• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18903 / تحميل: 5323
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

وكان أبو سفيان من تلك الشلة التي قدمت لتشهد تعذيب هذه الأسرة، وقد امتقع لونه، وجثمت على وجهه عتمة شوهت سحنته، وهو يطحن بأضراسه الكلمات التي يتفوه بها.

ايه يا حليف مخزوم، هل صبوت إلى سحر محمد؟

وبقلب ثابت لم يزعزعه العذاب، ولم يهدّه التنكيل يتهادى الرد عليه من هذا الرجل المثقل بالحديد، كأنه السهم يقطع أوصاله دون ما رحمة.

- لا تقل يا أبا سفيان - سحر محمد - بل نوَّر اللّه قلبي بدين محمد، وهداني بهديه إلى صراطه القويم.

وضج القوم، وطارت عيونهم من الهلع، وانفتحت أفواههم تعجباً، وخفقت قلوبهم رعباً، ماذا يقول هذا الرجل الدخيل على ديارهم. إن جوابه لا يطاق، ويهتز أبو جهل، ويرتعد بحيث لا يسيطر على السوط الذي بيده من شدة الغضب، ويحاول أن يهجم عليه فيقطعه بأسنانه، فيمسكه أُمية بن خلف، ولم يكن هو بأقل من أبي جهل غضباً وحنقاً، ولكنه يتظاهر بالهدوء والسكينة ويخاطب ياسراً:

اما كفاك أن تصبو أنت لسحر محمد، حتى أخذت معك هذه المرأة وهذا الفتى تقربهم من نبيك، وتعلمهم على دينه وتنفث فيهم من سحره وتتجاهرون بالخروج على آلهتنا..

٤١

وكأن الأسرة كانت على موعد لجواب موحد، فقد ردوا عليه مرة واحدة غير هيابة للنتائج والعواقب المترتبة عليه:

- صه يا حقير، لا تتهم رسول اللّه بالشعوذة والسحر، انه لم ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه ربه شديد القوى، ولقد هدى قلوبنا بكتابه، وأنقذنا من عمى الجهالة بنور دينه..

وعلا الضجيج من جديد، وجن جنون الطغمة الفاسدة وانهالت السياط والحراب على أجسادهم دون شفقة.

وبكل إيمان يلتفت ياسر إلى أهل بيته يصبرهم، ويشد من معنوياتهم، قوّى الإيمان عزيمتهم، وشدَّت العقيدة أطرافهم. وتتلاقى العيون بعضها ببعض، فتبتسم الشفاه ابتسامة الرضا والقبول، كل ذلك في سبيل اللّه، وكل ما كان في سبيله فهو بسيط ومقبول، وهذا ما بشرهم به نبيهم محمد.

وكلما تجسدت الصلابة في هذه الاسرة، ازداد ابو جهل وجلاوزته حدة في عذابهم، وعنفاً وقسوة في معاملتهم.

ويقول لقومه - في مجلس سمرهم -: شد ما يعذبني من ياسر وأهل بيته صمودهم وصبرهم، نذيقهم انواع العذاب فلا يتضورون ونصبُّ عليهم غضبنا فلا يبكون.. لقد تاقت نفسي ان أسمع بكاءهم، أو اشاهد تضورهم، فأشفي بذلك غليلي.

٤٢

ثم يلتفت زعيم بني مخزوم إلى احد أعوانه يأمره ان يأتي بالأسرى لتنعم عيونهم ساعة بتعذيبهم.

ولم يمر وقت حتى كانت الاسرة أمامهم، فطرحوهم في الرمضاء اشبه بالعراة، وبدأت مكاوي النار تصهر أجسادهم وتخمش جروحهم، والسياط تتلوّى على أجسادهم المنهوكة فتحيلها إلى خطوط زرقاء، وتنهال الحراب بكل قسوتها تمزق ظهورهم، ولم تنبس شفاههم بكلمة، وعيونهم نحو السماء شاخصة.

ورغم كل هذه الأنواع التي يلقاها آل ياسر من هذه الطغمة كانت في الوقت نفسه تتعملق فيهم روح الإيمان، وتضرى في أعماقهم الصلابة والصمود، بحيث تصبح صلدة تمزق ظلم المشركين وتتحدى طغيانهم.

