• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18907 / تحميل: 5325
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

فلقد التقى مثلاً - ببعض المسلمين الذين دخلوا الاسلام كرهاً وحفظاً لمصالحهم - فقال لهم بكل خبث ومكر: أرأيتم كيف يعمد صاحبكم محمد الى تحطيم معنوياتكم، وتذويب شخصياتكم بحشركم مع الضعفاء والأذلاء والعبيد، أمثال: عمار، وبلال والخباب وغيرهم..

وكان لحديثه في نفوسهم استجابة ووقع، فهرعوا الى النبي فوجدوه جالساً مع ضعفاء المسلمين، وطافت الصورة القاتمة التي زرعها في أذهانهم صخر بن حرب فانفجروا مع الرسول قائلين: ان وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب قعوداً مع هذه العبيد، فإذا جئناك، فأقمهم عنا.. رضخ النبي على مضض وقال: نعم. قالوا له: فاكتب لنا عليك كتاباً، فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب ونزل جبرئيل يبلغ النبي الآية الكريمة:

« وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ » .

فرمى رسول اللّه بالصحيفة، ودعا هؤلاء الضعفاء من المؤمنين، فقال لهم:

«السلام عليكم».. فدنوا منه حتى وضعوا ركبهم على

١٢١

ركبته.. وكان النبي يجلس معهم، برهة من الزمن فيتركهم فأنزل اللّه تعالى الآية:

« وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ » فكان بعد ذلك لا يفارقهم، حتى يغادروا مجلسه.

ومن هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآيات الكريمة.. الخباب بن الارت، أبو عبد اللّه من بني تميم كان قيناً يعمل السيوف في الجاهلية، وكان حليفاً لبني زهرة، أصابه سباء في الجاهلية فبيع بمكة، واشترته أم انمار بنت سباع الخزاعية، وأعتقته بعد زمان.

وفي بادئ أمره بلغ مسمعه نبأ الدعوة، فهشَّ قلبه لها وتصيد أخبارها عن محمد ما جلب قلبه له، وبحث عن موضع لقياه فعرف أنه في دار الأرقم، فانساب اليه سراً ليسمع من الداعي مقالته، وجلس الى رسول اللّه فأعجب بحديثه، ولم يرَ في هذه الشخصية إلا الإنسانية الكاملة، والمنقذ الذي يقصد الناس ليخرجهم من ضلالتهم، ولم يعرف من الآيات الكريمة التي تلاها على أصحابه إلا أنها كانت تجلي قلبه من الظلام الدامس الذي كان يرزح فيه.. ولم يضع رجليه خارج دار الأرقم إلا ويرى نفسه مشدوداً اليها، لا يستطيع الانفصال عنها، ولا يسأم من روادها حديثهم العذب، وجلستهم المحببة.

١٢٢

ويعاود الزيارة مرة بعد اخرى، وكلما امتد به الوقت، كان يصهره محمد في إيمانه، حتى بات يشعر في نفسه - وهو يقدم على رسول اللّه مسلماً - انه غير الذي كان بالأمس، سمواً لا يطاوله سمو، وروحية دونها كل روحية.

ويكون سادس المسلمين، ويوسِّع من تلك الحلقة المؤمنة بإسلامه أفقاً جديداً يلمع مع تاريخ الانسانية على مر الأيام ويصبح ظلاً للنبي يلاحقه أينما يكون، إلا عند الضرورات.

وتسرَّب الخبر الى الطغمة المناوئة إن الخباب بن الارت صبا الى الدين الجديد وإذا كان من أبناء الذوات من قريش وغيرها في مأمن من غضبها وعذابها، فهؤلاء الضعفاء لم يكن لهم سند يُخشى، وقريب يمنع، وجاه يصد.

وينعقد مجلس من أندية قريش، ويدخله صخر بن حرب متجهم الوجه، على سحنته جبل من همّ، وعلى كاهله ليل من سهاد.

ويتبارى المستفسرون عن وضعه، وماذا ألمَّ به، فجعله كتلة من الألم.. ويتصنع الغيظ، ويبعثر الكلمات على شدقيه، ويجهد في إخراج القول: لا أستطيع الكلام يا قوم، وخير لي أن أسكت، إذا كانت العرب لا غيرة لها على آلهتها، شاهت الوجوه ذلا..

