مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث0%

مباني نقد متن الحديث مؤلف:
تصنيف: علم الدراية
الصفحات: 215

مباني نقد متن الحديث

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: قاسم البيضاني
تصنيف: الصفحات: 215
المشاهدات: 59637
تحميل: 6508


توضيحات:

مباني نقد متن الحديث المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 215 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59637 / تحميل: 6508
الحجم الحجم الحجم
مباني نقد متن الحديث

مباني نقد متن الحديث

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

3 - أن يصحّ السَنَد ويضعف المَتن.

4 - أن يصحّ المَتن ويضعف السَنَد.

أمّا في الحالة الأُولى، فيكون الحديث صحيحاً قطعاً، ويُحتجّ به.

ويُرَدّ في الحالة الثانية.

أمّا بالنسبة إلى الحالة الثالثة، فإنّ بعضَهم قال: إنّنا لا نقول في هذه الموارد: أنّ الحديث صحيح مطلقاً، بل نقول صحيح الإسناد فقط.

وهنا قد يرد إشكال، وهو: أنّه كيف يكون الإسناد صحيحاً والمتن واهياً، علماً بأنّ من شروط الصحّة أن لا يكون الحديث شاذّاً ولا مَعلُولاً، والعلّة كما تَقَع في السَنَد تَقَع في المَتن أيضاً، فإذا كان الحديث صحيحاً، فلابُدَّ أن يَصحّ المَتن أيضاً؟

نعم، يُمكن أن يُحَلَّ هذا الإشكال، فيما إذا كانت جميع الشروط المأخوذة بالصحّة ترجع إلى السَنَدِ وحدهُ فقط، ولم يُؤخَذ بهذا الشرط في تعريف الحديث الصحيح.

أمّا بالنسبة إلى الحالة الرابعة، فلا يُقبَل الحديث؛ لأنّه لا يكفي أن يكون معنى الحديث مُستقيماً لِكي نَعزُوه إلى المعصوم، بل لابُدَّ أن تصحَّ النسبة كذلك.

نعم، يُمكن القبول به على بعض المَباني، الّتي تأخذ الوثوق بالرواية بنَظَرِ الاعتبار وإن كانت ضعيفة، فيما إذا اقتَرَنَت ببعضِ القَرائِن.

المَبحث الرابع: علاقة نَقد المُحتوى بعلوم الحديث الأُخرى

اختلف علماء الحديث من السُنّة والشيعة في تقسيم هذه العلوم، ولكنّ الرأي المشهور عند أهل السُنّة أنّ علوم الحديث تنقسم إلى قِسمين:

1 - عِلم الروايَة: وهو العلم الّذي يقوم بنقل ما أُضيف إلى النبي (ص) من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ خُلقيّة، نقلاً دقيقاً مُحرَّراً (11) .

وأضاف بعضهم، ما أُضيف إلى الصحابة والتابِعين (12) .

2 - علم الدِرايَة: وهو مجموعة القواعد والمسائل الّتي يُعرَف بها حال الراوِي

٢١

والمَروِي، من حيث القبول والردّ (13) .

وفي هذه الحالة، سوف تكون كثير من مباحث عِلم الرِجال داخلة في هذا العِلم؛ لأنّ معرفة أحوال الراوي من حيث القَبول والردّ، تَستَدعي معرفة حاله، تَحمّلاً وأداءً، وجَرحَاً وتَعدِيلاً، ومعرفة مَوطِنه وأُسرته، ومَولِده ووَفاته (14) .

أمّا عند الشيعة، فمِِنهم مَن جَعَلَ الدرايَة تقتصر على البحث في المعاني، ومفاهيم الألفاظ الواردة في الحديث (15) ، أي: دراسة مَتن الحديث خاصّة، من شرحِ لُغاته وبيان حالاته، من حيث كونه نصّاً، أو ظاهراً، أو عامّاً، أو خاصّاً، أو مُطلَقاً، أو مُقيَّداً، أو مُجمَلاً، أو مُبيَّناً (16) .

ولكنّ الرأي المشهور عند الشيعة في تعريف الدراية هو: البحث في مَتن الحديث وطُرقه، من صحيحها وسَقيمها وعِلَلِها، وما يُحتَاج إليه ليُعرَف المقبول منه من المردود (17) ، ويطلق عليه مُصطَلَح الحديث، أو أصول الحديث.

أو هو: علمٌ يبحث عن سَنَدِ الحديث ومَتنِه، وكيفيّة تحمّله وآداب نقله (18) .

فالدرايةُ إذن، تشمل دراسة المَتن والسَنَد.

والفرق بين علم الرجال وعلم الدراية، هو أنّ علم الدراية يبحث عن الأحوال العارِضَة على الحديث، أو على السَند، بما أنّه طريق للحديث، أمّا في علم الرجال، فيُبحَث عن رُواة الحديث بما هُم آحاد (19) .

وعلى كلّ حال، فسوف نقوم بدراسة العلاقة بين نَقد المحتوى، وكلٍّ من علم الرجال، مُصطَلَح الحديث (الدراية)، وفقه الحديث.

٢٢

1 - علاقة نقد المَتن مع مُصطَلح الحديث.

هناك كثير من المُصطَلَحات الحديثيّة الّتي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع موضوع بحثنا، ونحن نشير إلى بعض هذه الاصطلاحات:

أ - المَطروح: وهو ما كان مُخالِفاً للدليل القطعي، ولم يَقبل التأويل (20).

ومن المعلوم أنّ الدليل القطعي قد يكون كتاباً، أو سُنّة، أو غير ذلك من المباني الّتي يُطرَح الحديث، ولا يُحتَجّ به إذا خالفها.

ب - المَتروك: وهو الحديث الّذي يُروَى عمّن يُتَّهم بالكذب، ولا يُعرَف ذلك الحديث إلاّ من جِهته، ويكون مُخالِفاً للقواعد المعلومة (21) .

فالشرط الثاني، وهو مُخالَفة القواعد المعلومة، مّما له صلة كبيرة بنقد المَتن، فقد تكون تلك القواعد نَقليّة مُستَخرجَة من الكتاب والسُنّة، أو قد تكون عَقليّة.