ويقف الرسول الأعظم على حال هذه الاسرة، ويحز في نفسه ما يعانيه ياسر وأهل بيته من طغمة الأشرار، ويرفع طرفه إلى السماء ويدعو اللّه من أعماقه: «اللهم اشدد على آل ياسر بالصبر. إن موعدكم الجنة»... فتشرق الوجوه المعذبة، وتهلهل العيون المرهقة، إن لدعاء الرسول أثره العظيم في تقوية معنويات هؤلاء الأسرى.. فلقد خفف عنهم هول العذاب، وأزاح عنهم كابوس الألم والوحشة.

وماتت سمية من التعذيب أمام ياسر وعمار، وهي تلهج بذكر

٤٣

اللّه، ولم يزعزع هذا المنظر موقف الأسيرين.. بالعكس، إنما ازدادا إيماناً وصلابة.

وفي ليلة ثقيلة الظل هومت عين ياسر، ثم انتفض، وهو يبتسم، ويزحف لولده المتظاهر بالنوم.

ويلتفت اليه عمار، فيهمس بصوت أتعبه الألم: ماذا بك يا أبتاه؟ ويطبع على شفتيه الذابلتين بسمة مضيئة، كأنها فرحة العطر، وصحوة الورد.

وبين الفرحة والثناء تنساب الكلمات من فم الأب المضرج بالدماء: يا عمار، رأيت حلماً ما أجمله. كأن هذه الصحراء روضة غنّاء، في وسطها امك تلف خمارها على رأسها تبتسم لي وتقول: إننا بانتظارك يا أبا عمار!!

وقطع عليهما الحديث شبح يقترب منهما.. مَن هذا القادم في سكون هذا الليل؟ ولم يتمكنا ان يميزا الصورة لتجمد الدم على عيونهما.

ودوت ضحكة مزقت سكون المساء، عرفا منها صوت ابي جهل الوحش، فتعوّذا باللّه من شره.

ووصل اليهما، وهو يتخابث، ويراوغ: لعلّي روعتكما وأقلقت عليكما نومكما، أحسب انكما كنتما في نجوة.

٤٤

- لا يا ابا جهل، لم تذقْ عيوننا طعم النوم.

- لقد علمت بأنكما عدتما إلى رشدكما، ونبذتما سحر محمد ودينه.

وتلوّى ياسر، وكأنه أُصيب بعمود على رأسه، وصرخ - وإن كانت صرخته لم تبلغ مسامع الظالم إلا بمشقة -:

- يا ابا عكرمة، والذي نفسي بيده لن اترك دين محمد مهما أوغلتم بتعذيبي وقاسيت منكم ما قاسيت، وسوف أحاسبكم بين يدي جبار السماوات والأرضين، وأقتص منك - يا لكع الرجال يا وغد، يا جبان - ساعة الحساب.

وهاج ابو جهل، وهو يسمع من هذا الأسير ما لا يرضاه وجنَّ جنونه، فهجم عليه، لا يدري كيف يهدم سكون الليل على هذا الرجل المتطاول العنيد. ولم تشرق شمس ذلك اليوم حتى كلَّت يد السفاك الأثيم مما أنزله من عقاب على هذين الجسدين. وعاد إلى بيته، وهو يعض على شفتيه تأثراً.. لقد كلَّت يداه ولم يشبع نفسه من تعذيب ياسر وولده. له كرّة اخرى، في ظهيرة اليوم.

ولم يكد يفرغ ابو جهل من عملية التعذيب، حتى يشعر ياسر بأن شيئاً غير طبيعي يجثم على صدره، ويأخذ عليه مسارب أنفاسه، فيجهد نفسه للتحدث مع ولده، فتخرج الكلمات مجهدة

٤٥

مقطعة، وتغور عيناه، وتذبل شفتاه، ويجف ريقه. إنها حتماً ساعة الخلاص.

في نفس ياسر ان يوصي ولده عماراً. ويزحف، ولكن المحاولة تفشل فقد ثقل جسمه، ولم يعد يمكنه الحراك.

وعمار ليس ببعيد عن حال أبيه، إنه يرقب كل هذه الطوارئ عليه، ويزحف اليه، وصدى الحديد في جسم الابن يناغي حشرجات الأب المسجى، وفي عينيه دمعتان تجولان: دمعة فرح، ودمعة حزن.

فراق أبيه عزيز عليه، لم يمض على فراق أمه إلا أيام معدودة وهذا الموكب الثاني يلحق به، ما أقسى القدر.

والشهادة في سبيل الحق فخر كبير، أُمه أول شهيدة في الإسلام، وأبوه ثاني شهيد من الرجال.