١٢٣

ولم تكن الكلمات النارية الجارحة التي قذفها ابو سفيان في وجوه الجالسين إلا إيذاناً بيوم أسود ينصب على هؤلاء المساكين الذين حملوا الدعوة عقيدة ورسالة في أعناقهم.. وساد الهرج من كل جانب، وتعالى الصراخ يشق آفاق المجلس: لا تقل هكذا يا أبا سفيان، سوف نسقي سيوفنا من دماء الخارجين على ديننا..

ويحاول زعيم الطغمة ان يضرم النار على أشدها، فالتفت اليهم قائلاً - وهو يدفع الحسرة تلو الحسرة، والآهة بعد الآهة -: كفى.. كفى، فلا فائدة من مقالتكم، وحماستكم فقد انتهى الأمر بالقلة من عبيدنا وخدمنا ان تتحاز الى محمد وهي لا تخشى قوتنا، ولا تهاب سطوتنا.. وامجداه.. لقد ماتت أيامكم على أقدام يتيم بني هاشم، إذهبوا الى بيوتكم واحتجبوا مع نسائكم، فهو خير لكم من قبول هذا الهوان..

وماج القوم، فقد أرعبتهم هذه الكلمات، وأضرمت في نفوسهم العصبية الجاهلية.. وقفز من جوانب الندوة من طاشت الدنيا في عيونهم، وكان يتقدمهم ابو جهل، وهم يصرخون: اليوم.. اليوم.. الساعة.. الساعة.. ولنا مع هؤلاء حساب وحساب.

وقرب دار الأرقم، وقفت العصابة تنتظر أول من يخرج عليها من هذه الدار لتصفي حسابها معه.. وما هي إلا برهة من الوقت، حتى لمحت شخصاً يتسلل منها، واستعد ابو جهل ليطبق

١٢٤

عليه، لكنه تراجع خائباً عندما عرف انه مصعب بن عمير، فهو من شخصيات بني عبد الدار، ويخشى أن يثير عليه قبيلته، حتى وإن كان ولدهم الخارج على آلهة قريش. والتفت الى جلاوزته يأمرهم ان لا يمسه أحد بسوء.. ومرَّ مصعب بن عمير بسلام، وهو يسخر منهم، ويتهكم عليهم.

ودارت عقارب الوقت سراعاً، وفي أثنائها تسلل آخر منها واستعد ابو جهل للهجوم، وما ان اقترب منه حتى أطبق عليه وعلى ضوء القمر الشاحب عرفه الخباب بن الارت، وكاد يطير من الفرح، إنه بغيته التي يترقبها، وصاح بجلاوزته: إنه هو واللات، جرُّوه من شعره، حليف بني زهرة أمره غير مجهد.

وجرَّ الخباب الى مجلس السمر، وكان ابو سفيان بعد لم يغادره، وبدأ في تعذيبه، يتفنن في ذلك، ويتنوع في أذاه وكان الرجل المؤمن كلما ألحَّ القوم في تعذيبه، ازداد ثباتاً وصموداً..

ولم تُجْدِ كل هذه الأساليب في قمع الدعوة، ولا أوقف حماس المسلمين عذاب ابي سفيان وطغمته الفاسدة، رغم انه كان قاسياً ومؤلماً، ويكفي ان الخباب يحدثنا عما لقيه، فيقول:

واللّه ما أعلم أحداً لقي من البلاء ما لقيت، فقد كويت في بطني سبع كيات مرة واحدة، ولولا أن النبي نهى أن يتمنى أحد الموت، لتمنيته..

١٢٥

ولم يكن هذا فحسب، فقد أغرى أبو سفيان وأمثاله مولاته أم أغاربه، وكانت تكره أن يجلس اليه رسول اللّه، فكانت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه. فشكا ذلك للنبي فدعا عليها فقال: «اللهم انصر خباباً» فاشتكت من رأسها وكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها.

وكان المشركون يحقدون على الأبطال من الصحابة لصمودهم وعدم تراجعهم عن عقيدتهم، مع كل ما يعانون من أذى وعذاب.

