وقيصر وملوك الأرض ، فما رأيت رجُلاً انجذب إليه جماعته وأصحابه ، وآمنوا به ، وذابوا بوجوده كما ذاب أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في محمّد .

هؤلاء لا يشعرون بوجودهم أمام هذا الرجل العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله في مجلس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقوم واحد منهم فيقول ما يقول ، ممّا تعلمون ، ثمّ لا يحصل بعد هذا أيّ رد فعل لهذا الكلام ، فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عندئذ يقول :( قوموا عنّي ، لا ينبغي الاختلاف في مجلس نبيّ ) .

المسألة بهذه الدرجة من العنف ، الموانع بهذه الدرجة من الشمول .

يجب أنْ نعرف أنْ علياًعليه‌السلام لم يكن رئيساً حينما فشل ، ولم يكن قاصراً حينما فشل ، كل هذا لم يكن ؛ لأنّ كل هذا غير محتمل في شخص هو قمّة النشاط ، وقمّة الحيوية وقمّة الحرص ومع هذا كله ، النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واجه هذه المشاكل والصعاب تجاه تشريع هذا الحكم ، إذن فموقف الإمامعليه‌السلام كان حرجاً غاية الحرَج تجاه هذه الموانع ، أمّا ما هي صيغة هذه الموانع ، هذه الموانع تحتاج إلى دراسة مفصلة لنفسية المجتمع الإسلامي في أيّام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهنالك عوامل كثيرة لها دخل في نسج خيوط هذه الموانع ، يُمكن أنْ نذكر بعضها على سبيل المثال .

العامل الأوّل : التفكير اللاإسلامي من ولاية عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جعل عليّاً بعده حاكماً على المسلمين ، وإماماً للمسلمين

٨١

ككل ، ولنتكلّم عن المسلمين المؤمنين باللّه ورسوله حقّاً ، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه وبرسوله حقّاً ، قُلنا : إنّهم لم يكونوا من الواعين بدرجةٍ كبيرة ، نعم كان عندهم طاقة حرارية تصل إلى درجة الجهاد ، إلى الموت في سبيل اللّه هؤلاء الذين قاموا بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ضدّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أنا لا أشكّ بأنّهم مرّ عليهم بعض اللحظات ، كانوا على استعداد لأنْ يضحّوا بأنفسهم في سبيل اللّه ، وأنا لا أشكّ أنّ الطاقة الحرارية كانت موجودة عند هؤلاء ، سعد بن عبادة الخزرجي مثلاً ، هذا الذي عارَض عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى حين ، والذي فتَح أبواب المعارضة على عليّ بن أبي طالب إلى حين .

سعَد هذا كان مثل المسلمين الآخرين يُكافح ويُجاهد غاية الأمر لم يكن لديه الوعي ، هؤلاء المسلمون المؤمنون باللّه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يكونوا على درجةٍ واحدة من الوعي وكان الكثرة الكاثرة منهم أُناساً يملكون الطاقة الحرارية ، بدرجةٍ متفاوتة ، ولم يكونوا يملكون وعياً ، إذن فقد تبادر إلى ذهن عدد كبير من هؤلاء أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله يفكّر أنْ يُعلّي مجد بني هاشم ، أنْ يعلّي كيان هذه الأُسرة ، أنْ يمدّ بنفسه بعده فأختار علياً ، اختار ابن عمّه ، لأجل أنْ يمثّل عليّ بن أبي طالب أمجاد أُسرته ، هذا التفكير كان تفكيراً منسجماً مع الوضع النفسي الذي يعيشه أكثر المسلمين كراسب الجاهلية ، كراسب عرفوه ما قبل الإسلام ، ولم يستطيعوا أنْ يتحمّلوا تحمّلاً تامّاً ، أبعاد الرسالة .

ألسنا نعلم... ماذا صنعوا في غزوة حنين ، حينما وزّع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله المال ؟ وزّع الغنائم على قريش ولم يعطِ الأنصار ، وزّعه على قريش على أهل مكّة ، ولم يعطِ أهل المدينة ، ماذا صنَع هؤلاء ، ماذا صنَع أهل المدينة ؟ أخذ بعضهم يقول لبعض : إنّ محمّداً لقي عشيرته فنسينا ، لقي قريشاً ونسيَ الأوس والخزرَج ، هاتين القبيلتين اللتين قدّمتا ما قدّمتا للإسلام ، إذن فكان هؤلاء على المستوى الذي تصوّروا في هذا القائد الرائد العظيم ، الذي كان يعيش الرسالة ، آثر قبيلته بمال ، فكيف لا يتصوّرون أنّه يؤثر عشيرته بحكمٍ ، بزعامةٍ ، بقيادةٍ على مرّ الزمن وعلى مرّ التاريخ .

هذا التصوّر كان يصل إلى هذا المستوى المتدنّي من الوعي ، هؤلاء لم

٨٢

يكونوا قد أدركوا بعد أبعاد محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكونوا قد أدركوا أبعاد الرسالة الإسلامية ، وكانوا بين حينٍ وحين يطفو على أنفسهم الراسب الجاهلي وينظرون إلى النبيّ من منظار ذلك الراسب الجاهلي ، ينظرون إليه كشخصٍ يرتبط بالعرَب ارتباطاً قوميّاً ، ويرتبط بعشيرته ارتباطاً قبَلياً ويرتبط بابن عمّه ارتباطاً رحمياً ، كلّ هذه الارتباطات كانت تراود أذهانهم بين حين وحين ، وأنا أظنّ ظنّاً كبيراً أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لو لم يكن ابن عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لو أنّ الصدفة لم تشأ أنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام ، لو لم يكن من أُسرة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان من عدِي ، أو لو كان من تميم ، لو كان من أُسرة أُخرى ، لكان لهذه الولاية مفعولاً كبيراً جداً ، لقضيَ على هذا التفكير اللاإسلامي.....