وبين حشرجات الموت، وومضات السعادة تنبعث الكلمات من الفم الطاهر:

عمار: لا تمل عن دين محمد، واقرأ رسول اللّه عني السلام وليدعُ لي، ولأمك بالرحمة..

وينطفئ السراج، وتنتهي المناجاة بين الأب والإبن، ويشاهد الجلاد هذا المنظر فيطير منتشياً فرحاً، ويهرول لأصحابه، وهم في حلقة السمر يخبرهم عن نهاية ياسر.

٤٦

وتعلو القوم سحابة دكناء، وينتفض أبو حذيفة وقد هزَّه المصاب، ويصيح في وجه الطاغي: حسبك يا أبا عكرمة من القتل، كفاك ما أصاب سمية وياسراً، وإياك أن تعمل بعمار ما عملت، عذاب دون الموت.

وفي دار الأرقم ينتشر النبأ، ورسول اللّه قد ألمَّ به التأثر وهو يردد: «صبراً يا آل ياسر، إن موعدكم الجنة، اللهم احفظ عماراً من شر الطغمة الحاقدة، وأخذ بثأره».

٤٧

٤٨

سَلمان الفَارسي

٤٩

وأقبل الشيخ أبو معاذ في ليلته مشرق الوجه، واستقبل مستمعيه برحابة وتكريم وانعقد المجلس، وكل من الحاضرين في شوق لحديثه.. وقال:

إن سلمان الفارسي - يا قوم - ما سجد لمطلع الشمس - كما يفعل المجوس وإنما كان يسجد للّه عز وجل، وكان أبواه يظنان أنه يسجد كهيئتهم.. وممن ضرب في الأرض يطلب الحجة، فلم يزل يتنقل من بلد إلى آخر، ومن كنيسة إلى مثلها، ويبحث عن الأسرار، ويستطلع الأخبار، ينتظر أن يحظى بالنبي الذي أخبر عنه فهو ضالته، وأخيراً عثر على ما يريد، وأتم حياته كأحسن مسلم تفهماً للدين، وتفانياً في سبيله.

لقد كان سلمان في السابق من أهل أصبهان، وأبوه دهقان قريته، يحبه بشكل يعجز عنه الوصف، ومن جراء هذا كان يخشى عليه، فيحبسه في بيته تماماً، كما يفعل بالجواري.. وكان أهله مجوساً يعبدون الشمس، ويوقدون لها النار، وصادف أن

٥٠

مر سلمان على كنيسة فدخل بها، ولمح أهلها يصلون، ويتضرعون إلى اللّه، فأعجب بهذا اللون من العبارة، وفضلها على طريقة أهله، لأنه في أعماقه لم يؤمن بالصلاة للشمس..

وكانت هذه الانطلاقة منه - في التحقيق عن الدين - قد جرّته لأن يجول في البلدان، يطلب دين اللّه، فقيل له بالشام فقصدها، وعاش في كنيستها برهة من الزمن ثم انتقل إلى الموصل يخدم ويتعبد في كنيستها، ومنها إلى نصيبين، وأخيراً قيل له: إن في كنيسة عمورية من بلاد الروم رجلاً صالحاً يدله علي الحقيقة فشدّ اليه الرحال وبقي ملازماً لكاهنها مدة طويلة، يتلمس فيه الإيمان، والطيب، والوفاء ولما دنت من الرجل الوفاة - وكان يحفظ لسلمان اخلاصه - دنا منه، وطلب أن يرشده على الحقيقة وإلى أين ينتقل من بعده؟ - وبين لحظات الموت والحياة - قال الكاهن: أي بني، والله ما أعلم أنه بقي أحد يستحق أن آمرك بالذهاب له، ولكن سيبعث نبي في هذا الزمان، يأتي بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين(١) بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة.. فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.. وانقطع نفس الكاهن، وذبل النور في عينيه.

وهز الحديث سلماناً، وأخذ منه مآخذاً، وبقي ينتظر اللحظة

___________________________

(١) الحرة: كل أرض ذات حجارة سوداء.

٥١

التي تساعده على السفر إلى تلك الديار ساعة بعد ساعة، يتحين الفرصة، ويتطلب القافلة.

وانتشر الخبر في عمورية أن قافلة من العرب تعمل بالتجارة وصلت البلد وهرع اليها سلمان يتعرف على حالها.. إنها من قبيلة (كلب) احدى قبائل العرب ومرت أيام ولملمت القافلة أمرها وأعلنت عن سفرها، فاتفق معها على أن يعطيها كل ما يملك من بقرات، وأغنام، مقابل وصوله إلى (مكة). وتم الاتفاق وسافرت القافلة تطوي القفار، ولم تبلغ أطراف مكة، حتى عمد أصحاب القافلة عليه، وأسروه، وباعوه الى يهودي، فأخذه الى قريته يخدمه..

