مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث0%

مباني نقد متن الحديث مؤلف:
تصنيف: علم الدراية
الصفحات: 215

مباني نقد متن الحديث

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: قاسم البيضاني
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 59629
تحميل: 6507


توضيحات:

مباني نقد متن الحديث المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59629 / تحميل: 6507
الحجم الحجم الحجم
مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحادثة، ولو كان هناك قرينة على كذب هذا الإجماع لذكرها بعض المُؤرِّخين، ولذلك يُمكن اعتبار التاريخ مقياساً يُورِث الاطمئنان على صحّة أو كذب الخبر.

المبحث الثالث: الروايات الّتي تُخالِف التاريخ

وردتْ روايات كثيرة تُخالِف ما أجمع عليه المُؤرِّخون أو كادتْ، منها الروايات الّتي تذكر حضور أسماء بنت عُمَيس في زواج فاطمة الزهراء (عليها السلام) وزَفافِها، وفي ولادة الحسن والحسين‏ (عليهما السلام)، وأنّها عاهدتْ خديجة أُمّ السيّدة فاطمة الزهراء عند وفاتها في مكّة أن تقوم مَقامها، إنْ هي بَقَتْ إلى وقت زفاف الزهراء، ونذكر هذه الروايات حسب التسلسل الزمني:

1 - أسماء بنت عُمَيس تُعاهِد خديجة (عليها السلام):

نقلَ صاحِب البحار عن أسماء بنت عُمَيس، قالت: (حضرتُ وفاة خديجة (عليها السلام) فبَكتْ، فقلتُ: أتَبكين وأنتِ سيّدة نساء العالمين، وأنت زوجة النبي (ص)، مُبشَّرة على لسانه بالجنّة؟! فقالت: ما لهذا بكيت، ولكن المرأة ليلة زفافها لابُدَّ لها من امرأة تُفْضِي إليها بسِرِّها، وتستعين بها على حوائِجها، وفاطمة حديثة عهد بصِبَى، وأخاف أن لا يكون لها مَن يتولََّى أمرها حينئذٍ، فقلت: يا سيّدتي لك [ عَلَيَّ ] عهد الله، إنْ بَقِيت إلى ذلك الوقت أن أقوم مَقامك في هذا الأمر (367) .

2 - أسماء تَحضر زواج فاطمة (عليها السلام):

عن أسماء بنت عُمَيس، قالت: (لقد جَهّزتُ فاطمة بنت رسول الله (ص) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وما كان حَشو فَرشِها إلاّ لِيف) (368) .

وعن أسماء بنت عُمَيس، قالت: (كنتُ في زفاف فاطمة بنت رسول الله (ص)، فلمّا أصبحنا جاء النبيُّ إلى الباب فقال: يا أُمَّ أيمن، ادعي لي أخي) (369).

١٢١

3 - أسماء عند ولادة الحسن والحسين:

عن أسماء بنت عُمَيس، قالتْ: (قَبِلْتُ جَدَّتك فاطمة (عليها السلام) بالحسن والحسين (عليهما السلام)، فلمّا وُلِد الحسن (عليه السلام)، جاء النبي (ص) فقال: يا أسماء، هاتي ابني، فدَفعتُه إليه في خُرقَة صفراء...) (370)

وجميع هذه الروايات تُخالِف الحقائق الّتي تَسالَم عليها المُؤرِّخون، في عدم وجود أسماء بنت عُمَيس في جميع هذه الفَترات، فقد هاجرتْ مع زوجِها جعفر بن أبي طالب إلى الحَبَشة في السنة الخامسة من البعثة النبويّة، ولم ترجع إلى المدينة إلاّ في السنة السادسة من الهجرة، في عام فتح خيبر، وقد وُلِدَ لها من جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) عبد الله، وعوف، ومحمّد (371) .

وهذا ما تَسالَم عليه المُؤرِّخون (وقد كانت هذه الهجرة [ الهجرة إلى الحبشة ] في السَنة الخامسة من البعثة، كما نصَّ عليه عامّة المُؤرِّخون) (372) .

قال ابن حجر: (وهاجرَ إلى الحبشة، فأسلَمَ النَجاشي ومن تبعه على يديه [ جعفر ]، وأقام جعفر عنده، ثُمَّ هاجر منها إلى المدينة، فقدم والنبيّ (ص) بخَيبَر، وكُلّ ذلك مشهور في المَغازي بروايات مُتعدِّدة صحيحة) (373) .

ومن المعلوم أنّ وفاة خديجة (عليها السلام) كان في مكّة، في السنة العاشرة من البعثة، وأنّ زواج فاطمة (عليها السلام) وولادة الحسن والحسين (عليهما السلام) كان في المدينة، كما نصَّ عليه جميع المُؤرِّخون والمُحدِّثون، لم يَشذّ منهم أحد (374) .

قال الكنجي الشافعي: (إنّ ذِكرَ أسماء بنت عُمَيس في خَبرِ تزويج فاطمة (عليها السلام) غير صحيح؛ لأنّ أسماء الّتي حضرتْ في عُرسِ فاطمة إنّما هي بنت يزيد بن السكن الأنصاريّة... وأسماء بنت عُمَيس كانت مع زوجها جعفر بن أبي طالب بالحبشة، وقَدمَ بها يوم فتح خَيبَر، سنة سبع، وكان زواج فاطمة بعد بَدرٍ بأيّام يسيرة) (375) .

١٢٢

4 - نزول آيات من سورة التوبة في حَقِّ ٍٍٍٍٍحَمزة وعليّ وجعفر (عليهم السلام):

روى الكُليني بسَنده عن أبي بصير، عن أحدهما (عليهما السلام) في قول الله (عزّ وجلّ): ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) : (نزلتْ في حمزة وعلي‏ (عليه السلام) وجعفر والعبّاس وشَيبة، إنّهم فَخروا بالسِقاية والحِجابَة، فأنزل اللهُ (عزَّ ذكره) ( أجعلتم سقاية الحاج... ) ، وكان علي (عليه السلام)، وحمزة وجعفر هُم الّذين آمنوا بالله واليوم الآخر، وجاهدوا في سبيل الله، لا يَستَوون عند الله) (376) .