ج - الحديث المُدرَج: وهو ما كانت فيه زيادة ليست منه (22) .

وهو من المباحث النَقدِيّة الراجعة إلى فَصلِ مَتن الحديث مّما خالَطه من كلام الرُواة، وهو عمل نقدي يَختَصّ بالمَتن.

د - الحديث الموضوع: وهو المَكذوب المُختَلَق المَصنوع (23) .

وهو من ألصَقِ أنواع الأحاديث بموضوع بحثنا؛ لأنّ علماء الحديث قد وضعوا علامات لمَعرفة الحديث الموضوع، مِنها ما يخصّ السَنَد، ومنها ما يختّصّ بالمَتن.

وأكثر العلامات الّتي وضعها علماء الحديث لمعرفة الحديث الموضوع من خلال المَتن، تصلح أن تكون ضابطة من الضوابط لتَقيِيم الحديث

٢٣

2 - علاقة نَقد المَتن مع علم الجَرحِ والتَعديل.

الجَرحُ والتَعديل: هو العلم الّذي يبحث في أحوال الرواة، من حيث قبول رواياتهم، أو ردِّها (24) .

وهو من العلوم المساعدة في نقد الحديث؛ لأنّه يبحث في المواضيع الّتي تَتَعلَّق بشروط الراوي، من حيث العدالة والضَبط، والأسباب الّتي تقدح فيهما.

ويُمكن تناول هذا العلم، وعلاقته مع نقد المتن من زاويتين، هي:

أ - العدالة:

وقع الاختلاف بين المُحدِّثين في اعتبارها، وفي موضوعها.

فقد عرَّفها بعضهم بأنّها: عبارة عن مَلَكَة نفسانيّة راسخة، باعِثة على ملازمة التَقوى، وترك ارتكاب الكبائر، والإصرار على الصغائر، وترك ارتكاب مُنافِيات المُروءة (25) .

وعَرَّف ابن حبّان العدالة فقال: (هو ما كان ظاهر أحواله طاعة اللَّه تعالى) (26) .

وهذا الشرط من الأمور الاحتياطيّة التي اشترطها المُحدِّثون، للتَحرُّز من الكذب في الحديث، فحتّى الّذين لم يشترطوا هذا الشرط، وقبلوا رواية الفاسق، فإنّهم اشترطوا أن يكون مُتَحرِّزاً في روايته، كما أشار إلى ذلك الشيخ الطوسي، في عمل الطائفة بخبر الفاسق، إذا كان مُتحرِّزاً في روايته (27) .

وهناك شروط أُخرى اشترطها المُحدِّثون للاحتياط في الرواية، كالبلوغ، والعقل، فلا تُقبَل رواية غير المُميّز والمَجنون، وهذه الشروط لها دور رئيسي في الحديث وصِيانَته، وهي تدلّ على مَبلَغ عناية المُحدِّثين في صِيانة السُنّة، فكلّما كان الإسناد كامل النِظام، مُحتوِياً على أسماء حَسنة، استُبعِدَ كلّ اشتباه وسوء ظنّ، فإنّ العادل لا يكذب، وإلاّ سَقطتْ عنه العدالة، والضابِط غالباً لا يسهو، أو يغلط، والمُخالَفة نادرة.

وكما قُلنا: إنّ هذه ليست قاعدة عامّة، إذ القاعدة أنّه لا تلازم بين الإسناد والمَتن، فقد

٢٤

يصحّ الإسناد ولا يصحّ المَتن، وقد لا يصحّ السَنَد، ويصحّ المَتن من طريق آخر.

ولذلك فإنّ الحُكمَ على الرواة غالباً ما يكون لمَصلَحة المَتن.

ب - الضَبْط:

وهو يَقْظَةُ المُحدِّثِ عند تَحَمّله، ورسوخ ما حفظه في ذاكرته، وصيانة كتابه من كلّ تغيير، إلى حين الأداء (28) .

ويُقسَّم إلى قسمين: ضَبْط صَدْرٍ، ضَبْط كتاب.

فضبط الصدر تعني: أن يُثبِت الراوي ما سمعه، بحيث يتمكّن من استحضاره مَتى شاء.

أما ضبط الكتاب فهو: صِيانَته لديه، منذ سمع فيه وصحَّحه، إلى أن يُؤدِّي عنه (29) .

ويُعرَف ضبط الراوي من خلال موافقة مَروِيّاته مع مَروِيّات الثِقات، فإن وافقتها، في الغالب، فهو ضابِط، وإلاّ فلا.

فالعوامل الّتي تُؤدِّي إلى القدح بهذه الصفة، هي: الوَهْم، والغَلَط، ومُخالَفة مَروِيّاته مع مَرويّات الثِقات.

ومن البديهي أنّ هناك علاقة مُتبادَلَة بين قوّة الحِفظ والضَبط وصحّة المتن، فكلّما كان الراوي ضابِطاً، قَلّت نسبة الخطأ في متن الرواية.

3 - علاقة نَقد المَتن مع فقه الحديث.

والمُراد من فِقه الحديث هو: العلم الّذي يبحث في مَتن الحديث خاصّة، في شرح لُغاته وبيان حالاته، من كونه نصّاً أو ظاهراً، عامّاً أو خاصّاً، مُطلَقاً أو مُقيَّداً، مُجمَلاً أو مُبيَّناً، مُعارَضَاً أو غير مُعارَض (30).

وهناك أُصول وضوابِط، يُمكن من خِلالها فَهْم الحديث فَهْماً صحيحاً، كالتَنَبُّه إلى أسباب ومُلابَسات ورود الحديث ومقاصده، والتمييز بين الوسيلة المُتَغَيِّرة والهدف الثابت للحديث.

ومثل هذه الضوابِط قلّما تُبحَث وتُحَقَّق بدراسةٍ مُستقلة.

وهناك نقطة ذات أهميّة كبيرة، وهي أنّه لا يصحّ نقد الحديث والحُكم عليه بالوَضعِ والضَعفِ، لعلاماتِ في مَتنِه، قبل فَهمه فَهماً صحيحاً، بالضوابِط والمعايِير المعروفة في

٢٥

فِقه الحديث.