ومرَّ على سلمان عهد في خدمة هذا اليهودي، ولكنه لم يقطع الأمل في نفسه، فقد رأى القرية يكثر فيها النخل، فرجا أن تكون هو المكان الذي يطلبه من وصف الكاهن وبينما هو عند صاحبه إذ أقبل ابن عم له من بني قريظة يسكن المدينة فأعجب به فابتاعه واحتمله اليها.. وسرَّ سلمان بهذا العمل، وكتم في نفسه فرحة عظيمة، عندما عرف المدينة، وانها التي وصفها له صاحبه، والمكان الذي سيلتقي فيه بالنبي.

وكانت الأيام تدور في مسيرتها، لكنها ثقيلة الظل على هذا المتلهف لمعرفة الحقيقة.. وفي صباح ترهق الشمس ساعاته، أخذ سلمان عدته، وذهب لإصلاح بعض النخيل، وجاء صاحبه

٥٢

واستقر تحتها، وهو يرقب عمله، وأقبل عليه أحد أقربائه وجلس الى جنبه، وأخذ يحدثه، وهو لا يعلم ان هذا الحديث يهم سلمان قبل كل أحد، قال اليهودي لقريبه: قاتل اللّه «بني قيلة»، إنهم الآن مجتمعون بقباء(١) على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون انه نبي..

وتهادى النبأ الى أسماع سلمان، فتأخذه الرعدة، ويكاد يسقط من أعلى النخلة، ويشدّ على نفسه من الانزلاق، وينزل وهو مضطرب، ويهرع الرجل فيلح عليه بالأسئلة، يستطلع منه جلية الخبر، فيغضب صاحبه منه، ويلكمه لكمة قوية يكاد يسقط من شدتها، فيتمالك، ويصمت، ويبقى واقفاً أمامه فيصرخ في وجهه مالكه: إذهب الى عملك، ما لك والدخول في مثل هذا الحديث.

ويطوي سلمان أسئلته وشوقه، ويتجه لعمله، فيتشاغل به ريثما ينفذ أمراً كان قد قرره لحظة تصميمه على إجلاء الحقيقة.

وأقبل المساء، وانتشر الظلام في المدينة، وحمل سلمان أكلاً معه، وتسلل الى رسول اللّه في قباء.. ودخل عليه، وتطلع فيه ثم قال له: بلغني انك رجل صالح، ومعك أصحاب غرباء

________________________________

(١) قباء: قرية على ميلين من المدينة.

٥٣

وهذه صدقة عندي، أنتم أحق بها من غيركم، ويقدمها للرسول فيقبلها منه ويدعو أصحابه لأكلها، ويمتنع هو عن الأكل.

ويقول سلمان في نفسه، ان هذه إحدى العلامات،فقد أخبره صاحبه الكاهن انه لا يأكل الصدقة.. وينصرف ويعود بعد ليال، ومعه حاجات اخرى، ويدخل على النبي، ويقول له: هذه هدية أرجو قبولها، فيأخذها، ويشكره على ذلك.. وتطفو على سلمان إشراقة الفرحة، انها العلامة الثانية، لا يقبل الصدقة، ويأخذ الهدية.

ولم يدر سلمان كيف تنقضي الأيام انه يحسبها دقائق وثواني لكي تسنح له الفرصة، وتشاء الصدف ان تواتيه، فيتبع النبي ببقيع الغرقد - وهي مقبرة المدينة - ويدخل عليه، ولم يستقر به المكان حتى يستدير بنظره الى خلف الرسول، فيلتفت ماذا يريد، ويلقي الرداء عن متنه، ويظهر خاتم النبوة. فشهق سلمان، وسقط على كفي النبي يقبلهما، ويبكي فرحاً، وقص عليه قصته..

وبقي ملازماً له، يتفانى في إخلاصه، وإن كان لم يخرج معه لمعركة بدر واحد، لأنه رقّ، ثم لم يمكث ان قال له الرسول كاتب صاحبك، واتفق معه على تحريره من العبودية، وطلب منه صاحبه أن يغرس له ثلاثمائة نخلة، وهذا المطلب كبيراً بالنسبة لسلمان الذي لا يملك قيمة هذا النخل ليؤديها له، وعرف الرسول

٥٤

ذلك، فالتفت الى أصحابه طالباً منهم أن يعينوا أخاهم سلمان على فكاك رقبته، فجمع له المقدار المطلوب، وشريت النخيل وغرست، وأصبح حراً بعدها.