وهذه الرواية تُواجِه عدّة إشكالات، منها أنّ سورة التوبة مَدنيّة، بل إنّ بعضهم قال: هي آخر ما نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) بالمدينة (377) .

وأنّ علي (عليه السلام)، وجعفر (عليه السلام)، وحمزة (عليه السلام)، لا يُمكن أن يجتمعوا في آن واحد؛ لأنّ جعفر (عليه السلام) هاجر إلى الحَبشة قَبل هِجرة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ثُمَّ رجعَ إلى المدينة أيّام فتح خيبر - كما قُلنا سابقاً -، وقد استُشهد حمزة قبل ذلك بمُدَّة في معركة أُحُد - كما هو معلوم -.

فالرواية لا تَتَّفِق مع المُسلَّمات التاريخيّة.

قال العلاّمة الطباطبائي في التعليق على هذه الرواية: (والرواية لا تُلائم ما يُثبِته النَقل القطعي، فقد كان حمزة من المهاجرين الأوّلين، لَحِقَ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثُمّ استُشهد فى غزوة أُحُد، في السنة الثالثة من الهجرة.

وقد كان جعفر هاجر إلى الحبشة قَبل هجرة النبي‏ (صلّى الله عليه وآله)، ثُمّ رجعَ إلى المدينة أيّام فتح خيبر، وقد استُشهد حمزة قبل ذلك بمُدّة.

فلو كان من الخَمسة اجتماع على التَفاخر، فقد كان قبل الهجرة النبويّة) (378) .

5 - رواية المِسْوَر عن الرسول (ص) مُباشرة:

عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة، أنّه سمع رسول الله (ص) على المنبر وهو يقول: (إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنَتهم عليّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثُمَّ لا آذن لهم، إلاّ أن يُحِبّ ابن أبي طالب أن يُطلِّقَ ابنتي وينكح ابنتهم، فإنّما ابنتي بضعة منّي، يُريبُني

١٢٣

ما رابَها، ويُؤذيني ما آذاها) (379) .

وقريب منه في كتاب البُخاري، وزاد فيه (سمعتُ رسولَ الله وأنا مُحتلِم) (380) .

وهذه الرواية بهذا السَند لا يُمكن القبول بها؛ لأنّها واردة عن المِسوَر بن مَخرَمَة بلفظِ (سمعتُ)، وهذا يدلّ على أنّه سمعها من الرسول (صلّى الله عليه وآله) مباشرة، وليس عن طريق أحد الصحابة، في حين أنّ المِسوَر بن مَخرَمَة لم يتجاوز السابعة من العمر، كما نصَّ عليه أصحاب السِيَر والتواريخ، قال ابن حجر في هذه الأحاديث: (وهو مُشكل المَأخَذ؛ لأنّ المُؤرِّخين لم يختلفوا أنّ مَولِده كان بعد الهجرة، وقضيّة خطبة عليّ كانت بعد مَولد المِسوَر بنَحوِ ستِّ سنين أو سبع سنين، فكيف يُسمّى مُحتَلِماً؟!) (381) .

6 - سَعد بن مُعاذ وغَزْوَة تَبُوك:

عن أنس بن مالك، قال: (أقبل رسول الله (ص) من غزوة تَبُوك فاستقبَله سَعد بن مُعاذ الأنصاري، فصافحه النبي (ص) ثُمّ قال له: ما هذا الّذي أكْتَبت يداك؟ فقال: يا رسول الله، أضرب بالمَرو المِسحاة فأُنفِقه على عيالي، قال: فقبَّل النبي (ص) يَدَه وقال: هذه يَدٌ لا تَمسّها النار أبداً) .

وهذا الخبر مُخالِف لما تَسالَم عليه أهل السِيَر والمُؤرِّخون؛ لأنّ سَعد بن مُعاذ تُوفّي سنة خمس من الهجرة، وغزوة تَبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة.

فقد ورد في كيفيّة وفاته (سَعد بن مُعاذ الأنصاري، سيّد الأوس... شَهدَ بدراً باتّفاق، ورُمِيَ بسهمٍ يوم الخندق، فعاش بعد ذلك شهراً، حتّى حكم في بني قُريضَة، وأُجيبت دعوته في ذلك، ثُمّ انتقضَ جُرحه، فمات... وذلك سنة خمس) (382) .

١٢٤

7 - مُخاطَبة الرسول لأزواجه في السنة الثالثة من الهجرة:

روى السيوطي عن أبي أمامة، قال: (لمّا نزلتْ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (383) ، جمعَ رسول الله (ص) بني هاشم فأجلَسهم على الباب، وجمع نساءَه وأهله فأجلسهم في البيت، ثم اطّلع عليهم فقال: يا بني هاشم، اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فَكاكِ رقابكم أو افتكوها بأنفسكم من الله، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئاً، ثُمّ أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عُمر، ويا أُمّ سَلَمَه، ويا فاطمة بنت محمّد، ويا أُمّ الزبير عَمّة رسول الله، اشتروا أنفسكم من الله، واسعوا في فكاك رقابكم، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئاً ولا أُغني، فبكتْ عائشة رضي الله عنها وقالت:...) (384) .

وقد اتّفق جميع المُفسّرين والمُؤرّخين على أنّ هذه الآية مَكّية، نزلتْ في السنة الثالثة أو الرابعة من البعثة النبويّة المُبارَكة، وذلك بعد انتهاء الفترة السرّيّة وبداية الفترة العلنيّة من الدعوة. (ثُمّ أنّ الله تعالى أمر النبي (ص) بعد مَبعثه بثلاث سنين أن يَصدع بما يُؤمَر، وكان قَبل ذلك في السِنين الثلاثِ مُستَتِراً بدعوته، لا يُظهرها إلاّ لمَن يَثِق به... قال ابن عبّاس: ( لمّا نزلت: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) خرجَ رسول الله (ص)، فصعدَ على الصفا فَهَتفَ: يا صباحاه! فاجتمعوا إليه...) ) (385) .