ولقد سأله مرة عمر بن الخطاب عن أشد ما قاساه من المشركين، فكشف عن ظهره، فقال عمر: ما رأيت كاليوم فقال: أوقدت لي نار، وسحبت عليها، فما أطفأها إلا شحم ظهري..

وترك الخباب بعد أن يأس أبو سفيان من ردعه، وعاد لحبيبه وسيده رسول اللّهقوي القلب، ثابت الجنان، علمته الأيام كيف يشد عزمه على عقيدته، ودللت له الحقيقة مكانته السامية في نفس النبي، وكان هذا ما جعل الخباب يتفانى في سبيل الدعوة.

وأوكل اليه النبي مهمة خطيرة في بدء الدعوة.. وهي تعليم بعض المسلمين القرآن، ممن لا تساعدهم ظروفهم في الذهاب إلى النبي. وكادت هذه المهمة تنتهي به إلى الموت ولكن الخباب لا يهاب كل شيء في سبيل عقيدته.

١٢٦

ويتحدث المتحدثون أنه كاد يقتل بسيف عمر بسبب مهمته. فقد كان عمر بن الخطاب - في أول أمره، وقبل أن يسلم - شديداً على المسلمين، وفيه من الغلظة والقسوة ما ميزته عن غيره عنفاً، وشدة..

وقد خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد رسول اللّه صلى الله عليه وآله ورهطاً من أصحابه، وقد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قرابة أربعين نفراً، من رجال ونساء، ممن كان أقام مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد اللّه، من بني عدي - وكان مسلماً يكتم إسلامه خشية من قبيلته -، فقال له: أين تريد يا عمر؟. فقال: أريد محمداً هذا الذي فرق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله وأريح العرب من شره، فقال نعيم: واللّه لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر. أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم، قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد واللّه أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وكان عندهما الخباب بن الأرت ومعه صحيفة فيها سورة (طه) يقرئهما - وكان النبي قد كلفه أن يذهب اليهما في كل يوم يقرئهما القرآن - فلما سمعوا صوت عمر، غيبت فاطمة الخباب في مخدع لها، وأخذت الصحيفة فجلعتها تحت فخذها

١٢٧

وكان عمر قد سمع - حين دنا من الباب قراءة الخباب عليهما - فلما دخل قال: ما هذه الهيمنة (صوت، كلام لا يفهم)؟ قالا له: ما سمعت شيئاً، قال: بلى، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ولم يتمكن من ضبط أعصابه، بل أخذ ابن عمه سعيداً وضرب به الارض، فقامت اليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها ولما وصل الأمر الى هذا الحد، قالا له: نعم قد أسلمنا وآمنا باللّه ورسوله، فاصنع ما بدا لك، وأثر في عمر منظر الدم الذي جرى من أخته، وندم، وقال: اعطوني هذه الصحيفة أنظر ما فيها، فامتنعت أخته من ذلك خشية أن يمزقها، فأعطاها المواثيق، وحلف بآلهته أنه ليردها لها، فخرج اليه الخباب من المخدع، فحملق فيه، ثم عاد الى قراءة الصحيفة فما زال به الخباب يحدثه ويقنعه حتى اقتنع بالاسلام.

وبعد ثلاث عشرة سنة قضاها النبي صلى الله عليه وآله في مكة، وهو يعاني من ظلم المشركين وجورهم ما اضطره الى الانتقال للمدينة ليكون هو وأصحابه في مجنب من هذا الخطر.

كانت السنين الثلاث الاولى للدعوة لا تتعدى الأفراد الذين آمنوا بالرسالة وبصورة خفية، وحتى اذا أطلت السنة الرابعة أعلن الرسول الدعوة، وأخذ يدعو الناس الى الاسلام جهراً واستمر على ذلك عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم بمنى، والموقف يسأل عن القبائل، ويأتي اليهم يعرض عليهم الاسلام، لا يمنعه عنف القوم ولا يرده أذى قريش.

١٢٨

يروي أحد المشاهدين: انه في الموسم بمنى، وإذا برسول اللّه يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، اني رسول اللّه اليكم، يأمركم أن تعبدوا اللّه، ولا تشركوا به شيئاً وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا وتصدقوا بي وتمنعوني، حتى أبين عن اللّه ما بعثني به.