فهناك مَن يحكم على بعض الأحاديث بالوضع، لتَعارضه - مثلاً - مع بعض المعايير، نتيجةً الغَفلة عن سبب الورود، أو كونه منسوخاً، أو ما شابه ذلك.

ويُمكن بحث علاقة نقد المَتن مع فِقه الحديث في المحاور التالية:

أ - علاقة نَقد المَتن مع غَريْبِ الحديث.

غريب الحديث: هو فرع من فروع فِقه الحديث، وهو يبحث عمّا وَقَعَ في متون الحديث، من الألفاظ الغامِضة البعيدة عن الفَهم، لقلّة استعمالها (31) .

ويُعتَبَر معرفة الغريب، الخطوة الأُولى في فَهم الحديث، ومن أشهر ما كُتِبَ في هذا العِلم هو كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) للمُحدِّث واللُغوي (ابن الأثير)، وكذلك (فخر الدِّين الطريحي) في كتابه (غريب أحاديث الخاصة).

ومن المعلوم أنّ لكلِّ عصرٍ مَورُوثه اللُغوي، وأسالِيبه في التعبير، وأنّ اللُغة ليست ثابتة على مرّ العصور، بل هي تَتَغيَّر من عصرٍ إلى آخر، ومن بيئةٍ إلى أُخرى.

فإذا وجدنا بعض الكلمات والمُفرَدات الّتي لا تنسجم، ولا تتلاءم مع عصر المعصوم، وقَطَعْنا بذلك، فلا يُمكن قَبولها والتصديق بها، فإنّ بعض التراكيب لم يُستعمَل إلاّ في بعض الأماكن، وفي بعضِ العصور.

وسوف نتناول هذا البحث بشي‏ء من التفصيل في الباب الثاني.

ب - علاقة نَقد المَتن مع علم مُختلَف الحديث.

علم مُختلَف الحديث: هو الّذي يبحث في الأحاديث الّتي ظاهرها التعارض، فيُزِيل تعارضها، كما يبحث في الأحاديث الّتي يُشكِل فَهمِها أو تصوّرها، فيدفع إشكالَها ويُوضِّح حقيقتها (32) .

ومن أقدم التصانيف فيه كتاب (اختلاف الحديث) لابن إدريس

٢٦

الشافعي (ت 204 هـ)، ويُعتَبَر كتاب (التَهذيب والاستبصار) للشيخ الطوسي (ت 460 هـ)، من أهمِّ ما كُتِبَ في الأحاديث المُختَلفة عند الشيعة.

وأسباب الاختلاف كثيرة، بعضها يدخل في علم فِقه الحديث، كالعامِّ والخاصِّ، والمُطلَق والمُقيَّد، والمُجمَل والمُبيَّن، والناسِخ والمًنسوخ، وبعضها يرجع إلى الوَضْع والخَطأ والتصحيف.

ومن المعلوم أنّ هذه الأسباب هي الّتي أدَّت إلى نشوء النَقْدِ.

المَبحث الخامس: مَناهِج العُلماء والمُحدِّثين في نَقْدِ الحديث

1 - منهج المشهور.

لم يعرف العلماء والمُحدِّثون القدماء التَقسيمات الأربعة للأحاديث، فهي اصطلاح مُتأخِّر، حَصَلَ في عَصر العلاّمة وابن طاووس؛ لأنّ الصحيح كان في عُرفِهم هو ما اقترن ببَعضِ القرائِن، المُفيدة للوثوق بصدوره.

قال الشيخ حسن، بن الشهيد الثاني (ت 1011 هـ): (إنّ القُدماء لا عِلم لهم بهذا الاصطلاح قطعاً؛ لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالة على صِدْقِ الخَبر، وإذا أُطلِقَتْ الصحّة في كلام من تقدَّم، فمرادهم منها الثبوت، أو الصدق) (33) .

بل إنّهم قد يَروُون الأحاديث عن بعض الفِرق المُخالِفة، إذا اطمَأنّوا بصحّة الخبر، قال البَحراني في توجيه نَقلِ المُحدِّثين روايات الفِرق - غير الإماميّة -: (غاية الأمر، أنّ قبولَ الأصحاب لرواياتِ بعضِ الفِرقِ المُخالِفة، لابُدّ أن يَبتَني على وجهٍ صحيح، لا يَتَطرَّق إليه الشكّ، كأن يكون سماعه من قَبلِ عدوله عن الحقِّ، أو بعد تَوبَته ورجوعه إلى الحقِّ، أو أنّ النقلَ إنّما وَقعَ عن أصلِه الّذي ألّفَه) (34) .

وقد استدلّ صاحبُ الوسائل باثني عشر وَجهاً، على بُطلانِ التقسيم الرباعي (35) ، وأشكل على

٢٧

هذا المَنهج بعدَّة إشكالات:

1 - ضَعف بعض القرائِن، ومنها: موافقة الحديث مع فتوى جماعة من الإماميّة.

فهل يكون الحديث صحيحاً ومُعتبراً لمُجرَّد موافقته لفتوى جماعة من الاماميّة؟! (36)

2 - عدم الالتفات إلى نَقد المُحتوى والمباني، والضوابِط الّتي جاء ذكرها في أحاديث الأئمّة (عليهم السلام)، كعَرضِ الحديث على القرآن، أو على السُنّة، أو ما شابه ذلك (37) .

2 - منهج المُعاصِرين.

وقد انتشر هذا المَنهج بين المُتأخّرين، كالسيّد الخوئي وتلامِذته، وهو الاعتماد اعتماداً كلّيّاً على السَنَد في تصحيح الحديث، وعدم الالتفات إلى القرائِن الّتي ادَّعاها المشهور؛ لضعفها (فإنّ ما ذكروه في المَقام، وادّعوا أنّها قرائِن تدلّنا على صدور هذه الروايات من المعصوم، لا يرجع شي‏ء منها إلى مُحصّل) (38) .

ولذلك لابُدَّ من الرجوع إلى علم الرجال، ومراجعة رجال السَنَد في تَميِيز الصحيح من غيره، والحجّة من غير الحجّة، (ولكن ذكرنا أنّ كلّ خَبر عن معصوم لا يكون حُجّة، وإنّما الحُجّة هو خصوص خَبر الثِقَة أو الحَسِن، ومن الظاهر أنّ تشخيص ذلك لا يكون إلاّ بمراجعة عِلم الرجال، ومعرفة أحوالهم، وتَميِيز الثِقة والحَسِن عن الضعيف) (39).