وفي رواية أُخرى عن علي‏ (عليه السلام)، قال: (لمّا نزلتْ: ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) ، دعاني النبي (ص) فقال: يا علي، إنّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، فضِقتُ ذرعاً وعلمتُ أنّي متى أُبادرهم بهذا الأمر أرَ منهم ما أكره...) (386) .

والّذي يظهر من الرواية أنّ أُمّ سَلَمَه، حفصة، عائشة، كُنَّ من أزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في

١٢٥

ذلك الوقت، في حين أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) تزوَّج أُمَّ سَلَمَه وحفصة في المدينة، بعد الهجرة (387) .

وقد ذكر ابن جرير رواية أُخرى في سبب نزول هذه الآية، عن أبي هُريرة، ولم يذكر فيها فاطمة (عليها السلام)، ولا حفصة ولا عائشة ولا أُمّ سَلَمَه (388) .

ولهذا فإنّ الرواية تُواجِه عِدّة إشكالات، فكيف يُمكن أن يُخاطب النبي (ص) عائشة وهي لم تولَد بعد؟! لأنّ عائشة وُلِدَتْ بعد المَبعث بأربع أو خمس سنين (389) .

8 - ابن مَسعود في مَعركة صِفِّين:

عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، قال: (سمعتُ أبا نُعيم، وذكر المُعَلَّى بن عرفان، فقال، قال: حدَّثنا أبو وائل، قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين فقال أبو نُعيم: أتراه بُعِثَ بعد الموت) (390) .

وقد علّق النوَوي، فقال: (معنى الكلام أنّ المُعلّى كذب على أبي وائل في قوله هذا؛ لأنّ ابن مسعود (رض) تُوفّي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين... وصِفِّين كانت في خلافة علي (رَضيَ الله عنه)، بعد ذلك بسَنَتَين، فلا يكون ابن مَسعود (رضيَ الله عنه) خرجَ عليهم بصِفِّين، إلاّ أن يكون بُعثَ بعد الموت، وقد علمتم أنّه لم يُبعَثْ بعد الموت... فتعيَّن أن يكون الكذب من المُعلَّى بن عرفان، مع ما عُرِفَ من ضَعفه) (391) .

9 - خروج النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى مَشاهِده:

عن شَهْر بن حَوشَب، قال: (قال لي الحجّاج، وسألني عن خروج النبي (ص) إلى مشاهِده، فقلت: شهد رسول الله (ص) بدر في ثلاثمئة وثلاثة عشر، وشهد أُحُداً في ستّمئة، وشهد الخندق في تسعمئة، فقال: ممَّن؟ قلتُ: عن جعفر بن محمّد (عليه السلام)، فقال: ضلَّ والله مَن سلك غير سبيله) (392).

١٢٦

وهذا الحديث مُخالِف للتاريخ؛ لأنّ الّذي يظهر من الرواية أنّ الراوي يُحدِّث عن الإمام في حال إمامته، وكانت إمامته (عليه السلام) سَنة أربع عشرة ومئة (393) ، وولادته سنة ثلاث وثمانين من الهجرة (394)، وقد تُوفي شَهر بن حَوشَب سنة مئة (395) ، وهلك الحَجّاج سنة خمس وتسعين من الهجرة (396) .

وقد علّق بعض الباحثين على هذه الرواية فقال: (وفيه إشكال من جهة التاريخ؛ إذ المشهور في التواريخ هو أنّ الحجّاج (لعنه الله) مات سنة خمس وتسعين من الهجرة، وفي هذه السنة تُوفي سيّد الساجِدين (صلوات الله عليه)، ولو كانت ولادة الصادق (عليه السلام) سنة ثلاث وثمانين، وكانت بدء إمامته سنة أربع عشرة ومئة، كانت وفاة شَهر بن حَوشَب أيضاً قبل إمامته؛ لأنّه مات سنة مئة أو قبلها بسَنة.

ويحتمل على بُعْد، أن يكون سمع ذلك منه (عليه السلام) في صغره، في زمان جَدِّه (عليه السلام)، والأظهر أنّه كان جَدّه أو أباه، فاشتبه ذلك على الرواة) (397) .

أقول: إنّ الاحتمال الثاني هو الصحيح؛ لأنّه من المُستبعَد أن يُطلِق الحجّاج هذا القول على الإمام في حال إمامته، فضلاً أن يكون في حال صغره.

10 - فاطمة (عليها السلام) ولَيلة الإسراء:

روى ابن عبّاس بسَنده، قال: (كان النبي (ص) يُكثِر قُبَلَ فاطمة، فقالت عائشة: يا نبيَّ الله، إنّك تُكثِر قُبَل فاطمة، فقال النبي (ص): لَيلة أُسرِي بي دخلتُ الجنّة فأطعمني [ جبرائيل ] من جميع ثمارها، فصار ماء في صُلْبي، فحَملتْ خديجة بفاطمة، فإذا اشتقتُ إلى تلك الثمار قَبَّلتُ فاطمة، فأُصيب من رائحتها تلك الثمار الّتي أكلتها) (398) .

قال ابن الجَوزي: (هذا حديث موضوع، لا يَشكّ المُبتدِى‏ء في العِلم في وضعِه،

١٢٧

فكيف بالمُتبحِّر.

ولقد كان الّذي وضعه أجهل الجهّال بالنقل والتاريخ، فإنّ فاطمة وُلِدَت قبل النبوّة بخمسِ سِنين... وذِكره الإسراء كان أشدّ لفضيحته؛ فإنّ الإسراء كان قبل الهجرة بسَنة بعد موت خديجة... وقد كان لفاطمة من العُمر لَيلة المِعراج سبع عشرة سَنة) (399) .