لكن ما هي حيلة محمّد إذا كان الرجل الثاني في الإسلام ابن عمّه ، لم يكن له حيلة في أنْ يختار شخصاً دون شخص آخر ، وإنّما كان عليه أنْ يختار مَن اختاره الله سُبحانه وتعالى ، ومَن اختاره اللّه هو الرجل الثاني في الإسلام ، في تاريخ الرسالة ، في كيان الرسالة ، وفي الجهاد... في سبيل الرسالة ، وفي الاضطهاد في سبيل الرسالة ، كان من باب الاتفاق ابن عمّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الاتفاق فتح باب المشاغبة على هؤلاء هذا هو العامل الأول ، هذا العامل يعيش في نفوس المؤمنين باللّه تعالى ، وبرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

العامل الثاني : عامل يعيش في نفوس المنافقين ، والمنافقون كثيرون في المجتمع الإسلامي ، خاصّة وأنّ المجتمع الإسلامي كان قد انفتح قبيل وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله انفتاحاً جديداً على مكّة ، وكانت قد دخَلَت مكّة أيضاً داخل هذا المجتمع ، ودخلت قبائل كثيرة في الإسلام قبيل وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان هناك أُناسٌ كثيرون قد دخلوا الإسلام نفاقاً ، ودخلوه طمعاً ، ودخلوه حرصاً على الجاه ، ودخلوه استسلاماً للأمر الواقع ؛ لأنّ هذا مُسلّم ، لأنّ محمداً فرض زعامته على العرب ، لم يكن شخصٌ يفكّر في أنْ تُزَعزَع هذه الزعامة ، إذن فلا بدّ من الاعتراف بهذه الزعامة .

دخل كثير من الناس بهذه العقلية ، وهؤلاء كانوا يدركون كل الإدراك أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام هو الرجل الثاني للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الاستمرار الصلِب العنيد للرسالة ، لا الاستمرار الرخو المتميّع لها ، وهؤلاء كانوا مشدودين إلى

٨٣

أطماع وإلى مصالح كانت تتطلّب أنْ تستمرّ الرسالة ويستمرّ الإسلام ؛ لأنّ الإسلام إذا انطفأ معنى هذا أنّه سوف تنطفئ هذه الحركة القويّة التي بنَت دولةً ومجتمعاً ، والتي يُمكن أنْ تُطبِق على كنوز دولة كسرى وقيصر وتضمّ أموال الأرض كلّها إلي هذه الأُمّة ، كان من المصلحة أنْ تستمر هذه الحركة ، لكن كان من المصلحة أنْ لا تستمر بتلك الدرجة من الصلابة والجدّية ، بل أنْ تستمر بدرجة رخوة هيّنة ليّنة ، كما وصَف الإمام الصادقعليه‌السلام حينما سُئل ، كيف نجح أبو بكر وعمر بقيادة المسلمين وفشَل عثمان في هذه القيادة ؟

قال :( لأنّ عليّاً أرادها حقّاً محضاً ، وعثمان أرادها باطلاً محضاً ، وأَبو بكر وعُمَر خلَطا حقّاً وباطلاً ) .

كان لابدّ وأنْ تستمر الرسالة لكن تستمر بشكلٍ ليّن هيّن ، بشكلٍ ينفتح على مطامح أبي سفيان ، بشكلٍ يمكن أنْ يتعامل معه أبو سفيان الذي جاء إلى عليّعليه‌السلام في لحظة قاسية تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان عادة بقدرٍ كبير من المظلومية ، حيثُ يرى كيف أنّ الناس قد تنكّروا لكل أمجاده وأنكروا كلّ جهاده ، حتى أخوَّته لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في هذه اللحظة جاءه أبو سفيان يعرض عليه القيادة بين يديه ، يعرِض عليه أنْ يُزعّمه في سبيل أنْ يكون هو اليد اليمنى للدولة الإسلامية ، يأبى عليّعليه‌السلام ذلك ، يأبى وهو مظلوم ، وهو متآمَرٌ عليه ، وهو مضطهد حقّه ثمّ يذهب أبو سفيان ، أو بالأحرى نقول أنّ أبا بكر وعمر يذهبان إلى أبي سفيان ، ويولّيان أولاد أبي سفيان على بلاد المسلمين ، وهذا هو الاستمرار الهيّن الذي كانت مصالح المنافقين تطلبه وقتئذ ، وبهذا كانت قيادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وزعامته تمثّل خطراً على هذه المصالح فكان لا بدّ في سبيل الحفاظ عليها من قِبل المنافقين هؤلاء أنْ يخلقوا في سبيلها العراقيل ويقيموا الحواجز والموانع .

العامل الثالث : وهو مرتبطٌ بمراحل نفسية خلقية ، عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كان يمثّل باستمرار تحدّياً بوجوده التكويني ، كان يمثّل تحدّياً للصادقين من الصحابة لا للمنحرفين من الصحابة ، كان يمثّل تحدّياً بجهاده ، بصرامته ، باستبساله ، بشبابه ، بكلّ هذه الأُمور ، كان يضرب الرقم القياسي الذي

٨٤

لا يمكن أنْ يحلم به أيّ صحابي آخر ، كلّ هؤلاء كانوا يودّون أنْ يُقدّموا خدمةً للإسلام .

أتكلّم عن الصحابة الصالحين الصحابة الصالحون كانوا يودون أنْ يقدموا خدمةً للإسلام ولكن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام كان يفوقهم بدرجةٍ كبيرة ، بدرجةٍ هائلة ، عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بالرغم من التفاوت الكبير في العمر بينه وبين شيوخ الصحابة ، من أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما ، ممّن عاش بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرغم من هذا، أفلَس أبو بكر وأفلَس عمر ، وأفلَس هؤلاء كلّهم ، أمام رسوخ عليّعليه‌السلام الذي كان يضرب بسيفين .

معاوية يقول في كتابه لمحمّد بن أبي بكر بأنّ علياً كان في أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كالنجم في السماء لا يطاول ، الأُمّة الإسلامية كانت تنظر إليه كالنجم في السماء بالرغم من أنّ العدد الكبير منها لم يكن يحبّونه ، كان عليّ مجاهداً بدرجة لا يُمكن أنْ يُقاس به شخصٌ آخر ، كان صامداً زاهداً ، بدرجةٍ لا يُمكن أنْ يُقاس به شخصٌ آخر ، وهكذا في كل كمالات الرسالة الإسلامية .

إذنْ فعليّ كان تحدّياً ، كان استفزازاً للآخرين ، وهؤلاء الآخرون ليسوا كلّهم يعيشون الرسالة فقط ، بل جملةً منهم يعيشون أنفسهم أيضاً ، يعيشون أنانيّتهم أيضاً ، وحينما يشعرون بهذا الاستفزاز التكويني من شخصِ هذا الرجل العظيم الذي كان يتحدّاهم وهو لا يقصد أنْ تحدّاهم ، بل يقصد أنْ يهديهم ، وأنْ يبني لهم مجدهم ، يبني لهم رسالتهم وعقيدتهم ، لكن ماذا يصنع بأُناسٍ يعيشون أنفسهم.

فهؤلاء الأُناس كانوا يفكّرون في أنّ هذا تحدّ واستفزاز لهم كان ردّ الفعل لهذا مشاعر ضخمة جدّاً ضدّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

يكفي مثال واحد ليتّضح هذا الموقف .