يقول الراوي: وخلف النبي يتتبع أثره رجل أحول وضيء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وآله من قوله، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وتؤمنوا بما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه قولاً.

قال الراوي: فقلت لأبي: يا أبتِ، من هذا الذي يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب..

لكن هذا وأمثال هذا لم يثن النبي عن عزمه في تبليغ رسالته المقدسة فقد استمر، وكلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعوهم الى اللّه، وإلى الاسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من اللّه من الهدى والرحمة، وهو لا يسمع بقادم يصل مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدى له، ويدعوه الى اللّه والهداية والرحمة ولا يهمه ما يناله من الأذى في سبيل ذلك، حتى قال هو صلى الله عليه وآله: «ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت».

١٢٩

وكان الخباب بن الارت من الأصحاب الذين قلّ ان يفارقوا الرسول، صابراً على كل ما يلاقيه من ضيم، مؤمناً بعقيدته الى درجة الفناء فيها.

ولما تفاقم الأمر، وازداد الضغط على محمد وأصحابه، فقد اضطر النبي أن يطلب من المسلمين ان يهاجروا من مكة الى المدينة.. وتسلل المؤمنون في ظلام الليل من مكة تاركين البلد الذي قضوا فيه وطراً من حياتهم سلامة على أنفسهم، الى المدينة حيث الأمان، والأمل المشرق.

وكان الخباب من المهاجرين الأوائل، ولم تضق يثرب بهذه الصفوة المنتقلة الى رحابها، فقد كانت القاعدة الوفية للدعوة الاسلامية، وفيها استمد الدين شموخه، ومنها امتد الى الجزيرة وفي ربوعها عاش الصفوة في مأمن..

وبقي الخباب جندباً الى جنب النبي في كل معركة، ومعلماً وفياً للدين كلما انتدبه النبي لمهمة.

وإذا وفى الخباب لمحمد، فقد كان وفياً لعلي من بعده، بحيث انتقل معه الى الكوفة، ولم يشأ مفارقته، وحتى في معاركه عدا صفين فقد تخلف لمرضه.

وفي عام ٣٧ هجري لبى الصحابي الجليل دعوة الخالق العظيم.. ويقف علي (ع) على قبره، وهو في ألم شديد، وتأثر عميق.

١٣٠

وانحدرت الكلمات من أعماق الإمام تؤبن هذه الشخصية الفذة:

« رحم اللّه خباباً، لقد أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلى في جسمه أحوالاً، ولن يضيع أجر من أحسن عملاً.. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف ورضي عن اللّه عز وجل».

وماجت دموع الوفاء في عيني الإمام على هذا الصحابي الذي عانى في سبيل عقيدته من ظلم ابي سفيان وحقد طغمته ما يجزع منه الوصف، وخلد له ذكراً مشرقاً مهما امتدت الأيام بعمرها.

١٣١

١٣٢

بلال بن رباح الحبشي

١٣٣

ونشر الليل أبراده، وانعقد مجلس الشيخ أبي معاذ، وافتتح حديثه قائلاً: ولنا مع بلال في هذه الأمسية، ما نقطع به وحشة الليل، ووجومه.

فلقد انتشر النبأ في أطراف مكة أن بلال بن رباح الحبشي مولى أمية بن خلف قد أسلم، وعلم مولاه بهذا الخبر، وعظم عليه، وفكر في أمره، وكيف يؤدبه؟ ولقد ثقل عليه أن تلوك العرب بيته، وترميه بتحدي آلهتها.

وفي حمة الغضب أرسل على بلال. ومثل بلال بين يديه.

ماذا يريد مني مولاي؟

لقد هالني ما يتحدث به العرب في مكة من أن بلالاً صبا لدين يتيم قريش أهذا حقاً؟.

ووجم بلال، وطافت على سحنته سحابة حزن ماذا يقول؟

١٣٤

أينكر الحقيقة، أم يجابه مولاه بالصراحة، وعسى اللّه أن يفتح عليه بالفرج.

