• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18908 / تحميل: 5325
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء 1

مؤلف:
العربية

٨١

سعد بن الربيع

٨٢

٨٣

جزاك اللّه يا سعد، فقد أخلصت لدينك، ووفيت لنبيك.

هكذا افتتح حديثه الشيخ أبو معاذ في ليلته هذه.. وسكت قليلاً، وبدأت أنامله تلعب بلحيته، وكأنه يستعرض ذكريات الماضي بشيء من التفكير.. ثم قال:

كان سعد بن الربيع من كبار الخزرج، وزعمائها. وقد سمع - كما سمع غيره - حديث الدعوة، وما يحيطها من أحداث في مكة، وكان يشعر في أعماقه برغبة خاصة لسماع أحاديث وأنباء الدعوة. ولكنه لم يجرأ أن يحدث بذلك أحداً.

وتشاء المقادير أن يخرج عدد من الخزرج الى موسم الحج وكان رسول اللّه من عادته أن يذهب لزيارة الحجاج والقادمين كلما طرق مكة حاج أو قادم، يعرض عليه الاسلام، ويقرأ له آيات من القرآن، وهكذا كان يبلغ رسالته المقدسة.

وعرف النبي أن عدداً من الخزرج وصلوا مكة، فاستقبلهم

٨٤

وأحسن بهم الترحاب، وتحدث لهم ما جلب نفوسهم اليه، ثم أخبرهم عن رسالته ودعوته.. فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا واللّه إنه النبي الذي توعدكم به اليهود، فلا تسبقنكم اليه.. فأجابوه إلى ما دعاهم. وأخبروه بأن لهم قوماً كثيراً سوف يخبرونهم بذلك، وعسى أن يستجيبوا له.

وعاد الركب الى المدينة، واجتمعوا بقبائلهم وتحدثوا لهم عن دعوة محمد، وأهدافها القويمة، ولم يمرّ وقت طويل حتى كانت غالبية الخزرج قد دخلت الاسلام. كما استجابت لها وجوه من الأوس..

وحلَّ الموسم الجديد للحج، وقصد مكة (اثنا عشر رجلاً) من الخزرج والأوس، والتقوا بالنبي ب«العقبة» فبايعوه على كل شيء عدا القتال.. وسميت «العقبة الاولى».

قال الراوي: «وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك باللّه شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف...».

وعادت القافلة الى المدينة، ومعها رسول محمد «مصعب بن عمير» أمره أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الاسلام، ويفقههم في

٨٥

الدين.. عادت القافلة، وهي تحمل من مسؤولية العقيدة ما يخفف عنها وحشة الطريق، ويحدوها شوق متناهي على الحفاظ والوفاء لهذه الدعوة الجديدة.

وطوى العام أوراقه الخضراء والصفراء، وأجدبت أرض وأمرعت أرض، وقرب الموسم الذي يقصد الناس فيه مكة.. وعاد مصعب الى مسقط رأسه ليجدد عهداً برسول اللّه، وكان معه عدد كبير من المسلمين.. وتم الإتفاق على أن يكون الموعد هو: (العقبة).

وفي ليلة مشرقة، وبعد أن مضى منها جذوتها الأولى، وهدأت الأنفاس، وهوّمت العيون تسلل عدد من الأوس والخزرج ممن صحبوا مصعباً إلى مكان التلاقي، واجتمعوا في الشعب عند العقبة وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتان هما: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، وأسماء بنت عمرو، أم منيع..

ولم ينتصف الليل حتى أقبل محمد، ومعه العباس بن عبد المطلب - وهو يومئذ لم يدخل الإسلام -، لكنه أراد أن يستوثق من أمر ابن أخيه، فلما تكامل المجلس، قام العباس خطيباً: يا معشر الخزرج(١) إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الإنحياز

_____________________________________

(١) يشير ابن هشام الى هذا المصطلح كان يقصد من الخزرج: الخزرج والأوس.

٨٦

اليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به اليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه ومن بلده.

فقام أحد الزعماء، وقال للعباس: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اللّه، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت..

واستعد رسول اللّه للحديث، وسكت الكل، فكأن على رؤوسهم الطير، وعيونهم تعبُّ من نور النبوة ما يقوي عزيمتهم ويشد إيمانهم.

وتكلم رسول اللّه صلى الله عليه وآله، وتلا القرآن، ودعا إلى اللّه ورغب في الإسلام.. ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه عوائلكم وأبنائكم.

