• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18826 / تحميل: 5258
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

بين يَدي الرسُول الأعظم صلى الله عليه وآله - القِسم الأول

تأليف: محمَّد بحر العُلوم

١

٢

بسِم اللّهِ الرحمنِ الرّحيِم

« مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا » .

(القرآن الكريم)

٣

٤

مَع الِكتاب

لم تكن فصول هذا الكتاب قصصاً، أحاول فيها تسلية القارئ الكريم، كما لم يكن الأساس منها التعريف بأبطالها، فهم أشهر من التعريف، خلدوا التاريخ الإسلامي، وصوروا جوانب السيرة بأحلى صوره.. إنما الواقع هي فصول من السيرة النبوية الشريفة. رأيت أن أعرضها بهذا الأسلوب بعيدة عن التعقيد والإطالة، وبطريقة - أحسب أن القارئ الذي أكتب له - يمكن أن ينشدَّ اليها، ويبقى على اتصال معها.

ونحن اليوم بحاجة لهذه الصور الحية، وتذكر هؤلاء الأبطال الذين عاشوا قضيتهم الأساسية بكل وعي، وأدركوا بعمق مفهوم الدعوة التي آمنوا بها، فأخلصوا لها، وتفانوا في سبيلها وضحوا من أجلها.. فكانوا اللبنة الأولى لصرح الإيمان والعقيدة والطليعة الفذة للمجد الإسلامي، المتسلق شاهق السنين والممتد عبر الأيام، لن تبلى خضرته، ولن تغرب شمسه.

٥

٦

ورجائي من الحق أن يساعدني على كتابة كل السيرة النبوية وألحقها بسيرة آل البيت، الأئمة الميامين، وأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وأديت واجباً دينياً..

ولا أُبالغ إذا قلت: إن دافعي لكتابة هذه الفصول - وإن كانت الفكرة تدور في ذهني منذ زمن - نتيجة عاملين:

الأول: قناعتي الشخصية بضرورة ارتباط الفرد المسلم على الدوام بسيرة الرسول الأعظم، والأئمة الطاهرين، والشخصيات الرائدة في الإسلام، وهذه الصلة المستمرة تحفظ عقيدته من الإنزلاق.

الثاني: إصرار أخي العزيز السيد مهدي - صاحب دار الزهراء - بأن أسهم في مشروعه، وخاصة هو في بداية الطريق وليس من باب الأخوة فقط أن أبادر إلى الإستجابة له، وتنفيذ طلبه، بل إيماني بأنه اختط لنفسه طريقاً - في عمله - إسلامياً واضحاً في دعم الجانب الاعلامي في معركة المصير.. وهذا ما يدعو إلى التفاؤل له بالموفقية والاستمرار.

وأخيراً:

أملي باللّه سبحانه أن يحقق آمال (دار الزهراء) في خدمة

٧

الفكر الإسلامي ويجند صاحبها في ميدان العقيدة، ويساعدني على إتمام هذه السلسلة، ويشق للكتاب طريقه بما يرضي القراء وهو من وراء القصد..

محمد السيد علي بحر العلوم

بيروت في:

١ / ١١ / ١٣٩٢

٨ / ١٢ / ١٩٧٢

٨

٩

في البدَاية

رغم أن فترة من الزمن تمر على مكة والمدينة بعد غزو الجيش الأموي لهما بقيادة مسلم بن عقبة المري، فإن ذكرى الحوادث المريرة، وصور المآسي القاسية كانت تطغى على كل ناد ومجلس سمر.

وكانت جراج مدينة الرسول - على الخصوص - لم تلتئم بعد. فقد غزاها الجيش الأموي بأمر من يزيد بن معاوية، وبعد أن خلعت بيعته، وأمرت عليها والياً جديداً - هو عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر - وفعل الجيش الغازي ما فعل بوحي من شعوره المجرم وحقده الطويل، ولم يقف بوجهه أي رادع ديني أو إنساني.

ولم يكن نصيب مكة بأقل مما أصاب المدينة، فقد حرقت الكعبة المشرفة ولم يبقَ بيت منها - عدا بيوت الأمويين - إلا سلب ونهب.