أقول: إنّ الحُكم على هذه الرواية بالوَضع لمُخالَفتها لمُسلَّمات التاريخ، يتوقَّف على أمور، منها: القَطع أو التَسالم بين المُؤرِّخين على تاريخ ولادة الصدِّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أوّلاً، والتَسالم بين المُؤرِّخين على تَعيِين حادثة الإسراء والمعراج.

فإذا قَطَعْنا بصحّة هاتين الحادثتين، أمكن الحُكم على الرواية بالوَضع أو الصحّة، وكِلا الحادِثتَين وقع الاختلاف بين المُؤرِّخين والمُحدِّثين فيهما.

أمّا بالنسبة إلى ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فمَشهورِ مُحدِّثي السُنَّة: أنّ ولادتها كانت قبل البعثة. (واُختلِف في سِنِّ مولدها؛ فروى الواقدي عن طريق أبي جعفر الباقر (ع)، قال: (قال العبّاس: وُلِدَت فاطمة والكعبة تُبْنى، والنبيّ (ص) ابن خمس وثلاثين سَنة)، وبهذا جَزَمَ المَدائِني (400) .

وقال الشيخ المُفيد: (إنّ ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت يوم العشرين من جمادى الآخرة، سنة اثنتين من المَبعَث) (401) ، وهناك روايات تُؤكِّد أنّ ولادَتها كانت سنة خمس من المَبعث (402) .

أمّا بالنسبة إلى حادثة الإسراء والمِعراج، فالمشهور أنّه كان قبل الهجرة بمُدَّة وَجيزة، وفي مُقابِل ذلك فإنّ بعضهم يقول: إنّه وقع في السَنة الثانية من البعثة، وقيل في الثالثة (403) .

ومن خلال هذا التضارب في الآراء والاختلافات، لا يُمكن الحصول على نتيجة مُعيَّنة، ما لم يُحرز ويُقطع بصِحّة هاتين الحادثتَين، من خلال قرائِن تُوجِب القطع والاطمئنان، ولذلك لا يُمكن الحُكم على هذه الرواية بمُخالَفتها للواقع التاريخي في ظلِّ مثل هذا الاختلاف.

١٢٨

الفصل الرابع: عَرْضُ الحَديث على العَقل

المبحث الأوّل: المَعنى اللُغوي والاصطلاحي للعَقل.

المبحث الثاني: تقسيم القضايا مِن حيث إدراك العَقل لها.

المبحث الثالث: علاقة العَقل بالعُلوم النَظريَّة.

المبحث الرابع: الحُسْنُ والقُبح العَقلِيَّين.

المبحث الخامس: أسباب التَعارض بين العَقل والنَقْل.

المبحث السادس: دَليلُ القاعِدة.

المبحث السابع: مَصاديق الأحاديث المُخالِفة للعَقْل.

الباب الثاني / الفصل الرابع: عَرْضُ الحَديثِ على العَقْلِ

المبحث الأوّل:

المعنى اللُغوي للعَقْل:

العَقل: يَعني الحَبْس والإمْسَاك، فاعتُقلَ لِسانه إذا حُبس ومُنع عن الكلام، وعَقَلَ بَطنَه إذا استَطْلَقَ بَطنُ الإنسانِ ثُمَّ استَمْسَك (404).

وقد تطوَّر هذا المَعنى من معناه المادّي إلى المَعنوي، فأُطلِق العقل على القوّة النفسيّة الرادِعَة للنفس عن شهواتِها وغرائزها، فالعَاقِل: هو الّذي يَحبِس نَفْسه ويردّها عن هَواها (405).

المعنى الاصطلاحي للعَقل:

هناك مَعاني اصطلاحيّة كثيرة للعقل، نُشير إلى بعضها:

قال الغزالي: إنّ العقلَ اسمٌ يُطلَق على أربعة مَعاني:

1 - الوَصف الّذي يُفارِق الإنسان به سائِر البَهائم، وهو الّذي استَعدَّ به لقبول العلوم النظريّة، وتدبير الصناعات الخَفيّة.

2 - العلوم الّتي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المُمَيّز، بجوازِ الجائِزات

١٢٩

واستحالة المُستَحِيلات.

3 - علومٌ تُستَفاد من التَجارب.

4 - مَعرِفة عواقب الأمور، ومَنع الشَهوَة الداعِية إلى اللَذّة (406) .

والفرق بين المَعنى الأوّل والمَعاني الأُخرى، هو اعتبار العقل قوّة في المَعنى الأوّل، أمّا في المَعاني الأُخرى فالعقل يُطلَق على العلوم المُستَفادَة، فهي في التعريف الثاني علوم ضَروريّة، وفي التعريف الثالث والرابع علوم مُكتَسَبَة.

وقَسَّمَ العلاّمة المَجلسي العقلَ الاصطلاحي إلى ستّةِ أقسام، فقال:

1 - هو قوَّة إدراك الخَير والشرّ والتمييز بينهما، والتَمَكُّن من معرفة أسباب الأمور وذرات الأسباب.

2 - مَلَكَة وحالة في النفس، تدعو إلى اختيار الخير والنَفعِ، واجتناب الشرور والمَضارِّ.

3 - القوَّة الّتي يستعملها الناس في أمور مَعاشِهم.

4 - مَراتِب استعداد النَفْسِ لتَحصيل النَظريّات، وقُربها وبُعدها عن ذلك.

5 - النَفْسُ الناطِقة الإنسانيّة، والّتي يَتميَّز بها عن سائر البَهائِم.

6 - ما ذهبَ إليه الفلاسِفة، من كَونِها جوهر مُجَرَّد قَديم، لا تَعَلُّق له بالمادَّة ذاتاً ولا فِعْلاً (407) .