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يُسافر من المدينة إلى غزوة من الغزَوات فيخلّف عليّاً مكانه أميراً على المدينة ، فهل تركه الناس ، لا إنّما أخذوا يشيعون بالرغم من أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المرّات السابقة كان يستخلف أحد الأنصار على المدينة غير عليّ ، فكانوا يشيعون بأنّه ترَك عليّاً لأنّه لا يصلح للحرب !! عليّ بن أبي طالب هذا الرجل الصلب ، العنيد ، المترفّع ، هذا الرجل الذي يقول :( لا يزيدني إقبال الناس عليّ ولا ينقصني

٨٥

إدبارهم عنّي ) هذا الرجل الصلب استفزّ الأعصاب إلى درجة أنّه اضطرّ أنْ يلحق بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيسأله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن سبب تركه المدينة ، فيقول :( الناس يقولون بأنّك طردتني لأنّي لا أصلح للحرب ) .

يمكن أنْ تنكر أيّة فضيلة من فضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، ولكن هل يُمكن أنْ ينكر أنّ عليّ بن أبي طالب لا يصلح للحرب ؟ انظروا الحقد كيف وصل عند هؤلاء المسلمين بأنْ أخذوا يُفسّرون إمارة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام على المدينة بأنّه لا يصلح للحرب ، فيقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمته المشهورة :( إنّ عليّاً منّي بمنزلة هارون من موسى ) ، أنّه لا ينبغي أنْ أخرج من المدينة إلاّ وأنت فيها إثباتاً لوجودي ولتحمي المدينة .

هذا الموقف من هؤلاء لا يُمكن أنْ يُفسّر إلا على أساس هذا العامل النفسي هذا العامل الثالث .

وهناك عوامل أُخرى ، هذه العوامل كلّها اشتركت في سبيل أنْ تجعل هناك موانع قويّة جدّاً اصطدم بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عند تشريع الحكم ، واصطدم بها عليّ بن أبي طالب عند محاولة مقابلة الانحراف وتعديل التجربة وإرجاعها إلى وضعها الطبيعي ، ولهذا فشَل في زعزَعة الوضع القائم بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨٦

(٧)

قلنا : إنّه حينما وجِد الانحراف بعد وفاة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم تكن الأُمّة على مستوى المراقبة بوصفها المجموعي ، لم تكن قادرة على ضمان عدَم وقوع هذا الحاكم المنحرف بطبيعته في سلوكٍ منحرف ؛ لأنّ كون الأُمّة على هذا المستوى من الضمان ، إنّما يكون فيما إذا وصلَت الأُمّة بوصفها المجموعي إلى درجة العصمة ، أي إذا أصبحت الأُمّة كأُمّة تعيش الإسلام عيشاً كاملاً عميقاً ، مستوعباً مستنيراً منعطفاً على مختلف مجالات حياتها ، هذا لم يكن ، بالرغم من أنّ الأُمّة الإسلامية وقتئذ ، كانت تشكّل أفضل نموذج للأُمّة في تاريخ الإنسان على الإطلاق يعني نحن الآن لا نعرف في تاريخ الإنسان ، أُمّة بلَغت في مناقبها وفضائلها ، وقوة إرادتها وشجاعتها وإيمانها وصبرها وجلالتها وتضحيتها ما بلغته هذه الأُمّة العظيمة حينما خلّفها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الذي يقرأ التاريخ تاريخ هؤلاء الناس ، الذي عاشوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تبهره أنوارهم في المجال الروحي والفكري والنفسي ، في مجال الجهاد والتضحية في سبيل العقيدة ولكن هذه الأنوار التي تظهر للمطالع لم تكن نتيجة وضع معمّق تعيشه الأُمّة في أبعادها الفكرية والنفسية ، بل كانت نتيجة طاقة حرارية هائلة اكتسبتها هذه الأُمّة بإشعاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذه الأُمّة التي عاشَت مع أكمل قائد للبشرية ، اكتسبت عن طريق الإشعاع من هذا القائد ، درجة كبيرة من الطاقة الحرارية صنعت المعاجز ، وصنعت البطولات والتضحيات التي يقل نظيرها في تاريخ الإنسان .

ولا أُريد أنْ أتكلّم عن هؤلاء الناس في أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإيثار كل واحد منهم للإسلام والعقيدة ، إيثاره بكلّ وجوده وطاقاته بكل إمكانياته وقدراته هذه النماذج الرفيعة إنّما هي نتاج هذه الطاقة الحرارية التي جعلت

٨٧

الأُمّة الإسلامية تعيش أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله محنة العقيدة والصبر ، وتتحمّل مسؤولية هذه العقيدة بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتحمل لواء الإسلام بكلّ شجاعة وبطولة إلى مختلف أرجاء الأرض ، هذه هي طاقة حرارية وليست وعياً ، لذا يجب أنْ نفرّق ونميّز بين الطاقة الحرارية وبين الوعي :

الوعي : عبارة عن الفهم الفعّال الإيجابي المحقّق للإسلام في نفس الأُمّة ، الذي يتأصّل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالاً كاملاً ، ويحوّل تمام مرافق الإنسان من مرافق الفكر الجاهلي إلى مرافق الفكر الإسلامي والذوق الإسلامي .

أمّاالطاقة الحرارية : فهي عبارة عن توهّج عاطفي حار ، بشعور قد يبلِغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر ، فلا يميّز بين الأُمّة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين أُمّة تتمتّع بذلك الوعي إلاّ بعد التبصر .

إلاّ أنّ الفرق بين الأُمّة الواعية والأُمّة التي تحمل الطاقة الحرارية كبير ، فإنّ الطاقة الحرارية بطبيعتها تتناقص بالتدريج بالابتعاد عن مركز هذه الطاقة الحرارية .

والمركز الذي كان يموّن الأُمّة بهذه الطاقة الحرارية هو شخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله القائد ، فكان طبيعياً أنْ تصبح طاقة الأُمّة بعده في تناقض مستمر ، حال الشخص الذي يتزوّد من الطاقة الحرارية للشمس والنار ، ثمّ يبتعد عنهما ، فإنّ هذه الحالة تتنافص عنده باستمرار .

هكذا كان ، وتاريخ الإسلام يثبت أنّ الأمة الإسلامية كانت في حالة تناقص مستمر من هذه الطاقة الحرارية التي خلفها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أُمّته حين وفاته بخلاف الوعي ، فإنّ الوعي بذلك المعنى المركز الشامل المستأصّل لجذور ما قبله ، ذلك الوعي من طبيعته الثبات والاستقرار ، بل التعمّق على مرّ الزمن ؛ لأنّه بطبيعته يمتد ويخلق له بالتدريج خيالات جديدة وفقاً لخط العمل وخطّ الأحداث ، فالأُمّة الواعية هي أُمّة تسير في طريق التعمّق في وعيها ، والأُمّة التي تحمل طاقة حرارية هائلة ، هي الأُمّة التي لو بقِيت وحدها مع هذه الطاقة الحرارية فسوف تتناقص طاقتها باستمرار .