ولازم سلمان النبي في المدينة، وآخى بينه وبين أبي الدرداء وكان بعد ذلك إذا نزل الشام حلّ عند أبي الدرداء.

وأطلَّت السنة الخامسة، وقد مرَّ على «أُحد» سنتان واقتضت مصلحة الرسول أن يُجلي بني النضير الى خيبر لنقضهم العهد. ولم يهن ذلك عليهم، وبيَّتوا على النبي أمراً خطيراً فقد عمدوا الى القبائل من قريش وغيرها يحرضونها على قتال محمد.. وصادف ذلك قبولاً في نفوس قريش وغيرها.. فلم تكن ثارات بدر قد أخمدتها أُحد، ولم تكن أُحد نصراً ضد النبي لتخمد أحقاد الجاهلية.

وإذا كانت المعركتان «بدر وأُحد» قد أدارتها قريش ومن تبعها من أعوانها، فان في هذه المرة قد شدَّت سواعدها اليهود، وصارت تثير اللهب وتجمع الناس، ولم يمر زمان حتى صار عدد الجيش المحارب يقدر بعشرة آلاف يقودهم (ابو سفيان).

ولم تكن قريش، وغطفان، وجيوش اليهود، إلا حركة موحدة تجمعت من هنا وهناك لترفع راية القتال على رسول اللّه وتهدم الدعوة الجديدة في مهدها وقد وصلت أخبارها الى مسامع

٥٥

المسلمين، فدبَّ فيهم الذعر والرهبة، وخاصة في النفوس الضعيفة، مما اضطر النبي أن يجمع أهل الرأي من أصحابه ليتشاور معهم في الرأي.

كان سلمان أحد اولئك الأشخاص الذين جمعهم الرسول للمشورة والرأي، وطال الحديث في ذلك، وسلمان ساكت لم يتكلم، فيلتفت اليه النبي قائلاً:

- ولماذا لم تتكلم يا سلمان؟

- يا رسول اللّه: أفكر في أمر يمنع الأعداء من الوصول الينا.

- وكيف ذلك؟.

- يا رسول اللّه: نحفر خندقاً حول المدينة، فلا يستطيع العدو الوصول اليها.

- وكم تقدر المدة التي تستغرق لحفر هذا الخندق؟

- لا يزيد على الأسبوع.. ومسير الجيش بهذا العدد الذي نسمعه يحتاج إلى مسير عشرة أيام يقطعها بين مكة والمدينة. هذا إذا لم يصادف تأخر الركب، أو بعض القبائل، فيتأخر مسير الجيش يوماً أو أكثر عن موعده.

واستصوب الجميع رأي سلمان.. وأمر النبي بالعمل.. ولم يبق أحد من المسلمين إلا واشترك في الحفر.

وكانت المدينة حينذاك مشبكة بالبنيان والنخيل من سائر

٥٦

جوانبها إلا جانباً واحداً مفتوحاً، وهو الذي حفر فيه الخندق وما ان تم حتى خرج النبي بعسكره، وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وتمركز في سفح جبل المدينة وصار الخندق بينه وبين القوم.

وعندما وقف على الخندق أبو سفيان ومعه عدد من أصحابه قال: إن هذه المكيدة ما كانت العرب تكيدها من قبل، وهي من عمل الفارسي - ويعني به سلمان - .

ثم سكت قليلاً الشيخ أبو معاذ، وقد ندت عنه آهة كادت تمزق هدوء الليل.. وقال:

لقد ابتلى محمد باليهود.. وان خطرهم كان أشد عليه من خطر قريش وأتباعها وما كانت القبائل اليهودية تهدأ من نسج المؤامرات واثارة الحروب على المسلمين فالدعوة الإسلامية كانت في مرحلة خطر من كيد اليهود، ولولا لطف اللّه لكان ما كان.. فلقد كانت القبائل اليهودية - حينذاك - ثلاثة، وقد دخلت مع النبي في عهد، وهي: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة.. وكانت المدينة تضم من المسلمين: المهاجرين، والأنصار، وبها من المشركين من الأوس والخزرج ممن لم يسلم، ومن اليهود بنو قينقاع في داخلها، وبنو قريظة في فدك، وبنو النضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها..