وما نُريده من العقل هو القوّة المَوجودة في الإنسان، والّتي يتميّز بها عن سائر البَهائم، وبها يستطيع أن يُميِّز الخير عن الشرِّ، والتَمكُّن من مَعرفة الأسباب وربطها بالحوادِث، والاستدلال بالشاهِد على الغائِب، وتَشخِيص المَصالِح وتشخيص الحُسْن والقُبح، كما سيأتي في البحوث الآتية.

١٣٠

المَبحث الثاني: تَقْسيم القضايا من حيث إدراك العَقل لها

تُقَسّم القضايا، من حيث إدراك العقل لها، إلى ثلاثة أقسام:

1 - القَضايا الضَروريَّة:

وهي القضايا الّتي لا تحتاج إلى دليل لإثباتها، ويتساوى جميع البشر في إدراكها، كعِلمِ الإنسان بوجوده، وأنّ الواحد نصف الاثنين وما شابَه ذلك، وهذه القضايا لا يُمكِن التَشكيك بها، وهي على نوعين:

أ - القضايا الضروريَّة الّتي يُدرِكها العَقل النَظَرِي (408) ، مثل: امْتِناع اجتماع الضِدَّين أو ارتفاعهما.

ب - القضايا الضروريّة الّتي يُدرِكها العَقل العَمَلِي (409) ، مثل: حُسْنُ العَدْلِ وقُبْحُ الظُلْمِ، وهي أهَمّ القضايا في العقل العملي، وسوف يأتي بحث هذه القضايا فيما بعد.

2 - القضايا النَظَرِيَّة:

وهي القضايا الّتي تُكتَسَب عن طريق النَظَرِ والتَجارب، والّتي تُشكِّل مُعظَم قضايا العلوم.

3 - القضايا الّتي لا يَملك العَقل طريقاً لإدراكها:

لأنّها فوق مُستوى العقل، ولابُدَّ من وجودِ مَصدرٍ آخر لتحصيل العِلم بها، كمُعظَم مَسائل الآخرة والجنَّة والنار، وصِفات المَلائكة وما شابه ذلك.

قال ابن خلدون: (العَقلُ ميزان صحيح، فأحكامه يَقينيَّة لا كذب فيها، غير أنّك لا تَطمعْ أنْ تَزِن به أُمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوَّة، وحقائق الصِفات الإلهيّة، وكُلّ ما وراء طوره؛ فإنّ ذلك طَمَع في مُحال) (410) .

١٣١

ورغم أنّ هذه المسألة من المَسائل الّتي اتّفقتْ عليها أكثريّة المَذاهب الإسلاميّة، ولكن اختلفوا في تطبيق ذلك على المَصاديق، فالّذين يَنفُون رُؤية الباري، يقولون باستحالة الرُؤية عقلاً؛ لأنّ ذلك يَقتضي وجود الجهة والغير، ومُخالِفوهم يقولون إنّ العَقل يُجوِّز ذلك ولا يُحِيله.

وقال بعض العلماء في توجيه إمكان الرُؤية في الآخرة، بأنّ كلّ شي‏ء في الآخرة غيره في الدنيا.

وقد رُدَّ ذلك بأنّ القضايا البَديهيّة لا تَتَبَدّل في الآخرة إلى نقيضِها (411) .

ومن هنا فإنّ هناك اختلافاً في هذه المَباني، فبعض الأحاديث قد يَعتبرها البعض مُخالِفة لبَديهيَّات العقول، بَينما يعتبرها آخرون من الأمور الجائزة عقلاً، وجاء بها القرآن، كما سيأتي فيما بعد في أحاديث رؤية الله وغيرها.

المبحث الثالث: علاقة العَقْلِ مع العلوم النَظريَّة

لقد اتَّفق العلماء كافّة، على عدم وجود التعارض بين الحُكم الشرعي والعقل إذا كانا قطعيَّين، وقد استخرجوا من ذلك قاعدة، وهي: إنّ النقل الصحيح لا يأتي مُخالِفاً للعَقل الصريح.

قال الشيخ الأنصاري مُستغرِباً وجود التناقض بين أحكام العَقل والنَقْلِ - إذا كانا قطعيّين -: (وكذا لو فُرضَ حصول القَطعِ من الدليل النَقلي، كيف يُجوّز حُكم العقل بخلافه على وجهِ القَطع) (412) .

وقال الغزالي: (ودليل العقل لا يجوز أن يُقابِل النُطْق الصريح من الشارع؛ لأنّ الأدلّة لا تَتَعارَض) (413).

ودليل عدم المُعارَضة في نفس الأمر؛ لأنّ كلَيهما يَخرجان من مِشكاةٍ واحدة، فالشَرع حُجّة من الخارج، والعقل حُجّة من الداخل كما وَرَدَ في الروايات.

ولهذا، فسوف تكون علاقة العقل مع الشَرع على ثلاثة أقسام:

١٣٢

1 - إذا كان الدليل العَقلي قطعيّاً والنَقْلِي ظنيّاً، فيُقدَّم الدليل العقلي هنا على الظنّي؛ لأنّ القَطع حُجّة من أيّ طريق كان.

2 - إذا كان الدليل النَقلي قطعيّاً والعقلي ظَنّيّاً، فيُقدَّم النَقلي على العقلي.

3 - إذا كان كِلا الدليلَين ظَنّيّاً، فيُوجَد هنا رأيان:

أ - تقديم الدليل النَقلي على العقلي؛ لأنّ الظَنّي حجّة من باب حجيّة الظَنِّ.

ب - تقديم الراجِح منهما. قال ابن تَيمِيّة: (فأمّا القطعيّان فلا يجوز تعارضهما، سواء كانا عقليَّين أم سَمعيَّين، أم أحدهما عقليّاً والآخر سَمعيّاً، وهذا مُتَّفَق عليه بين العُقلاء... وأمّا إن كانا جميعاً ظنّيَّين فإنّه يُصار إلى مَطلَب ترجيح أحدهما، فأيّهما مُرجَّح كان هو المُقدَّم) (414) .