٨٨

وهناك فرق آخر : هو أنّ الوعي لا تهزّه الانفعالات ، يصمد أمامها ، أمّا الطاقة الحرارية فتهزّها الانفعالات ، الانفعال يفجّر المشاعر الباطنية المستترة ، يبرز ما وراء الستار ، ما وراء سطح النفس كأنّ الطاقة الحرارية طاقة تبرز على سطح النفس البشرية ، وأمّا الوعي فهو شيءٌ يثبت في أعماق هذه النفس البشرية ، ففي حالة الانفعال سَواء كان الانفعال انفعالاً معاكساً ، يعني حزناً وألَماً أم كان انفعالاً موافقاً ، أي فرحاً ولذّة وانتصاراً ، في كلا الحالتين سوف يتفجّر ما وراء الستار ويبرز ما كان كامناً وراء هذه الطاقة الحرارية في الأُمّة المزوّدة بهذه الطاقة فقط ، أمّا الأُمّة الواعية فوعيها يجمد ويتقوّى على مرّ الزمن فكلّما مرّ بها انفعال جديد أكّدت شخصيّتها الواعية في مقابل هذا الانفعال ، وصبَغته بما يتطلّبه وعيها من موقف .

هذا هو الفرق بين الوعي والطاقة الحرارية .

نحن ندّعي أنّ الأُمّة الإسلامية العظيمة التي خلّفها القائد الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي ضربت أعظم مثل للكون في تاريخ الإنسان إلى يومنا هذا ، هذه الأُمّة كانت تحمل طاقة حرارية كبيرة ، ولم تكن تحمل وعياً مستنيراً مجتثّاً لأصول الجاهلية فيها .

والدليل على هذا كلّه واضح من تاريخ الأُمّة نفسها وكشاهد على ذلك ، علينا أنْ ننظر إلى غزوة حنين ، غزوة هوازن بعد فتح مكّة ، ماذا صنَعت هذه الأُمّة العظيمة بتلك الطاقة الحرارية في لحظة الانفعال ، رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرَج بجيش من الأنصار ومن قريش من أهل مكّة فانتصر في معركته وأخذ غنائم كثيرة ، وكان قراره توزيع الغنائم كلّها جميعاً على مَن خرَج من مسلمي مكّة ، فوزّعها كذلك ، ولم يعطِ مسلمي الأنصار شيئاً منها ، هذه لحظة انفعال نفسي ، إنّ هؤلاء الأنصار يرون أنفسهم خرَجوا مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة ليفتحوا مكّة ، وفتحوها وحقّقوا للأُمّة أعظم انتصاراتها في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد هذا يدخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في الدين أُناساً جدداً يستقلون بتمام الغنائم ويأخذونها هذه لحظة انفعال ، في هذه اللحظة من لحظات الانفعال لا تكفي الأُمّة الطاقة الحرارية ، بل تحتاج الأُمّة إلى وعي يثبتها لتستطيع أنْ تتغلب على لحظة الانفعال ، هل كان مثل هذا الوعي موجوداً...؟ الجواب أنّه لم يكن :

٨٩

فإنّ الأنصار أخذوا يثيرون ما بينهم الهمس القائل : بأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله لقِي أهله وقومه وعشيرته ، فنسِيَ أنصاره وأصحابه ، هؤلاء الذين شاركوه في محنته ، هؤلاء الذين ضحّوا في سبيله ، هؤلاء الذين قاوموا عشيرته في سبيل دعوته ، نسيَهم وأهمَلهم وأعرض عنهم ؛ لأنّه رأى أحبّائه وأولاد عمّه ، رأى عشيرته...

أنظروا إلى هذا التفسير ، يبدو من خلاله الأنصار وكأنّ المفهوم القبَلي متركّز في واقع نفوسهم ، إلى درجةٍ يبدو معه لهم ، أنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الرجل الأشرف والأكمل ، الذي عاشوا معه ، وعاشوا تمام مراحل حياته الجهادية ، ولم يبدِ في كل مراحله الجهادية أيّ لون من الألوان يُعطي شعوراً قبَلِياً قوميّاً ، بالرغم من هذا ، وبالرغم من خلوّه من أيّ شعور يشير إلى ذلك .

في لحظة الانفعال قالوا ، بأنّه وقَع تحت تأثير العاطفة القبليّة والقومية هذه العاطفة القبليّة أو القومية هذا الترابط القبلي كيف كان قوياً في نفوسهم ، بحيث إنّهم اصطنعوه تفسيراً للموقف في لحظة من لحظات الانفعال ، رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله سمِع بالهمس ، اطّلع على أنّ هناك بذور فتنة ضدّه في الأنصار ، فأرسَل على أبناء الأنصار من الأوس والخزرج ، وجمَعهم عنده ثمّ التفت إليهمصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال ما معناه : ( لقد بلَغني عن بعضِكم هذا الموضوع ، إنّ محمّداً نسيَ أصحابه وأنصاره حينما التقى بقومه ) ، فسكَتَ الجميع واعترف البعض بهذه المقالة .

حينئذٍ أخذ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُعالج الموقف والمشكلة وذلك بإعطاء المزيد من الطاقة الحرارية ؛ لأنّ هذه المشكلة ذات حدّين ، حدٍّ آني وحد المدى الطويل ، الحد على المدى الطويل يجب أنْ يعالج عن طريق التوعية على الخط الطويل ، وهذا ما كان يُمارسهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمشكلة بحدّها الآني يجب أنْ تُعالج أيضاً معالجة آنيّة ، والمعالجة الآنية لا تكون إلاّ عن طريق إعطاء مزيد من هذه الطاقة الحرارية للسيطرة على لحظة الانفعال ، ماذا قالصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ كيف ألهَب عواطفهم ، قال لهم :( ألا ترضَون أنْ يذهَب أهل مكّة إلى بلادهم بمجوعة من الأموال الزائفة ، وأنتم ترجعون إلى بلادكم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .

هذه كانت دفعة حرارية حوّلت الموقف في لحظة حيث أخذ هؤلاء الأوس

٩٠

والخزرج يبكون أمام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويستغفرون ويعلنون ولاءهم واستعدادهم وتعلّقهم به ، أراد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يعمّق هذا الموقف العاطفي أكثر فعندما سكَن بكاؤهم وهدأت عواطفهم قال لهم :

( ألا تقولون لي مقابل هذا ) ، ثمّ أخذ يترجم بعض الأحاسيس المستترة في نفوسهم ، حتى يهيّج عواطفهم تجاهه ، ويتيح لذلك المجلس جوّاً عاطفياً وروحياً ، بعد ذلك يتغلّب على الموقف إلى آخر القصّة .

هذه الأُمّة التي تحمل الطاقة الحرارية تنهار أمام لحظة انفعال .

شاهد آخر في لحظة انفعال أُخرى أيضاً في تاريخ هذه الأُمّة .

الأُمّة بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله تملكتها لحظة انفعال كبيرة ؛ لأنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله راحل وكان رحيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكّل هزّة نفسية هائلة بالنسبة إلى الأُمّة الإسلامية ، التي لم تكن قد تهيّأت بعد ذهنياً وروحياً لأنْ تفقد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في هذه اللحظة من الانفعال أيضاً المشاعر التي كانت في الأعماق برَزت على السطح .

المهاجرون : هناك تكلّمنا عن الأنصار ، وهنا نتكلّم عن المهاجرين ، ماذا قال المهاجرون في لحظة الانفعال...؟ هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من بلادهم ، وتركوا دورهم وعوائلهم وقومهم في سبيل الإسلام ، ماذا قالوا ، وماذا كان موقفهم ؟

قالوا : إنّ السلطان سلطان قريش ، إنّ سلطان محمّد سلطان قريش ، نحن أولى من بقيّة العرب ، وبقيّة العرب أولى من بقية المسلمين .

هنا يبرز الشعور القبَلي والشعور القومي ، في لحظة انفعال ؛ لأنّ هذه اللحظة من الانفعال تشكّل صدمة بالنسبة إلى الطاقة الحرارية ، يصبح الإنسان معها في حالة غير طبيعية ، حيث لا يوجد عنده وعي فينهار أمام تلك الأفكار وهذه العواطف .

إذن لحظة الانفعال هي التي تحدّد أنّ هذه الأُمّة تحمل وعياً ، أو طاقة حرارية .

٩١

ماذا صنع المسلمون في لحظة الانتصار والاستيلاء على كنوز كسرى وقيصر ، المسلمون في هذه اللحظة ، أخذوا يفكّرون في الدنيا ، أخذوا يفكّرون في أنْ يقتنص كلّ واحد منهم أكبر قدَر ممكن من حطامها .

والأزمة التي مرّت بعمر بن الخطّاب في تحقيق حال الأرض المفتوحة عنوة ، وأنّ الأرض المفتوحة عنوة هل تقسم على المقاتلين أو أنّها تجعل لبيت المال ، وتجعل ملكاً عاماً ، هذه الأزمة تبينّ ، كيف أنّ هذه الأُمّة تردّدت في لحظة الانفعال ؛ لأنّ وجوه المهاجرين والأنصار ، هؤلاء الأبرار المجاهدون ، هؤلاء الذين عاشوا كل حياتهم الكفاح والجهاد في سبيل اللّه ، هؤلاء أخذوا يصرّون إصراراً مستميتاً على أنّ هذه الأرض يجب أنْ توزّع عليهم ، وعلى أنّ كل واحد منهم يجب أنْ ينال أكبر قدر ممكن من هذه الأرض ، إلى أنْ أفتى عليّعليه‌السلام بأنّ الأرض للمسلمين جميعاً ، لمَن هو موجود الآن ولمَن يوجد بعد اليوم إلى يوم القيامة .

هذه اللحظات لحظات انفعال ، لحظات الانفعال الانخذالية ، ولحظات الانفعال الانفصالية هي التي تحدّد أنّ الأُمّة هل تحمل طاقة حرارية ، أو تحمل وعياً .

إذن كان وعي الأُمّة يحمل وراءه قدَراً كبيراً من الرواسب الفكرية والعاطفية والنفسية ، التي لم تكن قد استؤصلت بعد ؟

وربّما قيل : إذن ماذا كان يصنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لم تكن قد استؤصلت هذه الرواسب ؟

وجوابه : أنّ هذه الرواسب ليس من السهل استئصالها ؛ لأنّ الدعوة الإسلامية التي جاء بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن مجرّد خطوة إلى الإمام ، بل كانت طفرة بين الأرض والسماء .

إذا لاحظنا حال العرب قبل الإسلام ، ولاحظنا مستوى الرسالة الإسلامية ، نرى أنّ المستوى هو مستوى الطفرة بين الأرض والسماء ، لا مستوى الحركات الإصلاحية التي توجد في المجتمعات العالمية ، وهي مستوى الخطوة إلى الأمام ، أي حركة إصلاحية تنبع من الأرض وتنبع من عبقرية الإنسان بما هو إنسان ، تزحف بالمجتمع خطوةً إلى الأمام لا أكثر، المجتمع كان قد وصل إلى الخطوة

٩٢

السابقة ، في خط التقدّم ، وحينئذ من الممكن في زمَن قصير أنْ تستأصل رواسب الخطوة السابقة ، بعد الدخول في الخطوة التالية ؛ لأنّ الفرق الكيفي بين الخطوة السابقة والثانية مثلاً فرقٌ قليل ضئيل ، والتشابه بين الخطوتين تشابهٌ كبيرٌ جدّاً ، هذا التشابه الكبير أو ذاك التفاوت اليسير ، يُعطي في المقام إمكانية التحويل ، إمكانية اجتثاث تلك الأُصول الموروثة من الخطوة السابقة .

لكن ماذا ترون وما تقدّرون ، عندما جاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مجتمع متأخّر يعيش الفكرة القبلية بأشدّ ألوانها ونتائجها ، وأقسى مفاهيمها وأفكارها ، جاء فألقى فيها فكرة المجتمع العالمي ، الذي لا فرق فيه بين قبيلة وقبيلة ، وبين شعب وشعب ، وبين أُمّة وأُمّة ، وقال : إنّ الناس سواسية كأسنان المشط .