وكانت حلقات السمر، ومجالس الليل تعج بأخبار هذه

١٠

الحوادث وفظاعتها بما يعصر القلوب حزناً، ويرهق العيون تأثراً.

ومرة امتد السهر بإحدى الحلقات المنتثرة في فناء المسجد النبوي حتى كادت تحاذي السحر في سهرتها، أو تتجاوزه بقليل وهي تعيد ألماً على ألم، وتجتز حزناً على حزن.

ويلتفت أحد الجالسين إلى صاحبه - وهو متضايق من الحديث الذي يجدد الذكرى المؤلمة، ويعيد عليهم صورة المأساة الفظيعة - قائلاً وهو يقطع الكلمات من الأسى: أما آن لنا أن نطوي حديث الأمويين وفجائعهم، ونحاول أن نخفف عن مصائبنا بما يساعدنا على تحمل مشاكل حياتنا.

ولم يكن الزميل بأقل منه ضيقا ً وبرماً بهذه الأحاديث المروعة، وما أن سمع هذا الرأي حتى استجاب له.

وتسرب الإقتراح للباقين، وكأنه أيقظهم من سبات، ونبههم إلى شيء كان قد غاب عن أذهانهم.. وقالوا: ولنا عند الشيخ أبي معاذ ما نبتغيه، فهو محدث رائع، عذب الأسلوب، حلو الكلمة، ورجل مسنّ جاوز عتبة الثمانين، رافق الأيام فكان فيها عيناً لا تغمض، وعاش الحوادث فحفظ من أخبارها الشيء الكبير.

ولم يلقَ القوم من أبي معاذ أي امتناع، فقد استجاب للطلب وصادف في نفسه قبولاً.

وصار يحدث أصدقاءه في لياليه بما سيمر علينا..

١١

١٢

حمزة بن عَبد المطلب

١٣

أقبل الليل، وأخذ الشيخ أبو معاذ طريقه إلى ندوته واستقبله القوم بالترحاب، وحيّاهم ببسمته الهادئة، وأدار عينيه الذابلتين في وجوه الجالسين، كأنه يتفحصهم، ويتعرف عليهم وبدَتْ لهم من خلال نظراته العميقة رفة حب، وتصاعدت من بين أنفاسه المتعبة هزة حنان.

وبقي الشيخ صامتاً شيئاً من الوقت، ولعله يستجلي ذاكرته في صور الماضي وأحداث الأمس.. ثم تكلم، وهو يصوغ حديثه بأسلوبه الجميل..

ذكَّرتني جلستنا هذه بمجالسنا الماضية، يوم كانت الحلقات تنتشر في فناء الكعبة، وكنت - حينذاك - أرافق أبي في سهراته.. وكان حديث الطارق الجديد يدور فيها، وهو السائد عليها.. فقد أقضَّ مضاجع قريش، وأطار نومها من عيونها وشتت صوابها.. حديث محمد ودعوته.

ولم يكن رسول اللّه ببعيد عن قريش، ومكة.. فهو:

١٤

حفيد عبد المطلب، سيد بني هاشم.. وهاشم، عمرو بن عبد مناف ينتهي إلى عدنان، وهو الذي ما طعمت مكة ولا سقيت من يدين أبسط من كفيه، وأندى من راحتيه، وأجمل من خلقه..

وما أن نامت عين هذا الانسان العظيم: على هذه الجوانب الانسانية الرائعة، حتى فتحتها على ولده عبد المطلب، شيبة الحمد..

وكان هذا الرجل قد بلغ في قريش خاصة، والعرب عامة منزلة لم يكد يبلغها أحد.. وحتى قالت العرب فيها قولتها المعروفة: «لو كان نبي على عهد عبد المطلب لكان هو نبي العرب».

وهو: ابن (عبد اللّه) أحد أولاد عبد المطلب العشرة الذين إذا طافوا بالبيت أخذوا بالأبصار، وجمعوا القلوب الطيبة حولهم.

وهو: ذلك اليتيم الذي لم يعرف من حنان الأبوة ما يشدُّ به عظمه، فقد مات عنه أبوه، بعد زواجه من أمه آمنة بنت وهب بفترة قصيرة، فتركه حملاً، أو رضيعاً على اختلاف في الروايات.