فأخذ البراء بن معرور - وهو من كبار الشخصيات - بيده وقال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا(١) فبايعنا يا رسول اللهّ، فنحن واللّه ابناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر..

_____________________________

(١) الازر: النساء. والمرأة قد يكنى عنها بالازار، كما يكنى أيضاً بالازار عن النفس.

٨٧

وتكلم أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول اللّه، إن بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك اللّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسم رسول اللّه، وقال: «بل الدم بالدم، والهدم بالهدم(١) أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم» وانتهت بيعة (العقبة الثانية).

ثم قال الرسول: اخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس..

ثم ان رسول اللّه صلى الله عليه وآله قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يقصد المسلمين - قالوا: نعم..

وقبل أن تمد الأيدي للبيعة، وقف أحد الأصحاب، وهو يخاطب اخوانه قائلاً: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون محمداً؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن

_________________________________

(١) كانت العرب تقول عند عقد الحلف والجوار: دمي دمك، وهدمي هدمك، أي ما هدمت من الدماء هدمته أنا.

٨٨

اتركوه، فهو واللّه إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه، فهو واللّه خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول اللّه إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة. قالوا: أبسط يدك، فبسط يده فبايعوه..

وتسرَّب النبأ لقريش، وحاولت ان تستقصي الحقيقة لكنها فشلت، ولم تتحقق منه إلا بعد فوات الأوان، وعاد الركب الى المدينة.

ثم سكت ابو معاذ قليلاً ريثما يستريح، وبعدها عاد للحديث قائلاً:

وكان سعد بن الربيع أحد النقباء الاثني عشر، الذين اختارهم الأنصار ليكونوا فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم.. ولا أنساه وقد خرج مع من خرج لاستقبال رسول اللّه، وقد أطلَّ ركبه الكريم على المدينة كل يود أن يحل محمد ضيفاً عليه يُشرّف بيوتهم. ويقول سعد له:

يا رسول اللّه، هلم الينا، الى العدد والمنعة.. ولكن النبي الكريم، يقول له ولأصحابه: خلوا سبيل ناقتي، فانها مأمورة.. وبعد لحظات تقف على باب دار ابي أيوب الانصاري.. وكان

٨٩

سعد أحد اولئك الأشخاص الذين لازموا الرسول، واعتنوا بأمره، واهتموا بدعوته.

وقويت شوكة المسلمين، وأعلن الرسول عن عزمه على غزو قافلة المشركين العائدة من الشام بقيادة ابي سفيان.. وعلمت قريش بهذا النبأ، فزحفت بقوتها وعدتها متجهة نحو المدينة.. ولم يقف الجيش الزاحف إلا ببدر، وبين عشية وضحاها دارت الحرب قوية عنيفة بين الحق والباطل، وكان نصيب سعد بن الربيع نصيب الأبطال في هذه المعركة، وعاد الى المدينة يرفل بالنصر والمجد.

ثم كانت أُحد، وهرعت قريش بكل إمكاناتها لعلها تنال ثأرها.. وبلغت الأخبار رسول اللّه، وعرضها على أصحابه ليقطعوا برأي فيها، واحتدم الجدال، وطال النقاش، بين مصرّ على مجابهة الأعداء بالعنف، ومقارعتهم بالسيف، وبين من يختار العافية، ويفضل السلم، إلا إذا غزوا في عقر بيوتهم..

وكان سعد بن الربيع حريصاً على مواجهة الموقف بالحزم والشجاعة، طالما وانهم على الحق، ولا يهم البطل القتال، خاصة وانهم عاهدوا رسول اللّه في العقبة ان يكونوا سيوفاً مسلولة على أعدائه، لم تغمد إلا في صدورهم، ولم ترد عن نحورهم..

ولاحظ الرسول ان الوقت امتد في الجدل والنقاش، ولا بد

٩٠

أن يضع حداً لذلك، فقام ودخل داره ولبس لامته، وتعمم بعمامته، وخرج على قومه معلناً «ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل». وكان هذا التصميم من النبي انذاراً لأن يضع حداً للقيل والقال، وما ان يشاهد الأصحاب نبيهم على هذا اللون من العزم والتصميم، حتى تراكضوا لبيوتهم استعداداً للرحيل..