فصمت بلال دقائق معدودات، وكان سكوته بمثابة جواب صريح لأمية، إنه - جواب العقيدة - واضح في معالمه وقسماته لقد ارتسم الجواب على وجهه جلياً.

واستشاط أمية غضباً فصرخ بوجه بلال أتسكت وفي عينيك الجواب الصريح؟

وشهر السيف في وجهه يلوح له بالقتل، والشر يتطاير من كل جارحة فيه.

ونطق بلال، وفي نطقه رنة إيمان، وصدق عزيمة وتجمل بالصبر.

يا أمية لا ترهقن نفسك آمنت برب محمد، وانخرطت في دعوته وأنا متحمل كل ما يترتب على ذلك.

وكان هذا الجواب بمثابة قنبلة فجرها بلال في كيان مولاه فما أن سمع منه هذه الصراحة المتناهية حتى أخذ يزبد ويرعد ويصرخ ويتوعد، ثم نهض وهجم على عبده ومسكه من شعر رأسه وجلد به الأرض، وهو يجره جراً.

- لا بد يا بلال أن ترجع عن دعوة الاسلام، يا للعار والشنار.

١٣٥

وبلال يقابل هذا العقاب، وقلبه كزبر الحديد، لا يهاب قسوة الوحش، ولا يلين لبطشه، ولا ينهار أمام وعيده.

وبكل هدوء يخاطبه الانسان العبد المضرج بدمه:

- يا أمية لا ترهق نفسك وأنت شيخ كبير، إن كل هذا أتحمله منك ولا أعود عما أنا قادم عليه إن دين اللّه هو الحق وان اللّه وحده لا شريك له وهو للظالمين بالمرصاد.

ويغشى على بلال من شدة التعذيب، فيتركه مولاه جثة تشخب الدماء منها، ونفَسه يكاد يجمد على منخريه فلا يتحرك أي جزء منه إلا نبضات قلب بطيئة الدق سريعة الإيمان.

وفي مجلس من مجالس قريش، وقد ضم الكثير من سراة القوم، يقبل على أمية بن خلف، شيخ قد هدمته السنون ليعانقه ويطبع على جبينه قبلة، ثم يلتفت إلى الجالسين وكأنه شعر بأن الجمع قد أكبر منه هذا الفعل.

يا قوم: إن أمية قد انتصر لآلهتنا اليوم، وردَّ كيد محمد وسحره.

وطافت على وجوه الجالسين علائم الدهشة والاستغراب وتعالت الأسئلة من كل جانب عن موقف هذا الرجل الذي انتصر للات، والعزى.

١٣٦

فسرد عليهم أمية بطولته مع بلال، وكيف تركه جثة أثقلتها الجراح، ويصعب عليه الحراك.

وشق على بعضهم أن يموت بلال، وهو لم يرَ من التعذيب إلا أقله، إن هذه الصفوة التي صبَت لدين محمد تشكل خطراً كلياً على هذه الجموع، وكان المشركون يتفننون في تعذيب هؤلاء المستضعفين ويصبُّون عليهم أقسى التنكيل، ومختلف العذاب. ولكن الأمر صار على العكس، فإن هذه المظاهر العدائية الحاقدة من المشركين كانت تبعث المسلمين الأولين إلى التفاني في مبدئهم وتحمل أنواع التعذيب دون التراجع عن عقيدتهم.

فالإيمان بالمبدأ إذا ما تركز في نفس الانسان تحمل في سبيله أي شيء، فلا يخيفه التعذيب، ولا يرهبه التنكيل، إنما العكس كل العكس في ذلك، فقد يزداد المرء صلابة، وثباتاً، ورسوخاً في عقيدته أمام كل هذه المظاهر العذابية.

وهذا ما نراه جلياً في أبطالنا الاسلاميين، أمثال بلال، فقد كان إيمانهم يزداد، وتفانيهم يتوقد كلما تحالفت قوى المشركين على تعذيبهم وإرهابهم، وكلما ساموهم أنواع الألم والأذى.