حتّى الشُهْرَة لا تكون جابِرة لضَعفِ الخَبر، ولا يكون إعراض المَشهور مُوجِباً لوَهن الخَبر، (فإنّ الخَبَرَ الضعيف ليس بحُجّة في نفسه، وكذلك فإنّ فتوى المشهور ليست حُجّة، وانضمام غير الحُجّة إلى غير الحُجّة لا يُوجِب الحُجّيّة.

وبعد قيام الحُجّيّة على الخبر - لكونِه صَحيحاً أو مُوثّقاً - لا وَجه لرفع اليَد عنه، لإعراض المشهور عنه) (40) .

وقد أُشكِل على هذا المَبنى بكونِه:

1 - مِعياراً ناقصاً، إذ كيف يُمكِن الحُكم على الحديث بالصحّة أو الضَعف، بمُجرَّد

٢٨

توثيق رِجال السَنَد فقط، وقد كان الكذّابون يدسّون الأحاديث في الكُتبِ، وبأسانِيد صَحيحة، لكي تكون مَقبولة ويُؤخَذ بها؟!

روى الكشّي بسَنَده عن محمد بن عيسى، أنّه قال: ( إنّ بعضَ أصحابنا سألَ يونس بن عبد الرحمان، وأنا حاضِر، فقال له: يا أبا محمّد، ما أشدَّك في الحديث، وأكثرَ إنكارك لِما يرويه أصحابنا! فما الّذي يحمِلك على ردِّ الأحاديث؟ فقال: حدَّثني هشام بن الحَكم: أنّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تَقْبَلُوا علينا حَديثاً إلاّ ما وافَقَ القرآن والسُنّة، أو تَجِدون مَعه شاهِداً مِن أحادِيثِنا المُتَقدّمة، فإنَّ المُغيرة بن سَعيد - لَعَنَهُ الله - قدْ دَسَّ في كُتُبِ أصْحابِ أبي أحادِيثَ لمْ يُحَدِّث بها أبي...) (41) .

وقال السيوطي: (كثيراً ما يكون الحديث ضعيفاً أو واهِياً، والإسناد صحيح مُركّب عليه) (42) .

وذكر ابن حَجَر: أنّ من الوضّاعِين مَن حَمَلَتْهم الشُهرة، ومَحبَّة الظهور، فجعلَ للإسناد الضعيف إسناداً صحيحاً مَشهوراً (43) .

2 - الرُواة المُشتَرَكون: وهي مُشكلة أُخرى واجهتْ علماء الرجال، فكثيراً ما يَقع الاشتراك بالاسم والكنية، وغيرها من الصِفات، وكثيراً ما يُصادَف أنّ الرُواة المُشترَكون فيهم الثِقة وغير الثِقة، مّما يُسبِّب مشكلة في التمييز، ولا زال هذا الإشكال موجوداً في كثير من الرُواة.

3 - اختلافهم في مَباني الجَرْحِ والتَعديل، وإبهام كثير من المَفاهيم، وعَدمِ ضَبطِها بضابِط، كمفهوم الغُلوِّ.

4 - إرسال التَوثِيقات، وعدم وجود الأدلّة على الأَحكام الرِجاليّة.

5 - عدم الالتِفاتِ إلى نَقدِ المُحتوى (44) .

٢٩

إلى غيرها من الإشكالات، والّتي يُمكن الخروج منها بنتيجة، أنّه لا يُمكن الاعتماد على هذا المَبنى في نقد الحديث لوحده، بل إنّه يُمكن أن يكون أحد القرائِن على الوثوق بالخبر، فلا يُمكن أن تقول: إنّ تَمَام موارد الكَذب تُحرز عن هذا الطريق، (إنّ الحقَّ الحَقِيق بالقبولِ، كما نَقّحنَاه في علم الأُصول، أنّ العمل بالأخبار إنّما هو من باب الوثوق والاطمئنان العُقلائِي، ومن البَيّن، الّذي لا مِريَة فيه لذي مِسكَة، في مَدخليّة مُلاحظة أحوال الرجال في حصول الوثوق وعدمه) (45) .

3 - مَنهَجُ أهل السُنَّة في نَقدِ الحديث (46).

بعد أن كَثُرتْ الأحاديث الموضوعة لأسباب عديدة، منها الكَذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتّى إنّ ابن حَجَر روى في مُقدِّمة فَتحِ الباري: أنّ أبا علي الغساني روى عن البُخاري أنّه قال: (خَرَّجْتُ الصحيحَ من 600 ألف حديث) (47) ، ونُقلَ عن أحمد بن حَنبَل أنّه قال: (صحَّ من الحديث سبعمئة ألف وكَسر) (48) .

ازدادَتْ حَركة النَقدِ تبعاً لذلك، ويُعتبَر البُخاري هو أوّل مَن دَوَّن في الصحيح، وَوَضعَ شروطاً لمَعرفته، وأصبحَ هذا المَنهَج هو مَنهَج عامّة المُحدِّثين.

ويُمكن معرفة هذا المَنهَج عن طريق تعريف الحديث الصحيح، فقد عرَّفه ابن الصلاح، فقال: (الحديث الصحيح: هو الحديث المُسنَد، الّذي يتّصل إسناده بنَقلِ العَدل الضابِط إلى مُنتَهاه، ولا يكون شاذّاً ولا مُعلّلاً) (49) .

وهذا يعني أنّ شروط الصحيح خمسة، هي:

٣٠

1 - عَدالة الرواة.

2 - ضَبْط الرواة.

3 - اتّصال السَنَد.

4 - السلامة من الشذوذ في السَنَدِ والمَتنِ.

5 - السلامة من العِلَّة في السَنَدِ والمَتنِ.

فمَفهوم النَقدِ يشمل نقد السَنَد، من خلال الشروط الثلاثة الأُولى، ونقد المَتنِ من خلال الشرطَين الأخيرَين.