المبحث الرابع: الحُسْنُ والقُبح العَقليَّين

وهي من المسائل الّتي كَثُر حولها الجدال بين المذاهب الإسلاميّة، وإنّ تحديد مَوقف ما من هذه المسألة، قد يُحدّد المَوقِف من بعض الأحاديث، بكونها مُعارضة مع العقل أو غير مُعارضة، ويمكن تلخيص هذه الآراء بما يلي:

1 - قالت الشيعة والمُعتزِلة وغيرهم من العدليّة: بأنّ العقلَ يستقلّ بمَعرفة حُسنِ بعض الأشياء وقُبحِها، بغضِّ النَظرِ عن حُكم الشارع، مثل: حُسن العَدل وقبح الظلم، واستَدلّوا بأدلّة كثيرة لا مَجال لذِكرها الآن.

2 - ذهبت الأشاعِرة إلى أنّ التحسين والتقبيح شَرعيٌّ مَحْض، ويُعرَف ذلك عن طريق العَقل.

قال الغزالي في - مَعرَض الرَدِّ على القائلين بالتَحسين والتقبيح العقليَّين -: (ادّعيتم أنّ حُسن بعض الأفعال وقُبحها مُستدرَك ببَداهَة العقول وأدائِها، ونحن نُنازعكم في ذلك، ومَواضع الضرورات لا يُتَصوَّر فيها الخلاف بين العقلاء) (415) .

ومن ثَمرات هذه القاعِدة:

١٣٣

1 - العدل الإلهي، والّذي يشمل المُفردات التالية:

أ - قبح التكليف بما لا يُطاق (416) .

ب - قبح العِقاب بلا بَيان.

2 - لزوم شُكر المُنعِم.

3 - أنَّ أفعال الله مُعلَّلة.

والجدير بالذِكر أنّ الالتزام بأحدِ المَباني في مسألة التَحسين والتَقبيح، يُؤثِّر في قبول الحديث أو عدم قبوله، كما هو الحال في أحاديث الجَبْرِ. قال القاضي عبد الجبّار: (والّذين يُثبِتُون القَدَر هُمْ المُجبِّرة، فأمّا نحنُ فنَنْفيه ونُنَزِّه الله تعالى من أن تكون الأفعال بقَضائه وقَدَرِه) (417) .

الدليلُ على عدمِ وجود أحكام شرعيّة تُخالِف العَقل:

1 - إنّ الله حكيم وسيّد العقلاء، فكيف يُمكن أن يُصدِر تشريعاً وحُكماً على خلافِ العقل.

2 - لقد جاء في بعض الأحاديث أنّ العَقل حُجَّة من الداخل، كما أنَّ الشَرع حُجَّة من الخارج، ومن المُحال أن تَتَعارَض حُجَّتَين؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة تَتَحدَّث عن أمور واقعيّة، وأنّه لا يُمكن أن تتعارض هذه الواقعيّات فيما بينها؛ لأنّ العقل النظري يُمكن أن يُدرِك الواقع كما قلنا سابقاً.

3 - لو كان في الشريعة الإسلاميّة ما يُنافي العقول، لَما رفعتْ التكليف عن المَجانين؛ فإنّ تكليف المَجنون أقرب من تكليف العاقِل بما يُناقِض عقله.

المبحث الخامس: أسباب التَعارض بين العَقل والنَقل

قُلنا: إنّه لا يُوجَد تعارض أصلاً بين العقل والنقل إذا كانا قطعيَّين؛ لأنّها يخرجان من مِشكاة واحدة (أدلّة الشريعة لا تَتَعارض في نفس الأمر، ولذلك لا تَجِد دليلَين أجمع

١٣٤

المسلمون على تعارضهما، بحيث وجبَ عليهم الوقوف، لكن قد يَقَع التَعارض في فَهْمِ النَاظرين) (418) .

أمّا إذا لم يكونا قطعيَّين، فالتعارض قد يكون لأحد الأسباب التالية:

1 - إنّ القضيّة العقليّة الّتي يُعتَقد أنّها تُخالِف المَنقول، ليستْ من القضايا العقليّة السليمة.

2 - إنّ المَنقول الّذي يُعارِض العقل السليم القطعي غير صحيح.

3 - الخطأ في فَهْمِ الدليل النَقلي، الّذي يُظَنّ أنه يُخالِف العَقل.

4 - عدم التَمييز بين ما يُحيله العَقل وما لا يُدْرِكه.

المبحث السادس: الدليل على القاعدة

يُمكن الاستدلال على هذا المِقياس في عَرض الروايات على العقل بثلاثة أدلَّة:

1 - القرآن.

2 - الروايات.

3 - تقديم القَطْع على الظَنِّ.

ماهِيَّة العَقْل في القرآن والسُنَّة:

لم يذكر القرآن صَراحة هذا المِقياس وتقديمه في حالة التَعارض، ولكن يُمكن أن نستنتج أهمَّيّة العَقل في القرآن، في مَنْزِلَته العظيمة في الاستدلال على وجود الله، وفي التَدبّر في سُنَنِ الله في الكون والحياة.

ولفظة (العَقل) لم تأتِ مَصدراً في القرآن، وإنّما وردَ بصيغة الفِعْل وفي ألفاظ مُختَلِفة، كلَفْظِ يَعقِلون، تَعقِلون، تَشكرون، وقد وردت مُرادفات هذه الكلمة، مثل: الألْبَاب، الحِجْر، النُهى.

ولقد ذُكرَتْ كلمة (العقل) في القرآن قُرابة خمسين مَرَّة (419) ، وبأساليب مُتعدِّدَة:

١٣٥

1 - فتارة يُرَغِّب القرآن في استعمال العَقل ويحثّ عليه: ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (420) .

2 - مَدح أهل العَقل: ( وما يَذكَّرُ إلاّ أُولو الألبَاب ) (421) .