فتعهّده جده عبد المطلب - زعيم الهاشميين، وكبير قريش وشخصية مكة، وسيد العرب - فنشأ في ظله موفور الكرامة عزيز الجانب.. حتى كان يفرش له بفناء الكعبة، فلا يقرب من فراشه أحد من أولاده، أو كبار قريش، يهابونه ويحترمونه.

١٥

أما محمد فقد كان يأتي - وهو صبي - يتخطى رقاب الكل حتى يصل إلى يده، فيزاحمه على فراشه. ويحاول الأعمام أن يمنعوه، فيقول لهم عبد المطلب:

«دعوا ابني هذا، إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس».

ولم يكن هذا فحسب من الجد نحو حفيده، بل أكثر من هذا، ولماذا لا يكون كذلك، وهو يتكهن لحفيده مستقبلاً خطيراً، وشروقاً لن يغرب؟..

وما أن شعر السيد الكبير بدنوِّ أجله حتى طلب ولده (عبد مناف، أبو طالب)، فخفَّ اليه مسرعاً، وعيون الأولاد، والاسرة ترقب الأب العظيم، وهو على فراش الموت.. وبيد ملؤها المحبة والحنان، يأخذ يد محمد فيضعها بيد أبي طالب ثم يقول له، وهو يصارع الموت:

«يا عبد مناف: خلفت في يدك الشرف العظيم الذي تطاول به رقاب الناس».

وتجفُّ الكلمة على ثغر زعيم الهاشميين، وابتسامة الرضا والاطمئنان تطفو مكانها لتزهر وتورق وسط جفاف الأيام.

وبدأ محمد يكبر، وتكبر معه الآمال، وكلما تدرج فتى الدعوة في العمر تضخمت مسؤولية العم الحنون في الاهتمام به

١٦

والحفاظ عليه.. حتى لم يكن له من قريب او بعيد بأكثر حناناً وأشد إشفاقاً عليه من أبي طالب.

ولم يكن كل أولاد عبد المطلب مثل ما كان له أبو طالب حامياً، وناصراً، ومدافعاً، نعم كان حمزة أقرب الأعمام له بعد أخيه عبد مناف.

وحمزة تربطه بابن أخيه أكثر من صلة، فقد كان أخاً له بالرضاعة، وكان له ترب الصبا، يكبره بأربع سنوات، وكان يتعهده في كثير من الأحيان، وكانت هذه بمجموعها عاملاً يقرب بين القلبين، ويؤلف بين الروحين.

لقد كان يضمر له من الحب والوفاء أجمله وأحسنه، ويقدر لأخيه أبي طالب موقفه الرائع من وديعة أبيه، بما كان يبذل له من العناية والاهتمام، حتى قال محمد صلى الله عليه وآله:

«كانت فاطمة بنت أسد - زوجة عمي - تجيع أولادها وتشبعني، وتتركهم شعثاً وتدهنني، ولم يكن لدى عمي أبي طالب همّ إلا حمايتي، والاهتمام بأمري».

وامتدّ الزمن، وعلى امتداده توسعت شخصية (فتى عبد المطلب)، كلّ شيء فيه يدلُّ على أنه شخصية المستقبل ولم تغب عن ذهن حمزة كلمة أبيه - وهو على فراش الموت -: «إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس».

١٧

وكان حمزة يسرّ ويفرح عندما يلمح ابن أخيه، ويكتم سروره ولا يتظاهر بفرحه، كان هذا الميل النفسي ينمو مع نمو محمد، ولا يستطيع تفسيره ولا بد أن يعثر على تفسير ولو بعد حين. ذلك هو الإيمان الذي تولد في أعماقه وازدهر بعد زمان.

ومرت بالنبي أحداث كانت لها الأثر في رفع الستارة عن شخصيته، وكان حمزة يتابع هذه القضايا بشيء من الإهتمام..