والمُراد من العلَّة الّتي تقدح بالحديث هي: الأسباب الخَفِيَّة الغامِضة، الّتي تُضعِّف الحديث، مع أنّ الظاهرَ السلامة منها (50) ، ويُستَعان على إدراكِها، بتَفرّد الراوي، وبمُخالَفة غيره له، مع قرائِن تَنضمّ إلى ذلك، تُنبِّه العارِف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وَقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث...

ثُمَّ قد تَقع العلَّة في إسناد الحديث، وهو الأكثر، وقد تَقَع في مَتنِه (51) .

أمّا بالنسبة إلى الشاذّ: فهو الحديث الّذي يَرويه المَقبول، مُخالِفاً لمَن هو أَولى منه (52) .

ومن هنا يتبيَّن، أنّ النقد عند جمهور المُحدِّثين أكثر ما يتناول السَنَد - يعني أنّ اهتمامَهم بنَقدِ السَنَدِ أكثر من نَقدِ المَتن -، وهذا ما صَرَّح به الدكتور الأدلبي وغيره، عندما قامَ بعَرضِ المُصطلَحات الحَديثيّة في كتاب (الحاكم) فقال: (ومِن خلال هذا يتبيَّن مَدى اهتمام، وتركيز الإمام الحاكم، على النقد الإسنادي، حتّى في الأبواب الّتي يُمكن التوسّع فيها في نقد المتون) (53) .

هذا هو مَنهَج جمهور المُحدِّثين في نَقدِ الحديث، وهناك مَناهِج غير علميّة، ولا تُعتَبر حُجّة على الآخرين.

٣١

فهناك طائفة من المُتصوِّفة والعُرفاء، لم تنظر إلى السَنَد في نَقد الحديث، واعتمدتْ على الكَشف والشُهود في نقد الحديث، وتَصحيحه أو تضعيفه، قال ابن عربي: (ورُبّ حديثٍ يكون صحيحاً من طريق رواية يحصل لهذا المُكاشَف، الّذي قد عايَن هذا المَظهر وسألَ النبي (ص) عن هذا الحديث، فأنكَرَه، وقال: لم أقُله، ولا حَكَمتُ به، فيَعلم ضَعفه، فيترك العمل به، عن بيِّنة من ربِّه) (54) .

ونقلَ كلاماً عن بايزيد البسطامي (أحد العُرفاء) في هذا المقام، وهو يُخاطِب عُلماء الإسلام، قال: (أخذتُم علمَكم ميِّتاً عن ميِّت، وأخذنا عِلمنا عن الحيِّ الّذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدَّثني قَلْبِي عن ربِّي، وأنتم تقولون: حدَّثني فلان، وابن فلان، قالوا: مات...) (55) .

ومن المعلوم أنّه لا يُمكن تصحيح الحديث اعتماداً على المَتن وحده، إذ ليس كلّ حقّ يُمكن أن نَنْسبه إلى الرسول (ص)، وإنَّ صِدْقَ مَضمون الخبرِ غير كافٍ لجًعْلِه حديثاً، إذ أنَّ القاعدة هي: أنّ كلّ ما قاله الرسول (ص) فهو حقّ، وليس كلّ ما هو حقّ فهو قول رسول الله (ص)؛ ولذلك عَلَّق ابن العربي الاشبيلي على الحديث الموضوع في فضيلة سورة المائدة، وفيه: (أنّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) قال لعليٍّ‏ (عليه السلام) لمّا رَجع من الحُديبيَّة: (يا علي، أشَعَرتَ أنّه نَزَلَتْ عليَّ سورة المَائِدة؟ وهي نعمت الفائدة).

قال: (أمّا إنّا نقول سورة المائدة نعمت الفائدة، فلا نُؤثِره على أحد، ولكنّه كلامٌ حَسن) (56) .

مَنهج النقد التاريخي.

نظراً لِتشابهِ منهج النقد عند المُؤرِّخين والمُحدِّثين؛ ارتأينا أن نعرض لمنهج المُؤرِّخين في النقد، ومقارنته مع منهج أهل الحديث.

فقد عرفَ عُلماء التاريخ نوعَين من النقد للوَثائِق التاريخيّة، أي إنّهم يَقومون بخُطوتَين عندما ينقدون الوثيقة:

٣٢

1 - النقد الظاهري (نقد التحصيل).

وهي عمليّات يقوم بها المُؤرِّخ للوصول بالنصِّ كما هو، دون إضافة أو نقصان، فهو وسيلة للقيام بالخطوة الأُخرى من النقد، وينقسم هذا النقد إلى قسمين:

أ - النقد الظاهري السلبي.

ويتركَّز على إثبات صحَّة أصل الوَثيقة، وسلامتها في حالتها الأصليّة، ومُطابَقة الوثيقة لزمان التَدوِين، والكشف عمّا إذا كانت الوثيقة في أصلها مُنتَحَلة، أو مُشوَّهة.

فالوثيقة المكتوبة والخالِية من النُقَطِ، والمَنسوبة إلى القَرن الرابع الهجري، أو ما بعد ذلك، فمِن الأرجح أنّها مُزيَّفة.

ويُمكن أن نُجمِل الأمور السلبيّة الّتي تَطرأ على الوثيقة التاريخيّة:

- انتِحال الوَثيقة وتَزوِيرها.

- تَشويه الوثيقة، نتيجة لِتَلَفِ بعض الأوراق؛ لقدمها، أو نتيجة للخطأ والتَصحِيف والحشو من قِبَل بعض النسَّاخِين، فإنّ كثيراً من الوثائق اعترتها إضافات، من المُهمِّ تَميِيزها من النصِّ الأصلي، والإضافات على نَوعَين: الحَشو، والإكمال، والحشو إدخال كلمات أو جُمَل، لم تكن فيه من قَبل، ولكن قد يحدث أحياناً أن يكون الحشو مُتَعمَّداً، فيُضاف أو تُستبدل عبارات من عند الناسخ، بقصد الإكمال.

وعند الانتهاء من الخطوة الأُولى، تَبتَدئ الخطوة الثانية، وهي:

ب - النقد الظاهري الإيجابي.