وظن اليهود أول هجرة الرسول إلى المدينة انهم يستطيعون

٥٧

التحالف مع الإسلام على النصرانية، والتي كانوا يضمرون لها حقداً دفيناً، فلما لم يستطيعوا ذلك جهروا بعدائهم للإسلام ونقضوا عهودهم، وانتهى عندما احتدم الصراع بجلاء يهود بني النضير عن المدينة في السنة الرابعة من الهجرة. وكان بنو قينقاع قد نقضوا العهد أيضاً، ولم يبق إلا بنو قريظة. ثم عندما تألبت الأحزاب على رسول اللّه في السنة الخامسة، وقاد أبو سفيان جيشاً لحرب محمد كان يهتم لاستمالة بني قريظة له، طالما وأن قبيلتين من اليهود انضمت إلي الجيش المحارب.

وفكر أبو سفيان بادئ الأمر بمن يقوم بهذه المهمة، فلم يرَ أليق من يحيى بن أخطب فهو رجل معروف بالدس والدهاء والمكر. وفعلاً توجه الرجل إلى كعب بن أسيد - زعيم بني قريظة - ولم يعد لأبي سفيان، حتى حمل معه رضاه بنقض العهد.

وعرف المسلمون الخبر، فعظم الأمر عليهم، واشتد فيهم الخوف والهلع، وأمعن الغزاة بالحصار على المدينة حتى وصل قرابة الشهر، مما أثر على معنوية قسم من المسلمين ودب الجزع في نفوس المنافقين، والضعفاء من المسلمين، ويقول أحدهم:

كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب لحاجته..

وآخر يستأذن الرسول بالسماح له ليذهب فيحفظ بيته، إذ يقول:

٥٨

- يا رسول اللّه، إن بيوتنا عورة من العدو، فأذن لنا ان نخرج فنرجع الى دورنا فليس فيها من يحرسها.

وعلى هذا اللون بدأ الانجراد النفسي يتحكم في نفوس البعض مما اضطر النبي ان يراسل قبيلة غطفان - وهي القوة الرئيسية الثانية، العربية، والتي تقابل قريشاً - على اتفاق ومصالحة يتم بينهما فيعطيهم ثلث ثمار المدينة مقابل عودتهم بدون حرب فوافقوا مبدئياً على الأمر، وقبل ان يبرم العهد أرسل النبي الى سيدي الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة يعرض عليهما فكرة الاتفاق، ويأخذ رأيهما في ذلك..

وأجاب الزعيمان، بما يعبر عن واقع الإنسان المسلم الذي يعيش قضيته في أحرج ظروفها: يا رسول اللّه، أمراً تحبه فتصنعه، أم شيئاً أمرك اللّه به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟.

ويقول الرسول: «بل شيء أصنعه لكم.. واللّه ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد، وكالبوكم (أي اشتدوا عليكم) من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم الى أمر ما».

فقال له سعد بن معاذ: يا رسول اللّه، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللّه، ولا نعرفه

٥٩

وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى ( ما يصنع للضيف من الطعام)، او بيعاً. أفحين أكرمنا اللّه بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! واللّه ما لنا بهذا من حاجة واللّه لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم.

قال رسول اللّه: فأنتم وذاك..

هذان الموقفان المتناقضان لدى أصحاب الرسول كانا يتعاظمان يوماً بعد يوم.. فالذين آمنوا وأخلصوا لدينهم - كما رأينا من حديث شيخي الأوس والخزرج - لم يهمهم إن طال الحصار أو قصر، وكثر عدد المحاربين أو قل، وهم يؤكدون لنبيهم وقوفهم الى جانبه مهما ضاقت السبل وتطورت الأحوال، ولم يمدوا للعدو يداً ذليلة.. أما الذين دخلوا الإسلام كرهاً ومصلحة، أخذوا يتذرعون بشتى الطرق للهرب من القتال..

مرّت حالة لا حرب ولا سلم على الطرفين طويلاً. المدة تصل قرابة الشهر، ولم يكن بينهما غير الحصار والترامي بالنبل والحصى، مما أثار الجزع في نفوس الطرفين، وخاصة لدى المشركين، فإن أبا سفيان أخذ يخشى هبوب العاصفة، وتفرق القبائل من حوله، فالسأم والضجر بدا على جيشه.. أما المسلمون، فإنهم وإن ضاقوا ذرعاً بالحصار لكنهم على مقربة من عوائلهم وبيوتهم، وهذا ما يساعد على التمنع والصمود..

وصمم ابو سفيان على التحرك ضد المسلمين، فحرّض عدداً

٦٠