هذه الطفرة الهائلة بكلّ ما تضم من تحوّل فكري وانقلاب اجتماعي ، وتغيير في المشاعر والمفاهيم والانفعالات ، هذه الطفرة لم تكن شيئاً عادياً في حياة الإنسان ، وإنّما كانت شيئاً هائلاً في حياته إذن فكيف يمكن أنْ نتصوّر أنّ هذا المجتمع الذي طفَر بهذه الطفرة ـ مهما كان هذا المجتمع ذكيّاً ، وصبوراً على الكفاح ، ومهما كان قويّاً ومؤمناً برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كيف يمكن أنْ نتصور في الحالات الاعتيادية ، أنّه يُودّع تمام ما كان عنده من الأفكار والمشاعر والانفعالات ، ويقلب صفحة جديدة كاملة ، دون أيّ اصطحاب لموروثات العهد السابق ، هذا غير ممكن إلاّ في فترة طويلة جدّاً ، مع أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعِش لمجتمع ودولة كمربّي تربيةً كاملة في المدينة إلاّ عشرَ سنوات فقط ، عِلماً أنّ جزءاً كبيراً من المجتمع الإسلامي دخل الأحداث بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومجتمع مكّة الذي دخل في حظيرة الإسلام وقت فتح مكّة ، وقبل سنتين فقط من وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فكيف يمكن أنْ نتصوّر من خلال هذه الأزمنة القصيرة ومع تلك الطفرة الهائلة الكبيرة إثبات تلك الأُصول .

فالأُصول إذن كان من المنطقي والطبيعي أنْ لا تبقى ، وكان من المنطقي والطبيعي أيضاً أنْ لا تُجتث إلاّ في خلال أمَد طويل ، وخلال عمليّة تستمر مع خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده إلاّ أنّ هذه العملية قطعت بالانحراف ، بتحوّل

٩٣

خط الخلافة عن عليّعليه‌السلام وهذا لا يثير استغراباً ، أو يسجّل نقطة ضعف ، بالنسبة إلى عمل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ينسجم مع الرسالة مع عظمتها وجلالتها ومع تخطيط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهذه هي الأُمّة التي تحمل طاقة حرارية ، أُمّة غير واعية وإذا كانت تحمل هذه الطاقة وهي غير واعية ، فليست بقادرة على حماية التجربة الإسلامية ، وعلى وضَع حدٍّ لانحراف الحاكم الذي تولّى الحكم بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ بالصيغة الأُصولية التي قلناها ، من أنّ الأُمّة بوصفها المجموعي ليست معصومة ، ما دامت تحمل طاقة حرارية فقط ، ولا تحمل وعياً مستنيراً بجتثُّ أُصول الجاهلية فيها .

وما دامت كذلك فهي لا تقف في وجه هذا الانحراف ، وقد قلنا بأنّه حتى لو أخذنا الحاكم بغير المفهوم الشيعي ، مع هذا تبقى طبيعة الأشياء وطبيعة الأحداث تُبرهن على أنْ يكون هذا الحاكم عرضةً للانحراف ولتحطيم التجربة الإسلامية ، وبالتالي تحطيم جميع الأُصول الموضوعية والإطار العام لهذه التجربة الشريفة المباركة ، فإنّ الحاكم أوّلاً هو جزء عادي من هذه الأُمّة ، التي قلنا بأنّها لم تكن تحمل وعياً مستنيراً بل كانت تحمل طاقة حرارية .

ولنفرض أنّ هذا الحاكم لم يكن شخصاً متميّزاً من هذه الأُمّة بانحراف خاص ، وبتخطيطٍ سابق للاستيلاء على الحكم ، أو بتصميم على قتل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل الاستيلاء على الحكم ، لنفرض أنّ هذا لم يكن ، وإنّما هو جزءٌ عادي من هذه الأُمّة تدلّ سوابقه على ذلك فمعنى كونه جزءاً من هذه الأُمّة ، أنّ الحاكم يستبطن قدراً كبيراً من الأفكار الجاهلية والعواطف الجاهلية والمشاعر الجاهلية ، وهذا كان واضحاً من اللحظة الأُولى في يوم السقيفة ، وفي الحجج التي أوردها المهاجرون ضدّ الأنصار ، وكان من الواضح أنّ تقييم الخلافة لم يكن تقييماً إسلامياً ، فهذه الرواسب الفكرية والعاطفية للجاهلية سوف تعمل عملها في سلوك هذا الحاكم وفي تخطيطه .

إذا أضفنا إلى هذا أنّ الحاكم كان يبدو منه في حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نزعة الاستقلال بالرأي وروح التمرّد على التعبّد ، وهذا كان ظاهراً فيهم وخاصّة الخليفة الثاني ، حيث كانت تبدو فيه روح التمرّد على جملة التعاليم التي جاء

٩٤

بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها تحدث عنده حالة تناقض بين الدعوة الجديدة التي دخَل فيها وبين مفاهيمه وأفكاره وعواطفه المسبقة التي صاغتها الجاهلية له ، هذه النزعة نزعة التمرّد ، ونزعة التعويل على الرأي لم تكن تشكّل خطراً في الوقت الذي كان هذا إنساناً عاديّاً في المجتمع الإسلامي ، وكان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الحاكم في هذا المجتمع ، وأمّا في الوقت الذي تولّى فيه هذا الشخص وأصحابه زمام قيادة التجربة ، قيادة هذه السفينة ، هذه النزعة أصبحت تشكّل خطراً في المقام ، خطر أنّ هذا الحاكم سوف يُعبِّر في جملة من قضاياه ومفاهيمه ومشاكله على وفق الموروثات الجاهلية ، وعلى وفق رواسبه العاطفية والنفسية التي خلّفها له آباؤه وأجداده ، لا التي خلَّفها له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإذا أضفنا إلى ذلك أيضاً أنّ الحاكم لم يكن قد هُيّئ أبداً لأنْ يكون حاكماً ، وللحاكم مشاكله الخاصّة وسلوكه الخاص وثقافته الخاصّة ، الحاكم خاصّة إذا كان حاكماً في صدر دعوة جديدة ذات حرارة خاصّة وثقافة جديدة ، فلا بدّ وأنْ يكون هذا الحاكم مهيّأً بصورة مُسبقة تهيؤاً ثقافياً وعلمياً وروحياً ، لأنْ يكون حاكماً...؟

وقصدنا من عدَم التهيّؤ هو عدَم التهيؤ الثقافي والعلمي ، بمعنى أنّه لم يكن قد أستوعب الإسلام عمر نفسه كان يقول : شُغِلنا أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الأسواق والحرب.؟ تأتيه مشكلة فلا يعرف الجواب عنها فيبعث للمهاجرين والأنصار ليستفتيهم مرّة ثانية وثالثة ورابعة ، حينما يتكرّر هذا المطلب منه ويقف موقفاً سلبيّاً تجاه المشاكل من الناحية الدينيّة ، فيعتذر عن ذلك فيقول : شغلتنا أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحرب والعمل في الأسواق .

رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُهيّئ هذا الحاكم : نعم ، رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن قد اشتغل لتهيئة مجموعة من الأُمّة لتحكم الناس وإنّما هيّأ قادة معيّنين من أهل البيتعليهم‌السلام ليحكموا .

كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل على خطّين للتوعية : الخطّ الأوّل هو التوعية على مستوى الأُمّة ، وهذه التوعية للأُمّة بوصفها رعيّة بالمقدار الذي تتطلّبه

٩٥

الرعية الواعية من فهمٍ وثقافة ، وكان له خط عمل على مستوى آخر من التوعية ، للصفوة التي اختارها الله سُبحانه وتعالى ؛ حتى تخلفه لقيادة هذه التجربة ، كانت توعية على مستوى القيادة وعلى مستوى الحاكمية .

وهؤلاء الذين تولّوا الحكم بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يكونوا قد عاشوا على هذا المستوى للتوعية من الناحية الفكرية والثقافية ، ألسنا جميعاً نعرف أنّ الصحابة في أيّام عمر وأبي بكر اختلفوا في المسائل الواضحة جدّاً ؟ اختلفوا في حكم سنَّةٍ كان يُمارسها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام أعينهم مدّة طويلة ، اختلفوا في حكم صلاة الجنائز ، هذه المسألة العبادية الصرفة البعيدة عن كلّ مجالات الهوى والسياسة والاقتصاد ، فالاختلاف هنا اختلاف ناشئ من الجهل حقيقة ، لا اختلاف ناشئ من الهوى ، ليس من قبيل الاختلاف في حكم الأرض وفي حكم الغنيمة وحكم الخُمس .

كل هذا ينشأ من عدَم التهيئة سابقاً ومن عدَم الاستعداد لممارسة الحكم ولقيادة هذا التجربة ، يُضاف إلى ذلك أنّ الأُمّة كانت تحمل طاقة حرارية ولم تكن واعية إلى أنّ الحاكم كان قاصراً أو مقصّراً ، يُضاف إلى كلّ ذلك أنّ الإسلام كان على أبواب تحوّل كمّي هائل ، كان على أبواب أنْ يفتح أحضانه لأُمَم جديدة ، لم ترَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تسمَع آية من القرآن منه على الإطلاق .

تلك الأُمّة التي خلّفها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تحمل طاقة حرارية ، لكن بعد أنْ اتّسعت الأُمّة كميّاً وضمَّت إليها شعوباً كثيرة ، ضمّت إليها الشعب العرَبي بأكمله تقريباً ، في زمَن عمر ، وضمّت إليها من الشعوب الأُخرى من الفارسية والتركية والكردية والهندية والأفغانية والأوروبّية وغيرها ، ما بال هذه الشعوب التي لم تكن قد رأت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم تسمَع منه كلمة من القرآن ، هل يترقّب أنْ يكون لها وعي ، أو يترقّب أنْ يكون لها طاقة حراراية ؟ تلك الطاقة كانت نتيجة كفاح مستمر مع أشرَف قائد على وجه الأرض .

إنّ هذه الشعوب التي دخَلَت حظيرة الإسلام ، لم تكن قد عاشت هذا الكفاح المستمر مع القائد إذن فهذا الانفتاح الهائل على الشعوب الأخرى أيضاً ضعّف مناعة هذه الأُمّة ، واضعَفَ من قدرتها على الحماية ، وفتح بالتالي مجالات جديدة للقصور والتقصير أمام الحاكم .

٩٦

الحاكم الذي لم يكن مهيّأً نفسياً لأنْ يحكم في مجتمع المدينة ، كيف يكون مهّيأً نفسيّاً وفكرياً وثقافياً لأنْ يحكم بلاد كسرى وقيصر ويجتثّ أُصول الجاهلية ، الفارسية والهندية والكردية والتركية ؟ إضافة إلى اجتثاث الجاهلية العربية ، هذه الجاهليات التي كانت كلّ واحدة منها تحتوي على قدرٍ كبير من الأفكار والمفاهيم الأُخرى ، جاهليّات عديدة متضاربة فيما بينها عاطفياً وفكرياً ، وكلّها في مجتمع واحد وفي حالة عدَم وجود ضمان لا على مستوى الحاكم ، ولا على مستوى الأُمّة ؟!

لئن كان أُولئك الذين خلّفهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد رأوا بأمّ أعينهم ، في لحظة قصيرة ، تجسيداً واقعياً حيّاً للنظرية الإسلامية للحياة وللمجتمع في أيّام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورأوا تصرّفات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري والاجتماعي ، وسمعوا من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه يقول :( الناس سواسية كأسنان المشط ) فإنّ هذه الشعوب التي دخَلت في الإسلام جديداً ، لم تكن قد سمِعت كلّ هذا بل سمِعت هذا من الحكّام الجُدد الذين كانوا يقودون زعامة التجربة فإذا كان أمينها حاكماً منحرفاً ، وكانت الأُمّة غير قادرة على مواجهة هذا الانحراف ، وكانت على أبواب توسّع هائل ضخم يضم شعوباً لا تعرف شيئاً أصلاً عن هذه النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية ، إنما تعرف الواقع الذي يتجسّد خارجاً والذي عاشته كواقع وهو أنّ فاتحاً مسلماً سيطر على بلادها .

إذن كان من المفروض ومن المنطقي بحسب طبيعة الأشياء ، أنْ تتحوّل النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية إلى نظرية أُخرى وفق خطّ الحاكم الموجود فعلاً ، والذي يجسّد في سلوكه وتصرّفاته ، حقيقة بعيدة عن الحقيقة التي عمل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله على تجسيدها في حياته ، فنظرية أبي بكر وعمر وعثمان للحكم وكما عاشوها واقعياً وسياسياً واقتصادياً ، كانت كفيلة بأنْ تطمس تلك الأطروحة الصالحة فكرياً وروحياً ، كما انطمست سياسياً واقتصادياً يوم السقيفة ، ولذا كان أمراً طبيعياً أنْ يعمل قادة أهل البيتعليهم‌السلام على التخطيط لحماية إسلامهم من أنْ يندرس ، وذلك عن طريق الدخول في الصراع السياسي مع هؤلاء الخلفاء .

الأئمّةعليهم‌السلام دخلوا في صراع مع الخلفاء ومع الزعامات المنحرفة ، دخلوا

٩٧

في الصراع يحملون في أيديهم مشعل تلك النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية ، بكلّ بهائها ونورها وجمالها وكمالها ولم يكونوا يستهدفون من هذا أنْ يعيدوا خط التجربة ؛ لأنّ المؤسف أنّ خط التجربة لم يكن بالإمكان أنْ يعود مرّة أُخرى إلى الاستقامة بعد أنْ انحرف ، لم يكن الصراع السياسي يستهدف في المقام أنْ يعيد التجربة إلى خطّها المستقيم ، أو على المدى الطويل الطويل ، ولم يكن هذا هو الهدف الآني للصراع السياسي ، وإنما كان الهدف الآني للصراع هو أنْ يبثّوا الوعي في المسلمين والشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام على النظرية الحقيقية للإسلام عن الحياة ، عن المجتمع عن الدولة عن الاقتصاد وعن السياسة وعن الآخرة ، ويبيّنوا لهم بصدق ما هو مفهوم الإسلام في هذه المجالات وصولاً إلى ترسيخ هذه النظرية في أذهان الناس .