ومن أبرزها حينما اختلفت قريش فيما بينها، على وضع الحجر الأسود في مكانه بعد بنيان الكعبة، فكانت كل قبيلة تود أن تحظى بهذا الشرف الكبير، وكاد النزاع يؤدي إلى معركة واتفق الجميع على أن أول قادم عليهم سيكون هو الحكم في ذلك، ولم تنطو لحظات حتى كان المقبل عليهم هو محمد بن عبد اللّه واستبشرت الوجوه به، فهو المعروف عندهم ب(الصادق الأمين) وبسط الرسول رداءه، ووضع فيه الحجر في وسطه، وأمر كل زعيم قبيلة أن يحمل جانباً من الرداء، وإذا ما رفعوه، أخذه ووضعه في مكانه.

ولم يهن ذلك على طغاة قريش، فقال قائلهم: وا عجباً لقوم أهل شرف ورياسة، وشيوخ وكهول، عمدوا إلى أصغرهم سناً وأقلهم مالاً، فجعلوه عليهم رئيساً وحاكماً!! أما واللات والعزى ليفوقهم سبقاً، وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً وليكونن له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم..

١٨

وكان حمزة في خضم هذه الأحداث ذلك الإنسان الذي يعيشها ويعيها ويحكم نفسه فيها تحكيماً منصفاً، فيزداد إيماناً وحباً وتفانياً لابن أخيه، ويقف إلى جانب أخيه أبي طالب كافله ومحاميه..

ومرت الأيام، وأعلن محمد دعوته، ولم يستجب لها في بادئ الأمر إلا خديجة وعلي بن أبي طالب، ثم استمرت الدعوة، رغم قلة الناصر، وجدّت قريش في عرقلة حركتها، وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، يتحين الفرص، فإذا ما ظفر به وحيداً صب عليه جام غضبه، وسخر منه، وآذاه بأنواع الأذى.

لكن ذلك كله لم يثنه عن رسالته، وإلى جانبه أبو طالب وحمزة يقفان له في كل نازلة يصدّان عنه عدوان الناقمين، ويدفعان عنه ظلم الحاقدين..

ومرة جاء محمد إلى عمه أبي طالب يشكو له أذى قريش فقد ألقوا عليه سلى ناقة فقال محمد لعمه: «عم كيف ترى حسبي فيكم»؟! فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره بالأمر فدعا أبو طالب حمزة، وقد توشح كل منهما بسيفه، وقال لحمزة: خذ السلى معك وتوجها إلى القوم، وهم في فناء الكعبة، فلما شاهد القوم المقبلين توسموا في وجوههم الشر وإذا ما وقفا على رؤوسهم قال أبو طالب لأخيه حمزة: مرّ السلى عليهم، ومن يعارض

١٩

اقتله، فامتثل حمزة حتى أتى على آخرهم، فالتفت أبو طالب إلى ابن أخيه قائلاً:

هذا حسبك فينا!.

برغم هذا فلم تكف قريش عن أذى محمد كلما ساعدتها الفرصة وتقسو معه حيث أمكنتها القسوة.. وكان هو بنفسه لا يرد عليها أذاها، يحتمل منهم الألم، ويطويه بين أضلاعه، اللهم إلا أن يعلم أحد الثلاثة بما أصابه، فيكون الانتقام حامياً، وهم: أبو طالب، وحمزة، وعلي، فيردون الصاع صاعين على المعتدي.

وذات يوم يمر النبي عند الصفاة، فإذا بأبي جهل هناك ونفسه الحاقدة تغلي في صدره، فيلتفت يمنة ويسرة، فلا يرى من يخشى صولته وغضبه، ليس معه أبو طالب، ولا على مقربة منه حمزة، ولا إلى جنبه علي، وحيد يلقاه، وهي فرصة سنحت له، فليستغلها.

وينهال الرجل المريض القلب على محمد دون خشية وخوف يشتمه فيجرحه بالكلام، ويسبُّه ببذيء القول، ويفرغ كل حقده الجاهلي، ويظهر كل كوامن حسده.. ورسول اللّه لم يفتح شفتيه ليردَّ عليه، إنه لعلى خلق عظيم، ويأنف أن يقابل هذا الأحمق الجاهل، وإن امتدَّ به العمر.

وينصرف بعد ان يسمع منه ما لم يسمع، ويتألم ويحزن ويطوي في نفسه أحزانه وآلامه.

٢٠