والتفت أحد الجالسين الى أمية بن خلف، مخاطباً: لو نرسل أحداً الى بلال فيستقصي لنا خبره هل مات، أم لا زال على قيد الحياة؟

١٣٧

وذهب الرسول بحمل آمال القوم في مصير بلال او خيبتهم ويرى الرسول بلالاً بعد حياً، فيسرع يزف البشرى الى أسياده وينفحهم بالخبر كأنه كل آمالهم، ويحفزهم عليه بكل ما يستطيع من لباقة.

لقد رأيته وهو مقوس الظهر في جذوة الشمس، وشفتاه تتمتمان بشيء لم أفهمه، وتقربت منه، وأدنيت أذني اليه، وعيناه لا تبصران من حوله فقد تجمد عليهما الدم. وسمعته يقول ويا لهول ما سمعت!!..

وتصاعدت الوجوه اليه، وحملقت العيون فيه، وامتدت الألسن كأنها تلوكه، ووجم عنترة من هذا المنظر، وماتت الكلمات في فمه.

وصاح به سيده وهو يكاد يتقطع من الغيظ: ماذا بك يا عنترة ولماذا لا تتكلم؟

وانطلق لسانه بعد صمت: لقد سمعته ويا لهول ما سمعت.

سمعته يرتل:

يا اللّه يا رب محمد، يا رب الأرضين والسموات، وحدك وحدك لا شريك لك، ساعد محمداً على دعوته، وانجه من عذاب الظالمين، وقوِّنا على تحمُّل غضب أعدائك.. وما أن سمع عنترة

١٣٨

ذلك حتى انعقد لسانه، وامتد الذهول الى الجالسين، ومرّت بهم لحظات كأنها السنين العجاف في ثقلها.

وأخرج أمية القوم من ذهولهم قائلاً:

- يا إخوان ما رأيكم في هذا الحبشي أأقتله وأستريح؟؟

- لا يا أمية لا تتعجل بقتله. إن في تأديبه لفائدة. تفنن في تعذيبه.

- دونكم الرجل فاعملوا به ما تشاؤون.

- لا نريد ان نتدخل بين العبد وسيده إنما نشير عليك.

فصاح أحدهم: ولماذا لا نتولى نحن مجتمعين تعذيبه بدلاً من أمية؟.. فالتفت اليه أحد الجالسين وهمس في أذنه: دعه يموت على يد صاحبه، كي لا نخسر قيمته.

وامتد بالجالسين الوقت حتى حانت الظهيرة، وقبل أن يتفرقوا اقترح البعض منهم ان يذهبوا مع أمية لمشاهدة بلال فلاقى هذا الطلب من نفس أمية كل الارتياح، ورافق الرجل بعض من القوم حتى إذا أشرفوا على بيوت أمية، ألفوا بلالاً ممدوداً في ظل جدار، مقوس الظهر من الألم.. وأشار أمية اليه. إنه بلال.

وتضاحك المشاهدون، وأكبروا بطولة أمية وحرصه على حفظ مجد آلهتهم.

١٣٩

ودارت الأيام خفافاً وتعقبها أيام، وإذا بأمية بن خلف تكون مهمته أن يخرج بلالاً كل يوم إذا حميت الشمس في الظهيرة ليطرحه على ظهره في رمضاء مكة، ثم يأمر بأن تحمل صخرة كبيرة عنده فتوضع على صدره، ثم يصرخ في جلاوزته: لا ترفعوها عنه حتى يموت او يكفر بمحمد، ويحيد عن دعوة الاسلام.

ويطول الانتظار بالمعذِّبين فلم يسمعوا من بلال الذي ملأ الإيمان قلبه ثقة واطمئناناً إلا هذه الآيات:

« قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ * اللَّـهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ » .

ويزاد غيظ أمية ويتضايق من عبده، وكلما حاول أن يقتحم إيمانه وصموده فيقتله، يطلب منه أصحابه أن لا يعمد على فعلته، إنما يزيد في تعذيبه ليجعله عبرة للباقين.

وهيهات فالمسلمون أخذوا بالازدياد، وأصبح لا يرهبهم العذاب، ولا يخيفهم التنكيل، وأمر الرسول صلى الله عليه وآله بأن يفاتح أمية بن خلف في شرائه.

وتقدم بعض الصحابة المتمكنين الى أمية، واستوهبوه من مولاه إزاء مال وفير.

١٤٠