3 - إظهار التأسّف على عدمِ استعمال العَقل وتعطيله: ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (422) .

4 - ذَمّ الّذين يهمِلون عُقولهم: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (423) .

وقد كانت دعوة القرآن لاستعمال العَقل في مَجالات كثيرة، منها:

1 - الاستدلال والتَدبّر بآيات الله العظيمة في الكون والإنسان، للتَعرّف على عظمة الله (سُبحانه وتعالى)، والاستدلال على وجوده: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ ) (424) .

2 - الاستدلال على المَحذورات الفاسِدة للقَضِيَّة، لإثبات القضيّة المُراد قِيام الدليل عليها: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (425) ، ( إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (426) .

3 - الاستدلال على عدمِ العَبث في الخَلقِ، من خلال النظام الموجود في الكون، والترتيب

وحسن التنسيق: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (427) .

4 - يُخاطِب القرآن العقلَ بأن يَتدبَّر في السُنَن الربانيّة، الّتي تجري في حياة البشريّة، وأنّها لا تَتَبدَّل ولا تَتَغيَّر: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ... ) (428).

5 - يُوجِّه الله (سُبحانه وتعالى) العقلَ إلى أسرار الكون، للتعرّف إلى أسراره، والاستفادة منها في تعمير الأرض: ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ) (429) .

١٣٦

إلى غيرها من الآيات الّتي تدلّ على مَنزلة العقل عند الله (سبحانه وتعالى)، ذلك العقل الّذي يُمكنه أن يُدرك الحقائق بالاستدلال الصحيح، العقل الّذي يستطيع أن يُميّز الصالِح من الفاسِد.

ماهِيَّة العَقل في الروايات وحُجّيّته:

ذُكرَت كلمة العقل في الروايات بكثرة، فقد جاء في بعض الروايات بأنّ الحُجَّة لا تَتمّ على العبد إلاّ بالعقل، فبه يُعرف الصادق والكاذِب على الله (430) ، وبه يُحاسَب الناس على قَدَرِ عقولهم في الآخرة (431) ، وهو مِقياس التكليف في الدنيا.

فلوح القَلَم مرفوع عن المَجنون والطفل والنائِم (432) ، وأنّ الأنبياء إنّما جاؤوا ليُثيروا دَفائِن العقول في الناس (433) ، وأنّ العُقلاء هُم الّذين يَعملون بطاعةِ الله (434) ، وأنّ للهِ حُجَّتَين، ظاهِرة وباطِنة، فالظاهِرة هي الرُسل والباطنة هي العَقل (435) ، وأنّ العقل هو أصل الفِكر والفَهْم، والّذي يُمكن من خلاله أخذ العِبرة في السَير في الأرض والنظر في عاقبة الظالِمين (436) ، وأنّه أصل العِلم ودَاعية الفَهْمِ (437) ، وأنّ العاقِل مَن عَقل لِسانه (438)، وغيرها من الروايات الكثيرة، والّتي يُمكن تصنيفها إلى ما يلي:

1 - يُمكن للإنسان عن طريق العَقل أن يُشخِّص ويُميِّز، ويُدرِك الأشياء والخير والشرّ، باعتباره حُجَّة على الإنسان.

2 - من ثَمرات العَقل - وهي القوّة الموجودة في داخل الإنسان - الفَهْم والعِلم والتَفكير.

3 - من خلال قوّة العَقل يُمكن أخذ العِبرة من الأشياء، وسلوك الطريق المُستقيم.

4 - العاقِل هو الّذي يَتَّصف بالصِفات الأخلاقيّة الكامِلة، كالزُهد والصَبر وطاعة الله

١٣٧

وكفّ اللسان، والابتعاد عن الشرِّ، وغيرها من الأمور والمَصاديق الّتي يَتَّصف بها العاقِل، وما يَهمّنا هنا هو المَعنى الأوّل والثاني.

وقد ظهر مّما مَرَّ أنّ مَنزلة العقل في الروايات كبيرة جدّاً، فهو مَبدأ التكليف والحِساب والعقاب، فبه يُعرَف الله وبه يُعبَد، وهو حُجّة باطِنة كما أنّ الأنبياء (عليهم السلام) حُجّة ظاهرة، وبه يُميّز بين الخَير والشَرِّ والمَنافع والمَضارّ، وأنّه أصل العِلم وداعيته.

فإذا كان كذلك، فكيف لا يُمكن اعتباره مِعياراً ومقياساً لمَعرفة صَحيح الرواية من سَقيمها، خصوصاً إذا كان حُكم العقل قطعيّاً؟!.

ويُمكن اعتبار حُجّيّة العقل ومِعيارِيَّته من باب كونه قَطْعَاً؛ لأنّ المُراد من العقل هنا ليس حُكم العقل الظنِّي، بل حُكم العقل القطعي، والقطع حُجَّة من أيِّ وَسيلةٍ جاء.

قال أحدُ العلماء: (اعلَم أنّ خبر الواحِد إذا وردَ مُخالِفاً لمُقتَضَى العَقل، فإنْ أمكن تأويله من غير تَعَسّف، يُقبَل التأويل الصحيح، وإن لم يَقْبَل تأويلاً إلاّ بتَعَسّف، لم يُقبَل؛ لأنّه لو جاز التأويل مع التَعسّف لبَطل التناقض في الكلام كُلّه) (439) .

وقال الشيخ المفيد: (إذا وَجَدْنا الخبر يُخالِف العَقل نَردّه) (440) .

المُراد من العَقل في الحُكْمِ على الروايات:

اختلفتْ أنظار العلماء في المُراد من العَقل في الحُكم على الروايات، فقال بعضُهم: إنّ المُراد من العَقل هو العَقل الحَصِيف، الّذي يَتَّفِق عليه جميع العُقلاء، إذا تَجرَّدوا عن كلّ النَزَعات والرواسِب والخَلْفِيَّات (441) .