فيُنظَر في لُغة الوثيقة، ومطابقتها للُغة العَصر واستعمالاتها، والصِيَغ المُعتادَة فيه، كما يُنظر إلى شكل الخَطِّ وما في ذلك.

وعند ذلك نَنتَهي من هذه الخطوة، لتَبدأ الخطوة الأُخرى من النقد.

2 - النقد الباطني.

وينقسم بدَوره إلى قِسمين:

٣٣

أ - النقد الباطِني الإيجابي:

وهو قراءة النَصِّ والوثيقة، للوقوف على مَعناه، ومَعرفة قَصْد وغَرَض صاحب الوثيقة.

وهي تَتَطلَّب من المُؤرِّخ معرفة لُغة النَصِّ، ولابُدَّ أن يُأخَذ بنظر الاعتبار عدَّة أمور، في تفسيره للأصل:

أوّلاً - تَتَغيَّر اللُغة من عَصْر إلى عصر، ولذلك يجب الوقوف، ومعرفة الاصطلاحات والكلمات المُستخدَمة في عصر النَصِّ.

ثانياً - اختلاف معاني الكلمات من مكان إلى آخر.

ثالثاً - أُسلوب الكاتب يختلف من كاتب لآخر، ولذلك يجب معرفة لُغة الكاتِب وأُسلوبِه.

رابعاً - يجب تفسير الكلمة في السياق العامِّ للنَصِّ التاريخي.

ب - النقد الباطني السلبي:

ونعني به: نقد دِقَّة الكاتِب ونزاهته، والمقصود من الدِقَّة هي: الأخطاء الّتي يَقع فيها كاتِب الوثيقة بدون قَصْد، والنزاهة هي: النَقل غير الأمين؛ نتيجة لمَصالِح مُعيَّنة.

ومن خلال هذه الخطوات، ننتهي من النقد بكلا قِسمَيه، والآن نأتي لنُقارِن بين مَنهج المُحدِّثين والمُؤرِّخين (57) .

مُقارَنة المَنهَجَين

أمّا بالنسبة إلى الخطوة الأُولى، وهي التأكّد من صحّة الأصل، فقد قام بها المُحدِّثون، سواء كانت الوثيقة حديثاً أم كتاباً مَنسوباً إلى صاحِب الأصل، وذلك من خلال إبعاد

٣٤

كلّ حديث في سَنده أحد الكذَّابين، أو مُتَّهم بالكذب، أو عن طريق إعْمال بعض المَباني، والمعايير في نَقد المَتن.

أمّا إذا كانت الوثيقة كتابًا، أو أصلاً حديثيّاً، فقد ناقش بعض النُقَّاد في صحّة بعضها؛ نتيجة لبعض القرائن الموجودة في الكتاب.

فقد ناقش ابن الغَضَائِري في صحّة كتاب سُلَيم بن قَيس؛ لاشتمال الكتاب على أُمور لا يمكن التصديق بها (58) ، وشكَّكَ ابن الغضائري، والمُحقِّقُ الداماد، والسيّد الخوئي، في صحَّة انتساب التفسير المنسوب للإمام العسكري‏ (عليه السلام)، فقد ذكروا أنّ مَن يرجع إلى التفسير، يرى أنّه لا يصدر عن عالِم، فَضْلاً عن الإمام (‏عليه السلام) (59).

قال بعض المُحدِّثين: (اتّفق مُحدِّثو الشيعة والسُنّة، على جواز نقل الأحاديث، والكتب الّتي ثَبتَ انتسابها إلى المُؤلِّفين يقيناً، وإلاّ فلابُدَّ أن يَذكرَ: وَجدتُ، ولا يقول: حَدَّثَني) (60) .

وهنا يَتَفوَّق المَنهج الحَديثي على مَنهج المُؤرِّخين؛ بسبب وجود مُؤلَّفات كثيرة في تاريخ الرواة، وفي الجَرحِ والتعديلِ، لتَوثيق وتجريح رواة الحديث، مع فقدان المُؤرِّخين لمِثل هذه المِيزة.

أمّا بالنسبة إلى الخطوة الثانية من النقد الظاهري، وهو اشتمال الوثيقة لأخطاء؛ نتيجة للتَصحِيف والخطأ والوَهمِ من قِبل النُسّاخ وغيرهم، فقد بحث المُحدِّثون ذلك، في باب الحديث المُصحَّف، والمُدرَج، والمُضطَرِب وغيره.

وقد بحث المُحدِّثون النقد الباطني (الإيجابي)، في غَريب الحديث، لمعرفة ألفاظه، ومعرفة سَبَبِ وروده، ولابُدَّ من الإشارة إلى أنّ المُحدِّثين لم يعطوا هذه النُقطَة الأهمّيّة الّتي تَستَحقّها، وقد أشار بعض العلماء المُعاصرين إلى هذا البحث فقال: (بأنّه من المُهمِّ جدّاً لفَهمِ السُنّة، التأكّد من مَدلولات الألفاظ الّتي جاءتْ بها السُنّة، فإنّ الألفاظ تَتَغيَّر وتَتَطوَّر من زمن إلى آخر)، وضَرَبَ مثلاً بكلمة التصوير الّتي وَردتْ الأحاديث في حُرمتها، فهي لا تَعني التصوير (الفوتوغرافي) المُتعارَف عندنا؛ لأنّ هذا اللَون من

٣٥

الفَنِّ لم يُعرَف في عصر التشريع (61) .

أمّا بالنسبة إلى النقد الباطني (السلبي)، المُتعارف عند المُؤرّخين، فقد بحثه علماء الجَرحِ والتَعديل بعنوان (شروط الراوي)، من العَدالة، والضَبْطِ، كما مرَّت الإشارة إلى ذلك.

المبحث السادس: أسبابُ النَقْدِ

يُمكن تقسيم هذه الأسباب إلى مجموعتَين: أسباب مُباشرة، وأسباب غير مُباشرة.

والمقصود من الأسباب غير المباشرة: هي العوامِل الّتي من شأنها أن تُؤدِّي إلى الاشتباه، والخطأ في نقل الحديث، أو تُشجِّع على الوضع، بخلاف المجموعة الثانية من الأسباب، الّتي تَستَوجِب نقد الحديث بصورة مباشرة.