صحيح أنّ النظرية كانت موجودة في القرآن ، وكانت موجودة في النصوص ، ولكن هذا لا يكفي وحده للوصول إلى الهدف وذلك :

أولاً : لأنّ النظريات حينما تكون حبراً على ورَق ، لا تكفي لأنْ تعطي صورة واضحة عن الحقيقة الصادقة في أذهان الناس .

ثانياً : لأنّ القرآن والسنّة لم تكن قد فهمته هذا الشعوب الجديدة التي قد دخلت في الإسلام ، السنّة لم يكونوا قد سمِعوا عنها شيئاً وإنّما سوف يسمعون عنها عن طريق الصحابة وأمّا القرآن الكريم لم يكونوا قد سمِعوا شيئاً عن تفسيره أيضاً ، وإنّما بدأوا يسمعونه عن طريق الصحابة ، فلا بدّ حينئذ من تجسيدٍ حيٍّ لهذه النظرية الإسلامية ، وحيث لم يكن بالإمكان تجسيده عن طريق الحكم بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرةً ، كان من الضروري تجسيده عن طريق المعارضة للزعامات المنحرفة على يد عليّعليه‌السلام والحسن والحسينعليهما‌السلام أئمّة المرحلة الأولى .

٩٨

٨ - ممارسة أئمّة المرحلة الأولى للصراع السياسي

في هذه المرحلة مارس هؤلاء الأئمّةعليه‌السلام الصراع السياسي ، لأجل إعطاء هذه النظرية بكلّ وضوح ، غاية الأمر أنّنا نرى أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يَقُم بالصراع الحاد إلاّ بعد موت عمر بن الخطّاب ، نعم بعد السقيفة بأيّام ، سجّل أمير المؤمنينعليه‌السلام للتاريخ رأيه في السقيفة وسجّل ذلك الحواريّون من أصحابه ، من أمثال سلمان والمقداد وعمار وهناك قالوا حكمهم ، قالوا بأنّ هذا ليس تعدّياً على عليّعليه‌السلام ، وإنّما هو تعد على الأُمّة الإسلامية ، وعلى التجربة الإسلامية سلمان أخذ يصف حال المسلمين وماذا يكون عليه فيما لو ولّوا علياً .

وفاطمة الزهراءعليها‌السلام ، في كلام لها مع نساء المهاجرين والأنصار ، وصفَت أيضاً حالة المسلمين لو أنّهم ولّوا عليّاً...

لكن بعد هذا ، أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يبد على مسرح الصراع بشكل مكشوف في أيّام أبي بكر وعمر بالرغم من أنّ الانحراف كان قد بدأ منذ خلافة أبي بكر لا الانحراف في تغيير شخص الحاكم ، بل الانحراف في تغيير مضمون الحكم وسياسة الحكم .

هذا الانحراف بدأ في أيّام أبي بكر واشتدّ في أيّام عمر وانجلى في أيّام عثمان بصورة غير إسلامية ، وكان الانحراف يسير في خطّ منحنِ حتى وصل إلى الهاوية بعد ذلك .

نعم بدأ أمير المؤمنينعليه‌السلام معارضته لأبي بكر وعمر وعثمان ، وللزعامات المنحرفة جميعاً بشكل مكشوف وصريح ، بعد وفاة عمر مباشرة ، وقبل أنْ يتم

٩٩

الأمر لعثمان عندما قال له عبد الرحمان بن عوف ـ وكانوا ستة قد اجتمعوا للشورى ـ قال له : مُدّ يدك أُبايعك على كتاب اللّه وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّة الشيخين ، وكان يريد عبد الرحمان من ذلك أنْ يجعل سيرة الشيخين ممثّلاً شرعياً للنظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية ، لو كان عليّ قبِلَ ذلك لانتهى هذا التمثيل ؛ لأنّه لم يكن في مقابل أطروحة هذين الشيخين إلاّ عليّعليه‌السلام ولو وافق على ذلك ، لأصبح هو ذات النظرية السائدة ، فقال : بايعني على كتاب اللّه وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله واجتهادي أمّا سيرة الشيخين لا يُمكن أنْ تقبل كممثّل شرعي للنظرية الإسلامية وللحياة الاجتماعية .

هنا بدَأ الإمامعليه‌السلام يشجب ويعارض هذه الزعامة المنحرفة ، أمير المؤمنينعليه‌السلام رفَضَ الخلافة والزعامة لأجل أنْ لا يدخل سيرة هذَين الرجلين كجُزء للنظرية الإسلامية .

قد يقال : أنّ هذا باب التزاحم وباب العناوين الثانوية ماذا كان يضره لو قال : نعم فيبايعه على كتاب اللّه وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الشيخين ، ثمّ بعد هذا يقول ويعمل حسب رأيه وينقض عهده لعبد الرحمان لأنّ كل شرط خالف كتاب اللّه ورسوله مردود ؟! ألَم يكُن هذا تكليفاً شرعياً بناءً على أنْ الوصول إلى الخلافة واجب ، وتنحصر مقدّمة هذا الواجب بأنْ يمضي هذا الشرط ، فعليه يكون هذا واجباً بالعناوين الثانوية ؛ لأنّه مقدّمة للواجب...؟!

وجوابه : إنّه لو قال عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ذلك لتمّ هذا التخطيط ، ثمّ إنّ النظرية الإسلامية للحياة هي النظرية التي قدّمها هؤلاء المنحرفون في المقام ، وما أشدّ ضياع الإسلام لو قال هذا ، وقد قُلنا وسوف نشرح أنّ عودة التجربة إلى الخط المستقيم على المدى البعيد البعيد ، لم تكن بالإمكان أصلاً حتى لو تولّى أمير المؤمنينعليه‌السلام الخلافة بعد عمر ، فماذا يكون إلاّ الخسارة إلاّ أنْ يعطي هذا الإمضاء وهذا الصك للزعامات المنحرفة .

من هنا بدأ الإمامعليه‌السلام يصارع ، ثمّ بعد هذا في أيّام عثمان انفتح صراعه السياسي بشكل أوضح .

١٠٠