وقال آخر: إنّ المُراد بالعَقل هو العَقل المُستَنِير بالكتاب والسُنّة الثابِتة، لا العَقل المُجرَّد (442) .

١٣٨

وقال آخر: إنّ العقل مُجرَّداً، لا يُمكن الاعتماد عليه في ردِّ ما يُتَوَهّم مُخالَفته للنصوص، وإنّ الحُجَج الفعليّة الصِرفة غير مَعصومَة عن الخَطأ، والدليل العقلي الّذي يَطمَئِنّ إليه المُسلم، هو الّذي يكون في جزءٍ منه شرعيّاً، أو دائراً في فَلَكِ النصوص (443) .

وقال بعضهم مُستَنكِراً استخدام البعض هذا المقياس: (لنَفرِض أنّ تحكيم العَقل في الأحاديث هو الصواب، فنحن نسأل: أيّ عقل هذا الّذي تُريدون أنْ تُحَكِّموه؟

أعَقل الفلاسِفة؟ أنّهم مُختَلِفون.

أمْ عقل الأُدباء، أمْ عقل الأطبَّاء، أم...؟ (444) .

ونحن نقول هنا: إنّ الخروج بنتيجةٍ قاطِعة تَتَّفِق عليها جميع المَذاهب في جَعلِ العَقل مِقياساً غير مُمكنة؛ لاختلافهم في بعض المَباني كما ذكرنا ذلك سابقاً، فقد تكون هناك قضيّة مُستحِيلة عند البعض مُمكنة عند البعض الآخر، ولكن يُمكن أن يُقال: إنّ المُراد من العَقل هو العَقل القَطعي، والعَقل النَظري يكون قَطعيّاً فيما إذا كانت مادّة القِياس بَديهيّة، أو نَظريّة تنتهي إلى البَديهيّة.

والقضايا البديهيّة - كما هو معروف في علم المَنطق - تتكوَّن من ستِّ قضايا (445) ، هي:

1 - الأوّليّات: وهي قَضايا يُصدِّق بها العَقل لذاتِها، دون سَببٍ خارج عن ذاتها، مثل قولنا: (الكُلُّ أكبر من الجزء)، (النَقِيضَان لا يَجْتَمِعان).

2 - المُشاهَدات (المَحسُوسَات): وهي القضايا الّتي يحكم بها العَقل بواسِطة الحِسِّ.

3 - التَجْريبِيَّات: وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بواسِطة تَكرّر المُشاهَدة في إحساسِنا، كالحُكم بأنّ كلّ نارٍ حارّة.

4 - المُتواتِرات: وهي قضايا تَسْكُن إليها النفس سُكُوناً يزول معه الشَكّ، ويحصل الجَزم القاطِع، بواسطة إخبار جماعة يَمتَنِع تَواطؤهم على الكذب، ويَمتَنِع خطأهم في فَهمِ الحادِثة.

١٣٩

5 - الحَدسيّات: وهي قضايا، مَبْدَأ الحُكم بها حَدسٌ من النفس قوّيٌّ جدّاً، يزول معه الشَكّ، ويُذعِن الذِهن بمَضمونِها.

6 - الفِطْريّات: وهي القضايا الّتي قِياساتها مَعها، أي أنّ العقل لا يُصدِّق بها بمُجرَّد تصوّر طَرفيها، بل لابُدَّ لها من وَسَط، مثل: حُكمنا بأنّ الاثنين خُمس العَشرة.

أمّا بالنسبة إلى المُتواتِرات، فقد بَحثناها في عَرْضِ الحديث على السُنّة.

وأمّا التَجريبيّات، فإذا كانت تحتاج إلى تَجارب دقيقة يقوم بها المُختصّون، وتحتاج إلى وضْعِ قوانين دقيقة، فسوف نقوم بدراستها بمِعيار خاصّ، هو عَرض الحديث على قطعيّات العُلوم التجريبيّة، وإن كانت لا تحتاج إلى ذلك، فشَأنها شأن المَحسوسَات، الّتي يَحكم العقل بردِّها فيما إذا خالَفتْ المَحسوس.

وقد ناقش السيّد الشهيد في عَدَمِ بداهة القضايا الأربعة، عدا الأوّليّات والفِطريّات، فقال: (ادّعى المَنطِق الصوري أنّ هذه القضايا كلّها بديهيّة، ونحن نُسلِّم معهم في اثنين منها، هما الأوّليّات والفطريّات... وأمّا غيرهما من القضايا الأربع، فليست المَعرفة البشريّة فيها قَبْلِيّة، بل بَعديّة تَثْبتُ بحِساب الاحتمالات وبطريقة الاستقراء) (446).

نقول: حتّى على هذه النظريّة، فإنّه يُمكن اعتماد هذه القضايا الّتي لا تُوجِب اليَقين الموضوعي، وإنّما ينشأ نتيجة ضعْفِ الاحتمال إلى حدٍّ كبير، حيث تَتَحوّل الظنون في نهاية المَطاف إلى يقين وجَزم، ضمن مُصادرات مُعيَّنة مَشروحة في أُسُس الدليل الاستقرائي كما قال السيّد الشهيد (رَضي الله عنه)؛ وذلك لأنّ أكثر مَعارِفنا هي من هذا النوع.

هذا بالنسبة إلى العَقل النَظَرِي، أمّا بالنسبة إلى بَديهيّات العَقل العَملي - على القائِلين بنظريّة الحُسن والقُبح العقليَّين -، فهناك بَديهيّات يُدرِكها العَقل، مثل: (العَدْلُ حَسن)، (الظلم قبيح)، (جزاء الإحسان بالإحسان حَسن)، (جَزاؤه بالإساءة قبيح) وغيرها، والّتي يُمكن ضَمّ بعضها إلى بعض الأُصول المُسلَّمة العقليّة، لإنتاج حُكمٍ عقليٍّ بقُبْح فِعل أو حُسن آخر، مع العِلم أنّ هذه المَسألة هي مَسألة خلافيّة أيضاً، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

١٤٠