فكلّ مَن يُدقِّق في المجموعتين، يجد هناك فَرقاً أساسيّاً بين الوَضع والتصحيف، وبين ظنّيّة الأخبار، الّتي تُشكِّل عامِلاً من شأنه أن يَستَوجِب الأخطاء، والاشتباهات في الأخبار.

ويُمكن تقسيم العوامل غير المباشرة، الّتي تَستوجِب نقد الحديث، إلى ثلاثة أنواع:

1 - ظنّيّة أخبار الآحاد.

يُعتبر خَبر الآحاد هو المَجال الرئيسي من مَجالات نقد الحديث، وقد اختلف علماء الحديث والأصوليون في إفادته للعلم، إلى ثلاثِ طوائف:

1 - خبر الواحد يُفيد العِلم مُطلقاً.

2 - خبر الواحد لا يُفيد العِلم مُطلقاً.

3 - يُفيد العِلم، إذا احْتَفَّ بالقرائِن.

والمذهب الأوّل هو مذهب جمهور المُحدِّثين، ويُنسَب إلى عامّة السَلَف وأهل الظاهِر، قال ابن حزم: (كلّ عَدْل روى خبراً، عن رسولَ اللَّه (ص)، في الدِّين، أو فعله (عليه السلام)، فذلك الراوي معصوم مِن تَعمّد الكذب، ومن جواز الوَهم) (62) .

٣٦

أمّا الرأي الثاني، فهو مَذهب بعض المُتكلِّمين والأُصوليِّين، كالجوَيني، والغَزالي، والباقلاني (63) .

أمّا الرأي الثالث، فهو مَذهب جمهور المُحدِّثين والأُصوليِّين، قال الشيخ المُفيد: (إنّه لا يجب العِلم، ولا العَمل بشي‏ء من أخبار الآحاد، ولا يجوز لأحد أن يَقطَع بخَبر الواحد في الدِّين، إلاّ أن يَقتَرِن به ما يَدلّ على صِدقِ راويه على البَيان، وهذا مذهب جمهور الشيعة، وكثير من المُعتَزِلة، والمُحكِّمَة، وطائفة من المُرجِئة، وهو خِلاف لما عليه مُتَفقّهة العامّة، وأصحاب الرأي) (64) .

ولَسنا هنا بصَدَد الترجيح بين الآراء ومناقشتها، ولكنّ القول: بأنَّ خبر الواحد العادِل عن مثله، يُفيد العِلم القطعي، مُخالِف للبَديهيّات والضرورة.

وكيف يُفيد القطع والراوي مُعرّض للاشتباه والوَهم؟ نعم، غاية ما يدلّ خبر العادِل، أنّه لا يتعمَّد الكذب في الحديث.

إنّ ظنِّيّة أخبار الآحاد، وعدم القطع بالصدور، واحتمال تعرّض الراوي للوَهم والاشتباه والخطأ، هي من الأسباب المُوجِبة لظهور النَقد، قال السيّد المُرتضى: (إنّ الحديث المَروِي في كُتبِ الشيعة، وكُتب جميع مُخالِفينا، يَتَضَمَّن ضُرُوب الخطأ، وصُنُوف الباطل، من محالٍ لا يجوز ولا يُتَصَوَّر، ومن باطلٍ قد دلّ الدليل على بطلانه وفساده... ولهذا وَجبَ نَقد الحديث) (65) .

2 - تَأخُّر التَدوِين.

مَهما تكن أسباب منع التدوين والتحديث، وجوازه أو مَنْعِه، فإنّ تأخّره إلى فترةٍ طويلةٍ، كان له آثار سلبيّة على الحديث.

فمهما بُولغ في قوَّة الذاكرة في ذلك الوقت، فإنّ النقل الشَفوي له آثار سَيّئة، في التبديل والتحريف بمرور الزمن، مّما سَبَّبَ ضياع كثير من الأحاديث (كاد القَرن الأوّل ينتهي، ولم يُصدِر أحدٌ من الخُلفاء أمره إلى العلماء

٣٧

بجَمْعِ الحديث، بل تركوه مَوكولاً إلى حِفظِهم، ومرور هذا الزمن الطويل، كفيل بأن يذهب بكثيرٍ من حَمَلَة الحديث، من الصحابة، والتابعين) (66) .

ثُمّ إنّ عدم التدوين لفترة مُتأخِّرة، جَعَلَ لبعضِ الأشخاص والمُندَسِّين، مَنفَذاً ينفذون إليه في وَضْعِ الأحاديث، والكذب على رسول الله (ص)، قال الشيخ أبو ريّة: (كان من آثار تأخير تدوين الحديث، ورَبطِ ألفاظِه بالكتابة، إلى ما بعد المئة الأُولى من الهجرة، وصَدرٍ كبيرٍ من المئةِ الثانية، أن اتّسَعتْ أبواب الرواية، وفاضتْ أنهار الوَضعِ، بغير ما ضابِطٍ ولا قَيْد) (67) .

3 - أحاديث (مَن بَلَغَ)، والوضع في الحديث.

هناك رأي مشهور بين الفَريقَين وهو (التَساهل في أحاديث السُنَنِ)، أي إنّ روايات الترهيب والترغيب، والفضائل، وثواب الأعمال، لا يُتَشدَّد في أسانيدها.

واستخرجَ فقهاء الشيعة قاعدة مَعروفة هي (قاعدة التَسامُح في أدلَّة السُنَن)، على ضوء بعض الروايات الموجودة في بعض المَجاميع الفقهيّة، منها:

عن أبي عبد الله‏ (عليه السلام) أنّه قال: (من سَمعَ شيئاً من الثواب على شي‏ء صَنَعه، كان له، وإن لم يكن على ما بَلَغَه) (68) ، وقد تكون هذه الأحاديث عامِلاً مُساعِداً في انتشار ظاهرة الوَضعِ، من خِلال عدم تَشدّد الأئمّة في مثل هذا النوع من الأحاديث.

فقد رُوي عن أحمد بن حنبل أنّه قال: (إذا رَوينا في الحلال والحرام والسُنَن والأحكام تشدَّدنا، وإذا رَوينا عن النبي (‏صلّى الله عليه وآله)، في فضائِل الأعمال، وما لا يَصنع حُكماً ولا يَرفعه، تَساهَلنا في الأسانيد) (69) .