وزحف محمد صلى الله عليه وآله بجيشه الذي ناهز الألف بين راجل وفارس، وقد علمتهم بدر ان النصر لم يكن مقروناً بالكثرة والعدد الوافر، وإنما هو من اللّه يمنحه من يشاء، ولمصلحة ما..

وتقابل الطرفان، وقد حمي الوطيس بينهما، ودارت المعركة ضارية، وقد اتسمت بالبطولة والوفاء من جهة، والحقد والعصبية من جهة أخرى.. وتساقط الأبطال من كل فريق، وألحت سيوف المسلمين المغاوير تحصد من حشود الكفار ما شاءت، يلفها ابن أبي طالب، ويفريها أسد اللّه حمزة بن عبد المطلب، ويشتت شملها مصعب بن عمير، ويصول عليها سعد بن الربيع، وكاد النصر يرف على المسلمين، لولا طمع الطامعين وأصحاب النفوس الضعيفة يتركون مؤخرة الجيش، فيوقع فيهم خالد بن الوليد - قائد الجيش المعادي حينذاك - يقول الراوي:

واللّه لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل أو كثير. إذ مالت

٩١

الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للجبل فأتونا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا أن محمداً قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم، بعد أن أصبنا أصحاب اللواء..

كان يوم أُحد يوم بلاء وتمحيص، أكرم اللّه فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة، وكان أصل البلاء على المسلمين خالد بن الوليد فقد تربص الفرصة لينقضّ على المسلمين. وفعلاً كان ما أراد وخلص هو وكتيبته إلى النبي، ورمي بالحجارة، فأصيبت رباعيته وشج عتبة بن وقاص وجهه، وأخذ الدم يسيل عليه، وصار يمسح الدم، وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربه».

والتفّ عدد من خلص الصحابة بالنبي فطوقوه من كل جانب ومنهم سعد بن الربيع، ولم يكن علي بن أبي طالب الا ذلك الفارس الذي ينقضّ على الأعداء بجراءة وبطولة لم يشاهد مثلهما في تلك الحرب، يكشف الحشد عن ابن عمه، ويخفف الضغط عنه.

وخط الظلام، ويأس أبو سفيان من النصر، وانه لا سبيل له على قتل محمد، وما دام علي وأمثاله يدافعون عنه ببسالة وموت.. وإن الحرب أكلت السواعد القوية من أبطاله.. وإن أصحابه يفضلون إنهائها، فلا أمل عندهم للغلبة، وكفاهم ما أنزلوه بمحمد من خسائر.. وقتل حمزة خسارة لا تعوض.

ووضعت الحرب أوزارها، وأغمدت السيوف، وغادر

٩٢

أبو سفيان وصحبه أرض المعركة. بعد ان جمعوا فلولهم، وتركوا قتلاهم.. عند ذاك أمر النبي أصحابه أن يفرغوا لقتلاهم ومداواة المجروحين.

ثم التفت عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه قائلاً:

«من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع، أفي الأحياء هو، أم في الأموات»؟.

وقام أصحاب الرسول بالبحث بين القتلى والجرحى عن سعد فوُجد جريحاً، وهو بين الموت والحياة، فوقف عليه أحد المسلمين وقال له: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله أمرني أن أنظر، أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟.

وتعثرت الكلمات على شفتي الجريح، وهو يصارع الموت وبكل جهد ردّ على صاحبه قائلاً: أنا في الأموات، وأبلغ رسول اللّه عني السلام، وقل له ان سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خير ما جزى نبياً عن أُمته.. وسكت الجريح لحظة ريثما يسترد أنفاسه المتقطعة، وهو يشير الى الرجل أن ينتظر قليلاً.. ثم تكلم، وخرجت الكلمات هادئة من فم أثلجه الموت..

وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: انه لا عُذر لكم عند اللّه ان خُلص الى نبيكم، ومنكم عين تطرف..

٩٣

وتثاقلت حالة سعد، وجحظت عيناه، وشهق، ومات.

وأخبر الأنصاري النبي ما قاله سعد، كما بلَّغ الأنصار مقالته.. ورفع النبي صلى الله عليه وآله يديه الى السماء، وهو يقول:

«اللهم ان سعد بن الربيع في ضيافتك، وقد جاهد من أجل دينك، فنوّر قبره، واقبل منه فداءه».