والجدير بالذكر، أنّ عَدمَ التَشدّد، والتسامح في أدلّة السُنَن، جاء نتيجة لهذه الأحاديث عند الشيعة، ومن المُحدِّثين مَن لم يَقبَل هذه القاعدة، إمّا لعَدمِ صحّة هذه

٣٨

الأحاديث عنده، واعتبارها من صُنع القصَّاصِين، (فقد وَضَعَ القَصّاصون أحاديث، لتَدْعِيم مَروِيّاتِهم وأساطيرهم، وزيَّفوا لها الأسانيد الّتي تربطها بالنبي، والأئمّة، بأسلوبٍ يُوحي بصحّتِها... فَرَووا لهم أنّ الإمام‏ (عليه السلام) قال: (مَن بَلَغَه ثواب على عمل، فَعَمله رجاء ذلك الثواب، أُعْطِيه، وإن لم يكن رسول الله قاله...) (70) .

وبعضهم اعتبرها من صُنع الغُلاةِ والزنادقة، (ولمّا رَأتْ الغُلاة والزنادقَة أنّ طُلاّب العلوم، ورُوّاد الحديث، يَتَحرَّجون عن الأخذ والسماع، حتّى عن ضعاف المَشايخ المَطعونين... ولمّا رأوا عُبّاد الليل والنهار قد رَجعوا إلى السُنّة العادلة، ورَفضوا العبادات والأدعيَة المُختَرَعة، زعموا لهم (أنّ مَن بَلَغه ثواب مِن الله...) ، فتََمَّتْ بهذه الأكاذيب المُخترَعة أكاذيبهم) (71) .

ويظهر من كلام صاحب المَدارك، بأنّه لا يقبل هذه القاعدة: (وما يُقال من أنّ أدلَّة السُنَنِ يُتسامَح فيها، ما لا يُتَسامَح في غيرها، فَمَنظور فيه؛ لأنّ الاستحباب حُكم شرعي، يَتَوقَّف على دليلٍ شرعي) (72) .

وعلى كلِّ حال، فنحن لسنا بصدَدِ نَفْي، أو إثبات هذه القاعدة المشهورة عند الفقهاء والُمحدِّثين، بل ما أُريد قوله: إنّ العلماءَ والمُحدِّثين قد وضعوا شروطاً، للعمل بمِثل هذه الأحاديث، وبسبب الغَفلَة عن هذه الشروط، انتشرتْ الأحاديث المَكذوبة، والضعيفة، وإنّ كثيراً من الوَضّاعِين استغلّوا مثل الأحاديث، للكَذبِ على لِسانِ الرسول (‏صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام)، فمِن هذه الشروط - الّتي وَضَعها المُحدِّثون - في قبول الأحاديث الضعيفة:

1 - أن لا يَبلغ الضَعْف حدَّ الوَضْعِ.

قال الشهيد الثاني: (وجَوّز الأكثر العمل به - الخبر الضعيف - في نَحوِ القِصَصِ والمَواعِظ، وفضائِل الأعمال، لا في نَحوِ صفات

٣٩

الله المُتَعال، وأحكام الحلال والحرام، وهو حَسن مِن حيث لا يَبلغ الضَعف حدّ الوَضع والاختِلاق) (73) ؛ لأنّه لا فَرْق في الكَذبِ، بين أن يكون في الحلال والحرام، أو في فضائل الأعمال والمَواعِظ، وأنّ الرسول نَهى عن مُطلَقِ الكَذبِ، ولم يَستثنِ الكذب في الفضائل والترغيب والترهيب، (إنّ البلوغَ فيها، ليس هو البلوغ ولو بطريقةٍ لا يُطمأنّ به، بل المُراد به البلوغ العُقلائي، المُطمأنّ به، نحو البلوغ في الإلزاميّات) (74) .

2 - أن يكون مُندرِجاً تحت أصل عامّ، فيخرج ما يُخترَع، بحيث لا يكون له أصل (75) .

ولم أجد هذا الشرط فيما بحثتُ فيه في مصادرنا، وهو حسن، حيث يمكن أن نَتَفادى البُدع، والأُصول الخارجة عن الكتاب والسُنّة، بأحاديث واهِية وضَعيفة.

3 - أن لا يُعتقَد عند العمل به ثُبوته، لئلاّ يُنسَب إلى النبي‏ (صلّى الله عليه وآله) ما لم يَقُله (76) .

وهو شَرْط بديهي؛ لأنّ الضعيف لا يُمكن نِسبته إلى النبي ‏(صلّى الله عليه وآله)، وقد أضافَ أحدُ المُعاصِرين شَرطاً آخراً، وهو ألاّ يشتمل الحديث على مُبالَغات، وتَهويلات يَمُجّها العقل، أو الشرع، أو اللغة؛ لأنّ ذلك يُؤدِّي إلى اختلال النِسَب الّتي وَضَعَها الشارع للتكاليف والأعمال، فلكلّ عَمَل وَزْن مُعيَّن في نَظرِ الشارع، ولا يجوز لنا أن نتجاوز به حَدّه، الّذي حَدَّه له الشارع (77) ، وهذا ما سنُبيِّنه فيما بعد.

وهنالك أحاديث أُخرى، ساهَمَتْ بإعطاء المُبرِّر للكذّابين والغُلاة، للكَذبِ على الأئمّة، عَمْداً أو جَهْلاً، منها:

عن أمير المؤمنين‏ (عليه السلام) أنّه قال: (إّياكم والغُلوّ فينا.

قولوا: إنّا عبيد مَربوبون، وقولوا في فَضْلِنا ما شِئتُم) (78) .

وما جاء عن أبي عبد الله (‏عليه السلام)، أنّه قال: (يا أبا إسماعيل، لا تَرفع البناءَ فوق طاقَته فيَنهَدِم، اجعلونا مَخلُوقِين، وقولوا فينا ما شِئتُم، ولن تَبلغوا...) (79) .

أو الروايات الّتي تُشَجِّع على الأخذ بالروايات، حتّى وإن لم تكن صادِرة

٤٠