رحمك اللّه يا سعد وجزاك عن نبيه خير جزاء، فقد ختمت حياتك الشامخة بالتضحية والفداء.

٩٤

٩٥

مُصْعَب بن عُمَير

٩٦

٩٧

وأقبل الليل، وأقبل معه عشاق حديث الشيخ أبي معاذ الى مجلسهم، وشوقهم اليه لا ينقطع.. وكان في حديثه الليلة متفتحاً يصوغ الكلمات جميلة، وينمق أسلوبه الحلو، بما يجلب به أنظار السامعين.. قال:

لفَّ مكة وشعابها حديث المتسللين في آناء الليل، وأطراف النهار الى دار الأرقم يستمعون الى حديث محمد، وقد تجمع عنده عدد فيهم الكبير والصغير، وفيهم السيد والعبد، وفيهم الذكر والأنثى، وكل يوم آخذ بالتكاثر.

وفكرت قبائل العرب في مكة بأمر هؤلاء، وخطرهم على آلهتهم، وانعقدت الندوات، وازدحمت المجالس للتداول بشأن هذه الدعوة الجديدة، وقد توسع أمرها حتى لم يبد غريباً على الأسماع أن يقال: فلان تبع محمداً، وفلان أصبح من أعضاء بيت الأرقم، ويلوي القوم جباههم متألمين، يكتمون في صدورهم زفرة الخسران، وحسرة الفرقة.

٩٨

وذات يوم يقبل أبو سفيان على البيت، وقد بدا عليه الغضب ونزَّ الحقد من عينيه، فالتفت القوم اليه، وشيء من الاهتمام قد ظهر عليهم، انهم جميعاً يعرفون أن وراء أبي سفيان حدثاً جديداً وصاح به عتبة:

- ماذا وراءك يا أبا معاوية؟

واجتاز أبو سفيان هذه الحلقة دون أن يلتفت الى السؤال وهو يتعثر في مشيته، فلا يكاد يبصر طريقه من ظلام الحقد.

وأحس شيبة بخواطر صاحبه، فاستقبله وقد افتعل موجة من الحزن، وبدا كأنه يواسيه في بليته:

يا أبا معاوية، لو تجلس معنا قليلاً نتراشد أمر هذه الجماعة التي انداحت لسحر محمد.

وتكشفت أسارير الرجل، ورضي من شيبة هذا الاستقبال وتوسط القوم وأخذ يضحك حتى انقلب على قفاه من الضحك ولم يستغرب الجالسون منه هذا الحال، فقد تعودوا ان يروا منه هذه النوبة كلما طرأ عليه جديد، أو ألح عليه حدث، يدور حول محمد ودعوته.

وأفاق قليلاً قليلاً من حالته، فالتفت الى الجالسين قائلاً: أتعلمون ما حدث اليوم؟ لقد أخبرني عثمان بن طلحة، بأن فتى

٩٩

عبد الدار (مصعب بن عمير) قد صبا لدين محمد منذ مدة قصيرة وصار يتردد على دار الأرقم كلما جن عليه الليل، ينفث فيه يتيم بني هاشم سحره.

وتعلو الدهشة الجميع، ويصرخ ابو جهل: وحتى هذا الفتى الوسيم الذي يقطر رقة ودلالاً ينحاز الى محمد، ويصبح في عداد أصحابه؟ يا لخسران آلهة قريش.. لا واللات والعزى، لا بد ان نضع لهذه المهزلة حداً.. وتفرق الجمع، وفي تفكير كل واحد منهم مخطط يضعه للوقيعة بمحمد ودعوته.

* * *

كانت مكة تعرف مصعب بن عمير شاباً وسيماً، عليه من هيبة الجمال ما يحببه عند أهل مكة.. يرتدي أغلى الثياب ويتعطر بأحسن العطور، وكانت تشخص اليه العيون كلما مر في شعاب البلد وطرقاتها. تعب من جماله ما تمتلئ به عيون الناظرين، وتستنشق من عبيره ما يبهر الانوف، وكان أكثر من هذا وذاك.

وانتشر حديث مصعب وإسلامه كالبرق بين الناس، وكلهم يتساءل: ما الذي حدا بمصعب ان يصبو الى دين محمد الجديد؟

وهرع الجميع الى بيت عمير يشكون اليه أمر ولده، وفي الطريق يهمس ابو جهل في أذن عتبة: ما رأيك لو قتلنا مصعباً

١٠٠